الحيوان في الروايات العربية المعاصرة

الحيوان في الروايات العربية المعاصرة

صدر عدد غير قليل من الروايات العربية ذات النظرة الثاقبة والأفكار العميقة في هذه السنوات. وفي أثناء دراستي الروايات العربية المعاصرة، وجدت أن الحيوان عنصر لا يمكن الاستخفاف به. في ستينيات القرن الماضي، دفعت حركة حقوق الإنسان قضية الحيوان إلى «الموضع المركزي». في عام 1975م، صدر كتاب «تحرير الحيوان»، للعالم بيتر سينجر، رمز إلى الدراسات العامة والشاملة في الحيوان في الغرب. وفي أواخر تسعينيات القرن الماضي، ظهر «اتجاه الحيوان» (Animal Turn) في مختلف المجالات. في عام 2007م، قدّر هذا الاتجاه في كتاب «معرفة الحيوان» تقديرًا عاليًّا، وصرح فيه أن العلوم الإنسانية والاجتماعية شهدت «اتجاه الحيوان» في السنوات العشرين الماضية وله أهمية فريدة(١).

أما في مجال الأدب، إذا أردنا فهم «اتجاه الحيوان»، فلا بد لنا من شرح ثلاثة مصطلحات رئيسة: «دراسات الحيوان» (Animal Studies)، و«سرد الحيوان» (Animal Narration)، و«نقد الحيوان» (Zoo criticism). بكل بساطة، اشتقت دراسات الحيوان من حركة حماية حقوق الحيوان وتركّزت على إعادة النظر في العلاقة بين الإنسان والحيوان وإعادة التفكير في جوهر الإنسان. أما سرد الحيوان فيعني «القصص عن الحيوان من خلال كتابة وصياغة صور الحيوان في الروايات لتعميق استكشاف المجتمع والثقافة والإنسانية»(٢)، ويرمز نقد الحيوان إلى ما يحمله سرد الحيوان في الأدب من الوظيفة الاقتصادية والمعاني الثقافية والسياسية والبيولوجية والتعليمية والعلمية من منظور عبر الثقافات؛ لذلك تعد العلاقة بين هذه المصطلحات متكاملةً ومتداخلةً ومتلازمةً، ويعد سرد الحيوان مقدّمةً مهمةً لنقد الحيوان، بينما اتّسعت دراسات الحيوان إلى مجال الأدب لبلورة نقد الحيوان، ويعد سرد الحيوان تجلياتٍ نصيةً لدراسات الحيوان في الأدب. فيمكن القول: إن نقد الحيوان في الوقت الراهن لم يقتصر على الدعوة إلى حماية حقوق الحيوان فحسب، بل يكسب أفقًا أوسع يحمل أوفر الرموز والاستعارات.

الحيوان والهوية

لفظ «هوية» في اللغة مشتق من الضمير هو، أما مصطلح «الهوية» فقد انبثق من «identias» في اللغة اللاتينية ومعناه الأصلي يعبّر عن «تماثل وتشابه» ويجيب عن: «من أنا؟» و «من أين أنا؟» و«إلى أين أنا؟» وغيرها من الأسئلة. في وجه العولمة والثورة التقنية والتحول الصناعي وغيرها من الموجات الاجتماعية، بدأ الكتّاب العرب المعاصرون في متابعة قضية الهوية في روائعهم. وهنا، يقترن الحيوان بالهوية في تحليل رواية «ناقة الله» (2015م)، للكاتب الليبي الطارقي إبراهيم الكوني، الصادرة عن دار سؤال اللبنانية، ومعها يمكن استكشاف طريق جديد لدراسات الأدب العربي المعاصر.

حكت الرواية عما حدث بين الراعي والناقة في ستينيات القرن الماضي حين قُسمَت الصحراء الكبرى بين الدول وهُجّر الطوارق من أوطانهم، وبدأت معاناتهم. تاقت الناقة «تاملالت» حنينًا ووجدًا إلى موطنها، وقاتلت على الرغم من كل القيود، وبغض النظر عن الأخطار. لكن راعيها خاف من موتها خلال مغامراتها، فبحث عنها كل مرة هربت فيها منه لبدء المغامرة الجديدة. انجلى موضوع الرواية بوضوح مع أخذ البحث عن الموطن خيلًا ربط الرواية بعضها ببعض. ومن الواضح أن هذه الرواية مبنية، حبكةً ومبنًى، على سرد الحيوان؛ إذ إن بطل هذه الرواية ليس إلا ناقة.

أراد الكوني لناقته أن تكون مثالًا للتعبير عن حب الأوطان. في هذه الرواية، يمكن ملاحظة أن عددًا من الجِمال مقتولة أو معذّبة. استعار الكوني هذه الصور لتوجيه الانتقادات إلى معاناة الطوارق تحت الاستعمار وسطو السلطة. ومن خلال وصف مغامرة الناقة بحياتها محاولةً الهروب إلى وطنها، أراد الكوني سرد توق الطوارق وجهودهم المبذولة لنيل هويتهم. في ظل فقدان الهوية في البلاد والتعرّض للتهميش، ماذا يجب أن يفعلوا؟ أين يجب أن يتجهوا؟ وما هويتهم؟ هذا ما تطرّق إليه الكوني في هذه الرواية، ويعد موضوعًا مركزيًّا فيها باستعارة سرد الحيوان للتعبير عن فكرته.

عاشت الأقليات في حالة حرجة في آواخر القرن الماضي في ليبيا، ومن الصعب عليهم الحصول على إثبات الهوية. والجدير بالذكر أن الكوني كرّر هذا الموضوع في روايات عدة كتب فيها عن هوية الطوارق، واستعرض ذكرياتهم من أجل بث صوتهم وإبلاغ معاناتهم للعالم لاستعادة هويتهم المشروعة، ولتعزيز وحدة ليبيا ودفع الانتماء للتوافق مع القومية والدولة. من هذا المنظور، استخدم الكوني سرد الحيوان لاستكشاف هوية الفرد وهوية القومية وهوية الدولة.

يمكن الملاحظة بوضوح، أن للجمل دورًا مهمًّا عند كتابة الهوية، وذلك لا ينفصل عن تقاليد وعادات الدول العربية. يُعتبر الجمل حيوانَ الصحراء ورمزَ الصمود وعمودَ البدو وله دور لا مثيلَ له في حياتهم اليومية. من ثم، يمكن النظر إليه على أنه رمز هوية العرب. من هذا المنطلق، من الممكن تعميق تحليل صور الحيوان في الروايات العربية لإماطة اللثام عمن يستخف بها. من خلال الحيوان، أطلق الكاتب حوارًا أوسعَ مع هذا المجتمع للتفكير في العلاقات بين الفرد والجماعة، الماضي والحاضر، الأمة والوطن، الدولة والعالم. والكُتاب بصفتهم «أصوات المجتمع»، من الطبيعي أن يتحملوا المسؤولية بقلمهم.

الحيوان والإيكولوجيا

الآن، يعد الإيكولوجيا من الموضوعات الأكثر تناولًا عند ذكر سرد الحيوان ونقد الحيوان ويهدف هذا الموضوع إلى تفكيك المركزية الإنسانية. عاد النفط بالنفع الهائل على الدول العربية بعد استكشافه واستخراجه، ولكنه في الوقت نفسه تسبب في التصحر وتلوث البحر في بعض الدول والجفاف. حسب التقرير الصادر في عام 2017م، انخفض عدد الحيوانات في الصحراء انخفاضًا حادًّا في العقود المنصرمة؛ بسبب الاصطياد المفرط والتصحر، بما في ذلك نوع من الظبي لم يكن عددُه قليلًا في الصحراء في بداية القرن الماضي، ولكنه أصبح من أندر الحيوانات في الأرض الآن. ألحقَ الإنسان الخسائر الهائلة بالحيوانات مما عرّضها للانقراض أو الانخفاض في العدد أو النوع. وقد أولى إبراهيم الكوني اهتمامًا بالغًا بالبيئة، كما قال في مقابلة: «إنني أعبّر عن عالم بيئي. عالم بيئي بالفطرة. عالم بيئي يقدس الطبيعة كأم حقيقية»(٣).

صدرت رواية «التبر» لإبراهيم الكوني، في عام 1990م وتحكي ما حدث بين أوخيّد والأبلق. أصيب الأبلق بداء الجرب بعد مغامراته مع الناقة، فجدّ أوخيّد معه في البحث عن الدواء من أجل إنقاذه من براثن الموت. وبعد شفائه، وقع في فخ دودو مما ألحقه بعار لا مثيل له في الصحراء. وفي نهاية الرواية، تعرّض أوخيّد والأبلق للقتل. دارت الرواية حول الاعتماد المتبادل بينهما لتكشف لنا عن المركزية الإنسانية وأضرارها على الحيوانات؛ إذ إن الإنسان اتخذ الحيوان أداةً لمصلحة نفسه وعذّبه عشوائيًّا لتوجيه الانتقادات إلى هذه العقلية من منظور توافق الذوات (Intersubjectivity) والحوار وضمير الغائب. الأثمن من ذلك، استعار الكاتب الحيوان كرمز لثقافة الطوارق؛ لإظهار التوافق بين الحيوان والإنسان منذ القدم، ويجد طريقًا رحبًا للإفلات من المركزية الإنسانية.

في الوقت نفسه، ثمة نقطة يجب علينا تعميق التفكير فيها. دعا بعض النقاد عند الدراسة إلى العودة التامة إلى الطبيعة بعد أن وجدوا ما تعرضت له بأفعال الإنسان. ولكن علينا أن نتذكر: هل العودة الكاملة إلى الطبيعة أمر محتمل في العصر الحديث؟ هل هي «المركزية الإيكولوجية»؟ ما نسعى إليه هو التنمية المشتركة الأكثر تواؤمًا وخضرةً، ليس الاهتمام بالجانب مع التعامي عن الجانب الآخر. قرن الناقد نيه تشن تشاو نقد الأخلاق بالنقد الإيكولوجي؛ ليطرح أن «الأزمة الإيكولوجية من الإنسان نفسه. ولكن لا بد من الاعتماد عليه لمعالجة هذه الأزمة. عليه أن يدرك مكانته كذات في الأرض ويتحمل المسؤولية المطلوبة. على الرغم من أنه لم يصبح مركزًا في العالم، لكن يمكنه أن يلعب دوره لاتخاذ الاختيارات الأخلاقية الصحيحة وإيجاد طريق الخروج من المأزق»(٤). من ثمّ، لا يمكننا إنكار الإنسان ككائن في الأرض عند اتهامه باتباع المركزية الإنسانية، أو بالأحرى، علينا إدراك توافق الذوات بين الإنسان والطبيعة والحيوان.

الحيوان والتصوف

من تجارب الكتابة الفريدة لشعراء وأدباء الأدب العربي الحديث والمعاصر التغذي بفلسفة التصوف. يعد التصوف من المذاهب الإسلامية ويتمتع بالخصائص العربية الفريدة. وقد تأثر الكتاب العرب مثل نجيب محفوظ وجمال الغيطاني ومحمد ديب تأثرًا ملحوظًا بالتصوف وأبدعوا أعمالًا فريدةً ذات سمات عربية. ذكر الغيطاني في مناسبات عدة أهمية التصوف واصفًا إياه بمنبع الإلهام وذي أهمية كبيرة.

استلهم الغيطاني من التراث المصري والعربي والتاريخ ليخلق عالمًا روائيًّا فريدًا يعد من تجارب الكتابة الناضجة، ويأمل من خلالها في رأب الشق الثقافي، وإعادة هيكلة ثقافة الأمة؛ لذلك ولدت رواية «هاتف المغيب» بقلمه، وتحكي عن رحلة البطل أحمد من القاهرة إلى الغرب بعد سماعه «ارحل» ومغامراته مع الشخصيات المختلفة، وتحوّل مكانته من العادي إلى الملك ليدرك في الأخير جوهر الحياة والوجود. إذا حلّلنا هذه الرواية من منظور نقد الحيوان، فسنجد صورةً مهمةً: الطير، وبخاصة قبل النداء الرابع، الذي أصبح ملك المملكة، واحتلت هذه المغامرة تقريبًا نصف حجم الرواية، أكسبها أهمية بالغة. أما المتصوفون، فالطير من الرموز الواضحة وقد ذُكر مرارًا في الأدب العربي. يرى المتصوف أن رحلة الطيور هي رحلة للتقرب من الله، كما جاء في «منطق الطير» الذي نظمه فريد الدين العطار وتألف من 4500 بيت، وموضوعه بحث الطيور عن السيمورغ (طائر خرافي)، والطيور هنا ترمز إلى أهل الصوفية، والسيمورغ يرمز إلى الله.

أبدع الغيطاني في تصوير الطير في النص للتعبير عن فكرته وفلسفته. في رحلة أحمد الأولى، حكى أحد الأشقاء الأربعة له عن أبيه الذي ألمّ بالطيور كل إلمام، وعرف أصواتها جميعًا. من الواضح أن الغيطاني رمز إلى أهل الصوفية بالطيور وشيخ الصوفية بأبيه. وفي الرحلة الثالثة، أي في المملكة، تصبح التلميحات أوضح، صورة الطيور ملصوقة في كل مكان والملابس مصنوعة من ريش الطيور. يمكننا أن نرى أن الكاتب تعمق في الكشف عن الأمراض الاجتماعية من خلال التناص أو الاستلهام من الثقافة العربية التقليدية أو التغذي بالثقافة الصوفية؛ لتحقيق أمله في نهضة الثقافة العربية وحرية الدين.

ومن خلال الاقتران بين نقد الحيوان والصوفية وعلى أساس التاريخ والمجتمع والسياسة في الدول العربية، يمكن للناقد الكشف عن معنى أعمق لهذه الروايات. بالإضافة إلى ذلك، المسخ في الثقافة الصوفية يمكن أن يُقترن بالنقد الإيكولوجي لزيادة أوجه الدراسات.

خاتمة

بالمقارنة مع أدباء الدول الأخرى، تحمّل أدباء الدول العربية الوعي السياسي، وهو الأمر الذي أكسب أعمالهم وظائف اجتماعية أكثر لإثارة وعي الجماهير بالدولة والعالم؛ لذلك، يمكن أن نقرن نقد الحيوان بتحرير المرأة وما بعد الاستعمار وتنمية الدولة، بالإضافة إلى الهوية والإيكولوجيا والتصوف عند تحليل الروايات العربية لاستكشاف أعمق معنى للنص. كما أنه مع ظهور كتاب الثمانينيات والتسعينيات في ساحة الأدب العربي، صدرت روايات أكثر عن الحيوان. في ذلك الوقت، إذا لم نطبّق النظرية الحديثة عند دراساتنا، قد لا نستطيع حل لغز النص بشكل كامل.

عند الدراسة، حاولتُ الاستلهام من منبع الثقافة العربية والأدب العربي بقدر الاستطاعة لأن يصبح نقد الحيوان أكثر «توطينًا» وأنسب لظروف الدول العربية. في الحقيقة، لم يخلُ الأدب العربي منذ القدم من وصف الحيوان مثل الجمل والطيور والنمل في «كليلة ودمنة» و«المعلقات». ونرى أن التشخيص أو الوصف البسيط للحيوان إما لإظهار الحب للحيوان أو لتقديم الوعظ للملك. وعلى الرغم من بساطته ما زال يستحقّ الدراسة العميقة والبحث الدقيق. وما زلتُ أعمل على تعميق الدراسة في هذا المجال مع الأمل في الكشف عن «الطعام العربي» في الروايات العربية.


هوامش:

(١)  ابن رشد، أبو الوليد، «تلخيص أخلاق أرسطو»، ترجمه من العبرية أحمد شحلان، (الرباط، 2018م)، 229.

(٢)  ابن رشد، أبو الوليد، «الضروري في السياسة، مختصر كتاب السياسة لأفلاطون»، نقله من العبرية إلى العربية أحمد شحلان، (بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 1998م).

(٣)  ابن رشد، «تهافت التهافت»، تحقيق موريس بويج، (ط2، بيروت، دار المشرق، 1987م)، 584: 3-6.

(٤)  ابن رشد، «تلخيص أخلاق أرسطو»، 225-226.

(٥)  ابن رشد، «تهافت التهافت» 226: 6-10.