خربشات طارق السويسي.. دفتر ترحال بين الأزمنة والأمكنة

خربشات طارق السويسي.. دفتر ترحال بين الأزمنة والأمكنة

تتخذ كتابة الذات أشكالًا عديدة، ليست حكرًا على الأدب وحده، بل تتجاوز ذلك إلى الفن التشكيلي والتصوير الفوتوغرافي وغيرها من الفنون، بما هي لغة كذلك لها خصائصها التعبيرية. وهو الأمر الذي حدا بالباحث والأكاديمي الفرنسي فيليب لوجون، أن يسمي اليوميات الذاتية بأنها «مجموعة من الآثار المؤرخة»، وهو الحال في تجربة الفنان التشكيلي التونسي طارق السويسي ومجموعة آثاره أو خربشاته تحديدًا. فالسويسي يضع تواريخ دقيقة لهذه الرسوم التي تطالعك منشوراتها بصفة شبه يومية على صفحات التواصل تحت اسم «تخربيشة الصباح» أو «تخربيشة المساء» وقد أصبحت بالنسبة إلى الفنان بمنزلة طقسٍ خاص ليست الغاية منه الرسم في حد ذاته، بل اتخاذ شكلٍ من أشكال الإقامة في العالم.

تتنوع هذه الخربشات في رصد الموجودات المحيطة على امتداد بصر الفنان، فهي تارةً رسومٌ لأشياء من قبيل سفن الصيد الراسخة في ذات الفنان، أصيل جزيرة قرقنة، أو البيوت والمباني العتيقة والأبواب القديمة (الصاباط) والجوامع. ولا يمكن للمتلقي ألا يلحظ الحضورَ المستمر للمقهى كفضاءٍ يحتضن هذه الخربشات ويكون موضوعًا لها في الوقت نفسه. فالعديد منها يحمل صورًا للرواد ولاعبي الورق ومدخني النرجيلة حتى الكراسي
والطاولات والكؤوس.

يتواشج طقس الجلوس الصباحي أو المسائي في المقهى مع تحولها إلى مادة إبداعية لهذه الخربشات- اليوميات، ولا سيما أنها لا تستقر في مكانٍ واحد بل تتوزع بين أمكنة عديدة يتنقل فيها الفنان ويرتحل فيما بينها، منها جزيرة قرقنة ومدينة نابل والمدينة العتيقة وتونس العاصمة (سيدي بوسعيد)، وغيرها من الأماكن التي يزورها السويسي، فلا يمر مرور الكرام وإنما يترك أثره في هذه الخربشات، مبتكرًا مدونة يمكن أن نطلق عليها كذلك «دفتر ترحال». ليست هذه الأسفار أسفارًا في الأمكنة فحسب، بل هي أيضًا أسفارٌ في الأزمنة لما تحمله من آثار عبور التاريخ والبشر عليها، ولا سيما الأماكن العتيقة منها. نستنتج من هذا، أن هذا العمل اليومي وهذه الوتيرة التي ينتهجها الفنان، لا تعطي فقط فكرة عن طبيعة الثقافة التونسية، وإنما تؤصلها كذلك في الفن التشكيلي، وَفق منظورٍ جديد ومنطق خاص بالسويسي وحده.

تفكيك الفضاء

يحمل الفنان طارق السويسي قبعاتٍ عديدة، فقد أخذ من كل فن بصري بطرفٍ، مجربًا النحت وفن البورتريه وتقنية الحفر والخط العربي، لكنه ظل مع ذلك وفيًّا للرسم وحده، ولدفتر خربشاته. نخلص من هذا الوفاء إلى جانب تأصل الرسم في ذات الفنان، تبلور هذه الرؤية للعالم والأشياء. فهي لا يمكن أن تتحقق إلا بالرسم، الذي يحفر للفنان مكانته بين الذوات والأشياء. لعل هذه الرؤية وفية لأبرز مهمات الفن عبر القرون: إعادة تركيب الواقع. فهذه الخربشات تعيد تركيب الفضاءات وتفكك ثنائية الخاص والعام. فالفضاء العام في أعمال السويسي يصبح خاصًّا عند إعادة تركيبه تشكيليًّا، ونَسبه إلى ذاته، والفضاء الخاص يتحول إلى عام عندما يجعل الفنان من نفسه جزءًا منه؛ إذ يصبح رائيًا وملاحظًا وملتقطًا للحظة المارة من أمامه أو الثابتة. وهو الأمر الذي يؤكد أصالة هذه الرسوم في مجال اليوميات أو دفاتر الترحال.

وتجدر الإشارة هنا، في علاقةٍ بهذا الفضاء الخاص والحميم، وهو ينتمي إلى العام والكلي، أن هذا الترحال هو ترحالٌ روحي كذلك، لا يريد من الرسم غير ترجمة الذات بأدوات الفن التي تسمو بالمبدع روحًا وجسدًا إلى مراتب أعلى من مراتب الواقع المَعيش، وإن كان هذا الواقع هو مادته الوحيدة. أما المحامل فمعظمها أوراقٌ بنية توفر خلفيةً ضوئية للخربشات وقد أضفى عليها السويسي ألوانًا يطغى عليها الأزرق والأبيض (إذا كان الفضاء مفتوحًا على الزرقة والبحر) ويكتفي بالقلم (الأسود معظم الأحيان) إذا كان الفضاء مغلقًا في الداخل.

العلاقة رسم- نص

لطالما كانت التفاعلات بين الرسوم والنصوص متعددة من العصور القديمة منذ تاريخ الأدب والفن التشكيلي الضاربين في القدم. فقد استخدمت المجتمعات القديمة النص والصورة على حد سواء لتشكيل مساحة عيشها ثقافيًّا. ويمكن لدارس تاريخ الفن ملاحظة أن التفاعل بين هذين العنصرين التعبيريين يعزز بعضها بعضًا، كما يمكن أن يكون محل تعارض أحيانًا أخرى، من دون الخروج من منطق الترافد.

نرى أمثلةً لذلك بوضوح في العصور الوسطى الأوربية، حيث تنسخ الكتب اليدوية بزخارف ورسومٍ توضيحية جانبية. يمكننا أن نضع بعض خربشات السويسي في هذا السياق التاريخي للفن؛ إذ تحمل على جوانب بعضها حروفًا بتقنية الخط العربي (تقنية يجيدها الفنان على حدة) لتأتي هذه الرسوم محملةً بروحية كبيرة، بالأخص تلك التي تتناول موضوعًا لها المساجد والصوامع. وليست هذه الروحية روحيةً دينيةً بقدر ما هي روحية في علاقة بما ذكرناه سابقًا عن هذا الطقس الحميم، وترجمة الفضاء الخاص تشكيليًّا. هل يمكننا القول إذن: إن طارق السويسي صوفيٌّ على طريقته؟ يمكننا ذلك من باب إدراج تجربته لا كتجربة تشكيلية أو تجربة في فن اليوميات فقط، بل هي كذلك تجربة شاعرية أيضًا، لها «شعريتها» الخاصة، بكل ما تقتضيه هذه الشعرية من لغة وأحرف وذاتٍ ذائبة في لحظتها ومحيطها. فخربشات السويسي دفترٌ شعري كذلك، معجمه الحياة بكل تفصيلاتها الصغيرة- الكبيرة. فهذه الخربشات- القصائد، بألوانها وخطوطها وأحرفها، هي في النهاية احتفاءٌ بالحياة وتجذرٌ فيها. ثيمةٌ لَطالما اشتغل عليها السويسي في لوحاته الأخرى منها رسمه لمشاهد رقصٍ بألوانٍ متوهجة، أو لأشكالٍ أخرى من الاحتفاء بالجسد والإنسان في فورانه الإيروسي الطبيعي. فكل المواد التعبيرية المذكورة سابقًا لدى الفنان السويسي، وكل رؤاها وخلفياتها الثقافية، نرى من خلالها، إذ نطالعها، يدًا طفولية تمتد نحونا لتأخذنا من تلابيب أرواحنا لنستكنهَ ما يمكن أن نراه أمامنا كل يوم ولا ندرك جوهره. ومع تلك اليد صوتٌ يقول: هذه هي الحياة، اقرؤوها جيدًا، ولا تعبروها كالسائرين نيامًا.