الترانيم العربية- اليهودية… عن مكانة الموسيقا العربية في الكُنُس الشرقية

الترانيم العربية- اليهودية… عن مكانة الموسيقا العربية في الكُنُس الشرقية

تقوم الثقافة اليهودية الشرقية على الموسيقا بدرجة لا تقل أهمية عن النص أو التقاليد؛ لذا دخلت الموسيقا العربية الكلاسيكية إلى الكنيس اليهودي، وتحولت إلى مركز ثقافي مهم لكثير من اليهود الشرقيين. على الرغم من ذلك، لم تتعرض بعد الثقافة الإسرائيلية لها.

أتذكر إحدى التجارب (الصادمة) في بداية مسيرتي في عالم الترانيم حدثت في كنيس صغير بالقدس؛ في إحدى ليالي السبت دعاني حاخام الكنيس لإمامة صلاة المغرب. كانت تلك من المرات الأولى التي كنت مرتلًا في كنيس لذا قررت التسهيل على نفسي وإقامة الصلاة بمقام النهاوند القريب جدًّا من مقام النوى المركب والصعب. قبل أن أنهي جملتين من فاتحة الصلاة، سمعت حديثًا بين الحاخام وأحد المصلين. لم أفهم ما كان يحدث وواصلت ترتيل الفاتحة، كما هو معتاد في الكُنُس الشرقية. بعد نحو نصف دقيقة خمدت الأصوات واستمرت الصلاة كعادتها. أدركت في نهايتها غياب أحد المصلين. عندما سألت عن سبب مغادرته قيل لي: إنه شعر بخيبة أمل لأنني اخترت الصلاة بمقام النهاوند وليس بمقام النوى؛ لذا قرر أن يصلي المغرب في كنيس مجاور، يواظبون فيه على صلاة السبت بمقام النوى. المُصلي الذي غاب كان معروفًا في سوق «محانيه يهودا» ولم يكن موسيقيًّا ولا شاعرًا أو مرنمًا. فالفرق بين المقامين ليس كبيرًا، لكن لم يكن الرجل بحاجة إلى أكثر من جملتين موسيقيتين ليرى أنني اخترت المقام الخطأ. تجسد هذه النادرة الصغيرة قصة غير مألوفة لتقاليد موسيقية يهودية معقدة ومدهشة.

الثقافة الموسيقية اليهودية

من نواحٍ عديدة يمكن القول: إن الثقافة اليهودية الشرقية تقوم على الموسيقا والنص والعادات، وتعتمد الموسيقا في الكُنُس اليهودية الشرقية- المقدسية على نظرية المقام العربي الذي تقوم عليه كل الموسيقا الشرقية، بما في ذلك تقاليد الترانيم المقدسية. بشكل عام، مصطلح «مقام» يعادل مصطلح «السُّلَّم» في الموسيقا الغربية التي فيها سُلَّمَان (ماجور ومينور)، أما في الموسيقا العربية، وبالتأكيد في الموسيقا الشرقية كلها، فهناك أكثر من مئة سلم تخلق أمزجة مختلفة. في مدونات الفلاسفة العرب، يجد المرء إشارات تفصيلية للمقامات المختلفة، ومكوناتها المادية والموسيقية وخصائصها العاطفية والروحية التي توصف لعلاج بعض الأمراض الفسيولوجية والنفسية.

في عالم الترانيم اليهودية، أحدث الشاعر (يِسْرَأل نَجارا) في القرن السادس، ثورة في موسيقا الترانيم. كان (نَجَارا) موسيقيًّا، على ما يبدو، وكان أول من أشار في بداية الترانيم التي كتبها إلى أمرين مهمين: اللحن، والمقام، الخاصين بالعزف والترتيل. كما غرس تقنية لتُذكر المستمعين باللحن الأصلي. يبدو، أن (نجارا) عَدَّ الموسيقا ليست زخرفة للكلام، بل جزءًا جوهريًّا من الترانيم. تغلغلت هذه الإشارة الموسيقية لـ(نجارا) في عمق الترانيم الشرقية، وأصبحت جزءًا من أدوات الكتابة بين المُرنمين في كل بلاد الشرق.

والدليل على أهمية الموسيقا في الثقافة اليهودية الشرقية من المعتاد أن يعمل الحاخام مرنمًا أيضًا (وأحيانًا قارئًا). بناءً على ذلك، فإن أولئك الذين اختيروا حاخامات كانوا ماهرين في الغناء وإتقان تفاصيل المقام، وإلا لما كان بإمكانهم أن يكونوا مرنمين أيضًا. الحاخام الشرقي، إضافة إلى كونه سلطة دينية، هو أيضًا سلطة فيما يتعلق بالسلوك الموسيقي في الصلاة. في الكنيس، حيث أصلي، خدم الحاخام نفسه لعقود. على مر السنين، كان الحاخام قادرًا على تأهيل العديد من المرنمين (على نحو غير رسمي)، بتوجيهه تولوا مناصب المُرنمين [رسميًّا]. مع ذلك، حتى اليوم، عندما ينشأ جدال حول المقام الذي يجب الصلاة به (أحيانًا يكون هناك اختلافات في قائمة المقامات بين الكتب المختلفة)، فإن الحاخام هو الذي يبت في النقاش. علاوة على ذلك، إذا ما صلى شاب وفي أثناء الصلاة «فقد» المقام، سيكون الحاخام أول من يهمس في أذنه بأول فرصة باللحن الذي سيعيده إلى المقام الصحيح.

من نواحٍ عديدة يمكن القول: إن الموسيقا ونظرية المقام أعطيت مكانة شبه دينية في الكنيس الشرقي. المكانة المركزية التي يحتلها السلم الموسيقي في الصلاة والطقوس الأخرى هي ظاهرة رائعة تشير إلى مفهوم أساسي للعلاقة بين الصلاة والموسيقا، على نحو عام بين النص واللحن. يعبر كلا المجالين عن مفاعيل نفسية عميقة لتصبح أداة قوية للتعبير الديني. ربما يفسر هذا خيبة الأمل التي شعر بها ذلك الرجل من السوق (المذكور في بداية المقال)، الذي جاء إلى الكنيس من تجربة عاطفية معينة، ولم يكن على استعداد لقبول خلاف ذلك. من وُلد وترعرع في مجتمع تدور فيه الحياة الدينية حول المقام والموسيقا عامة، يتعلم التوراة الموسيقية تمامًا كما يتعلم الكلام. هذه هي الطريقة التي يتعلم بها الشاعر الغناء، وهذه هي الطريقة التي يطور بها الجمهور حساسية موسيقية عالية تسمح لهم بالاستمتاع بما يقدمه المُرنم.

دائرة الحياة

في التقليد الحلبي- المقدسي، أصبح المقام مركزيًّا في حياة الكنيس والمجتمع: أصبح لكل يوم سبت في السنة مقام يعكس بطريقة أو بأخرى طابع ذلك السبت، وفقًا لقضية الأسبوع أو المجتمع. على سبيل المثال، هناك مقام ذو طبيعة حزينة يُذكر فيه الموت («حياة سارة»،… و«بعد الموت»، إلخ). وفقًا للتقاليد، تُقام صلاة الفجر بمقام السبت [الحالي]، وتُقام صلاتا الظهر والمغرب وفقًا لمقام السبت الذي يليه. كما توجد مقامات ثابتة لصلوات مساء السبت ولا تتبدل أبدًا. هكذا، في كل صلاة من صلوات السبت، يصلي المُرنم بالمقام المخصص لها، باستثناء المقاطع التي يرنمها الجمهور معًا (بالمقام ذي الصلة بالطبع)، يجب عليه أن يرتجل لحن الصلاة داخل المقام.

بالإضافة للصلوات يستخدم الكنيس الشرقي- المقدسي تجمعين شعريين: جاء أحدهما من حلب إلى القدس في أوائل القرن العشرين، وهي «تراتيل الغفران» التي تقام فجر السبت، وتشتمل على ملف قوامه سبعون ترنيمة قديمة تُرتب بالتسلسل في حوار بين مجموعتين من المُنشدين بالتناوب. يرأس كل مجموعة مُرنم مسؤول عن أدائها وفق نظام معلوم للجميع بصورة مشوّقة ومثيرة للاهتمام.

إن «ترانيم الغفران» هي أول فرصة للأولاد الذين يريدون أن يصبحوا مُرنمين. إنها نوع من مدارس الشعر التي تعمل عن طريق الاستماع والتجربة. بعد ظهر يوم السبت، يجتمعون مرة أخرى في كنيس صغير يرنمون ترانيم طويلة ومعقدة حسب مقام السبت الذي سيليه. تقوم معظم موسيقا الترانيم المستخدمة في الكنيس المذكور على الأغاني العربية الكلاسيكية في القرنين الـ 19 والـ 20، حيث نظم الشعراء اليهود كلمات عبرية لها (تشير كتب الترانيم إلى جانب كل أغنية إلى اسمها العربي وأحيانًا إلى الفِلْم المصري الذي تظهر فيه) يقود الغناء ثلاثة- أربعة مُرنمين، يؤدي كل منهم أغنية افتتاحية طويلة ومعقدة. في هذا التجمع، يصغي الجمهور عادة، أو يغني أدوار الأوركسترا في الأداء الأصلي؛ لذلك يجب على المرنمين في الكنيس الصغير إتقان نظرية المقام حتى يتمكنوا من الارتجال في الانفتاح على الأغاني، كذلك معرفة كيفية أداء عدد كبير من الأغاني من المخزون العربي الكلاسيكي (باللغة العبرية طبعًا).

عرب- شرقيون- يهود

أمّا أولئك الذين ليسوا على دراية بالثقافة الشرقية، فقد يبدو استخدام الأغاني العربية غريبًا، لكن هذه الموسيقا لها أهمية كبيرة بين يهود الشرق. ومن أشهرها ولع الحاخام عوفاديا يوسيف بالموسيقا العربية وإتقانه لتفاصيل المقام ومجموعة كبيرة من الأغاني العربية. نُقل عنه: في أربعينيات القرن الماضي، عندما كان حاخام الجالية اليهودية المصرية يحلق شعره نُظمت مسيرة في شارع قريب. كان الحاخام مهتمًّا بما يدور حوله، وعندما سأل قيل له: إن محمد عبدالوهاب مر بالشارع فتبعه الحشد ورافقه، قال الحاخام: «لو لم أكن حاسر الرأس بسبب الحلاقة، كنت سأبارك عبدالوهاب بالقول: طوبى لك أيها الرب إلهنا ملك العالم الذي شارك مجده مع البشر». الحاخام يوسيف ليس استثناءً في ذلك. إن الاهتمام والشغف بالموسيقا العربية والمقام، واحترام وتقدير الموسيقيين والشعراء والمرنمين هي من خصال الحاخامات الشرقيين.

حتى الآن، للثقافة الموسيقية اليهودية العربية مكانتها الفريدة في الحياة الدينية اليهودية، ولها أهميتها بين الذين يسعون لإحياء التراث: الحاخامات، المرنمون ومحبوها في الكُنُس المنعزلة. بعيدًا من التقاليد المقدسية ومن الجانب الديني اليهودي- فهذه ثقافة موسيقية غنية ومعقدة جدًّا. المُرنم الشرقي خبير بالموسيقا العربية النظرية والعملية. إنه يتقن نظرية الموسيقا العربية، ويطور قدرات ارتجالية عالية في نظام المقام، وضليع في الأغاني العربية.

اتضح أن هناك جمهورًا واسعًا في البلاد عالمه الموسيقا. فهذه الثقافة تعيش بين آلاف الشباب الشرقيين المتدينين المتشددين. هذه هي الموسيقا الوحيدة التي يستمعون إليها بشغف، ومن ثم فهم معجبون بعبدالوهاب، وأم كلثوم وفريد ​​الأطرش… ذات مرة توجه إليَّ طالب ترانيم في الرابعة عشرة من عمره وأخبرني بفرح أنه حصل على (C.D) الأداء العربي الأصلي لكل الترانيم اليهودية. حتى إن بعض هؤلاء الفتيان يعرفون تاريخ الموسيقا العربية معرفة حقة، بحيث يمكنهم الإشارة إلى أسماء المغنين والملحين وسنة الإصدار، وأحيانًا إلى اسم الفِلم الذي ظهرت فيه الأغنية. وهناك ظاهرة أخرى هي المقايضة، مثل الحصول على أغنية عربية من عام 1910م، يصعب الحصول عليها، مقابل إعطاء أداء نادر لأغنية معروفة، وما إلى ذلك.

على الرغم من التراجع المطرد لهذه الموسيقا بين الشباب العرب خاصةً، وللمفارقة، أصبح الكنيس الشرقي مركزًا (يكاد يكون فريدًا) للحفاظ على تقاليد الموسيقا العربية الكلاسيكية، وقد أصبحت هذه الموسيقا في الكُنُس جزءًا من الطقوس المقدسة المُحافَظ عليها في العالم اليهودي على وجه الخصوص، أما في العالم العربي فإنها تختفي. من ناحية أخرى، تعيش هذه الثقافة ويُحافَظ عليها في الكُنُس (وإلى حد ما أيضًا في المدارس الدينية الشرقية المتشددة)، كما أن هذه الثقافة غير مألوفة لمعظم جمهور البلاد، والجمهور الديني غير مدرك لوجود هذه الثقافة وبالتأكيد لا يعرفها؛ ربما بسبب هيمنة التقليد الأشكنازي في نظام التعليم الديني على صيغة الصلاة، والترانيم في المدارس والجيش، وما شابه ذلك.

إحياء متجدد لكنه جزئي

نشهد مؤخرًا إحياءً معينًا لعالم الترانيم في الثقافة الإسرائيلية. اكتشفها كبار الفنانين الإسرائيليين، استوعبوا نصوصها وسجلوا ألبومات ترانيم بألحانهم أو بألحان تقليدية، أخذت شرعيتها الإعلامية وصارت تُبَثّ في محطات الإذاعة المختلفة. مع ذلك، تجب الإشارة إلى أن الاحتضان الذي تمنحه الثقافة الإسرائيلية لعالم الترانيم جزئي. يمكن القول: إن تطوير هذه النصوص الخالدة، لا تزال حتى يومنا هذا جزءًا من ثقافة أوسع- الثقافة الموسيقية. كما ذكرت، منذ القرن السادس عشر، تحولت الموسيقا إلى جزء مهم جدًّا من عالم الترانيم. وعلى الرغم من ذلك، لا تزال الثقافة الإسرائيلية، التي بدأت في الانفتاح على نصوص الترانيم، تجد صعوبة في قبول العالم الموسيقي المصاحب لها. بالتالي، فإن الجمهور الإسرائيلي يكتسب معرفة جزئية فقط بهذا العالم؛ لذا يفقد كنوزًا موسيقية هائلة (ليس عربية فقط، بل شرقية). علاوة على ذلك، فإن الموسيقيين الإسرائيليين الموهوبين، الذين ربما اكتسبوا شهرة عالمية لمهاراتهم في هذا المجال في وقت ما، يظلون مجهولين تقريبًا.

أنا على ثقة

في السنوات الأخيرة، أُنظّم ورشًا عن الترانيم وأقدّمها للجمهور الذي لم يتعرض لها من قبل. من تجربتي أستطيع القول: إن الارتباط (ناهيك عن الإدمان) بهذه المواد كان سريعًا. يمكن القول: إن الإصغاء للموسيقا، هو دالة على الانفتاح وأكثر من ذلك تصبح عادة. عند استيفاء هذين الشرطين وتكون المادة المعروضة ذات جودة، تكون طريقة استيعابها في مدة قصيرة جدًّا. لكن التصور الثقافي الإسرائيلي الحالي لا يسمح بذلك. لسبب ما، لا تُعَدّ الموسيقا الشرقية- ولا أعني الموسيقا المعروفة في إسرائيل باسم «الموسيقا الشرقية» أو «موسيقا البحر الأبيض المتوسط»- إسرائيلية، رغم (ويمكن بسبب) أن هذه الموسيقا والشرقية على وجه العموم قريبة للثقافة والبيئة التي توجد إسرائيل فيها أكثر من أية موسيقا أخرى تبث في موجات الأثير، على الرغم من أنها الثقافة (الحاضرة والمنسية) لكثير من الإسرائيليين. أعتقد أنه بمجرد كسر حاجز المتذوقين في النقاط الرئيسة الثقافية سيتمكن الجمهور الإسرائيلي من التعلم والتعود على هذا العالم الثري والمثير في نهاية المطاف وحبه، وأكثر من ذلك- في تجربة عالم الترانيم بمجمله، المكان اليهودي حيث ترتبط الكلمات واللحن بشكل طبيعي وصحيح ومؤثر بكل شخص.