ألكساندر دوغين: كلما كان المفكر الغربي أكثر مسؤولية وعمقًا، كان المستقبل الذي يراه للغرب أكثر كارثية

ألكساندر دوغين: كلما كان المفكر الغربي أكثر مسؤولية وعمقًا، كان المستقبل الذي يراه للغرب أكثر كارثية

ألكساندر جيليفيتش دوغين، من مواليد موسكو عام 1962م، هو فيلسوف ومحلل سياسي وأستاذ جامعي روسي، وهو دكتور في علم السياسة، ودكتور في علم الاجتماع ومرشح في الفلسفة، وقد كان رئيس قسم علم الاجتماع للعلاقات الدولية في كلية علم الاجتماع في جامعة موسكو الحكومية بين عامي 2009-2014م، وهو أيضًا زعيم الحركة الأوراسية الدولية.
عمل دوغين مستشارًا لرئيس دوما الدولة غينادي سيليزنيوف (من الحزب الشيوعي) ومستشارًا لرئيس دوما الدولة- سيرغي ناريشكين (من حزب روسيا الموحدة)، كما عمل لمدة وجيزة أيضًا رئيس تحرير قناة «تسارغراد تي في» (Tsargrad TV) الأرثوذكسية الموالية للكرملين عند إطلاقها في عام 2015م.
دوغين ليس لديه علاقات رسمية مع الكرملين، وعلى الرغم من ذلك فغالبًا ما يشار إليه في وسائل الإعلام باسم «عقل بوتين»، لكن بعضهم يرى أن هذا الوصف مبالغ فيه. مع ذلك يُعَدُّ دوغين على نطاق واسع قوميًّا روسيًّا متطرفًا، ويذهب بعضٌ إلى حد نعته بالفاشي. وبسبب آرائه المتطرفة من الحرب الروسية الأوكرانية، تعرض دوغين لمحاولة اغتيال أوكرانية في 20 أغسطس 2022م، وقد ذهبت ضحيتها ابنته داريا المولودة عام 1992م، وهي صحفية وناشطة سياسية. في هذه المقابلة يوضح دوغين موقفه من الليبرالية في سياق تعليقاته على الحرب الروسية الأوكرانية. وتندرج ترجمتها إلى العربية في إطار المساعي لتقديم صورة واضحة للأسباب التي أدت إلى نشوب الحرب الروسية الأوكرانية، والعوامل والخلفيات الكامنة وراءها.
وما يقوله دوغين يمكن عدّه على نحو عام عينة من طرق التفكير الواسعة الحضور اليوم في الأوساط الرسمية والسياسية الروسية الراهنة فيما يتعلق بالعلاقة بين روسيا والغرب الأميركي الأوربي. أما سيرغي ماردان، المولود عام 1969م، فهو صحفي روسي متخرج عام 1992م من كلية الصحافة بجامعة موسكو الحكومية.

المترجم

صوتان للغرب: المتشائم والمتفائل

  قال رئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير: إن نهاية حقبة الهيمنة على العالم الغربي قادمة. لقد كنت تتحدث عن هذا لمدة طويلة. الشيء المدهش هو أنهم بدؤوا أيضًا في إدراك ذلك؟
  هذا سؤال صعب حقًّا. إذا نظرنا إلى تصريحات أذكى المفكرين والفلاسفة في الغرب، وكذلك الشخصيات العامة والسياسية، نجد في مئة العام الماضية أنه كلما كان المفكر أكثر مسؤولية وعمقًا ومعرفة، كان المستقبل والحاضر الذي يراه للغرب أكثر كارثية. هنا يمكننا أن نتذكر شبينغلر وهايدغر، فيلسوفي التقليد الألماني، وكذلك العديد من المفكرين الأميركيين والفرنسيين والإنجليز. أ. توينبي، على سبيل المثال، الذي درس حضارات مختلفة، وتحدث عن الغرب بصفته وطنيًّا إنجليزيًّا، أكد أن الدول الغربية في طريقها إلى حالة كارثية جدًّا، وكلما كان هؤلاء المفكرون أكثر مسؤولية، زاد تقييمهم النقدي والتشاؤمي للحضارة الغربية، وصار توقعهم لها أكثر كارثية. ومن تقاليد الغرب أيضًا، أن تكون متشائمًا، وأن تفهم التهديدات، وأن ترى أن الهيمنة الغربية في العالم تنتهي، وأنه من الضروري إدراك عدد الأخطاء والجرائم التي ارتكبها الغرب في التاريخ، وبالتوازي مع ذلك، أن تقوم بالدعاية (وهذه أيضًا لحظة مدهشة) للعولمة المتفائلة، بشكل يتجاهل كل الإيقاع المأساوي، والخط الكارثي بأكمله، وجميع الأعمال السيمفونية لنقاد الحضارة الغربية من الحضارة الغربية نفسها. والسياسيون والمفكرون في الغرب، الذين ليسوا أعداء للغرب على الإطلاق، يقولون: نحن نسقط، نحن في كارثة، لقد فقدنا الهيمنة والقيادة على حد سواء، ونحن أنفسنا قد بنينا ضد الحضارة. بعضهم يتكلم، في حين أن بعضهم الآخر، كما لو أنهم لا يسمعون أي شيء، يغلقون أنفسهم تمامًا أمام انتقاد عباقرتهم، وأشخاصهم الأذكياء (توني بلير، على سبيل المثال، سياسي لامع إلى حد ما). ويقولون: سنستمر في الحكم، وسنظهر لكم القرن الأميركي الجديد، والهيمنة الغربية الجديدة، وسنصحح الأخطاء وهذا ما نقوم به بالفعل، ونحن مستعدون لبدء جولة جديدة من العولمة مرة أخرى، وسنشدد قواعد سلوكنا أكثر، وسنتعامل فقط مع من يشاركوننا نظام القيم الجميل الجديد بشكل كامل.
وهذا نوع من التنافر. ويبدو أن نصف الدماغ الغربي يقيم موقفه بشكل نقدي وواقعي، ويحاول إيجاد مخرج، بينما يبدو أن النصف الآخر يعيش وفقًا لبرنامج مختلف ولا يسمع أي شيء على الإطلاق. في بعض الأحيان يتعايش مثل هذا في الوعي نفسه. لنلق نظرة على جورج سوروس، في نصف أعماله، يشرح مدى فظاعة الأنظمة الشمولية ومدى أهمية تعزيز الديمقراطية، والمجتمع المفتوح، وكيفية تنفيذ عملية التحول الديمقراطي على نطاق عالمي، وتمويل الثورات الملونة، والإطاحة بالحكومات المرفوضة، أي أنه يعمل عملًا رائعًا في تقوية مواقف الغرب. وفي الوقت نفسه، يؤكد النصف الآخر من عقله: لقد انهار الغرب، وتحولت أميركا إلى شمولية، ولم تعد قادرة على حكم العالم، وانهار النظام الاقتصادي الليبرالي وانفجر. وكل هذا يؤكده الشخص نفسه.
إذا فهمت أن كل شيء سيئ، فأنت في حاجة إلى البحث عن مخرج ما، والانفتاح على النقاد الآخرين، والدخول في حوار. ولكن هنا يحدث الضد. وربما هذا تشخيص، ولكني لا أستبعد أن يكون هذا نوعًا من الفصام الحضاري، ونحن نتعامل، إذا جاز التعبير، بصوتين، وفي الغرب، هناك صوتان متوازيان تمامًا لا يستمع بعضهما إلى الآخر. يقول بعضٌ: إن كل شيء ذهب. ويقول آخرون: الآن سنريكم!

مشروعان متناقضان: فوكوياما وهنتنغتون

  تأكيدًا لهذه الأطروحة، أود أن ألفت الانتباه إلى بيان بوريل ومقابلة مع بلير، الذي يذكر أن تراجع الغرب يحدث. ليس في سياق «لقد ضاع كل شيء»، ولكنه يصوغ هذا على أنه نوع من المشكلات العالمية التي على المجتمع الغربي مواجهتها، إما أن يبدأ الصراع، أو أن يتعلم كيف يعيش، ليكون مدركًا لنفسه في هذا العالم الجديد. وبعد ذلك يظهر بوريل، أحد المسؤولين الأوربيين الرئيسين، الذي يغلق عينيه ويصرح ببساطة: «سنبقي العقوبات حتى النهاية، وسوف تعمل بالتأكيد، ويجب أن نتحلى بالصبر»، وهذا يعطي انطباعًا بأن هذا الشخص موجود في سياق مختلف تمامًا.
  هذه الازدواجية، هذه الثنائية أو الفصام الحضاري، تجلت بوضوح في بداية التسعينيات. حينها ظهر مشروعان، «نهاية التاريخ» لفوكوياما و«صراع الحضارات» لهنتنغتون. وقد قال هنتنغتون: إن الهيمنة العالمية للغرب لن تتوسع بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، والغرب لن يسيطر على العالم كله ويخضعه، بل سيبقى حضارة بين الحضارات الأخرى. تحليل رصين وصحيح تمامًا، ويجهز جميع اللاعبين -الغربيين وغير الغربيين- لدخول عالم متعدد الأقطاب. ثلاثون عامًا من فحص الواقع تظهر أن هنتنغتون كان على حق.
وهنا يظهر فوكوياما، الذي يقول: «لا، لا شيء من هذا القبيل، لقد هزمنا الآن آخر عدو رسمي ممثلًا بالنظام الشيوعي العالمي، وستكون هناك أيديولوجية واحدة مهيمنة في العالم- الليبرالية. ستطيعها كل الشعوب لأنه لا أحد يطرح بديلًا، وفي الواقع، ستحدث نهاية التاريخ، ولن يتبقى لخصومنا حجة واحدة، فقد اقترب عصر نظام عالمي ليبرالي غربي عالمي واحد، يسمى العولمة.
مشروعان بدا وكأنهما يقولان: اختاروا، استمعوا إلى المناقشة، تحققوا من الواقع. هل ما قاله فوكوياما مؤكد؟ لم يُؤَكَّد أي شيء منذ التسعينيات. وفي العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، بدأ كل شيء في الانفجار مثل مستودعات الذخيرة. أي أطروحات عبر عنها فوكوياما في التسعينيات (على الرغم من حقيقة أنه حاول لاحقًا تصحيحها) تنهار اليوم. فكرته الأخيرة كانت أن بوتين قد أعلن التحدي للنظام العالمي الليبرالي، النظام العالمي للمعايير والقواعد التي أصبحت الآن في خطر ويجب حمايتها. مهما كانت أطروحة فوكوياما وأولئك الذين كانوا في موجته على مدى الثلاثين عامًا الماضية، فقد انتهت كلها. كل ما فيها خطأ، ومهما كان ما يدعيه، فكله تدحضه الحياة.
ومع ذلك، فإن جزءًا مصابًا بجنون العظمة من الهوية الغربية، بما في ذلك المجانين مثل بوريل، يستمر في المطالبة بمزيد من العقوبات ضد روسيا، ويصر على حقوق الإنسان ومجتمع الميم. والسعوديون، أقرب الشركاء لهم، يلمحون لهم بالفعل، بأنه إذا تعامل الغرب فقط مع أولئك الذين يفكرون بالطريقة نفسها في جميع القضايا، فسيجد الغرب نفسه داخل حدود الناتو حصريًّا، وسيخسر العالم كله عمومًا، بما في ذلك عدد من الحلفاء في العالم الإسلامي. لكن مع ذلك، فإن جنون العظمة الغربي مستمر… إنه مثل الهوس، أن تستمر، مهما حدث.
في الوقت نفسه، إذا أخذنا هنتنغتون وكتابه «صراع الحضارات»، فعلى العكس من ذلك، وكل ما قاله هذا المفكر قبل ثلاثين عامًا يَحدث. ثلاثون عامًا من تأكيد نصف أطروحة هذه الازدواجية الغربية. وبالمناسبة طور رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير ذات مرة فكرة «الطريق الثالث»، معتقدًا أن الرأسمالية الكلاسيكية قد تدهورت. وبلير ليس شخصًا محدودًا بل هو إلى حد كافٍ مفكر مثير للاهتمام، لكني لست من المعجبين الكبار به خاصة، ويبدو لي أن «طريقته الثالثة» لا يمكن الدفاع عنها تمامًا، ولكنه، على أية حال، حاول بطريقة ما التفكير بشكل نقدي ومختلف.
وهكذا، يتضح أن خط هنتنغتون تَأكَّد بالكامل، وأن خط فوكوياما قد فشل. ولكن ماذا في ذلك؟ إنها عنزة ولو طارت. أنصار نهاية التاريخ، وإعادة الضبط الكبيرة، كل هؤلاء «الشوابيين» (نسبة إلى الاقتصادي ورجل الأعمال الألماني كلاوس مارتين شواب، رئيس ومؤسس المنتدى الاقتصادي العالمي) و«منتديات دافوس»، و«السوروسيين» يواصلون تكرار الشيء نفسه: «المزيد من العقوبات، فرض عقوبات على الصين، شيطنة روسيا، إنذار الإسلامي، وضع حد لأردوغان، إغراق إيران في العزلة، وفرض الرقابة على منشآت كوريا الشمالية العسكرية»، وكأن شيئًا لم يحدث، وكأن هنتنغتون لم يكن موجودًا على الإطلاق. والأهم من ذلك هو الشعور بأن لا أحد يفحص الواقع، ولا أحد يقيّم الطريق الذي نسير فيه. لكن من الواضح لجميع العقلاء في الغرب أن العالم يسير على خط هنتنغتون.

عقيدة الليبرالية الجديدة

  خطرت ببالي فكرة. ولكن ماذا لو كان هذا التعنت من جانبهم، وعدم انزياحهم عن الطريق الذي اختاروه هو شبه تدين خاص؟ عاشوه وذهب، ولكن من ناحية أخرى، ظلت أوربا كما كانت في عصر حرب الثلاثين عامًا، وحرب مئة العام، والحروب الصليبية، حانقة، لا هوادة فيها… قارة من الصليبيين المستعدين لتقطيع كل من أنفسهم والآخرين من أجل فكرة.
  كما تعلم، ربما يكون الأمر كذلك. إذا نظرنا من كثب، سنجد بالفعل التعصب والهوس والإيمان الديني بالليبرالية والتقدم. وعلى الرغم من حقيقة أن هذه النماذج لا تعمل، فإن جوائز نوبل تُسَلَّم يمينًا ويسارًا لمؤلفي مفاهيم نمو الاقتصاد الليبرالي العالمي بشكل متضاعف، وبعد سنوات قليلة من الحصول على جوائز نوبل، يتبين أن كل شيء ضدّ ذلك، وكل المؤشرات آخذة في الانخفاض. ومع ذلك، فإن الحائزين على جائزة نوبل يمرون، لكن الديانة تبقى. الديانة الليبرالية، والشيطانية بمعنى ما…

  الغرب مهووس والغرب متعصب دينيًّا، على الرغم من حقيقة أنهم أهملوا الدين.
  في الواقع، حلت الليبرالية محل الدين. عقائد الفهم الليبرالي: التقدم، والإنسان، والفرد، هذا في الواقع نوع من اللاهوت. ليس له بعد إلهي، لكنه، مثل لاهوت العصور الوسطى، يصر على هذه العقائد والقواعد والأعراف. في الوقت نفسه، من المثير للاهتمام أن الغرب يكافح الآن عنصريته علنًا، وهو يعلن: نحن عنصريون وعلينا التخلص من عنصريتنا. لكن الغرب يسعى للتخلص من عنصريته على وجه التحديد مثل عنصري. وهو يعلن: نحن نناضل- وأنتم تناضلون. نحن نعتذر عن أخطائنا- ويجب عليكم الاعتذار. وبعد ذلك يجب على الجميع قبول هذا الاعتذار كعقيدة مطلقة. وجميع الشعوب، وبخاصة غير الغربية، شعوب الدرجة الثانية المتخلفة خاصة كما يعدُّونها، يجب أن تقبل هذا كقاعدة واحدة. حتى مناهضة العنصرية الغربية تصبح عنصرية بكل معنى الكلمة، وتصبح مناهضة الفاشية فاشية. الليبرالية تصبح شمولية يبقى جوهرها من دون تغيير. هذا، في الواقع، نوع من المركزية العنصرية، حيث المركز هو الغرب وتاريخه الخاص، وحوله الأطراف، حيث يلقي الآن قوته، الاقتصادية، والإعلامية، والتقنية، ويجب على الجميع طاعته بدقة، حتى إن طلب من الجميع أن يتوبوا عن تجربتهم الاستعمارية. هذه مفارقة، هذا هو أورويل.
في رأيي، كان الجميع خائفين من أن يأتي أورويل، أعني «1984م»، قادمًا من أوربا الشرقية، من البلدان الاشتراكية. ظاهرة «1984م» لم تأتِ من حيث كان متوقعًا. نحن نعيش في عالم ليبرالي شمولي تمامًا، مع أيديولوجية نازية عنصرية متطرفة، تمامًا مثل أورويل، تعلن: الحب كره، الحرب سلام، الفقر ثروة، الثروة فقر، وتفرض هذه المفارقات الأيديولوجية على الجميع بأساليب رهيبة، وإذا كنت لا تعتقد ذلك، فسنقوم «بإلغائك». ومن هنا جاءت ثقافة الإلغاء، وقد أصبحت في كل مكان اليوم.
والغربيون، الذين ما زالوا يحتفظون بعقلهم، مرعوبون مما أصبحت عليه ثقافتهم وحضارتهم. لقد انفصلوا تمامًا عن كل الواقع، وسقطوا في حالة هوس متعصبة، خصوصًا وهم يرون أن كل شيء ينهار، وهم يقولون: «لا، إنه لا ينهار، إنه يصبح أقوى». وهم يرون أنهم يخسرون، لكنهم يقولون: «نحن ننتصر». هذا ما نراه في أوكرانيا. لم يُعلّم الغرب أوكرانيا أن تفوز وأن تقاتل وأن تدافع عن مصالحها، بل علمها الهذيان. وهذا هراء. عندما تفقد أراضي، تقول، كما يقول الأوكرانيون: «لا مشكلة، قواتنا تقف بالقرب من روستوف، وبيلغورود وموسكو ستؤخذ قريبًا، ومينسك صارت ملكنا في الواقع». وكلما قل عدد النجاحات، وزاد عدد الإخفاقات والخسائر، زادت هذه التوقعات.
إنه شكل من أشكال الاضطراب العقلي الجماعي، لكنها ليست أوكرانيا فقط. إننا نعتقد أن هذا هو الحال في أوكرانيا، كما هو في جميع أنحاء أوربا. في إيطاليا يعلن دراجي أنه سيغادر، فيجيبه ماتاريلا بأنه لا يستطيع المغادرة، على الرغم من حقيقة أنه طُرد ببساطة. السكان لا يدعمون في الواقع ماكرون، و«السترات الصفراء» قد قاتلوه لسنوات عدة، وهو يدّعي: «أنا القائد الأكثر نجاحًا». الشيء نفسه يحدث مع شولتز. هؤلاء الحكام يعرضون على شعوبهم اتخاذ إجراءات لا تصدق. لقد فشلوا للتو، وقد كان من الضروري التحدث بجدية مع روسيا منذ البداية، لكن لا أحد رأى هذا كما ينبغي، وهكذا حل الوهم محل الواقع.

الليبرالية والعنصرية والخلاص

  سأقدم هذا التفسير بسبب تصرفهم بهذه الطريقة. ربما هذا ليس تعصبًا حقًّا، بل نوع من العقلانية. لقد وُجدوا طوال الأربع مئة عام الماضية في مفهوم يحكم فيه «المليار الذهبي» العالم بأسره (الآن مليار، سابقًا كان أقل بكثير)، عالم أوربي المركز، أوربا محاطة بالأطراف، أي المستعمرات، وهي تمتصهم. وكل هذا شُكِّلَ، ثم تغير بطريقة ما. لكن في الأساس لم يتغير شيء. انتقل المركز من بريطانيا إلى نيويورك، إلى واشنطن. الآن كل هذا يتكسر. نظام الدولار ينهار، والاقتصاد العالمي يتداعى كظاهرة قد صُممت لإطعامهم، ولكي يأكل هذا «المليار الذهبي» بثلاث حناجر، وكل هذا يتكسر الآن، وهم ليسوا مستعدين لقبول ذلك؛ لأنه في العالم الجديد، العالم الذي لا يتمركز حول أوربا، سيكون الأمر محزنًا جدًّا. إنهم فقط يرفضون قبول الواقع، هذا كل شيء.
  أنت محق تمامًا. علاوة على ذلك، إن رؤيتهم تنهار. ذات مرة كانت رؤية عنصرية مفادها أن هناك «بيضًا» يُنظر إليهم على أنهم «من الدرجة الأولى»، و«صفرًا» هم «الدرجة الثانية»، و«سودًا» من «الدرجة الثالثة». عنصرية خالصة. وبالمناسبة هذا ما كان يؤمن به الليبراليون غالبًا في القرن التاسع عشر. كانت الليبرالية الإنجليزية والبريطانية عنصرية تمامًا. يُعتقد أحيانًا أن العنصرية جاءت إلى أوربا مع هتلر. لكن العنصرية جاءت إلى ألمانيا نفسها من إنجلترا، ومن إنجلترا البريطانية الليبرالية، ومن خلال كتابات تشامبرلين. لم يكن الألمان عنصريين حتى جاءهم هذا التأثير الخبيث والوحشي لليبراليين الإنجليز. الليبرالية ظاهرة عنصرية في جذورها. وهكذا ظهرت فكرة: أبيض، ثم أصفر، ثم أسود. بالطبع، تُخُلِّيَ عن هذا في القرن العشرين. لكن ماذا لدينا اليوم؟ المركز، شبه المحيط، المحيط. شمال غني، منطقة وسيطة، جنوب فقير. حضارة، بربرية، همجية. كل هذه التصنيفات، كل هذه التسلسلات الهرمية ظلت من دون تغيير. الغرب في المركز، وحوله أولئك الذين يتبعون الغرب، أي رابطة الديمقراطيات، وفي الأطراف جميع الدول المارقة.
وهذا هو المكان الذي ينشأ فيه هذا الشعور الغريب، عندما يكون العالم مختلفًا تمامًا بالفعل ويُطَبَّق كل هذه النماذج العنصرية عليه، هذا هو اليأس. من الواضح أن حياة الغرب ستكون أسوأ إلى حد ما، ولذا على الغرب السعي إلى التكيف، وإيجاد مخرج ما، وبناء نموذج جديد. وهم يعتقدون أنهم مرنون للغاية، وذوو حيلة، وهم يسرقون العقول من جميع أنحاء العالم، إذًا، فليجعلوا هذه العقول تجد كيف يمكن للغرب أن يعيش في عالم متعدد الأقطاب. ربما ستكون هناك طريقة من دون استعمار، من دون هذه الليبرالية الشمولية الكاملة.
بالمناسبة، عندما جاء ترمب، سارت أميركا نفسها في هذا الاتجاه، وطـُرح السؤال: كيف تبقى قوة قوية عندما تكون هناك أقطاب أخرى. هذا ما تحتاج إلى التفكير فيه. إنه واقعي. وهو يحتاج إلى النظر اليقظ والعودة إلى الذات، والنهج الصحي بصراحة هو كيفية إيجاد مكان للغرب والحضارة الغربية في سياق الحضارات الأخرى الراسخة والناهضة، الروسية والصينية والهندية والإسلامية. كيف يتعامل الغرب مع هذه الحضارات، وكيف يضع نفسه، وكيف يطور اقتصاده، وكيف يبني علاقات؟ إنها ليست مهمة سهلة، لكنني أعتقد أنها قابلة للتنفيذ.
ولكن من أجل حلها، تحتاج إلى طرحها. وهنا نرى بوريل، وهنا نرى بايدن، ونرى سوروس وشواب، أمامنا مجرد مجانين. هم شائخون ليس بالسن حتى، هم شائخون في وعيهم. إنهم يريدون الحفاظ على الهيمنة الغربية بأي ثمن، وعلى الرغم من رحيلها، فإنهم ما زالوا يتحدثون عنها. هذا هراء خرف. لقد تقاعد أولئك الناس منذ مدة طويلة، لكنهم يستمرون في ارتداء ملابسهم والخروج كل صباح ويعطون المهام لشخص ما. رأيت شيئًا مشابهًا في الثمانينيات: كان لدينا مثل هذا الجار. في البداية كان قياديًّا عالي المنصب، ثم تقاعد وأصبح مجنونًا تدريجيًّا، وفي كل يوم كان يذهب إلى العمل وهو يصيح، ويقف في أعلى الدرج ويصرخ على مرؤوسيه. لم يكن الأمر مضحكًا، لقد كان شريرًا. يذكرني بايدن بمثل هذا القيادي السوفييتي المتأخر الذي فقدَ عقله، وهو يصرخ في مكان فارغ. لا أحد يسمعه، فقط زوجته بشكل دوري، وعندما تصبح حالته مؤسفة، تعيده إلى الغرفة.

  فليعطوه حبة دواء.
  الغرب، في مثل هذه الحالة، يتعامل مع عالم غير موجود. الغرب مريض عنيف. في الوقت نفسه لديه أسلحة نووية، ولا يزال بإمكانه فرض عقوبات، ويزود المهووسين الأوكرانيين بأسلحة بعيدة المدى، ويولد المجانين الذين يصدقونه. الأمم الشابة السليمة والسوية أمام أعيننا، تحت تأثير الظلامية الخرف هذا، تتحول إلى وحوش. هذا كله ليبرالية. الليبرالية عدوى. إنها في الواقع تشوه الناس. يُقال للإنسان: كل شيء مسموح به، أنت فرد، وليس لديك هوية جماعية، فيصدق ذلك، وينقاد إليه، ويفقد كل حالة إنسانية، ويتحول إلى مهووس مثل هذا الجزء الغربي من البشرية. لكني أعتقد أن خلاص الغرب سيأتي من داخله.


المصدر: راديو كومسومولسكايا برافدا:
https://radiokp.ru/podcast/utrenniy-mardan/639637