في أننا «ملح الأرض»

في أننا «ملح الأرض»

– «أنتم ملح الأرض، قال جبران. لهذا يهاجر اللبناني ابنُ الجبل الأشمّ. لهذا تجدنا في أصقاع الدنيا.

– بل هو المسيح يا خال، قال هذا مخاطبًا تلاميذه

– جبران هو ابن الإنسان. أي جبران ويسوع واحد…»

كان اللبنانيّون أكثر الشعوب العربيّة مفاخرة بأنفسهم، يزايدون ويبالغون في تفوّقهم من دون تدقيق في موجبات المقارنة مع شعوب أخرى، قريبة كانت أم بعيدة. وهم يردّون هذا التفوّق إلى سعة انتشارهم، وإلى أسباب أخرى، مبهمة أو فولكلوريّة… لذا كنّا نستظرف الخال، ونحب «ذكريات» هجرته الطويلة، التي عاد منها إلى القرية على حدود الكهولة. كان كأنّه ما زال هناك، في الأرجنتين، لا يخبرنا إلّا عن تلك البلاد التي حملوه إليها رضيعًا. كأنّ كلّ حكاية حياته حصلت وانتهت هناك. فرغم كونه أحد وجهاء البلدة، بإرثه عن جدّه وأبيه، وبثرائه من ملكيّة الأراضي، فهو ظلّ غائبًا عن حاضرها، لا رأي له في الانتخابات، ولا تدخّل في الدوائر العليا لتقديم الخدمات مثل غيره من الزعماء؛ لذا انفض عنه الناس بحسرة، ومنهم من راح ساخرًا من سذاجته، يلقّبه بالـ«أرخنتيني» بحسب لفظه هو، ما يزيد في سعادته واستفاضته بالحديث…

حين صار عجوزًا اختلف جمهوره. يتجمّع حوله الفتيان والشبّان طالبين المزيد من مبالغاته وحكايات مفاخراته. فراح، لمّا نفد ما في جَعبته، يضيف القصص والمغامرات اللامعقولة. وردًّا على طلب الجمهور كان يعود بخاصة إلى تلك الحكاية التي يخبّر فيها كيف التقى النابليون على إحدى السفن المتوجّهة إلى بلاد عجيبة في عمق الأمازون، حيث الألماس كحبوب الحمّص عندنا، وأحيانًا يكون كحبّات البطاطا… وفي تلك الرحلة سدّد له النابليون نصائح لا ولن ينساها أبدًا، ومنها ألّا يأكل الكثير من الفاصوليا؛ لأنّها من الطبيخ الذي يغشّي النظر ويُنيم الرأس فلا يستطيع آكلها السيطرة على المفاوضات فيما يخصّ تجارته. وكانت هذه النصيحة الثمينة شخصيّة جدًّا؛ إذ أردف النابليون أنّ بعض الشعوب مثل السوريين واللبنانيين والأفارقة لا ولن ينجحوا في التجارة بسبب ولعهم بالفاصوليا وما شابهها، ناصحًا إيّاهم ولو من غير كبير أمل بتعلّم الطبخ الفرنسي… أمّا بيت القصيد، ومهما اختلفت حيثيّات الصيغة المعتمدة، فهو نهاية الحكاية حيث يذلّ الخال النابليون بوضع أرزة «البازابورت» أمام عينيه صارخًا في وجهه أنّه يجهل- فيما يجهله- الكبّة النيئة من لحم الماعز، ولقمة التبُّولة ملفوفة بورق العنب إلخ إلخ… إلى أن يتراجع النابليون ويعتذر، رغم سداد رأي القائد الفرنساوي فيما يخصّ الفاصوليا بالذات. في عمق بلاد الأمازون.

***

كنّا وما زلنا نفاخر بما أبلينا في بلاد الهجرة. وإشعاعنا هناك كان يمتد نورُه إلى هنا. إلى حيث تتّجه أنظارنا من خلف البحار وقلوبنا المتعلّقة بأرض نبني عليها بيتًا – أو قصرًا – يشهد بنجاح «ملح الأرض». عائدين بالشوق والحنين المتوجّبين وباللكنة المحبّبة إلى قلوب الأقرباء، رافعين، حالما نترك السفينة أو الطائرة تلك الأرزة الخضراء الممهورة على جوازات السفر كمن يرفع راية انتصاره في الغزوات الكبرى… حتّى توالت الهجرات… وحتى جاءت أيّام صاروا يفرزوننا فيها في المطارات، وبحسب جوازاتنا إياها، في صفوف تشمشمنا فيها الكلاب بحثًا عن مخدّرات أو متفجّرات قبل السماح لنا بعبور الحدود. صار الصبر، ثمّ المزيد من الصبر والتواضع أكثر تعقّلًا من الهوبرة بالباسبور اللبناني… واليوم يصاب الجواز العربي عمومًا بما هو أدهى بكثير.

***

الآن، كلّ شباب العرب في بحث محموم عن باسبور أجنبي. كلّهم يعرف «ثمن» الباسبور الأجنبي في البورصة العالميّة المفتوحة للجميع. الأدقّ أنّها مفتوحة لمن يملك مالًا ويقدر على الشراء. بورصة لأثمان جوازات تعطيك إيّاها بلدان مثل مالطا وغرانادا والدومينيكان والباراغواي وجزر يونانيّة و… ويعرفون أيّها يُقرن بالجنسيّة، وأيّها يعفي من الإقامة أو يعفي من دفع الضرائب… والتكلفة في سلّم الأسعار تبدأ من خمسة آلاف دولار لتصل إلى المليون، لكن كلّها يفتح لك حدود 147 بلدًا بلا تأشيرة ولا بهدلة… جواز سفر كوني يستحق أن يلقّب حامله بكلّ فخر بـ«ملح الأرض».  أمّا الـ«آخرون» فلهم القوارب المطّاطيّة المثقوبة القعر.