الشعر بين هيغل وبلوم… موت أو حياة

الشعر بين هيغل وبلوم… موت أو حياة

يراهن بعض النقاد على التحولات الشعرية التي تسمو بالقصيدة إلى مستويات من الإبداع تستحقها، على الرغم من قلة الاهتمام النقدي في المدة الأخيرة، وقلة الدراسات النقدية التي تهتم بالمنجزات الشعرية العربية بشكل عام. ولكن هناك من يرى أن الشعر في حالة جمود وترهل، ولكن ما يذهب إليه الشعر يمكن إدراجه ضمن حالتين: موت الشعر، وهذا لا يمكن له أن يتحقق في ظل الانتشار الكبير، أو سمو الحالة الشعرية وزيادة الاهتمام النقدي الذي يخوض في الإبداع الشعري، ليبين كيفياته الأسلوبية والدلالية. من هنا سنحاول البحث في تعالقات الشعر وخلفية العلاقة بين مفاهيم هيغل عن موت الشعر، ورؤيته المتمثلة بكون الشعر أعلى درجات الفن، ولكنه يمثل حالة مرحلية، وضرورة منطقية لعبور المضمون الروحي والانتقال إلى مرحلة أخرى. بينما هارولد بلوم يرى أن الشعر يسطع دائمًا، ويتحول إلى سموّ بذاته، ليخلق متتاليات شعرية إبداعية تعتمد على إبداعات سابقة.

هيغل وموت الشعر

اختار هيغل لحظة الشعر كغاية قصوى ليبلغ الفن ذاته، ثم ينحل فيها، حيث يرى أن الصوت الذي فيه، وهو الجانب الحسي الوحيد (والغريب)، وهو ظل وإشارة لشيء أكثر وأبعد من مجرد صوت. فالشعر بالنسبة لهيغل هو اللحظة التي ينحل فيها الفن على ذاته ليلغي ذاته، من أجل الانتقال والتحول إلى لحظة أخرى، وضمن دائرة الروح ذاتها، هي لحظة الدين. والسبب أن الشعر حسب هيغل، «هو إشارة إلى محراب الروح بأسرها، وهو مركب الفنون كلها». وذلك نابع من فلسفة هيغل القائمة على الجدل وصراع الأضداد، التي تعني باختصار «أن الفكرة القضية، تقوم بإخراج نقيضها من داخلها، لتعود بعد ذلك للاتحاد به فيما يسمى منطقيًّا بالمركب أو وحدة القضية ونقيضها».

إذًا، استخدم هيغل الشعر وسيلة للتحول إلى حالة أخرى، ليكمل به فلسفته وفكرته عن المذهب الهيغلي في الفن. فهل يمكننا القول إن أهمية الشعر أو موته لا تكمن في احتوائه على ميزات فريدة؟ أو من وجود عيوب كبيرة، ونقص بنيوي، أدت إلى نتائج هيغل ولإيجاده المبررات لذلك؟ وبالتأكيد أن هيغل نظّر لموت الشعر للعيوب الكثيرة التي يمكن توضيحها بالأسباب التالية:

– التغريب الشكلي للشعر وبعده عن المضمون الروحي.

– الإصرار على الفردية، وتضمين الحالة الروحية بالتخيل الحسي.

لأن فكرة هيغل عن الفن هي الوحدة العضوية (بين المضمون الروحي والشكل المادي) بصيغة الالتحام المكتمل بين الحالتين؛ لذلك يرى أن هذه الوحدة تنتقل في لحظة الشعر، من هنا يرى أن الفن يلغي نفسه.

تجدد الشعر وهارولد بلوم

يرجع بلوم إلى الشعر الحياة، على عكس هيغل، حيث يرى أن الشعر هو ولادة جديدة، وأن القصيدة تكتب لتهرب من الموت، والشعر هو فعل يرفض الفناء. لذلك يدعو بلوم إلى تجديد الإنسان من خلال القصيدة. ففي كتابه «طريقة القراءة الضالة» يدعو لأن تكون القصيدة «دائمًا شخصًا، وهي أب لولادة المرء الثانية، ولكي يحيا يجب على الشاعر أن يؤول الأب بشكل غير ضال، عبر إعادة كتابة للأب، على ألا يبدو مثل آبائهم، فهو تجديد أدبي شعري».

كما يرى بلوم أن علاقة التأثر الشعري وتحليله، تشمل القراءة أيضًا مثل الكتابة؛ لذلك فالقراءة تكون «قراءة ضالة مثلما تكون الكتابة سوء قراءة»، ولن يتحرر الشاعر من تعلق التأثر، برأي بلوم، إلا بذاته الذي يسكنه ويلهمه «وحده الشاعر يتحدى الشاعر وبالتالي، وحده الشاعر يصنع الشاعر». يعيد بلوم إبداع دريدا باتجاه القراءة الإبداعية الضالة، مستخدمًا مفهوم الاستبدال، عن علاقة الشعر بسلفه، والقائمة على التأثر واستبدال الآخر، حيث يقوم بإنتاج شعره من خلال مزجه بين الإبداع والقراءة النقدية المنتجة لغيره. فالشاعر هو نسخة بديلة متجددة لغيره، من خلال حضوره كأثر يقع في نطاق العلاقات التأويلية غير المتناهية. ويقسم بلوم مراحل التأثير إلى ست مراحل:

أولًا- الانحراف الشعري، فاللاحق يمر بالموهبة الأولى لينحرف عنها واعيًا.

ثانيًا- تكامل وتضاد- من خلال إضافة الشاعر نصه للسلف، وكأنه قراءة ضالة.

ثالثًا- تكرار وقطيعة- تبدو القصيدة اللاحقة فاقدة لقدسيتها الشعرية الماضية والآنية.

رابعًا- السمو والتضاد- تمثل فرادة اللاحق التي تحتمل التضاد.

خامسًا- تطهر ونرجسية- يقصي الشاعر هنا ذوات أسلافه، ليتطهر منهم ويضيف ذواته.

سادسًا- عودة الموتى- وكأن الموتى ينتجون حياتهم من خلال الآخر، فيصبح الجديد مختلطًا من ذاته وسلفه.

لذلك فإن مفهوم النص الشعري يصبح نقدًا للشعر، كحالة تأثر وتقويض لتعميماته الأصلية، ليتحول بعد ذلك إلى نص مستبدل يخلط فيه الشاعر بين نقد النصوص السابقة، وإعادة تأويل نتاجه الشعري ثانية. هكذا يُنتَج الشعراء والقصائد من خلال تفاعلات إبداعية ونقدية، بين الأصل السلف والنص
المستبدل الخلف.

موقف الشعر بين حياتين

يختلف بلوم عن دريدا الذي يعتمد في دراسته للنصوص على (دراسة بنية النص وتفكيكه)، كما يرى أن النص ليس أحادي المعنى، ويدعو إلى عدم التعامل معه بوجود أنساق مغلقة، بل هي أنساق مفتوحة تتضمن قوى متناقضة وفيها تعدد للمرجعيات، وبالتالي فإنها تحمل تعارضاتها بين دلالاتها الظاهرة والمستترة. ودريدا يذهب نحو الأثر الغائب الذي يجب أن نبحث عنه في النص، وهذا شيء يختلف عن مفاهيم بلوم.

الشعر هو هذه الحالة الإبداعية المرهفة، التي تسمو نحو إنتاج صورٍ جديدةٍ وبديعة تتألق أدبيًّا، وتحلق في أفق الخيال المتسع على المعقول واللامعقول، متسلحًا بكثير من التقنيات الأدبية، مثل الانزياح والتمرد على الأشكال التقليدية للغة، لكنه يتعرض إلى ضغوط كثيرة، عبر ضغط المفاهيم النقدية التي تتغير رؤيتها ووجهتها. فعندما يعلن هيغل موت الشعر في نهاية السمو الفني وتحوله إلى الروح، فهذا يعني طمس للمعالم الحسية والتخيلية به، بينما يحاول بلوم أن يرفعه نحو إنتاج نصوص إبداعية متحولة من نصوص سالفة إلى نصوص لاحقة متألقة، من خلال إشراك النقد والإبداع في حالة الاستبدال الشعري، فذلك يعطي الشعر قوة إنتاج دلالية متجددة. ولا شك في أن بلوم استفاد من دريدا كثيرًا، وبخاصة من مفهوم التفكيك والأثر الغائب، لكنه يختلف عنه كما ذكرنا، من ناحية كون دريدا طبق التفكيك على جان جينيه، ولم يدمج نقد الأصول التناصية للنص كما فعل بلوم، بل اعتمد على النص بذاته.

خاتمة

إن القراءات المتعددة للشعر، يمكن أن تعطيه زخمًا قويًّا للارتقاء بالأساليب والدلالات نحو طبقات من اللغة والمعنى يحتاجها كثيرًا، في ظل هذا الكم الكبير من المحاولات الشعرية التي تنشر حاليًّا، والتي لا ترقى في أغلبها إلى الصيغ الشعرية الحقيقية. من هنا نجد أهمية مقاربات بلوم التي يرفع فيها الشعر من العدم إلى التآلف الدائم من خلال إنتاج نصوص تتجدد باعتمادها على سلف موجود، في تعالقات غير نهائية (تناصية) تحمي الشعر من الترهل والموت، بينما جعله هيغل كمرحلة مهمة من الإبداع والسمو، لكنه وضع فيه بذرة تحوله إلى الروح المطلقة، وبالتالي فنائه كحالة مستقلة خاضعة للحسية والخيال. فالشعر إذًا حالة إبداعية إنسانية ستبقى تحلق كإبداعات فائقة الخيال، رغم تعدد واختلاف النظريات النقدية له.