هل يمكن إقامة حداثة أخلاقية بلا فضيلة؟ القراءة الجماعوية لأزمة القيم لدى ألسدير ماكنتاير

هل يمكن إقامة حداثة أخلاقية بلا فضيلة؟

القراءة الجماعوية لأزمة القيم لدى ألسدير ماكنتاير

في كتابه «بعد الفضيلة: بحث في النظرية الأخلاقية» يقترح علينا ألسدير ماكنتاير(١) نقدًا طريفًا لجملة الحداثة بوصفها في عمقها إشكالية أخلاقية سيّئة الطرح. وذلك أنّها انحرفت عن التقليد الفلسفي العريق للفلسفة الخلقية -أي تقليد التفكير في الفضيلة والسعادة على عادة القدماء إلى حد ابن رشد- وعوّضته بنظريات نقدية حول مدى إمكانية «تسويغ» الأخلاق بشكل عقلي.

وفي هذا الصدد، هو يفترض أنّه لا يمكن فهم الأخلاق الحديثة إلَّا «من وجهة نظر خارجية» (ص13-14)، وذلك يعني عنده أنّه لا توجد معايير «كونية» أو «غير شخصية» يمكن أن تحكم بها على الصلاحية الأخلاقية التي يجب أن تتوافر في «القيم» المتنازع عليها، والموجودة لدى شعب ما أو في ثقافة ما. وذلك على خلاف ادّعاءات فلسفة التنوير منذ كانط التي أخذت تبحث بدءًا من القرن الثامن عشر عن مثل تلك المعايير الكونية من أجل فرضها
على الإنسانية.

وهكذا فإنّ أجدر طريقة لمعالجة المسألة الأخلاقية المتنازع عليها بين المحدثين (من كانطيين وأتباع مذهب المنفعة خاصة) هي أن نعود إلى «تقليد» آخر «غير حديث» كان قد صاغه أرسطو تحديدًا، وذلك من أجل «أن نفهم نشوء الحداثة الأخلاقية وورطتها» (ص16). لكنّها «عودة» تاريخية حمّالة لأمل أخلاقي جديد (ص15) وليس مجرّد «نوستالجيا» حزينة: لا نستطيع أن نفهم أنفسنا المعاصرة إلَّا «باستعادة تذكّر الأحداث من وجهة نظر الحداثة» (ص158) استعادة «تاريخية»، تفترض صراحةً أنّه لا يوجد «تسويغ عقلي» كوني للمعايير بل فقط إنّ المعايير «تختلف من زمن لآخر ومن مكان لآخر (ص19)، وبالتالي نحن لا نستطيع أن نشرح مفهوم «الخير» الإنساني إلَّا بالاستناد إلى «مفردات اجتماعية محضة، وبلغة الممارسات والتقاليد والوحدة القصصية للحياة الإنسانية» (ص16).

لا أحد يكون «متخلّقًا» إلَّا بمعايير الثقافة التي ينتمي إليها، ومن ثمّ فإنّه لا يفهم «معنى» قيمة من القيم إلَّا متى نجح في إدراجها ضمن «قصة» متّسقة من الممارسات أو التقاليد الثقافية الخاصة بجيله أو شعبه أو عصره. وذلك أنّه لا توجد «معاير حيادية» (ص21) يمكن أن نحكم بها على الصلاحية الأخلاقية لمفهوم أو سلوك ما. ما يوجد حقًّا في كل مرة هو «نمط من الحياة الإنسانية» حيث تكون مجموعة من «الفضائل» هي «متجسّدة» بشكل «تاريخي» في ثقافة شعب «مخصوص» (ص23).

الفضيلة تُعاش ولا تُستنبَط من أيّ عقل لا يرانا: علاقة جديدة بين الهوية والأخلاق.

علينا هنا أن نبصر بالتقابل الذي يريد ماكنتاير أن ينصبه بين نوعين من الفلسفة الأخلاقية: بين الحداثة الليبرالية والفردانية التي تفترض وجود معايير كونية (ذات طبيعة «قانونية» حول ما هو «عادل» دومًا، كما صاغها كانط) يجب فرضها بوصفها «واجبات» خلقيّة شكلية «محايدة»، وبالتالي فارغة من أيّ تصوّر ثقافي حول معنى «الخير الإنساني» الذي تؤمن به «جماعة» أو يحمل توقيع أمّة معيّنة، وبالتالي هي بمنزلة محكمة عقلية للبتّ في صلاحية المفاهيم الأخلاقية المتنافسة، وبين موقف فلسفي «مضاد للحداثة الأخلاقية» الليبرالية والفردانية، يستلهم عناصر قوّته النظرية من «تقليد» أخلاقي ينسبه تاريخ الفلسفة المعاصر إلى القدماء، وبخاصة إلى أرسطو (وهو ما يعني أنّه ينسحب على حقبة الفلسفة العربية).

وهو تقليد غير ليبرالي ولا فرداني بل يتصوّر أنّ «الخير» الخلقي (وليس «الواجب الخلقي» أو «المنفعة» الفردية) هو موضوع الفلسفة الأخلاقية، وهو خير متجسّد في «فضائل» لا يتمّ «استنباطها عقليًّا» بل «يعيشها» أناس حقيقيون منخرطون في «قصة حياتهم»، وذلك في خضمّ سعيهم إلى «بناء وإبقاء أشكال من المجتمع موجهة نحو التحقيق المشترك لتلك الخيرات المشتركة، التي من دونها لا يمكن تحقيق الخير الإنساني الأقصى» (ص23).

وينطلق ماكنتاير في كتابه من «اقتراح مقلق» (ص33 وما بعدها)، وهو أن نفترض أنّ كارثة بيئية قد حدثت، وصار البشر يعيشون بعد تلك الكارثة في حالة فوضى. ومن ثمّ علينا أن ننطلق من أنّ «اللغة الأخلاقية في العالم الواقعي الذي نقيم فيه هي في حالة من الفوضى الخطيرة»؛ لأنّها فقدت الصلة بالعالم الذي نشأت فيه، بحيث صارت «أجزاءً تفتقر إلى البيئات [السياقات] التي منها استمدّت معناها وأهميتها» (ص35-36).

وهكذا فما تقترحه الفلسفة هو أنّه لم يعد يمكن أن نفهم مشاكلنا الأخلاقية إذا نحن لم نغيّر «نظرتنا لأنفسنا»(٢) بحيث تطالبنا بإجراء «تحوّل في نظرتنا لما نكون وما نفعل» (ص36)(٣). يجب أن نركّز هنا على الرابط الذي يقيمه ماكنتاير بين «ما نكون» و«ما نفعل»؛ أي بين «الهوية» و«الأخلاق». وذلك يعني أنّ «السياق» الأصلي الذي تشتقّ منه الأخلاق «دلالتها» ليس شيئًا آخر غير «ما نكون»؛ أي طريقتنا في أن «نكون أنفسنا»، ولا يعني ذلك غير «الهوية».

إنّ هوية الناس تسبق أخلاقهم. ومن ثمّ متى انهار عالم الانتماء انهار معه عالم القيم؛ لأنّ القيم لا «معنى» لها إلَّا ضمن شكل من «خُلق العالم»، أي من طريقة «السكن» في العالم. والسؤال عندئذ: أين يجدر بنا أن نبحث عن «مصادر» تساعدنا على إعادة بناء القيم الأخلاقية التي فقدت سياقها؟

أين يجدر بنا أن نبحث عن مصادرنا الأخلاقية؟

يفترض ماكنتاير أنّ ثمّة طريقةً واحدة لذلك: لا يمكن الانتصار على الفوضى إلَّا بالتأريخ لها. إنّ الفوضى الأخلاقية (حيث يسود التنازع بين المذاهب الأخلاقية على التسويغ العقلي الكوني الذي يغلب بقية التصوّرات الأخرى) لا يمكن الخروج منها إلَّا عندما ننجح في «فهم تاريخها» (ص36). وَحْدَهُ تاريخ الأخلاق يحرّرنا من وَهْم سيطرة مذهب على آخر. إذْ إنّ العيب الأكبر في أي مذهب أخلاقي، سواء كان ليبراليًّا أو محافظًا أو حتى موقفًا راديكاليًّا، هو الظنّ بأنّ «خطابه الأخلاقي» صحيح وأنّ «لغته الأخلاقية» جيّدة ولن تخذله.

والحال أنّ الفوضى الأخلاقية المعاصرة هي حصلت فعلًا، و«نحن سلفًا في حالة من النكبة لا علاجات كبيرة لها» (ص40). لا تريد الفلسفة هنا أكثر من إثارة «القلق» المناسب حول أزمة الأخلاق، وليس إنتاج الاستياء أو التشاؤم. فإنّ «التشاؤم أيضًا سيتحوّل إلى رفاهية ثقافية، علينا أن نستغني عنها للبقاء في هذه الأوقات الصعبة» (نفسه). بل القلق يهمّ شيئًا آخر: إنّه قلق المفاهيم التي نفكّر بها في المسألة الأخلاقية. والأطروحة التي يسوقها ماكنتاير هي التالية: «إنّ اللغة والظواهر الأخلاقية يدومان حتى لو تصدّع الجوهر الكامل للأخلاق» (نفسه).

إنّ الفوضى تعني بذلك أنّنا سوف نواصل استعمال مفردات أخلاقية فقدت السياق الذي نشأت فيه، وبالتالي هي مفردات تفرض علينا أن نؤرّخ لها من جديد حتى تعود إلى دلالتها الخاصة. وهو يشبّه هذه المعضلة بما يجري في ميدان الحرب الحديثة: «لا يمكن لحرب حديثة أن تكون عادلة، وعلينا الآن أن نكون دعاة سلام» (نفسه).

إنّ الفوضى تعني بذلك أنّنا سوف نواصل استعمال مفردات أخلاقية فقدت السياق الذي نشأت فيه، وبالتالي هي مفردات تفرض علينا أن نؤرّخ لها من جديد حتى تعود إلى دلالتها الخاصة. وهو يشبّه هذه المعضلة بما يجري في ميدان الحرب الحديثة: «لا يمكن لحرب حديثة أن تكون عادلة، وعلينا الآن أن نكون دعاة سلام» (نفسه).

ليس المشكل في أنّ فوضى الأخلاق هي حالة حرب بين القيم، أو بين تصوُّرات متنافسة عن «الخير» الإنساني، بل في أنّه لا يوجد مفهوم كوني عمّا هو «عادل» بين البشر. يعني العدل في الأخلاق وجود «قانون» خلقي كوني تقبله كل العقول؛ لأنّه قيمة محايدة إزاء جميع الثقافات. وكان كانط قد افترض مثل هذا «الاتفاق الأخلاقي» بين العقول من أجل بناء «أمر قطعي» يمكن أن يجعلنا «نحترم» القانون الخلقي لأجل ذاته، وبالتالي نقوم بــ«واجبنا» بشكل «غير شخصي». ولكن ما معنى أن نحترم شخصًا بشكل غير شخصي؟ وحسب افتراض ماكنتاير لا يوجد مثل هذا الاتفاق الأخلاقي، وبالتالي علينا أن نقبل الوضعية الإشكالية كما هي دون أن نخرّبها بمفهوم محايد لا وجود له.

وهكذا، فإنّ فلسفة الأخلاق هي فوضى قيم لا يمكن الخروج منها بأيّ اتفاق عادل حول معايير كونية، بل فقط أن «نكون دعاة سلام»، أي أن نكون مؤرّخين جيّدين لها. وَحْدَهُ تاريخ الأخلاق يمكن أن يساعدنا على فكّ طبيعة الخلاف الأخلاقي وتعطيله. وحسب هذه النظرة فإنّه «يمكننا أن نستنتج أن لا شيء في الخلافات المعاصرة سوى صدام إرادات متنازعة، وكل إرادة تحددها مجموعة من خياراتها الاعتباطية»، وذلك لعدم وجود «معايير موضوعية» قد تحسم النزاع (ص47).

أولًا إذ لا شيء يبرّر لماذا علينا أن نعدَّ القيمة الأولى في الأخلاق هي العدالة أو هي الحقوق أو هي المساواة أو هي الحرية… «فكل واحدة من الحجج صحيحة منطقيًّا» (ص44)؛ وثانيًا: إنّ البحث عن «حجج عقلية لا شخصية» يؤدي إلى «نوع من التفكير مستقل عن العلاقة بين المتكلم والسامع» (ص47)؛ وثالثًا: إنّ كل الحجج الأخلاقية لها تواريخ ومصادر تاريخية مختلفة ومتعددة لكنّنا لا نفهم تعدّدها، حيث إنّ «خطاب ثقافتنا السطحي ميّال للكلام برضى ذاتي عن التعددية الأخلاقية في هذا الصدد، لكن فكرة التعددية غير دقيقة أبدًا»(ص49). إنّ التعدّدية الأخلاقية تعني هنا «وجهات نظر» متنافسة ومتنازعة هي نفسها متجذّرة في «تنوّع السياقات» وتستعمل مفاهيم (مثل الفضيلة والعدالة والتقوى والواجب) قد «صارت غير ما كانت عليه من قبل»(٤) (ص49). ولذلك فإنّ التعددية الأخلاقية لا تخرجنا من حالة الفوضى التي أصابت الجدل الأخلاقي المعاصر.

الحداثة‭ ‬الأخلاقية‭ ‬بوصفها‭ ‬ضربًا‭ ‬من‭ ‬فوضى‭ ‬القيم

تميل فلسفة الأخلاق إلى الدفاع عن الأحكام الأخلاقية بوصفها عبارة عن «أقوال» أو «تعابير» تقع خارج الزمن، ومن ثمّ يُستَدْعَى فلاسفة الماضي للمشاركة في النقاش حول القيم «كما لو أنهم معاصرون لنا ولكلّ واحد آخر»(٥) (ص50). ومن ثمّ فإنّ الحل الوحيد هو أن نعيد كل فيلسوف إلى عصره الخاص، وبالتالي نضع كل الأخلاق في «سياقها» التاريخي. وهكذا علينا معالجة مشاكل فلسفة الأخلاق عن طريق «إنشاء سرد تاريخي حقيقي تكون فيه الحجة الأخلاقية في مرحلة سابقة مختلفة اختلافًا نوعيًّا» (ص50)(٦).

إنّ الحقبة المعاصرة قد حاولت التحرّر من سلطة أخلاق الواجب (كانط)، وأخلاق المنفعة (جون ستيوارت مل) في الوقت نفسه، والتركيز على التعابير الأخلاقية نفسها. لكنّ النتيجة هي أنّها قد حوّلت «الأخلاق» إلى مجرّد «عواطف» نعبّر عنها بواسطة مفردات أخلاقية معزولة. وهذا يعني أنّ الأخلاق المعاصرة، وبخاصة في التقليد الأنغلوسكسوني، هي عامةً نوع من «المذهب العاطفي» (ص51) الذي يقوم على هذا المبدأ: «أنّ كلّ الأحكام التقييمية وعلى نحو أخصّ كل الأحكام الأخلاقية هي ليست سوى تعابير عن تفضيل ما، تعابير عن موقف أو شعور، بقدر ما هي خلقيّة أو تقييمية في طابعها»(٧) (ص51)، ومن ثم تكون مهمة الفلسفة هي تحليل لغتها بوصفها تستعمل تعابير لا هي صادقة ولا هي كاذبة؛ لأنّها سوف تعاني دائمًا التعارضَ الذي يحدث بين «معنى» الجملة الأخلاقية والسياق الذي «تُستعمل» فيه (ص55).

والنتيجة هي تخلي الفلسفة التحليلية عن مذهب العاطفة والتفرّغ لتحليل اللغة الأخلاقية (ص66). حتى في الفلسفة القارية (كما نرى ذلك لدى نيتشه أو سارتر) فقد اتُّهِمَتِ الأحكام الأخلاقية بأنّها مجرد «قناع» زائف لنوع من الإرادة الارتكاسية (نيتشه) (ص69)، أو مجرد «مظهر لإيمان زائف يمارسه أولئك الذين لا يستطيعون تحمّل الاعتراف بخياراتهم الخاصة بوصفها المنبع الوحيد للحكم الأخلاقي» (ص70). لكنّ النتيجة الفلسفية الكبرى هي ليست فقط أنّ «الأخلاق لم تعد كما كانت»، بل خاصة «أنّ ما كان أخلاقًا قد اختفى بدرجة كبيرة، وأنّ هذا يشير إلى انحطاط، وخسارة ثقافية كبرى»(٨) (ص70).

إنّ الجزء الذي اضمحلّ من فلسفة الأخلاق هو حسب ماكنتاير علاقتها التاريخية مع «السياق الاجتماعي» الذي نشأت فيه، ومن ثمّة فقدانها «المحتوى الاجتماعي» الذي تشتق منه معناها. قال: «نحن لم نفهم إلى الآن ادّعاءات أي فلسفة أخلاقية فهمًا كاملًا حتى وضّحنا ماذا يمكن أن يكون تجسيدها الاجتماعي»(٩)(ص73). والافتراض الفلسفي هو أنّ فلسفة الأخلاق هي دومًا «تفترض سوسيولوجيا» (نفسه) علينا أن نأخذها في الحسبان. تعني الفوضى الأخلاقية السائدة في عصرنا الخضوع لوجهة نظر فيبر بأنّ «مسائل الغايات هي مسائل قيم، وفي موضوع القيم يصمت العقل، ولا يمكن فضّ النزاع بين القيم المتنافسة بالعقل، وعوضًا عن ذلك على المرء أن يختار…» (ص78)، وأنّ «القيم تبدعها قرارات بشرية» (نفسه).

وحسب ماكنتاير، إنّ الشخصية الأخلاقية النموذجية في تشخيص فيبر لا يمكن أن تكون إلَّا شخصية «المدير» البيروقراطي في مجتمعه (ص80). وراء كل فلسفة أخلاقية أو ثقافة أخلاقية نمط من الشخصية التي تمثّلها. إنّ «الشخصيات هي الأقنعة التي تلبسها الفلسفات الأخلاقية»، وهي لا تنجح في الدخول الفعلي في صلب «الحياة الاجتماعية» إلَّا عبر «الأفراد» و«الأدوار الاجتماعية» التي يؤدّونها داخل مجتمعاتهم (ص82).

تدافع الأخلاق دومًا عن دور اجتماعي مخصوص وتقدّمه بوصفه «شخصية» اعتبارية يجب التشبه بها. وحين ينجح «دور» اجتماعي معيّن في الارتقاء إلى مرتبة «الشخصية» النموذجية حينئذ بالتحديد تظهر «قيمة» أخلاقية وتفرض نفسها في مجتمع ما. وليس كل دور يمكنه أن يتحوّل إلى شخصية أخلاقية. لا تظهر الشخصية إلَّا عندما ينجح الدور الاجتماعي في أن يصبح «مثلًا أعلى ثقافيًّا أو أخلاقيًّا» (ص85): عندما يوفّر الدور «البؤرة الأخلاقية لمجموعة من المواقف والنشاطات» وذلك بأن تُدمَج «الوظيفة» و«الادعاء الأخلاقي» معًا (نفسه). وهكذا يمكن القول بأنّ «الشخصيات هي تلك الأدوار التي توفّر لثقافة ما تعاريفها الأخلاقية» (ص87).

في ضوء ذلك يمكن استشكال الوضعية الأخلاقية للفرد الحديث بأنّها وضعية تسودها مقولة «الذات» التي تُعَدُّ «عواطفها» أو ميولها الفردية قيمًا أخلاقية. ومن ثم تبدو «أحكامها بلا أي معيار» فهي «ذات عاطفية» ولا يمكن أن تصدر حكمًا أخلاقيًّا إلَّا بواسطة «معايير التقييم العقلية، والذات العاطفية تفتقر إلى مثل هذه المعايير» (ص88). لقد «اختار» الإنسان الحديث أن يكون «فردًا» مستقلًّا في قراراته الأخلاقية عن «المجتمع» الذي يعيش فيه؛ لكنّه بذلك قد حوّل نفسه إلى «ذات» تزعم أنّها متميّزة عن أدوارها الاجتماعية. ومن ثم لم يبقَ من سياقٍ لفهم «القيم» التي تؤمن بها غير الأقوال التقييمية الخاصة بها في شكل «مشاعر» خلقية شخصية.

إنّ الذات الفردية قد ألغت «التاريخ الاجتماعي» السابق لها، ومن ثمّ فإنّ مكان «الفاعلية الأخلاقية» قد انتقل من المجتمع إلى الذات بمجرّدها، وهي ذات تقبل «التعددية» الأخلاقية بوصفها عبارة عن «اختلاف» في القيم بين أفراد أحرار في اختياراتهم و«ديمقراطيين». هنا يصوغ ماكنتاير اعتراضه الأساسي: «هذه الذات المدمقرطة التي ليس لها محتوى اجتماعي ولا هوية اجتماعية يمكن أن تكون أي شيء، وتتخذ أي دور أو أي وجهة نظر، وذلك أنها في ذاتها ولذاتها لا شيء» (ص89).

مثلًا: إنّ سارتر يقدّم الفرد بوصفه ذاتًا «متميّزة تمامًا عن أي دور اجتماعي خاص يمكن أن تفترضه» (نفسه). والخطأ هنا هو افتراض وجود «ذات جوهرية تتعدى العرض المركّب للعب الدور» (ص90). وهو ما يدافع عنه سارتر بأنّه «الاكتشاف بأن الذات لا شيء» (نفسه) أي هي في أول أمرها ليس لها أي محتوى سابق على اختيارها الفردي. ولأنّ هذه «الذات العاطفية» ليس لها محتوى اجتماعي تتجسّد فيه ولا لها معايير عقلية للحكم الأخلاقي فهي ذات مجرّدة لا تتوفر على «تاريخ عقلي في انتقالاتها من حالة التزام أخلاقي إلى حالة أخرى»؛ إنّها «ذات من دون استمراريات، ما خلا استمرارية الجسد الذي هو حاملها» (ص91). وبعبارة واحدة هي ذات بلا «غاية» يمكن الاسترشاد بها غير «هويتها» الفردية.

لا يمكن أن نقيس مدى فوضى فلسفة الأخلاق الفردانية إلا متى ألقينا نظرة خارجية على المجتمعات التقليدية «ما قبل الحديثة». هناك حيث لا توجد مقولة «الفرد» نفسها. وحيث لا توجد طريقة لتعريف هوية الفرد إلَّا «عبر عضويته أو عضويتها في عدد من المجموعات الاجتماعية. مثلًا، أنا أخ، وابن خال، وحفيد، وفرد من أفراد المنزل، وتلك القرية، وتلك القبيلة» (ص92).

لم تكن «الفردية» تعني أكثر من «عضوية» داخل «جماعة» انتماء سابقة على وجوده ولا يمكن أن يختارها. «فالأفراد يرثون فضاءً معيّنًا داخل مجموعة متشابكة من العلاقات الاجتماعية، فإذا خسروا ذلك الفضاء، فإنهم ليسوا بشرًا من نوع محدد، بل يكونون في أفضل الأحوال غرباء أو منبوذين مثل النفايات» (نفسه). على عكس الحداثة التي تعدو «الفرد» إلى اختيار نفسه بوصفه كائنًا «مستقلًّا بنفسه» أخلاقيًّا؛ لأنّه لا يعدو أن يكون «عدمًا» وجوديًّا، يبدو «العضو» في «الجماعة» منتميًا بلا رجعة إلى أفق هووي لا يستطيع مراجعته؛ لأنّه هو المادة التي يستمدّ منها ذاتيته.

لكنّ ذلك الأفق ليس ثابتًا بل لا يكون العضو «شخصًا اجتماعيًّا» إلَّا إذا كان يتقدّم نحو «غاية في الحياة» أو «يفشل في التقدم نحوها» ولا يفصله عنها إلَّا موته (نفسه). ولذلك فإنّ الحداثة الأخلاقية هي تعني في الأساس تعطيل ذلك التصوّر ما قبل الحديث للحياة الإنسانية بوصفه يسير بطبيعتها نحو «غاية» مخصوصة لها. فالذات الحديثة تراهن على فرديتها وليس على أي غاية خارجها. لقد خسرت تلك «النظرة إلى الحياة الإنسانية على أنها منظمة لغاية ما» (ص93). ولذلك هي قد عوّضت تلك «الغاية» الطبيعية بفكرة «الدور» الاجتماعي و«الشخصية» النموذجية في المجتمع. لكنّ الذات الحديثة هي فردانية بإطلاق.

توهمنا الحداثة الأخلاقية بأنّ ما وقع للذات الفردانية الحديثة هو «خصائص ضرورية وأبدية لجميع الأحكام الأخلاقية، ولأي واحد منها، ولجميع الذاتيات، وأي واحدة منها» (ص95). والحال أنّ ذلك مجرد نتاج تاريخي لنوع مخصوص من المجتمعات علينا أن نؤرّخ له. ومن ثمّ إنّ دعاة الحداثة هنا ليسوا سوى «الورثة الأخيرين -إلى الآن- لعملية تحوّل تاريخي» (نفسه) ليس أكثر.

يقدّم ماكنتاير هذا التحوّل التاريخي بأنّه تحوّل مضاعف: من جهة، «تحوّل للذات وأدوارها»، ومن جهة، تحوّل في «الخطاب الأخلاقي» نفسه (نفسه). ويعني التحوّل عمليّة انتقال تاريخي من «الثقافة السابقة» إلى «مشروع التنوير من أجل تبرير الأخلاق»(١٠). وبالتالي فإنّ فلسفة الأخلاق الحديثة ليست عملًا فردانيًّا أو اختيارًا شخصيًّا، بل هي نتيجة سلسلة من التغيرات الاجتماعية أدّت إلى «تمزّق الأخلاق وعزلها» (ص97) في مجرّد اختيارات فردية هي تعبّر عن حالة تمزّق اجتماعي وليست «قيمًا» معيارية بحتة، وهو تعبير بلغ صيغته النموذجية في «ثقافة عصر التنوير» في القرن الثامن عشر الفرنسي (ص98)، وهو تنوير لم يؤت أكله إلَّا مع الثورة الفرنسية التي حققت «إزالة الفجوة بين الأفكار الفرنسية والحياة الاجتماعية والسياسية الفرنسية» (ص100).

كيف‭ ‬استقلّت‭ ‬الأخلاق‭ ‬عن‭ ‬فضائلنا؟ أو‭ ‬النزاع‭ ‬بين‭ ‬ما‭ ‬نشعر‭ ‬به‭ ‬وما‭ ‬نفعله

يرى ماكنتاير أنّ أفضل شاهد على ولادة «وجهة نظر حديثة متميّزة» في ميدان الأخلاق هو كيركغارد في كتابه «إمّا…أو» الذي نشره تحت اسم مستعار سنة 1842م. وتتمثل وجهة النظر الحديثة في بناء جدل أخلاقي يقوم على صراع مرير بين «مقدمات أخلاقية» من جهة، و«التزام أخلاقي» من جهة أخرى، وهو ما يحوّل الموقف الخلقي إلى مسألة «اختيار» شخصي لا يوجد أيّ «تسويغ عقلي له» (ص103). هذا الاختيار يقدّمه كيركغارد بأنّه يجري بين نمطين متباينين من الحياة: حياة «إستطيقية» (حياة أ) وحياة «أخلاقية» (حياة ب). وهكذا فإنّ الاختيار بين الأخلاقي والإستطيقي «ليس هو الخيار بين الخير والشر، إنه الخيار في ما إذا كان عليك أن تختار أو لا تختار بمفردات الخير والشر» (ص105). في الواقع هو اختيار بين «نموذج التعبير الإستطيقي» الذي هو موقف «العشق الرومانسي» وبين موقف «النموذج الأخلاقي الذي هو الزواج» (نفسه). هذا النوع من طرح المشكل الخلقي هو حسب ماكنتاير قد قُدّم بوصفه «اكتشافًا فلسفيًّا» وفي الحقيقة هو من نوع «مربك ومروّع» (ص103).

ذلك أنّه طرح يجعل الأخلاق مجالًا لتناقض عميق بين ما هو اختيار شخصي وما هو أمر أخلاقي، وحيث تبدو الأخلاق بمنزلة «المنطقة التي يكون فيها للمبادئ سلطة عليا، مستقلة عن مواقفنا، وتفضيلاتنا ومشاعرنا» (ص107). بذلك نُصِبَ حاجز فاصل بين «ما نشعر به» في حياتنا وبين ما يجب علينا أن نفعله كي نكون

متخلّقين. وعندئذ فإنّ الصعوبة الفلسفية هنا هي: «أنّ السؤال كيف أشعر في أيّ لحظة معيّنة هو غير هام بالنسبة إلى السؤال كيف أحيا»(١١) (ص107). لا يمكن حسم الخيار الأخلاقي باللجوء إلى أي نوع من المشاعر. ومن ثمّ لا يمكن الربط بين ما نشعر به (إستطيقيًّا) وما يجب أن نفعله (أخلاقيًّا).

ولذلك يبقى علينا أن نحدّد طبيعة المصدر الذي تستمدّ منه الأخلاق سلطتها.

ما يوحي به كيركغارد هو أنّ «المبادئ التي ترسم الطريقة الأخلاقية للحياة يجب تبنّيها ليس من أجل سبب ما، ولكن من أجل اختيار يقع ما وراء الأسباب، فقط لأنّه الاختيار لما يجب أن نحسبه نحن بوصفه سببًا. ومع ذلك فإنّ الأخلاقي يجب أن تكون له سلطة علينا»(١٢) (ص109). وبالتالي نحن أمام سلطة أخلاقية تستمدّ صلاحيتها من اختيار هو نفسه بلا سبب.

وهكذا تكون الذات الحديثة قد ذهبت بعيدًا في تنصيب نفسها بمنزلة مشرّع وحيد لميدان الأخلاق. وهكذا يُلْجَأُ إلى سلطة (أخلاقية) عندما لا تكون لدينا أي أسباب (إستطيقية). ويرى ماكنتاير أنّ هذا المفهوم للسلطة الأخلاقية هو «مفهوم حديث بشكل خاص إن لم يكن حصريًّا، وقد تمت صياغته في ثقافة كانت فكرة السلطة فيها غريبة وبغيضة، بحيث كان يبدو اللجوء إلى السلطة أمرًا غير معقول» (نفسه).

خاتمة – الأخلاق والسلطة

يبدو الفرد الحديث كائنًا فَقَدَ ثقته التقليدية في أجهزة السلطة، ومن ثمّ قد جعل مشروعه الأول هو التشريع بنفسه لقوانين لا تملك أي صلاحية أخرى غير أنّه اختارها لنفسه بنفسه. وذلك أنّه يرى أنّه لا يمكن الاحتفاظ بحريته الطبيعية إلَّا عندما يخضع لقوانين شرّعها بنفسه. هذه العلاقة المحطّمة مع السلطة جعلت الفرد الحديث لا يثق في أي أخلاق إلا تلك التي اختارها بنفسه، ومن ثم صارت بالنسبة إليه سلطة نابعة من حريته. وهكذا على الرغم من نقد كيركغارد فلسفة الأخلاق الكانطية، فإنّ من أعدّ المشهد الأخلاقي لكيركغارد هو كانط (ص110). كان التميير بين الإستطيقي والأخلاقي إحدى نتائج مشروع التنوير الذي كان يرمي إلى «توفير أساس عقلي لتسويغ الأخلاق» (نفسه).

والنتيجة حسب ماكنتاير هي أنّ الفلسفة الأخلاقية الحديثة قد أخفقت: أوّلًا لقد أخفق كانط في إيجاد «تبرير عقلي للأخلاق»، كما أخفق كيركغارد في «اكتشاف أساس لها في فعل الاختيار» (ص116-117). لا يمكن أن نختار قيمنا كما أنّ العقل لا يسوّغ تشريعًا لا يتطابق معه. كان كيركغارد قد انطلق من فشل كانط: «يجب استدعاء فعل الاختيار للقيام بالعمل الذي عجز العقل عن القيام به» (ص117).

إنّ الحداثة الأخلاقية قد علمنت القيم لكنّها قامت بذلك على حساب الفضائل. وإنّ تأسيس قيم من دون فضائل هو إخفاق فلسفي لعصر إنسانوي وفردانيّ يزعم أنّه أرسى العقلانية العلمانية بوصفها منقذًا أخلاقيًّا من عصور مسحورة. فإذا بالعالم المنزوع السحر -أي الذي صار نصًّا معلمنًا من دون أيّ حاجة إلى إنقاذ- قد أخذ يعبّر أكثر فأكثر عن حاجة روحية جعلت عودة الديني ليس فقط ممكنًا، بل مطلبًا مثيرًا لأجيال ما بعد الحداثة.‬


هوامش‭:‬

‭(‬‮١‬‭)‬ Alasdair MacIntyre‭,‬‮ ‬After Virtue‭: ‬A Study in‭ ‬Moral Theory‮ ‬‭(‬University of Notre Dame Press‭, ‬1981‭).‬

وقد‭ ‬صدرت‭ ‬ترجمة‭ ‬عربية‭ ‬لهذا‭ ‬الكتاب‭ ‬عن‭ ‬طبعته‭ ‬الثالثة ‬(2007م)‭ : ‬ألسدير‭ ‬ماكنتاير،‭ ‬بعد‭ ‬الفضيلة‭. ‬بحث‭ ‬في‭ ‬النظرية‭ ‬الأخلاقية‭. ‬ترجمة‭ ‬حيدر‭ ‬حاج‭ ‬إسماعيل (‬بيروت‭: ‬المنظمة‭ ‬العربية‭ ‬للترجمة،‭ ‬2013م)‭.‬

‭(‬‮٢‬‭)‬ Alasdair MacIntyre‭,‬‮ ‬After‭ ‬Virtue‭. ‬Op‭. ‬cit‭. ‬p‭. ‬2‭.‬

‭(‬‮٣‬‭)‬ Ibid‭. ‬p‭. ‬2‭.‬

‭(‬‮٤‬‭)‬ Ibid‭. ‬p‭. ‬10‭.‬

‭(‬‮٥‬‭)‬ Ibid‭. ‬p‭. ‬11‭.‬

‭(‬‮٦‬‭)‬ Ibid‭. ‬p‭. ‬11‭.‬

‭(‬‮٧‬‭)‬ Ibid‭. ‬12‭.‬

‭(‬‮٨‬‭)‬ Ibid‭. ‬p‭. ‬22‭.‬

‭(‬‮٩‬‭)‬ Ibid‭. ‬p‭. ‬23‭.‬

‭(‬١٠‮‬‭)‬ Ibid‭. ‬p‭. ‬36‭ ‬sqq‭.‬

‭(‬‮١١‬‭)‬ Ibid‭. ‬p‭. ‬41‭.‬

‭(‬‮١٢‬‭)‬ Ibid‭. ‬p‭. ‬42‭.‬

المرأة والنساء في ضوء دراسات الجندر

المرأة والنساء في ضوء دراسات الجندر

إذا كانت اللغة منزل الوجود كما قال هيدغر ذات مرة، فهذا يعني أنّ اللغة تكون قد سبقتنا دومًا إلى ما نعتزم التفكير فيه، ولا سيّما إذا كان مشكلًا ليس فقط يتعلّق في نواته العميقة بهويّة أنفسنا، بل على الخصوص بذلك الجزء المسكوت عنه من الإشارة عندنا إلى «الإنسان» بعامة بقولنا: «هو» وليس «هي». فنحن نتكلّم لغة(1) هي قد تعوّدت من دهرها أن تعتبر أنّ «الذكر» هو أصل «التجنيس» في التعبير عن صيغة الجمع: إنّ أنثى أو أكثر إذا دخلت على جماعة من الذكور لا تغيّر من جنسهم (النساء والرجال قائمون)؛ في حين أنّ ذكرًا واحدًا يمكنه أن يذكّر جماعة من الإناث (الفتيات والولد قدموا). إنّ الإناث لا تكون إناثًا صرفة إلّا في غياب الذكر. أمّا الذكور فإنّهم لا يُجمعون جمع المؤنّث أو يُفردون إفراد المؤنّث إلّا إذا كانوا ذكورًا «غير عاقلة». وتعريف «غير العاقل» هو كلّ ما ليس إنسانًا. وهكذا تبدو اللغة العربية وقد حسمت أمرها «نحويًّا» فيما يتعلق بمعنى «الفرق بين الجنسين» بحيث تصبح مساحة التفكير الأخلاقي في المسألة ضيّقة جدًّا أو هكذا يبدو.

ثمّة أطروحة أولى علينا بسطها: لا تكون الأنثى أنثى صرفة نحويًّا إلّا في غياب أيّ مخالطة لها مع الذكر. وفي المقابل لا يمكن تأنيث الذكور نحويًّا إلّا إذا كانوا غير عاقلين أي لم يكونوا بشرًا. إنّ النحو قد بلغ شوطًا مربكًا في رسم خطّ هوويّ بين الذكور والإناث بحيث لم يبق أمام الفقه بعد ذلك سوى استنباط القيم التي تتساوق مع هذه الحدوس اللغوية الصامتة أو البدائيّة، المعطاة سلفًا للمخاطبين والمتكلّمين. كأنّ النحو قد أمرنا سلفًا بحصر الإناث في دائرة هووية مغلقة في حين أنّه سمح للذكور بإمكانية الولوج إلى هذه الدائرة بل بإمكانية «تذكيرها» من دون خوف يُذكر على هويته. وعلى الباحث أن يحلم عندئذ بأنّه قد يمكن يومًا بناء لغة محايدة إزاء التأنيث والتذكير(2). وعلينا أن نسأل: هل يمكن فعلًا تحرير اللغة العربية من طابعها الذكوري؟ وماذا لو أنّ هذا الطابع هو سمة أنثروبولوجية لا تخلو منها اللغات السامية بعامة؟ أو اللغات القديمة جميعًا؟ قد لا نعثر لأوّل وهلة على تعريف «نحوي» صلب لدلالة المذكّر أو المؤنّث أكثر من اسم الإشارة إذْ يُعرّف المذكّر بأنّه «ما يصحّ أن تشير إليه بقولك: «هذا»، مثل رجل، كتاب»؛ كما يُعرّف المؤنّث بأنّه «كل اسم دلّ على مؤنث، ويُشار إليه بــ«هذه»، نحو: هذه الشجرة»(3). وهذا اصطناع نحويّ لا يوحي بأيّ تأسيس أخلاقي.

أمّا من ناحية لغوية فإنّ فقهاء اللغة يؤسّسون تأويلات أخلاقية يقدّمونها على أنّها طبائع لغوية للذكور والإناث ومن ثَمّ للرجال والنساء، وأخيرًا للمجتمع برمّته. إنّ لسان العرب مثلًا، لا يثبت من المعاني المحايدة في تعريف الجنسين سوى مجرّد التناسب: فتعريف الذكر ليس سوى هذا: «الذكر خلاف الأنثى»؛ وفي المقابل فإنّ تعريف الأنثى ليس سوى هذا: « الأنثى خلاف الذكر من كل شيء»؛ أمّا بقيّة التعريفات في الحالتين فهي تحمل أحكامًا أخلاقية مربكة في التذكير والتأنيث تبلغ حدًّا مزعجًا بحيث تهدّد بتدمير هويّة الأنثى وتؤسس لعلاقة ذكورية متسلطة لا غبار عليها. فيُقال «يوم مذكّر» إذا وُصف بالشدة والصعوبة وكثرة القتل؛ و«طريق مذكّر» أي مخوف صعب، في حين يُقال: «سيف أنيث» أي الذي ليس بقاطع، و«الأنيث من الرجال» المخنّث، بل إنّه يُقال للموات الذي هو خلاف الحيوان: «الإناث». لكنّ ذلك لا يعني أيّة دعوة للمرأة قد تتشبّه بالذكر، فإنّ العرب تلعن «المرأة الذَّكِرة والمذكَّرة والمتذكِّرة». ذلك أنّ الذكورة هي شأن خاص يحتكره الذكور، ويُمنع على المرأة المزاحمة أو الطمع فيه. ليس ذلك من باب عداوة المرأة أو الأنثى بل من باب أنّ العرب قد خصّصوا لكلّ جنس مزايا من نوعه لا يخرج عنها: إنّ الذكر يُمنع من أن «يتأنّث» بنفس الحدّة التي تُمنع فيها الأنثى من أن «تتذكّر». بالطبع لا يجدر بنا أن ننكر أنّ سلّم القيم السائد كان يحثّ على أوليّة الذكر على الأنثى صراحةً. نقرأ في لسان العرب: «وفي حديث الميراث: لأَوْلى رجلٍ ذكرٍ؛ قيل: قاله احترازًا من الخنثى؛ وقيل: تنبيهًا على اختصاص الرجال بالتعصيب للذكورية». لكنّ التعصّب للذكورية هو أمر يدخل في سياسة الهوية ولا يتناقض بالضرورة مع أفق الانتظار الذي يقع رسمه تلقاء الأنثى: إنّ «الأنوثة» ليست سبّة أو تهمة، بل يمكن أن تُعامل باعتبارها نوعًا من الكمال الخاص بالمرأة. إذْ «يُقال: هذه امرأة أنثى إذا مُدحت بأنها كاملة من النساء، كما يُقال: رجل ذكر إذا وُصف بالكمال». وفي هذا الصدد يُقال: «بلدٌ أنيثٌ أي ليّن سهل». بل إنّ علماء اللغة قد بذلوا وسعهم في تأسيس هذا المعنى التأويلي لتحديد دلالة المرأة. إذْ جاء في لسان العرب: «وزعم ابن الأعرابي أن المرأة إنما سمّيت أنثى، من البلد الأنيث، قال: لأن المرأة ألينُ من الرجل، وسُمّيت أنثى للينها». والعرب تؤنّث العطور وتذكّرها حسب التصنيف الهووي بين الجنسين، وليس حسب خصائصها أو استعمالاتها.

مفهوم النساء

في ضوء هذه الإشارات النحوية واللغوية علينا أن نواجه أسئلة تأويلية معاصرة (لا سيّما بعد ظهور المذاهب النسوية وبخاصة بعد انبثاقة الدراسات الجندرية) من قبيل: هل فعلًا نستطيع أن نتحدّث عن خطاب عن «المرأة» عند العرب القدامى؟ أم أنّهم لم يعرفوا سوى مفهوم «النساء»، كما هو مثبت في سور القرآن وفي كتب الفقه؟ ثمّ ما الفرق في آخر المطاف بين خطاب المرأة وخطاب النساء؟ هل يتعلق الأمر بمجرد فرق بين المفرد والجمع؟ أم أنّنا أمام نواة إشكالية أو جندريّة ما زالت تستعصي على الامتحان النظري والتاريخي.

علينا أوّلًا التمييز بشكل واضح بين تقاليد الحركات النسوية المعاصرة، والنظرة الجندرية للــ«مرأة» كنوع اجتماعي.

تقول جوديث بتلر في تصدير الطبعة الثانية (1999م) لكتابها مشكلة الجندر: النزعة النسويّة وتقويض الهويّة: «منذ عشر سنوات، أنهيت مخطوط كتابي مشكلة الجندر وأرسلت به إلى دار راوتليدج بغرض النشر. لم أكن أعلم أنّ النصّ سيكون له جمهور بهذا القدر الواسع الذي كان له، ولا كنت أعلم أنّه سيشكّل «تدخّلًا» استفزازيًّا في النظرية النسوية أو سيتمّ الاستشهاد به باعتباره واحدًا من النصوص التأسيسية لنظرية الكوير أو الشذوذية»(4).

يبدو أنّ مخاطبة المرأة في المفرد يختلف اختلافًا مربكًا عن مخاطبة النساء في الجمع. لنلاحظ بشكل مؤقت فيما يخصّ ثقافتنا أن الأفكار النسوية العربية، التي تمتدّ جذورها «الرجالية» إلى قرن ونيف(5)، هي في صميمها أجيال أو موجات «سياسية» أو حقوقية من الاحتجاج على وضع النساء في المجتمع التقليدي. وهي تنخرط في تقاليد النسوية الحديثة منذ إعلان وثيقة الثورة الفرنسية عن الحقوق المدنية للإنسان والمواطن، وعلى مدى القرنين التاسع عشر والعشرين؛ إنّها تناضل من أجل طيف من «الحقوق» المدنية ما لبث يتوسع حسب محطّات الحياة الحديثة (من حرية ومساواة وتعليم وشغل وانتخاب…). وهي في الأغلب تحثّ «النساء» على التحرّر من سلطة «الرجال» في الجماعة التقليدية باسم تصوّر فردانيّ وليبرالي لشخص «المرأة» بوصفها «إنسانة» من حقّها المساواة مع «الرجل»، وكأنّ الرجل هو كائن معياريّ مستقرّ ونموذجي يجب على المرأة أن تفتكّ منه الاعتراف الحقوقي بها. وهو تاريخ نسويّ من نوع تنويري صاحب العرب المعاصرين سواء في حقبة النضال ضد الاستعمار أو حقبة معارك الاستقلال ما بعد الكولونيالي عنه(6). وما لبث أن تطوّر في كل مهجة، وبخاصة منذ التسعينيات من القرن الماضي، وصار لدينا كتابات حول «الأدب النسوي» و«النقد النسوي» و«الشعر النسوي» و«الرواية النسوية»، … إلخ(7) في خلط غير متفكَّر فيه بين مسائل «النساء» و«المرأة» و«الأنثى»، والحال أنّها مساحات معيارية وهوويّة مختلفة إلى حدّ مزعج. إلّا أنّه علينا أن ننبّه إلى أنّه ليست كلّ كتابة عن «المرأة» هي كتابة نسويّة. إنّ كتابات «الرجال» عن المرأة ليست «نسويّة»، بل تتنزّل في إطار نقدي وتنويري أوسع (ولا ضرّ إن كان علمانيًّا أو إسلاميًّا) قد لا تؤدّي فيه النساء أيّ دور تأسيسي، إذْ يردّ «المرأة» إلى «الإنسان» من أجل جعلها قابلة للنقاش في علاقة بنيوية مع «الرجل» ولكن دون أن تشارك فيه. إنّ مؤلّفات الطاهر الحداد(8) والشعراوي(9) أو بوعلي ياسين(10) أو نصر حامد أبو زيد(11) أو عبدالوهاب المسيري(12)، وغيرهم هي لا تدافع عن حقوق «المرأة» إلا «بقدر ما تقبل الردّ الماهويّ إلى مفهوم «الإنسان» وبالتالي بقدر ما يمّحي الفاصل الجندري الذي يفصلها عن «الرجل» في معنى محو الفرق بين «الأنثى» و«الذكر» باسم «جنس» الإنسان الذي يشملهما.

أسئلة غير مسبوقة

أمّا الدراسات الجندرية فهي تطرح أسئلة غير مسبوقة حول جنوسة «المرأة» يقع تصنيفها عادة على أنّها تمثّل الجيل الرابع من الحركة النسوية العالمية التي اشتدّ عودها في التسعينيات من القرن الماضي في أميركا. لم يعد يتعلق الأمر بالدفاع الحقوقي عن «المرأة» بالمعنى النسوي (والذي ظلّ على ما يبدو يفهم الجندر في إطار المطالبة النسوية بإزالة التمييز بين الجنسين(13)) بل بتفكيك تداولي لمفهوم «المرأة» ومفهوم «النساء» نفسه وذلك باعتباره مجرّد «بناء اجتماعيّ» يجدر بنا أن نبحث عن بناه ومفاعيله في كل الميادين، من النحو إلى التاريخ، ومن الاقتصاد إلى الدين، ومن القانون إلى الأخلاق، ومن أنظمة القرابة إلى الأدب. بذلك التفكيك فقط يمكن إعطاء المرأة فرصة التعبير عن هويتها الخاصة بوصفها قادرة وتملك الحق في رسم هويتها الجندرية. لم يعد المشكل «حقوقيًّا» أو «مدنيًّا» (رغم أنّ بعض البحوث النسويّة المطعّمة بالدراسات الجندرية قد وجدت نفسها مضطرّة لمواصلة التنوير النسوي، وتحت وطأة نقد أنظمة التمييز ضد المرأة ظلّ التأصيل الجندري محدودًا) بل صار متعلقًا بضرب غير مسبوق من «سياسة الهويات» (اختيار النوع الاجتماعي، تكسير التقابل البيولوجي بين الذكر والأنثى، بلورة هوية جندرية حرّة، التحوّل من جنس بيولوجي إلى آخر… إلخ).

ما يهمّنا في هذا المبحث هو مدى إمكانية مراجعة الفرق بين المرأة والنساء في ضوء الدراسات الجندرية. لا يتعلق الأمر بالدفاع النسوي التنويري عن حقوق المرأة، بقدر ما يتعلق بالعمل النقدي على بلورة سياق مناسب لفهم تجربة هوية الأنوثة في ثقافتنا العميقة. وهو أمر يستوجب إرساء تقاليد بحث جندرية طويلة النفس تحفر في تاريخ تقنيات الذات وأشكال الذاتية منذ ما قبل الإسلام إلى اليوم(14). لكنّ الدراسات الجندرية ليست نزعة نسوية بالضرورة. إنّها موقف نظري وإشكالي أوسع نطاقًا من التنوير النسوي. إلّا أنّنا قد نلاحظ أنّه لم يتحقّق الكثير على هذه الطريق اللّهم إلّا بعض تجارب النقد السردي الرشيق(15) أو بعض الوثائق التأسيسية حول النوع الاجتماعي للمرأة(16) أو ترجمة بعض الكتب التأسيسية حول المرأة(17).

– وبعامة لا تزال أبحاثنا الراهنة بالعربية تميل إلى مواصلة الدفاع النسوي عن الأنثى بواسطة الدراسات الجندرية عن المرأة(18). والحقّ أنّ ذلك قد يؤدّي إلى تأمين استعمال أداتي وخارجي للمكاسب المعيارية التي تحقّقت بفضل الدراسات الجندرية، لكنّ صعوبات نظريّة عميقة ما زالت تعسّر الذهاب قدمًا وبلا قيد أو شرط أخلاقوي أو ديني في تبنّي أو احتمال الوعود الأخلاقية لفيلسوفات الجندر، من قبيل جوديث بتلر، وهي وعود تقويضية وتفكيكية من طراز رفيع. وفي صيغة فلسفية مزعجة يمكننا أن نتساءل: إلى أيّ حدّ يمكن للدراسات النسوية العربية أن تحرّر النساء (ضدّ تاريخ التفاوت الحقوقي بين الجنسين) من دون تحرير الأنثى داخل المرأة (باسم حقّها في سياسة هوية خاصة «ما- بعد- أنثوية») من تاريخها النسوي؟ ذلك بأنّ تحرير النساء هو معركة حقوقية وسياسية مع مجتمع الرجال وسلالم أخلاقهم وتاريخهم الاستبدادي،… إلخ، في حين أنّ تحرّر جندر المرأة (النوع الاجتماعي أو الجندر) أو جندر الأنثى (الكائن الهووي المفرد والمستقل) هو مشكل ذاتي وما- بعد- نسويّ تمامًا. إنّه يخص طبيعة الجندر بما هي كذلك، كما هي مختفية في حُرمة الجسد ما- بعد-النسوي واستعمالات الرغبة الخاصة وحرية التعبير الفردي واختيار الشخصية الجندرية وسياسات الهوية،… إلخ. طبعًا، للغة رأي آخر علينا استحضاره والتعامل معه. إنّ العربية لا تفرّق كثيرًا بين «المرأة» و«النساء» فليست الثانية غير صيغة الجمع للأولى كما أنّ الأولى هي صيغة المفرد للثانية. والجواب الشائع هو أنّ النساء أو النسوة هو جمع المرأة من غير لفظه. ومن الجدير بالباحث أن يتساءل: هل ثمّة معنى لأن تكون «النساء» جمع امرأة «من غير لفظها»؟ من غير لفظه يعني لا مفرد له من لفظه.

هشاشة التسمية

علينا أن نلاحظ هنا هشاشة التسمية: إنّ «امرأة» هي مؤنّث «امرئ»؛ كما أنّ «النساء» هي جمع المرأة من غير لفظها. كما نرى، إنّ الأصل هنا هو الذكر. تأنيث «المرء» (ومعناه الإنسان) هو الذي أعطانا لفظ «المرأة». إنّ السلسلة الاصطلاحية هشّة لأنّها لا تملك منطلقها: لا «امرأة» من دون «امرئ»؛ ولا «نساء» من دون «امرأة وامرأتين وأكثر». قد يعني ذلك أنّ المعالجة النحوية للقرابة المعنوية بين المرأة والنساء هي تعمية اصطلاحية على مشكل معياريّ عميق لا نراه. فقد قيل: إن دلّ الاسم على جمع ولا واحد له من لفظه سمّوه «اسم جمع». هذا يعني أنّ تسمية النساء هي قرار لغوي خطير نابع من سياسة هووية واعية بنفسها، لم يفهمها النحاة ولذلك اضطرّوا إلى تبريرها بالحيل الاصطلاحية المتاحة.

إنّ العرب يؤنّثون ويذكّرون كلّ شيء حتى الجمادات. ومن ثمّ هم «يجندرون» العاقل وغير العاقل. لا نعني التأنيث والتذكير النحوي، فلا معنى لأن يكون البحرُ مذكّرًا والشمس مؤنثة، بل نعني التأنيث والتذكير الذي من شأنه سحب الصفات الاجتماعية لنوعيِ «المرأة» و«الرجل» (الصفات الجندرية) على الصفات البيولوجية لجنسيِ الأنثى والذكر (الصفات ما قبل الجندرية) ليس فقط لدى البشر والحيوانات بل حتى لدى الجمادات أيضًا. بلا ريب، ليس كلّ تأنيث وتذكير «جندرة»، فالنحو لا «يجندر» أحدًا، بل فقط ذلك التأنيث والتذكير الذي ينقل «النوع الاجتماعي» (الجندر: المرأة / الرجل؛ النساء/ الرجال) إلى مناطق كينونة أو عوالم حياة، لئن كانت تؤنَّث وتذكَّر (بيولوجيا: مثل الحيوانات)، فهي لا تتضمّن أيّة تصنيفات «جندريّة» معطاة سلفًا (حسب النوع الاجتماعي: رجل/ مرأة، نساء/ رجال). الحيوان لا «يجندر»: ثمة في عالم الحيوانات أنثى وذكر فقط، لكن ليس ثمّة مرأة/ رجل، أو نساء/ رجال. إنّ المشكل الجندري ينبع من الخلط المتعمّد بين معجم حيواني (أنثى/ ذكر) ومعجم اجتماعي (مرأة/ رجل، نساء/ رجال). وهو خلط لا علاقة له بالطبيعة، بل هو موقف إنجازي لنوع من السلطة. وبالتالي فإنّ المشكل الجندري لا يمكن طرحه بشكل مناسب إذا بقينا في حدود الدفاع المدني عن حقوق «المرأة» ضدّ سلطة «الرجل»؛ لأنّ ذلك يفترض أنّنا قبلنا بالتقسيم الجندري السائد، حيث لا تخرج «المرأة» عن مفهوم المرأة ولا يخرج «الرجل» عن مفهوم الرجل إلّا حقوقيًّا فقط. الجندر ليس مشكلًا حقوقيًّا إلّا عرضًا، بل هو مشكل هوويّ.

ربما نعثر هنا على بعض إجابة عن هكذا سؤال: بأيّ وجه يجدر بنا أن نفهم أنّ القرآن المدني قد تضمّن «سورة النساء» وليس سورة «المرأة»؟ حتى لغة القرآن المكّي هي لم تذكر «المرأة» بالتعريف بل جعلتها في أغلب المواضع القصصية مضافة إلى «زوجــ»ها (امرأتي، امرأة فرعون، امرأة نوح…). وما بقي من المواضع هي «امرأة» (أو امرأتان) في صيغة التنكير، وليس «المرأة» ككائن مخاطَب لذاته. قد يُقال: إنّ هذا المفهوم حديثٌ وقد تشكّل في نطاق ثقافة «الفرد» التي ندين بها إلى أفكار التنوير والحداثة. في حين أنّ النساء هو مصطلح قديم ينتمي إلى الثقافات التقليدية للجماعة. ومع ذلك فهذا التبرير ليس مقنعًا.

إنّ مدوّنة الحديث لا تخلو من استعمال لفظة «المرأة» هكذا بالتعريف وذلك في تقابل جندريٍّ صريح مع «الرجل» بالتعريف، حيث ورد الحديث عن «شهادة المرأة» كيف هي «نصف شهادة الرجل»، وذلك بالتوازي مع التقابل الذي يفصل بين «النساء» و«الرجال». وهذا يعني أنّ المفهوم كان متاحًا، لكنّ قرارًا من نوع أكثر خطورة هو الذي وجّه أفق الأنثى نحو مفهوم «النساء» وليس مفهوم «المرأة». ومع ذلك فإنّ تعليل ذلك من الداخل ليس يسيرًا.

ثمّة –مثلًا- في لسان العرب ضعف مربك في المادة اللغوية الخاصة بفعل «نسا» التي اشتُقّت منها كلمة «نساء»، حيث لا نعثر إلّا على معانٍ متنافرة من قبيل عرق النّسا، والنسيان بمعنى الترك، والنّسي في معنى الشيء المطروح الذي لا يُذكر،… إلخ. وهي عناصر دلالية لا تصلح لبلورة معنى إيجابي لمفهوم «النساء». نحن لا نملك فقهًا للمرأة بل فقط فقهًا للنساء. وعلينا أن نتساءل: لماذا فضّلت حضارتنا مخاطبة النساء في الجمع؟ هل كان هناك تعمّد في تحاشي مخاطبة المرأة في المفرد؟ باعتبارها جندرًا مستقلًّا معياريًّا عن منزلة «الرجل»؟ وكيف يجدر بنا أن نفهم جهود الإسلاميين المعاصرين من أجل كتابة كتب عن «فقه المرأة» (كما فعل الشعراوي مثلًا في كتابه «فقه المرأة المسلمة» حيث لا نعثر إلّا على فقه النساء وليس على فقه المرأة)؟ هل يحقّ لنا أخلاقيًّا أصلًا أن نخاطب المرأة خارج أفق النساء؟ وكيف يمكننا أن نستفيد اليوم في إيضاح عناصر هذا النقاش من الدراسات الجندرية التي ثوّرت الخطابات النسوية حول العالم؟

ما نلاحظه هو أنّ المساهمات النسوية العربية قويّة وعريقة. لكنّ توتُّرًا خفيًّا صاحبها منذ بداياتها: إنّه التوتّر بين مواصلة فقه النساء (الذي تعجّ به المكتبة الإسلامية التقليدية) وبين بلورة خطاب تحرّري أو جديد أو حداثيّ أو ما بعد تقليدي عن «المرأة». وكانت نتيجة هذا التوتّر الخفيّ هي إنتاج خطابات نسويّة شبه- «رجالية» في مقابل خطابات جندريّة للمرأة، وهو تقابل حادّ وإشكالي خفيّ بين مواقف نسويّة حقوقية قابلة للتطعيم بمصادر أخلاقية أو فقهية غير حداثيّة (تتحدّث عن النساء في صيغة الجمع دون التخلص من هواجس عدائيّة ضدّ سيطرة الرجال) ومواقف أنوثيّة ما-بعد-نسوية(19) أو جندريّة راديكالية (تنطق باسم اختلاف مفتوح للمرأة في المفرد، غير مغلق على هوية الأنثى البيولوجية ودونما إحالة ضرورية على دور الرجل كبؤرة سلطوية بعينها، بل على مساحات هوويّة مغايرة ومتنافرة مثل «التقاليد الجنسية» و«تقنيات السلطة» و«أشكال الذاتية» و«المعايير الاجتماعية»،…).

إنّ تعويل الحركات النسوية على التشريعات المدنية وحتى الفقهية التي تساعد على تحسين الوضع الحقوقي للمرأة، كما في مسألة الإرث في تونس راهنًا، وتحصينها ضدّ العنف بجميع أشكاله (ولا يغرّنّك ما ترى من التنوير فإنّ الغرب نفسه لا يزال مدرسة كبيرة في تعنيف النساء وحتّى قتلهن تحت اسم «العنف الزوجي»، مثلًا ثلث النساء في أميركا تعرّضن للاغتصاب والعنف والتحرّش)،- هو يضعها على حافة مشكلة الجندر لكنّه لا يسمح لها بالدخول إلى إشكاليته العميقة. لا ندخل منطقة الجندر إلّا عندما نطرح السؤال غير المسبوق عن هوية الجندر؛ وعندما نميّز بشكل جذري بين «الجنس» البيولوجي و«الجندر» أو النوع الاجتماعي، وألّا نؤسّس «الجنسانية» (في معنى الميول الجنسية بحيث ينقلب الجندر إلى دفاع عن الاستعمال الإباحي للأجساد(20)) على «الجنس» (في معنى الوضع البيولوجي). والحال أنّ هذا التوجّه لا بدّ أن يؤدّي إلى مشاكل تفكيكية من طراز غير مسبوق. مثلًا: الزعم بأنّ المرأة ليست أنثى إلّا بالعرض وليس بالذات؛ وبشكل موازٍ، أنّ الرجل ليس ذكرًا إلّا بالعرض وليس بالذات، وأنّ المرأة ليست قدرًا أخلاقيًّا على الأنثى؛ وأنّ الأنثى ليست قدرًا بيولوجيا على المرأة. وبشكل موازٍ، أنّ الرجل ليس قدرًا أخلاقيًّا على الذكر؛ وأنّ الذكر ليس قدرًا بيولوجيًّا على الرجل. إنّ الجندر (أي النوع الاجتماعي: رجل، امرأة،..) يمكن بل يجب أن يكون اختيارًا حرًّا وليس نوعًا اجتماعيًّا معطى نهائيًّا؛ لأنّه محتوم بوضع بيولوجي لا يمكن تغييره. وأخيرًا، إنّ التحوّل من جندر إلى آخر هو ليس فقط ممكنًا طبّيًّا بالنسبة إلى كلّ جسم عضوي (تحوّل الأنثى إلى ذكر أو العكس، أو تحوّل هوويّ يُحدّد لاحقًا…)، بل هو حقّ أخلاقي أو إمكان معياريّ مفتوح أمام أيّ نوع اجتماعي تقليدي (من امرأة إلى رجل، أو من رجال إلى نساء، أو إلى أنواع اجتماعية أخرى…).

تخريب مذهب الفرق بين الجنسين

نحن نشهد انتقالًا غامضًا من دعوى «المساواة بين الجنسين» (وهو لبّ المعجم النسوي) إلى دعوى «المساواة في الجنادر» أو الأنواع الاجتماعية (وهو محور المعجم الجندري). ولو أخذنا مسألة الإرث في الإسلام مثالًا، لوجدنا النسويّة المعاصرة تطالب بالمساواة في الإرث «بين الجنسين»، وذلك في نطاق النضال الحداثي ضدّ هيمنة ثقافة الرجال/ الذكور، ورثة عقيدة الإله الواحد والزعيم الهووي وسلطة الأب،… إلخ. في حين أنّ دراسات الجندر إنّما تصبو أصلًا إلى «تخريب» مذهب الفرق بين الجنسين، ومن ثمّ فتح الباب أمام «تعدّد الجنادر» لأكثر من «اثنين»، وذلك في إطار النضال نحو «دمقرطة» أشكال الهوية الحميمة، وفصلها ليس فقط عن التقسيم الجندري الاجتماعي الثنائي التقليدي (رجال/ نساء) بل حتى عن التحديد البيولوجي الوراثي (ذكور/ إناث).

ولو أخذنا بجدّية ما يسمّى «نسبة الجنس» (sex ratio)، أي نسبة الذكور والإناث في تعداد السكان في العالم راهنًا، ووضعنا في الحسبان وجهًا من الشذوذ في نسبة الذكور، مثلًا في الدول الغنيّة حيث قلّت بشكل طفيف عن نسبة الإناث، فإنّه يمكن عندئذ أن تفاجئنا مشاكل غير مسبوقة: سوف تظهر دعوات «بيو- سياسية» للمساواة «في الرجال» وليس دعوات «هووية» للمساواة «مع الرجال»، كشرط مزعج للصمود على مستوى «سياسة حفظ النوع». كأنّ المشكل الديمغرافي سوف يصبح أكثر حسمًا في رسم ملامح الهوية المستقبلية للنوع البشري من المشكل الأخلاقي- القانوني- الديني، حيث سوف يفرض إعادة صياغة المسألة النسوية: سوف ينقلها من المطالبة بـــــ«المساواة» بين الجنسين إلى المطالبة بتوفير «حماية» ديمغرافية لأحد الجنسين دون الآخر. لكنّ دراسات الجندر سوف تجد نفسها معفاة من هذا الضرب من النقاش؛ إذْ بالاستغناء عن الفرق التقليدي بين الجنسين، هي سوف تستغني أيضًا عن مؤسسة الزواج التقليدية، وبالتالي لن يكون ثمّة اختلال في نسبة الجنس بين الذكور والإناث، حيث ستتعدّد «الجنادر» إلى ما لا نهاية. ومع ذلك، علينا أن نسأل: ألا تواصل النسويّة لدينا هيمنة الرجل؟(21) إنّ بعض النسوية ليس لها من هدف أقصى سوى تحرير «العذراء من القفص»(22). إلّا أنّ هذه معارك أخلاقية لا علاقة لها بمشكلة الجندر. بل: هل النسوية أمر مفيد بالنسبة إلى المرأة العربية؟(23) أم أنّ النسوية نزعة لا تخلو من سوء فهم لجندر المرأة؟

ثمّ: كيف نحرّر المرأة من العلاقة المزعجة بين النسوية الإسلامية والإسلام الأصولي؟(24) قد يجد البعض أنّ عبارة «النسوية الإسلامية» مجرد «تناقض في الألفاظ» (!)(25) كيف نقطع المسافة الأخلاقية داخل نفس الثقافة بين «نسوية الحجاب» و«نسوية الفيمن» (الحركة النسوية الأكرانية) التي طالت بعض مدننا؟ تقع «النسوية المسلمة» غالب الأحيان في موقف دفاع هوويّ عن النفس، ضدّ خطاب «استشراقي» عن «المرأة المسلمة». لكنّ من يكتفي بالدفاع عن نفسه لا «يؤسّس» لأيّ تجاوز عميق لجندر المرأة التقليدي(26). وحين تتحوّل النسوية الإسلامية إلى دفاع «ما بعد حديث» عن فقه المرأة المسلمة دفاعًا عن النظرة الاستشراقية للجسد «المشرقن» بوصفه جندر المتعة الذكورية، هي تؤدّي فقط إلى انبعاث «نسوية محافظة- جديدة» لا تحرّر شيئًا من جندر المرأة التراثي(27). يبدو أنّ تأصيل الجندر في ثقافتنا -نعني قطع المسافة المشكلة والمركّبة من «الجنس الآخر» (سيمون دي بوفوار) إلى «حلّ الجندر(28)» (جوديت بتلر)(29)– هو عندنا معركة فلسفيّة يبدو أنّها لم تبدأ بعد.

فتحي المسكيني – كاتب تونسي 

هوامش:

1) عن هذا النوع من الاستشكال قارن: ناصر حامد أبو زيد، دوائر الخوف- قراءة في خطاب المرأة (بيروت: مؤمنون بلا حدو، 2014م)، الفصل الأول «أنثروبولوجية اللغة وانجراح الهوية»، ص 30 وما بعدها.

2) قارن: زليخة أبو ريشة، اللغة الغائبة: نحو لغة غير جنوسية (عمان: مركز دراسات المرأة، 1996م).

3) د. محمد التونجي، معجم علوم العربية (بيروت: دار الجيل، 2003م) ص ص 386 و 405.

4) Judith Butler, Gender Trouble : Feminism and the Subversion of Identity (New York: Routledge Press, 1999), p. VII.

5) قارن: رفاعة الطهطاوي، المرشد الأمين في تعليم البنات والبنين (1872م)؛ قاسم أمين، تحرير المرأة (1899م)؛ والمرأة الجديدة (1900م)؛ الطاهر الحداد، امرأتنا في الشريعة والمجتمع (1930م).

6) قارن: نوال السعدواي، المرأة والجنس (القاهرة: دار ومطابع المستقبل، 1990م)؛ دراسات عن المرأة والرجل في المجتمع العربي (بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط. 2، 1990م)؛ المرأة والدين والأخلاق (دمشق: دار الفكر، 2000م).

7) مثلًا: محمد عبدالمطلب: بلاغة السرد النسوي (القاهرة: الهيئة العامة لقصور الثقافة، 2007م).

– شيرين أبو النجا، عاطفة الاختلاف (قراءة في كتابات نسوية)، (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1998م).

8) الطاهر الحداد، امرأتنا في الشريعة والمجتمع (1930م). جاء في مقدّمة الكتاب: «المرأة أم الإنسان… فإذا كنا نحتقر المرأة ولا نعبأ بما هي فيه من هوان وسقوط فإنما ذلك صورة من احتقارنا لأنفسنا… غير أننا قد اعتدنا في نظرنا للمرأة أن نراها منفصلة عن الرجل لا شأن لها في تكييف نفسه وحياته».

9) محمد متولي الشعراوي، فقه المرأة المسلمة (القاهرة: المكتبة التوفيقية، ) ص 5: «وكلمة امرأة تعني أن لها مقابلًا وهو الرجل، امرأة تعني أنثى ورجل يعني ذكرًا لو نظرنا إليهما… وجدنا أن هناك جنسًا يجمعهما وهو ‹إنسان›».

10) بوعلي ياسين، ، أزمة المرأة في المجتمع الذكوري العربي ( سوريا: دار الحوار، 1992م).

11) نصر حامد أبو زيد، دوائر الخوف. قراءة في خطاب المرأة، مذكور سابقًا، 137-138.

12) عبدالوهاب المسيري، قضية المرأة بين التحرير والتمركز حول الأنثى (القاهرة: نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع، ط. 2، 2010م)، ص 3-4، 14-16.

13) قارن: شيرين شكري وأميمة أبو بكر، المرأة والجندر: إلغاء التمييز الثقافي والاجتماعي بين الجنسين (دمشق: دار الفكر، 2002م).

14) قارن: آمال قرامي، الاختلاف في الثقافة العربية الإسلامية: دراسة جندرية (بيروت: المدار الإسلامي، 2007م).

– إيفون يزبك حداد وجون ل. سبوزيتو، محرران، الإسلام والجنوسة والتغيّر الاجتماعي، ترجمة أمل الشرقي (عمان: المكتبة الأهلية، 2003م).

– Leila Ahmed, Women and Gender in Islam. Historical Roots of a Modern Debate ( Yale University Press, 1992).

15) قارن: محمد نور الدين أفاية، الهوية والاختلاف في المرأة والكتابة والهامش (الدار البيضاء: إفريقيا الشرق، 1988م).

16) منذ مؤتمر بكين 1995م أخذت وثائق الأمم المتحدة تدمج مصطلح الجندر في معجمها العام. ومنذ 2010م قررت المنظمة إنشاء هيئة تشرف على تطبيق مسائل الجندر لدى مختلف الدول، وأخذت اسم الأمم المتحدة للمرأة.

17) قارن: سيمون دي بوفوار، الجنس الآخر. في النوع: الذكر والأنثى بين التمييز والاختلاف. – ترجمة محمد قدري عمارة ( سلسلة العلوم الاجتماعية – مكتبة الأسرة، 2006م).

– جوديث بتلر، الذات تصف نفسها. ترجمة فلاح رحيم (بيروت: دار التنوير، 2015م).

– جوديت بتلر: مشكلة الجندر. (تصدير الطبعة الثانية) ترجمة فتحي المسكيني، موقع الأوان، 10 أكتوبر 2016م:

– http://alawan.org/content/%D8%AC

18) قارن خاصة: رجاء بن سلامة، بنيان الفحولة ــ أبحاث في المذكر والمؤنث (تونس: دار المعرفة للنشر، 2005م)؛ نقد الثوابت. آراء في العنف والتمييز والمصادرة (بيروت: دار الطليعة، 2011م).

19) Cf. Modleski, Tania. Feminism without Women: Culture and Criticism in a “Postfeminist” Age ( New York: Routledge, 1991).

20) Cf. Strossen, Nadine, Defending Pornography: Free Speech, Sex, and the Fight for Women’s Rights(Prentice Hall & IBD, 1995).

21) Stefanie Sanches, « Disempowering Feminism in the Middle East: how the polarization of Islam and Feminism perpetuates male dominance”, in: Annual Human Rights Conference Nottingham 2014 Mind the Gender Gap, https://www.nottingham.ac.uk/hrlc/documents/student-conference-2014/sanches-arab-feminism-paper.pdf.

22) Ali, Ayaan Hirsi, The Caged Virgin: An Emancipation Proclamation for Women and Islam ( New York: Free Press, 2004).

23) Golley, Nawar Al-Hassan (2004) ‘Is Feminism Relevant to Arab Women?’ Third World Quarterly 25(3): 521-536

24) Moghissi, Haideh, Feminism and Islamic Fundamentalism (London: Zed Books, 1999)

25) Ambar Ahmed, « Islamic Feminism- A Contradiction in Terms ? », THE FRIEDRICH-EBERT-STIFTUNG IN INDIA

26) Zahira Sarwar, Exploring Muslim Feminisms: A Response to Orientalist Discourses About Muslim Women.

27) Cf. Moghissi, Haideh. Feminism and Islamic Fundamentalism: The Limits of Postmodern analysis (Oxford University Press, 1999).

28) Cf. Butler, Judigh, Undoing Gender (New York and London: Routledge, 2004).

29) Butler, Judith. “Sex and Gender in Simone De Beauvoir’s Second Sex.” Yale French Studies, no. 72 (1986): 35-49.

وبالعربية: جوديث بتلر، «الجنس والجندر في الجنس الآخر لسيمون دي بوفوار». ترجمة: لجين اليماني. موقع نَظَرْ 19 مارس، 2016م:

https://nthar.net/ جوديث-بتلر-الجنس-والجندر-في-الجنس-الآخر/

صادق جلال العظم.. نقد الذات أقوى من كل انتماء – فتحي المسكيني

صادق جلال العظم.. نقد الذات أقوى من كل انتماء – فتحي المسكيني

%d9%81%d8%aa%d8%ad%d9%8a-%d8%a7%d9%84%d9%85%d8%b3%d9%83%d9%8a%d9%86%d9%8a

فتحي المسكيني

بدأ هيدغر ذات يوم أحد دروسه عن أرسطو قائلًا: «لقد وُلد، وعمل، ومات». كان القصد هو أنّ علينا أن نهتمّ بأعماله وليس بسيرته الذاتية. بل أكثر من ذلك أنّ الفيلسوف ليس له حياة يوميّة، وأنّها بالتالي لا تعني من يؤرّخ لفكره بوصفه مقطعًا من تاريخ العقل البشري أو من تاريخ حقيقة الكينونة. يأتي الفلاسفة كي يقولوا كلمة واحدة للإنسانية -كما كان يردّد جبران- ويذهبوا، إلا أنّ المشكل الصامت هنا هو أنّ الثقافات لا تكون جاهزة بالقدر نفسه للقاء معهم. وهم يتقاسمون هذا القدر الخاص مع عظماء الإنسانية الآخرين في كون الحديث عنهم أو معاداتهم أو مصادقتهم.. هو موضوع يسيل لعاب العقل اليومي وكل من يقف وراءه، سواء أكان فقهاء الملة أو موظّفي الدولة الحديثة.

في هذا السياق الدقيق تأتي تهمة «الإلحاد» التي تصاحب الفلاسفة، وبخاصة كلّ من أخذ ادّعاءات العقل البشري حول نفسه أو حول عالمه مأخذ الجدّ. الإلحاد ليس تهمة شخصية لأيّ فيلسوف، بل هي إزعاج داخلي يحمله العقل البشري في طبيعته التي جُبل عليها. هذا درس كانط الكبير. لكنّ الفلسفة ليست إلحادًا. ومن فهمها أو يفهمها على هذا المسمّى هو يتّهم عقله سلفًا، ولا يتّهم أحدًا.

اتُّهم صادق جلال العظم بالإلحاد مدّة طويلة، وحوكم بسبب كتاب «نقد الفكر الديني» (1969م). وفي الواقع إنّ موضوع هذا النقد لم يكن «الدين» في ماهيته الخاصة سواء أكانت روحية أو ميتافيزيقية. لا يحتوي الكتاب على مناظرة فقهية أو فلسفية مع علماء الدين أو فلاسفة الدين. بل هو فقط نقد لما سمّاه «الذهنية الدينية» (نقد الفكر الديني. العظم) التي تشرعن لنمط معيّن من السلطة التي يدافع عنها ويؤقنمها «إنتاج فكري ديني واعٍ ومتعمّد» (نقد الفكر الديني).

كان «نقد الفكر الديني» كتابًا في نقد السلطة بعد هزيمة عام 1967م، وليس في نقد الدين بالمعنى المحصور؛ لذلك فإنّ اتهامه بالإلحاد كان اتّهامًا سياسيًّا، وليس عقديًّا. وهو نوع من تزييف النقاش حول الدين في ثقافتنا لا يزال ممتدًّا، طالما توجد دول تستفيد منه في تعميق مشروعيتها الروحية. قال العظم في مطلع الفصل الأول من هذا الكتاب: «عندما أتكلم عن الدين في هذا البحث، لا أقصد الدين باعتباره ظاهرة روحية نقية وخالصة على نحو ما نجدها في حياة قلة ضئيلة من الناس كالقديسين والمتصوفين وبعض الفلاسفة… إنّ بحثي يدور حول إنسان معاصر (اسمه س) ورث الإسلام بمعتقداته وقصصه وأساطيره ورواياته كجزء جوهري من تكوينه النفسي والفكري.. والسيد (س) ليس له وجود واقعي مئة بالمئة؛ لأنه يشكل حالة نموذجية، والنماذج نوع من التجريد، ولكن من جهة أخرى إن (س) هو –إلى حد ما وبدرجات متفاوتة- كلّ واحد منا ولذلك لا بد وأن يهمنا أمره للغاية». إنّ نقد الفكر الديني هو إذن «نقد للذات» بالمعنى القوي للكلمة، وهو «نقد للإنسان المعاصر» الذي هو «كلّ واحد منّا» بدرجات متفاوتة. هذا هو لبّ الفلسفة؛ أن تفكّر في الإنسان بما هو إنسان، وإنْ كان ذلك سوف يتمّ دومًا بوسائل ومشاكل ثقافة بعينها.

طريق متسق وعميق

من كتاب «نقد الفكر الديني» (1969م) إلى تأييد الثورة السورية (2011-2016م) يبدو لنا طريق الروح في كتابات العظم متّسقًا وعميقًا. طبعا علينا أن نتساءل للتوّ: ما الرابط النسقي والأخلاقي بين عناوين «النقد الذاتي بعد الهزيمة» (1968م) أو «ذهنية التحريم» (1997م) حتى «الحب والحب العذري» (1981م)، وموقف المؤلف من الثورة السورية راهنًا؟ لنقل بسرعة: إنّ هذا الرابط ليس سياسيًّا. إنّه رابط فلسفي وأخلاقي عميق. فمنذ عام 1968م (هزيمة الدولة القومية أمام عدوّها الاستعماري) إلى عام 2011م (هزيمة الدولة الأمنية أمام شعوبها)- من كتابه «النقد الذاتي بعد الهزيمة» (1968م) إلى كتاباته الأخيرة حول الثورة السورية (منذ 2011م)، ظلّ العظم يكتب كي يقاوم أو ينقد نمطًا معيّنًا جدًّا من السلطة العميقة؛ إنّها السلطة التي تشرعن إهانة الإنسان داخلنا وفق منطق محدّد هو منطق الاستبداد. ولا فرق إن كان الاستبداد دينيًّا أو سياسيًّا أو أخلاقيًّا.

في كتاب «النقد الذاتي بعد الهزيمة» كلّ ما أثبته العظم هو سؤال عميق عن المسؤولية، تحت عنوان «النقد الهادف»، أي نقد الأوهام، وليس مصنّفًا بارعًا في الهزيمة. هو كتاب في نقد المسؤولية، وبخاصة عندما تكون الهزيمة هزيمة «الإنسان المعاصر» فينا. وعلى الرغم من اعتراف المؤلف عام 2007م بأنّ «علامات التسرّع والارتباك ظاهرة في نص الكتاب»، وأنّه «كُتب تحت ضغط احتقان نفسي شخصي وجماعي هائل»، فإنّ غرض الكتاب كان بالتحديد تسجيل «الأثر الانهياري المهول الذي تركه ذلك السقوط اللحظي المريع في جيلنا- جيل الستينيات كما يسمى أحيانًا- بأكمله» (النقد الذاتي بعد الهزيمة. العظم). ضدّ الدولة المهزومة عاد العظم كي يكتب منذ اندلاع الثورة السورية عام 2011م، وهو لا يكتب دفاعًا عن فوضى الشعوب، بل ضدّ النمط الدكتاتوري من السلطة، الذي صار منذ عام 2011م فاقدًا للشرعية سواء نجحت الشعوب في إسقاطه أم لم تنجح.

ضد اضطهاد الحرية

وكعادة الفلاسفة يتطلّب كلّ فهم دقيق لأفكار العظم أن ينصت بحدّة وبخاصة إلى التلطّفات التي يجريها التفكير الفلسفي على المسائل التي يعالجها، فكما أنّه لم يكن ضدّ الدين بحدّ ذاته عام 1968/1969م هو أيضًا ليس ضدّ الدولة الحديثة بما هي كذلك بعد عام 2001م؛ إنّه في المرّتين ضدّ اضطهاد الحرية مهما كان شكل المعركة. إنّه مع الثورة بالمعنى المعاصر لكنّه لا يرى أي مستقبل للشرعنة الدينية لها. هو ينقد التطرّف وذهنية التحريم لكنّه يعتقد أنّ الإسلام قادر على تحمّل درس العلمانية والانسجام معها. نقدَ الفكر الديني لأنّه يخشى الإسلام السياسي وأسلمة الثورات المدنية المفرطة والمتعمّدة، لكنّه وقف مع الثورات التي خرجت من المساجد.

هو يؤمن أنّ الشعوب هي على حقّ دائمًا ضدّ الطغاة والمستبدّين. إنّه فيلسوف تحمّل مسؤوليته «النقدية» طيلة حياته، لكنّه لا يتردّد في توقّعاته بأنّ ما سوف يسود بعد كلّ هذه المسألة هو «مزاج التدين الشعبي السوري البسيط والسمح الذي عرفت به سوريا المعاصرة». هو علماني لكنّه مع الثورة سواء تَعلمَنتْ أو تَأسلمت.

وبكلمة أخيرة: ليس أقلّ بركة للثورة «إعادة الناس إلى السياسة»، كما قال، بل أيضًا: إنّها إعادة صادق العظم إلى الأفق الروحي لشعبه: الثورة مطهرة من كل إلحاد.