الموت في السينما بين الاستسلام والمجابهة

الموت في السينما بين الاستسلام والمجابهة

تتردَّدُ فكرة الموت بين الأدباء والفنانين، ويرى الفلاسفة أن الخوف منه يؤدي إلى محاولات تجاهله أو تناسيه. وهكذا شاعت فكرة أن دفن الناس أفكارهم عن الموت قد لا يقل شأنًا عن اهتمامهم بدفن موتاهم. وقد ارتبط الموت بالطقوس دومًا، وبخاصة تلك المتعلقة بطقس العبور في الحياة والفن بمختلف الدلالات والرموز.

وتعين الأنثروبولوجيا البصرية في التعامل مع تصوير الموت مرئيًّا، وخصوصًا عبر تعريف يتسع لـ«أنثروبولوجيا السينما»، وهو ما يؤكد أهمية السينما في فهم ذلك الموضوع وفهم أبعاده الاجتماعية. وبما أن الخطاب السينمائي يعكس الحياة اليومية، ويراقب حياة الناس ويشارك فيها، فإن الأفلام سواء كانت وثائقية أو روائية تعد وثائق تاريخية للتغيرات الاجتماعية والثقافية. ويبرز المخرج الياباني الشهير كوروساوا مثالًا حيًّا لنجاح هذه القراءة؛ إذ تمدنا أفلامه بالسياقات الاجتماعية والثقافية للمجتمع الياباني خصوصًا في العصور القديمة.

ويذخر تاريخ السينما بأفلام عن الموت والفناء مثل: فِلْم «الختم السابع» لبرغمان، وأفلام تعالج فكرة موت الأبناء أو احتمالية/ انتظار موتهم مثل: «شجرة الحياة» لتيرانس مالك، و«غرفة الابن» لنانّي موريتي، و«اليوم السادس» ليوسف شاهين، و«ستموت في العشرين» لأمجد أبو العلاء. وكذلك الموت والجوائح، مثل الطاعون والكوليرا (في أفلام برغمان وشاهين). والموت الاختياري أو الموت انتحارًا في فِلْم كياروستامي «طعم الكرز»، والموت والخرافة في فِلْم «للحب قصة أخيرة» لرأفت الميهي. والموت والحرب في فِلْم «بلا جوف» و«شجرة اللبلاب».

يستكشف مقالنا فِلْمين عربيين: «ستموت في العشرين» لأيمن أبو العلاء 2019م و«اليوم السادس» ليوسف شاهين 1986م. والفِلْمان يصوران فكرة موت الابن وهما مقتبسان من عملين أدبيين: الأول عن مجموعة قصصية لحمور زيادة «النوم عند قدمي الجبل». والثاني عن رواية أندريه شديد «اليوم السادس» 1960م، وقت انتشار الكوليرا في مصر عام 1947م ففي اليوم السادس يتوفى مصاب الكوليرا أو يبعث من جديد.

ستموت في العشرين

هو الفِلْم الروائي الطويل الأول لأمجد أبو العلاء، الفائز بجائزة أسد المستقبل في مسابقة آفاق (الدورة 76 لمهرجان البندقية السينمائي الدولي). يقدم الفِلْم قصة مُزَمّل (معتصم راشد طفلًا ومصطفى شحادة مراهقًا وشابًّا)، الوليد الذي نتعرف إلى نبوءة موته في العشرين حين يأخذه والداه إلى شيخ يباركه. يطلعنا المشهد الافتتاحي والتأسيسي على الفهم والتفسير. تصور اللقطة الأولى جَملًا نافقًا في يسار مقدمة الكادر، ثم يظهر رجل وامرأة تحمل رضيعًا، ثم جمهرة من النساء والرجال. وفي منتصف الكادر ضريح مخروطي، ثم مجموعة من الرجال ترتدي الجلابيب الخضراء. يقترب الجمع فنكتشف أن الرجال جماعة أتباع ومجاذيب شيخ صوفي. تتقدم السيدة/ سَكينَة (إسلام مبارك) إلى الشيخ الجالس وتقدم وليدها «مُزَمّل» كي يباركه.. يحمله الشيخ ويحنكه، ثم يؤدي الدرويش عملية العد الدائرة التي تنتهي مع العدد عشرين وسقوط المجذوب. يتم المشهد في دائرة طقسية مفعمة بالحركة والألوان والموسيقا والتراتيل. يقول الشيخ لسَكينَة: «أمر الله نافذ يا بنتي» فتعود أدراجها والدائرة وراءها ويُقطع المشهد.

إن حبكة الفِلْم، كما أوردت، توجَّهُ إلى فكرة الموت المحدد سلفًا عبر نبوءة ترتبط بالموروث الديني والثقافي. وعلى الرغم من المعرفة بحتمية الموت يندر أن نلقى وضوحًا جليًّا كهذا، فالنبوءة، غالبًا، غامضة ملتبسة تمنح أملًا وتمنعه في كلمات تغلب عليها الخفة والتورية.

يكشف الفِلْم عن قرية فقيرة بدائية تقليدية، تجمع بين الموروثات الدينية والخرافية. ويضم طقس المباركة تقنيات طقسية كالرمز والإيقاع والصوت والألوان والأداء الحركي التي تعبر عن غموض الحياة ونواميس الكون وتوقظ المشاعر المقدسة. ويحكي الفِلْم رحلة البطل في اتجاه معاكس، فبدلًا من الذهاب للفوز بالإكسير، يترقب مُزمّل موته بناء على نبوءة الشيخ.

في انتظار الموت

تهيمن سَكينَة/ الأم بعد سفر الأب (طلال عفيفي) أو هروبه. ترتدي السواد والطفل ما زال حيًّا، وتمارس طقوس الموت صامتة، وتحتفظ بالطفل مُزَمّل داخل المنزل الفقير الخالي من مظاهر الحياة فيشبه مقبرة تضم أحياء يتنفسون على استحياء. وفي غرفة طينية يدخلها بالكاد شعاع ضوء تحصي سَكينَة الأيام المتبقية للمُزَمّل. ويستخدم مدير التصوير تقنية Chiaroscuro أو ثنائية الجلاء والعتمة المعتمدة على إضاءة منخفضة، وتباين الألوان ودرجات نصوعها لتحديد الكتل والأجسام وإظهارها حادة تعمق التوتر الدرامي. يسلم أبو العلاء القيادة لسَكينَة منذ المشهد الافتتاحي، ثم يؤسس سرديته على غياب الأب. تسمح سَكينَة للمُزَمّل، بالذهاب للشيخ عبدالقادر ليحفظ القرآن الكريم حيث يلقى نعيمة والصِّبيَة الصغار فيسخرون منه فهو «ود موت»، ويتفاقم الأمر بقيامهم بطقس دفن للمُزَمّل حيًّا داخل صندوق حديدي يغلقونه عليه كالتابوت.

وفي الفصل الثاني، يظهر مُزَمّل بعد حادثة الصندوق بعد سنوات شابًّا يافعًا يرسله عيسى، صاحب الدكان الذي يعمل به، إلى سليمان (محمود السراج) ليبدأ مُزَمّل رحلة في عالم عجيب؛ حيث تُفتح غرفة مسحورة عصية على الفتح تحفظ ذكريات سليمان كلها: ماكينة العرض السينمائي وصور الفنانين ونيجاتيف لأفلام سينمائية. يُخفِق مُزَمّل في ترك عالمه الأول لينغمس في عالم سليمان. وطقس العبور هنا طقسٌ ناقص إذ تتوالى مراوحة مُزَمّل بين عالميه القديم والجديد. ويرسم أبو العلاء شخصية جديدة لسليمان تتناص مع شخصيته بوصفه سينمائيًّا وتتناص مع يوسف شاهين وأفلامه الذاتية، بل تحمل الإحالات النصية التي نراها في مشاهد فِلْمي «باب الحديد» و«الخرطوم».

يختم مُزَمّل القرآن الكريم في احتفال عام، ويرى نفسه في حلم كما لو كان السيد المسيح يرقد على رجلي سَكينَة، شبيهة مريم، أمام مبنى الشيخ الصوفي. وقد أسس أبو العلاء لهذا التماهي سابقًا حين رتل مُزَمّل القصة القرآنية لعيسى ابن مريم في أحد المشاهد. وكذلك رؤيته للظلم الذي لحق بسَكينَة بعد هروب الأب، وبالتالي رآها في صورة السيدة مريم التي فقدت ابنها في سن صغيرة، وكذلك في صورته الذاتية بوصفه قريبًا من الله بعد حفظه للقرآن الكريم.

يعود أبو مُزَمّل قبيل نهاية العام التاسع عشر لمُزَمّل، ويبدأ الوالدان طقوس الوفاة والدفن. ونرى بشكل موازٍ طقوس الشروع في زواج نعيمة من الطيب، أحد الصبية الذين دفنوا مُزَمّل حيًّا في الصندوق. وتتداخل طقوس الدفن، والزواج، والزار، ثم نرى رؤيا لسَكينَة متشحة بالسواد وسط دراويش يرتدون الأبيض والطربوش الأحمر، وجوههم مخفية وهي الوحيدة مكشوفة الوجه. تصور اللقطة تماهيًا آخر بين سَكينَة ومُزَمّل وكأنها ارتقت إلى السماء بديلًا عنه. يذهب الأب وسَكينَة لاختيار قبر لمُزَمّل. ويحاول مُزَمّل الانتحار بعد زواج نعيمة. وختامًا، يركض مُزَمّل وراء سيارة تنقل قطنًا، ربما إلى منزل عروس تبدأ حياة جديدة وربما يبدأ مُزَمّل أيضًا حياة جديدة وذلك على خلاف القصة.

اليوم السادس

تظهر صِدِّيقَة/ أم حسن (داليدا) في الافتتاحية عائدة من عزاء في قريتها. ويفصح المشهد عن خطين دراميين: يتصل الأول بمقاومة الإنجليز وزمن الأحداث، وثانيهما مركزي تشير إليه عتبة الفِلْم والرواية بعبارة «اليوم السادس» وهو خط وباء الكوليرا. ويطلعنا المشهد على مكان معظم الأحداث بجوار مقابر المقطم.

يقدم المشهد الأول بعد «أسماء الأبطال والمشاركين» بطل العمل «عوكا القراداتي» (محسن محيي الدين) الذي لا يظهر في الرواية إلا في الفصل الأول من الجزء الثاني. وكذلك رفحي صاحب دار العرض الوحيدة في المنطقة. تسرع صِدِّيقَة إلى حفيدها حسن (ماهر عصام) لتلقاه في المدرسة وكذلك معلمه الذي استضافه. وتحكي حكاية أختها وموتها بالكوليرا وتلخص حكاية الأخت حكاية القرية كلها وربما حكاية مرضى الوباء وأهاليهم ممن لا يبلغون السلطات حتى لا يلقوا بذويهم في الصحراء. ينتهي التمهيد بأغنية «حدوتة حتتنا» وهي أغنية تشير إلى إهداء يوسف شاهين الفِلْم إلى جين كيلي؛ فعلى الرغم من تناول الفِلْم مسألة الموت، فإنه لا يفتقد إلى البهجة في جوانب منه.

يصاب المعلم بالكوليرا فيعلن إصابته إثباتًا لموقفه من مقاومة الجهل والمرض والاستعمار. تتشابك خطوط المقاومة ضد الإنجليز والمرض والوشاة عن مرضى الكوليرا. وأهم واشييْن هما عوكا والدجال (صلاح السعدني) الذي سيصاب بالمرض ويموت. وفي مشهد فانتازي يصور شاهين حملة صحية على منزل صِدِّيقَة بزعم إصابة زوجها القعيد بالكوليرا في حين أن المصاب هو الحفيد، وتستطيع صِدِّيقَة أن تخفي الطفل. تختلط الخيوط والخطوط تحت مظلة السرية؛ فتختفى صِدِّيقَة في حجرة الغسيل أملًا في شفاء حفيدها، ويمارس الطلاب العمل السري ضد الإنجليز وتمارس زينات الحب مع أحد الشباب. صورة هزلية ولكنها تعبر عن المخرج الذي مزج هذه الصور في أفلامه السابقة.

يفشل ماء الصنبور في شفاء الحفيد والوقت يداهم صِدِّيقَة التي تحاول إنقاذه بعزم لا يلين، فتقرر الذهاب إلى بحر الإسكندرية حيث الطهر والشفاء. وتبدأ رحلة طقس العبور من المرض إلى الحياة. وفي المركب نشاهد الثلث الأخير من الفِلْم. تتعرف صِدِّيقَة في الرحلة إلى شخصيتين متباينتين: المراكبي أبو نواس (يوسف العاني) ومساعده النوبي (محمد منير). يحتضن المركب ببضاعته الحنون، القطن، صِدِّيقَة وحفيدها حتى بعد معرفة المراكبية بمرض الحفيد لم تتغير نظرتهم تجاهها، حتى عوكا الواشي وقد أصبح حبيس المركب بصحبة صِدِّيقَة، التي يكن لها مشاعر دافئة منذ زمن، ينسى مسألة مرض الطفل ونبدأ مرحلة مختلفة هادئة.

يتناقض إحساس صِدِّيقَة بالراحة والأمان مع وضعها الخطر وما سلف من انتحار زوجها حرقًا. ويمثل الحريق ومن قبله استعراض عوكا ليلًا توجهًا فنيًّا يمزج فيهما شاهين الألوان الباردة والساخنة. وعلى الرغم من سخونة الحريق لونًا وإشعاعًا، فإنه رد فعل على حالة من برود الزوج الجسدي وعجزه، في مقابل عوكا الذي يضج بالحيوية متطلعًا لمستقبل فني ساخن، ولكن بألوان ليلية تغلب عليها الزرقة. وفي مقابل الألوان الباردة لرحلة المركب التي ربما تنبئنا ببرودة رحلة حسن إلى الموت، يعود بنا شاهين لطفولة مصطنعة لصِدِّيقَة وعوكا.

يُمَنّي شاهين المتلقي بأمل كاذب حين يفيق الطفل في اليوم الخامس، فهل هي صحوة الموت أم حلم وفانتازيا شاهين؟ تشرق شمس اليوم السادس ويتوقع من لا يعلمون شفاءَ الطفل، فقد دخلت المركب المياه المالحة وأصبح الطفل وجدته أقرب لطقس التطهير ليشفى الجسد ويزول المرض، ولكن وفاة الطفل تحل محل البعث ليعبر حسن بشكل آخر لبعث آخر في حياة أخرى.

وجهان للموت

تناولنا موقفين متناقضين من الموت: الموقف المستسلم لسَكينَة أم مُزَمّل، والموقف المقاوم لصِدِّيقَة جدة حسن. ظلت سَكينَة سلبية في الفِلْم كما في القصة، فارتدت السواد حزنًا على الابن وهو لا يزال حيًّا، وكرَّست نبوءة الموت وعزلته عن مجتمعه وأترابه في القرية، وحرمته من حلمه في الاقتران بالفتاة التي أحبها وأحبته. وتعكس سَكينَة هنا ثقافة الخرافة والتقاليد البالية فهي ضحية الشيخ الصوفي وأتباعه، متبنية عقيدة جلاديها، سواء كان الزوج الذي هجرها أو المجتمع الذي أسس لهذه الثقافة، بل إنَّها تعيد إنتاج تلك المظلومية وتصدرها لابنها فيقرر مُزَمّل الهروب من هذا الواقع الكئيب.

ولا تختلف صِدِّيقَة في الرواية عنها في الفِلْم من حيث الفعل ومقاومة القدر. إنها امرأة عاملة تكتسب رزقها بيدها في ظروف الوباء. وفي خضم مسؤولياتها نراها موضع اهتمام رجال عدة: رفحي، ومعلم المدرسة، وعوكا، ولكنها تقصر جهودها لإنقاذ حفيدها من الموت. وربما كانت صِدِّيقَة المرأة/ البطلةَ الوحيدة في أفلام شاهين، فهل هذا لأنها بطلة الرواية؟ أم لأن شاهين يتماهى معها في جوانب عدة؟