الشعر في زمن وسائل التواصل الاجتماعي… مُتَع فورية لقارئ نَزِق

الشعر في زمن وسائل التواصل الاجتماعي… مُتَع فورية لقارئ نَزِق

إبريل ليس «أقسى الشهور» في أميركا بل أكثرها فتنةً وأُنسًا وجاذبية؛ فقد اختارته أكاديمية الشعراء الأميركيين عام 1996م، ليكون شهر الشعر الوطني الذي يُقام فيه سنويًّا نشاطات يومية مميزة وخلّاقة تؤكّد أهميةَ دور الشعر والشعراء في الحياة العامة. إنه مناسبة لمناقضة إليوت، وإعلان التوق إلى بدايات دورة حياة طازجة يخرج فيها الجمال من رحم اللغة ليقول كلمته بعد شتاء من الكلام الرمادي البليد. وبكلام أصدق، هو شهر لممارسة طقوس الخجل الجماعي من الذات؛ إذ يجري الانخراط في فعالياته، تعويضًا عن إيثار الانغماس في مشاهدة مسلسلات نيتفليكس أو حلقات «أميركا غوت تالنت» في الأحد عشر شهرًا المتبقية من العام.

قصائد معولمة

لطالما كان جمهور الشعر في أميركا في القرن الفائت حتى قيام الثورة الرقمية، صغيرًا ونخبويًّا؛ إذ ظلّت قراءته خارج دوائر النخبة الثقافية، رهن المناسبات وحسب: أعراس، جنائز، جوائز،… إلخ. ولطالما كانت عزلة الشعر جزءًا من هويته، ومدماكًا من مداميك تكوينه الجمالي. ولأنّ الشعر في طبيعته لا يستقيم والطبيعة المادية للنظام الرأسمالي؛ أعجز نظامُ السوق تسليعَه، ولم نجد مثلًا قصيدة لشاعر فذّ عاش معذبًا ومعدمًا في زمانه، تُباع بملايين الدولارات على غرار بعض الأعمال التشكيلية لكبار فناني الماضي. ومن نافلة القول: إن قيمة اللوحة الفنية في عالم السوق من قيمة سعرها. أما في عالم الفن والنقد التشكيلي الرصين، فثمة حِسبة أخرى لا تمتّ إلى عوالم التجارة بِصِلة. وما يعنينا هنا، أنّ القصيدة -حتى وقت قريب- استعصت على أيديولوجية الربح والخسارة؛ فتمّ تهميشها، وطُردت من جنّة «رأس المال» إلى عزلة صحيّة، كان أنْ ساهمت في صيانة الشعر من جشع السوق وابتذال لغته.

على أن صورة الشعر في أميركا اليوم قطعت شوطًا طويلًا؛ من كونها تلك المختارات الصفراء النادرة التي تنتظر اكتشافها في أسفل رفوف المكتبات، إلى ما لا يمكن حصره من كتابات تحت مسمى الشعر، فيروسية الانتشار؛ نتيجة سطوة وسائل التواصل الاجتماعي، وفاعليتها؛ تلك التي غيرت مفهوم إنتاج الشعر وكيفية مشاركته واستهلاكه. وباستعارة عبارة نيرودا؛ هل ما فعلته الإنترنت بالشعر على غرار «ما يفعله الربيع بشجرة الكرز»؟

الأغلب، نعم، وذلك فيما يخصّ النشر الإلكتروني لا الورقي؛ حيث لا يزال الشعراء، ولا سيما الجدد، يعانون أزمة إيجاد دور نشر؛ نتيجة انخفاض المبيعات الشعرية. ولا يبدو أنّ الإنترنت استطاعت تغيير هذا الواقع، سوى أنها شرّعت مساحات أخرى وفيرة للنشر، أدّت إلى دمقرطة مجتمع الكتّاب والقرّاء معًا، بحيث لم يَعُدْ نشرُ الشعر حكرًا على النخبة فقط. وتضاعف عدد الشعراء والقرّاء على الإنترنت، وظهر مصطلح Instapoetry (الشعر الفوري)، وتعددت التجارب على المواقع الإلكترونية، كيوتيوب وإنستغرام، وهو ما أدّى إلى ظهور أشعار بأشكال فنية جديدة، تستعير لغتها من المسرح والموسيقا والرقص والسرد، وتستمد ثيماتها من مشاغل العصر ومشكلاته الراهنة، كالهجرة والعنصرية وسوء المعاملة، ويجري تطعيمها بنكهات لغات وثقافات متنوعة، كتلك التي ما فتئت تُقزّح المجتمع الأميركي، لتخرج إلينا في النهاية قصائد معولمة تندرج تحت مظلة ما يعرف في الثقافة الأميركية والعالمية الراهنة بشعر Slam.

وفق استطلاع مركز «المنحة الوطنية للفنون» للعام 2017م، بالتعاون مع مكتب الإحصاء الأميركي، ثمة ما يقرب من 12% من البالغين في الولايات المتحدة الأميركية يقرؤون الشعر، وهذه النسبة هي الأعلى على مدار الخمسة عشر عامًا التي سبقت الدراسة. ولا شكّ أن عزلة سنوات جائحة كورونا الأخيرة، أدّت إلى ارتفاع أكبر في هذه النسبة؛ ذلك أن الشعر في الأوقات العصيبة، يُعدّ الملجأ الأمثل للعثور على الطمأنينة والبصيرة. وتعزو أكاديمية الشعراء الأميركيين هذا الارتفاع إلى عوامل عدة، أهمها أن الشعر بوصفه أحد أقدم أنواع الفنون، مناسب تمامًا لثقافة الهاتف المحمول التي تحرّكها وسائل التواصل الاجتماعي. وقد أصبح العديد من المنصات وسيلة لتبادل القصائد، وتمكين الشعراء الجدد من خوض تجاربهم وإثبات حضورهم، ولا سيما عبر عدد المتابعين.

الشعر الرديء والقارئ الجيد

للشاعرة الكندية، الهندية الأصل «روبي كور» 2.7 مليون متابع على إنستغرام، وقد بيع من باكورتها الشعرية «الحليب والعسل» أكثر من 1.4 مليون نسخة. وعلى الرغم من تزايد نسبة المهتمين بالشعر وارتفاع مبيعاته؛ فإن كثيرًا مما ينشر اليوم متسلقًا سلّم قضايا العدالة الاجتماعية، ومتوسلًا سهولة شبكة التواصل ومجانيتها، يفتقر إلى معايير الجودة والجمال. فالشعر الرديء والمفتقر للموهبة، يحظى اليوم بالجمهور الأكبر. ولعل موجة (Poetry Slam) التي تقترح مسرحة بعض هذا الشعر الرديء، والنِّيء، والمكتوب بلا عذاب، لا تزيده إلا طنانة فارغة ومفرطة.

عمومًا، يجب عدم قياس مكانة الشعر بحجم مبيعاته أو بسرعة انتشاره أو بعدد ما يناله من «اللايكات». وفي الوقت عينه، يجب عدم تحييد وسائل التواصل الاجتماعي، والتلفزيون، والإنترنت، باعتبارها قنوات غير صالحة للشعر الجيّد. فالشعر أولًا وأخيرًا يقيم في اللغة، وهنا بيت القصيد. مقامه يتحدّد بقدر تفاعلنا مع مفرداته، واكتشاف إمكاناتها، والارتقاء بها إلى فضاءات مبتكرة. ولن تخلو الساحة من شعراء يشتبكون باللغة بهذا القدر أو ذاك من الجماليات، لكن المشكلة تبقى في طبيعة تعاطي القارئ المعاصر مع اللغة؛ حيث تكاد تخلو القراءة اليوم من الوعي بأهمية التفاعل البنّاء مع المفردات والجمل والصور التي تولدها. ولا غرابة إذًا أن يعجز مجتمع القرّاء من تمييز الغثّ من السمين. والواقع أنه لا قلق حقيقي من أن يموت الشعر؛ فليتمتعْ بشعبية الجماهير غير المثقفة، وليجنِ المال الوفير، وليسوّقْ على لوحات إعلانية في المطاعم والمتاجر؛ فهذا كله لن يستطيع قتل الشعر، لكن القلق الحقيقي مصدره أن يموت القارئ الجيّد؛ ذلك الذي يتمتع بدرجة من الثقافة والذكاء والحساسية تمكّنه من التفاعل مع النصّ الشعري ومعاينة لغته بالحرفية المطلوبة والجدية.

شعر الغضب

يُعدّ شعر Slam من أحدث الابتكارات الثقافية للأميركيين الأفارقة. بدأ مع الشاعر مارك سميث في مدينة شيكاغو في عقد الثمانينيات، وتتطور متفاعلًا بتأثيرات من موسيقا الهيب هوب والمدنية المعاصرة. وهو غالبًا ما يُركّز على قضايا سياسية واجتماعية ضاغطة، وعلى رأسها التمييز العنصري والقمع. يُكتب هذا النوع الشعري خِصِّيصَى للأداء المسرحي التنافسي وليس بالضرورة للطباعة والنشر. ويُلقى أمام جمهور مباشر ولجنة حكم، على ألا يستغرق أداء القصيدة مدة تتعدى ثلاث دقائق. وهو يجمع بين عناصر عدة: الأداء الجهوري السريع، والكلام المحكي، والقافية واللعب على الكلمات، والمنافسة الحماسية، ومشاركة الجمهور. وأحيانًا يكون الجمهور هو نفسه الحَكَم، بحيث يقوم تفاعله وهتافه ومدى تأثّره، بفعل التفضيل بين المتنافسين.

يشبه شعر Slam بإيقاعه وأجوائه إلى حد كبير أغاني الراب، لكنه أكثر وجدانية وتأثيرًا. وعلى الرغم من انتشاره الواسع؛ فهو في نظر بعضٍ لا يستوفي شروط الشعر، ولا يتطلب بالضرورة موهبة أو إبداعًا. إنه أقلّ كثيرًا من الشعر وأكثر قليلًا من الصراخ الغاضب. علاوةً على اقتصار موضوعاته على نقد الواقع السياسي والاجتماعي، وفضح مشكلات البيئة والطبيعة؛ ذلك أنّ القصد من المقاطع الصوتية المتتابعة (Slam Voice) المستخدمة في هذا النوع الشعري، نقلُ الغضب والضيق والاحتقان والشعور بالغبن. في حين أن الشعر عمومًا يتّسع للموضوعات كلها، ويمكنه احتواء المشاعر الإنسانية على تنوعها، والتشكّل وفق خبرات وتجارب إبداعية وأسلوبية لا يمكن حصرها.

ويُخشى أن يكون شعر Slam خطوة إلى الوراء نحو شعر أكثر تقليدية، وذلك لاعتماده القافية، مناقضًا أسلوب الشعر الحرّ المستخدم غالبًا اليوم، الذي اعتمده رواد جيل «البيت» من قبل. خلاصة القول: لا شكّ أن للأداء الصوتي قدرته على إيصال المشاعر مثلما للكلمة المكتوبة. وإن كان شعر Slam يفتقر أحيانًا إلى العمق؛ فقد يمنحه الإلقاء الصوتي أبعادًا مؤثرة لمعانيه. وهو إن لم يكن شعرًا؛ فلا ريب أنه شكل فنيّ آخر، له وسيلته في إيصال المشاعر بفاعلية.

المشهد النقدي

بعض القراءات النقدية ترى أنّ التركيز على التجربة الفردية والحياة الشخصية سمتان بارزتان لدى معظم شعراء جيل وسائل التواصل الاجتماعي، وهو ما يمنح قصائدهم نفَسًا اعترافيًّا، كان ليذكّرنا بموجة الشعر الاعترافي في ستينيات القرن الماضي لولا صخب ما يكتبونه وتكلّفه وافتقاره إلى الخفر والعمق. وثمة ثيمات أخرى تشغل الشعر المعاصر، مصدرها الثقافة الشعبوية أو ثقافة الأغلبية، وهي ليست ثيمات جوهرية ووجودية أصيلة. هذا النوع الشعري السائد المتسيّد والرتيب والأقرب بلغته إلى العامية، ينشغل بتحريك المشاعر العامة ضمن يوميات وعاديات وتوترات بيئة رأسمالية بامتياز. وهو تاليًا لا يطمح إلى تجسيد المعضلات الوجودية الكبرى والمعقدة في الحياة والعالم. نعم، هناك أشعار مستوحاة من معضلات القرن الحادي والعشرين كالتقدم التقني المتسارع، وفيضانات الهويات الجنسية الدالة عليها علامة + في آخر اختصار + LGBTQIA2S، لكن، يبقى السؤال: هل لمعضلات العصر مهما علا شأنها، أن تُكسِب نتاج شعراء متفاوتي الموهبة، مكانة في التاريخ؟

من ناحية أخرى، تعدّ خاصية الوضوح أكثر ما يميّز شعرية جيل مواقع التواصل؛ حيث تكاد تخلو معظم قصائده من أي شيفرات لفكّها، وهي تسلّم نفسها للقارئ جاهزة ومسطحة كأنها تقول له: لا تذهب بعيدًا، هذا ما قصدته… إنها قصائد سهلة ومفتعلة ولا تكتنز ثقافة أدبية ولا قراءات غنية. وليس القصد أن الشعر الجيد مشروط بالغموض، وإنما بإطلاق المخيلة إلى فضاءات تتجاوز المعنى المباشر. وكم من روائع الشعر الأميركي المعاصر يتّصف بالسهل الممتنع، وبالبساطة الظاهرة المكتنزة كثافة شعرية وسعة معرفية. ولعل بعض قصائد الشاعرين دبليو إس مروين ونعومي شهاب ناي خير دليل على ذلك. ربما لا يوجد شعراء أقلّ جودة اليوم مما كان في الأمس، لكن يصعب تمييزهم في ظلّ عدد الدخلاء الهائل. فثمة من يستغل سهولة النشر على الإنترنت؛ لأخذ الشعر إلى ما يشبه الثرثرة العامية البليدة المضجرة، وأحيانًا الإباحية المبتذلة، وذلك لكسب نسبة أعلى من المتابعين الفضوليين الذين قد لا يقل جهلهم بالشعر عن جهل المدعيين كتابته.

تبرز انتقادات عدة أيضًا حول المستوى اللغوي لأشعار مواقع التواصل؛ حيث نجد على سبيل المثال، الاستعارات نفسها تتكرر، والأسلوب نفسه، واختيار المفردات؛ لكأن جلّ ما يُكتَب هو قصيدة واحدة لشعراء كثر. لقد استُبدِلَ ببراعات الكتابة الشعرية، شعريات رديئة من طراز ما تكتبه «روبي كور» مثلًا التي تسللت إلى النجومية تحت ستار التقدمية وازدواج الهوية. وللأسف، لا يوجد في المجتمع الأميركي أو الكندي المعاصر من ينتقد بأريحية قصائد تُكتب بلغة سطحية بليدة، وأخطاء نحوية مروعة، تحت عناوين قضايا ساخنة مثل «حرية التعبير» أو «العنصرية» أو «الهوية الجنسية» أو «النسوية» أو حتى «صفة البدانة»؛ ذلك أنّ النقد البنّاء للمحتوى الشعري -لشاعرة ملوّنة مثلًا- قد يُفنَّد بخبث أو بجهالة، ويؤخذ على أنه إساءة إلى مقدسات اجتماعية من قبيل عدم جواز التمييز ضد المرأة أو ضد ذوي البشرة الملونة، وإلى ما هنالك من قضايا محقة يجري استغلالها من قبل الشاعر/ة والجمهور معًا لتصبح مجرد كليشيهات ممجوجة.

لذا، تدنّت معايير الشعر لدى المجتمع، وصار معظم المهتمين به يريدون أن يكونوا الكتّاب وليس القرّاء، وخصوصًا بعد أن تحوّل الشعر إلى مهنة، ومهنة مربحة. هذا ما أدّى إلى تدني مستوى النتاج الشعري للجيل المعاصر؛ إذ قلما نقع فيه على عمل إبداعي واحد يرسخ في الذهن. قلما يأخذنا بفتنة أو عذوبة. قلما يسحرنا بصوره أو يُطلق خيالنا بعيدًا. قلما يعذّبنا بجمالياته. إنه شعر للحكي والتسويق، للثرثرة والاستعراض، للتصفيق والارتزاق. وإنّ السعي نحو المجد والشهرة، هو ما يشغل اليوم معظم شعراء وسائل التواصل الاجتماعي في أميركا.

بالإضافة إلى كل ما سبق، لا يفوتنا أنه مع استحالة الإحاطة بكل ما ينشر من أشعار اليوم على الشبكة العنكبوتية، تبرز قضية الانتحال والسرقات الشعرية، وما يتبعها من صعوبات في إثبات تلك السرقات على مرتكبيها. وعلى الرغم من موقف النقد السلبي عمومًا من كثير مما يُنشر على شبكات التواصل؛ فإن المشهد النقدي الأميركي اليوم لا يخلو من بعض المدافعين عن بعض شعراء وشاعرات الإنترنت، ذلك أنهم يرون فيهم/هن احتمال تشكّل تيار جديد على غرار نهضة هارلم مثلًا، وتاليًا هم يعارضون بشدة هذه الاندفاعة إلى تشويه هذه الموجة ورفضها.

شعر للاستهلاك اليومي

مع تقدّم العصر الرقمي تضاعفت الشكوك حول مستقبل الطباعة والنشر، ولا سيما فيما يخصّ الشعر، وبرزت مخاوف من مثيل أن يحلّ «الكندل» مكان الكتاب الورقي، وشعر الإنترنت الفوري مكان الشعر بسماته الأصيلة. ففي عالم يُفرَض على هذا الفن الأسمى، والأكثر شفافية وصفاء، أن يتأقلم والطبيعة المادية الشرسة لمجتمع السوق الرأسمالي، وأن يصبح ذا فائدة اقتصادية، ويُفرض عليه التخلي عن صورته الشبحية وغموضه، لصالح صفات أكثر عملية، وسهلة التسويق، يصبح التساؤل المشروع الأول: هل يكون شعر الإنترنت الفوري (Instapoetry) آخر ما يتبقى لنا من الشعر الذي نعرفه؟!

لقد سعت أكاديمية الشعراء الأميركيين، وكثير من الجامعات والمؤسسات الأدبية، إلى مواكبة متطلبات العصر الرقمي من أجل إعادة إحياء الشعر بين الأجيال الشابة؛ فجعلته إعلانًا ملصقًا في محطات المترو، وقصيدة يومية مختارة تُرسل بالبريد الإلكتروني. هذا بالإضافة إلى إقامتها المحترفات الشعرية لتعليم كتابته، والمسابقات لاختيار القصيدة الأفضل، وأيضًا إلى تقديمها المنح والجوائز والإقامات الشعرية. وهكذا تبدو طاولة الشعر في المجتمع الأميركي متّسعة للجميع؛ حيث للدواوين المطبوعة مقعد، ولأشعار وسائل التواصل الاجتماعي مقعد، وللشعر الفوري مقعد، ولشعر Slam مقعده أيضًا، وللتقنيات المبتدعة كافة.. على أمل أن يبقى للشعر، بصرف النظر عن جودته، صوت مسموع. ولا شكّ أن مساعي هذه المؤسسات الثقافية، بما فيها نشاطات شهر الشعر الوطني السنوية، تساهم في إيجاد مساحة أوسع للشعر في الحياة الثقافية العامة، وإن ليس بوسع مساحته في مواقع التواصل.

لكن النشاطات تنتهي، والمناسبات تنقضي، وينتهي وينقضي معها اهتمام الجمهور بممارسة أي نشاط شعري أو ثقافي على الأرض، وذلك سواء على المستوى الجماعي أو الفردي. وبينما تبقى المكتبات العامة شبه خالية، تعجّ مواقع التواصل الاجتماعي بالحراك الثقافي والشعري؛ فالأنشطة فيها تقام بجهد أقلّ، وهي بمتناول الجميع. ثم إنّ الفعل الثقافي الذي يستغرق وقتًا أقصر بات مرغوبًا أكثر. من هنا نفهم الاهتمام المتعاظم بالشعر الفوري؛ فمعظم قرّاء الشعر على الإنترنت اليوم، يميلون إلى القصيدة الفورية العابرة؛ إذ تتزحلق عيونهم على الشاشات الصغيرة بتململ لقراءة أيّ شيء يسدّ الفراغ، ولا يحثّهم على التفكير النقدي العميق. إنها قراءة كالشرارة التي تنطفئ في أرضها من دون أن تنتقل إلى قلب أو ذاكرة.

لقد تقلّص الشعر لدى بعض القرائح الشعرية اليوم، ليتناسب مثلًا ومربعات إنستغرام (ولا يظنّن أحد أنها قصائد هايكو!)، وأتاحت له بعض التطبيقات الظهور بخطّ كتابة فاخر، مقترنًا ببعض الصور المدهشة. هذا ما منح الأولية لجماليات الشكل الجذّابة، وقوّض القدرة الهائلة للكلمات لخلق الصور في أذهاننا. بالطبع، مآخذ كهذه كافية لبعضٍ، لرفض إغواء وسائل التواصل الاجتماعي، ولعدم أخذ ما فيها بجدية. على أن المشكلة بالنسبة إليهم ليست في نماذج الشعر القصيرة، والمتسربلة أحيانًا في حلّة بسيطة وأنيقة؛ فالشعر الأميركي والعالمي حافل بروائع القصائد القصيرة لشعراء مثل: لانغستون هيوز، وروبرت فروست، وإميلي ديكنسون، ووليم بلايك، وإي. إي. كومينغز، وغيرهم.

إنما المشكلة في مدى جودة هذا الشعر، وفيما تفضحه الإنترنت من انخفاض كارثي في مدى الانتباه لدى الشخص، وفي مدى أناته وتبصّره. فالأخيرة بكثرة ما تعرضه من فسيفساء شعرية، فإنها تعزّز لدى القارئ المتصفح غريزة الاستهلاك؛ إذ قد يكتفي بأن تحوم في رأسه خاطرة أو اثنتان حتى ينتقل إلى قصيدة حافزة أخرى. وهكذا دواليك، من دون أن تصعقه متعة الشعر الحقيقية. والحقّ، قليلة قصائد وسائل التواصل التي يدوم تأثيرها. ولعلّ الوقت الذي يقضيه القارئ مع القصيدة يكون الوسيلة الأنجع لقياس قيمتها من طولها. لقد علّمنا الشعر الصبر، وهو اليوم أكثر ما تهدّده الإنترنت؛ حيث أمواجٌ تلو أمواجٍ من متعٍ فورية سريعة لا تُحصى يغنمها القارئ النزِق بأقلّ تكلفة؛ فكيف لمادة الشعر العميقة أن تحيا حياة الزبَد؟!

إن سرعة انتشار الشعر لا تعني وصوله إلى الأعماق. فكم مما يُنشر منه اليوم له حصة في الذاكرة؟ وكم منه يُقتبَس في المحادثات الحميمة؟ وهل لمشاركته مع الأصدقاء على تطبيقات مثل فيسبوك أو واتساب التأثير نفسه في النفس؟ هل بات مستعصيًا اليوم أن نحبّ الشعر ونكتبه ونقرأه وننشره من دون اتصالنا بجهاز ما؟ هذه ليست نوستالجيا في غير محلها؛ بل هي من أصل الشعر، وتصلح موضوعًا دائمًا له. فمن منا لا يحنّ إلى رائحة الحبر والآلة الكاتبة، وإلى صور الشعراء بالأبيض والأسود والكتب الصفراء القديمة؟ إنّ الجلوس مع كتاب شعري يسمح لنا باستعادة الصبر الذي بتنا نفقده بسبب الإنترنت. إنّ الكتابة المتأمّلة التي تتشكّل عبر عملية اختيار معقدة للكلمات، تُعطي كلماتنا هدية الوقت؛ وما أثمنها هدية في زمن الكلام الذي لا يدوم.