فهد العلي العريفي «ثالث الجيلين» في تعدد أبعاده

فهد العلي العريفي «ثالث الجيلين» في تعدد أبعاده

يعد فهد العلي العريفي (1348- 1435هـ) أحد أقطاب الحركة الثقافية والإعلامية في المملكة العربية السعودية، وهو أحد العلامات البارزة في تاريخ منطقة حائل الثقافي. وقد لقبه أحد النقاد، غير السعوديين، بـ(ثالث الجبلين)(١)، وهو من الشخصيات البارزة التي تنحدر من أسرة كريمة عرفت بحب العلم والمعرفة، وقد كانت له جهود ثقافية وإعلامية واضحة منذ أن كان شابًّا إلى أن توفي رحمه الله. كان متشربًا لثقافات عدة، ونهل من موارد مختلفة، فأثر ذلك في شخصيته، كما أثر في من حوله، وفي البيئة التي كان يعيش فيها؛ لذلك فإن الجهود التي قدمها العريفي لا يمكن الوفاء بها في دراسة واحدة، غير أننا سنركز الحديث هنا على أهم الأبعاد الثقافية التي تجلت واضحة في جهوده وأعماله، وسنمهد لذلك بمفهوم البعد الثقافي.

تشير معاني الثقافة في المعاجم اللغوية إلى ما يتقنه الإنسان ويضبطه؛ لذلك جاء في «تهذيب اللغة» للأزهري: «ثقف الشيء، وهو سرعة التعلّم»(٢). وليس هناك داعٍ إلى الاسترسال في كل ما ذكرته المعاجم حول تلك المادة. «خلاصة القول في المدلول اللغوي العربي للفظة (الثقافة) هي أنها تشتمل على معان عدة، لها من العمق والثراء والشمول لجوانب الحياة كافة التي تخص الجماعة المتنوعة والمختلفة»(٣). إن الثقافة مفهوم واسع يدخل في أبوابه كل ما يثقفه الإنسان في مجال ما، أو ميدان معين في ضروب العلم، والمعرفة، وعلى كل حال فالثقافة «جزء مهم في حياة الإنسان كعضو في مجتمع»(٤)، ومن هنا يمكن تسليط الضوء على الأبعاد الثقافية التي نراها متجلية بشكل واضح في جهود العريفي على النحو الآتي:

البعد اللغوي

تظهر في كتابات العريفي بعض الملامح اللغوية التي تنبئ عن حس لغوي جيد؛ ولعل مما يدل على اهتماماته اللغوية ما كان يقوم به من ضبطٍ بالشكل لبعض أسماء الشعاب، والمواقع التاريخية، فمن ذلك مثلًا ضبطه لـ(توارِن) اسم لموضع، وكذا ضبطه لـ (ثُعل) فرع من قبيلة طيئ، وكذلك (عُقُدة) من سِنبس، اسم على موضع، وغيرها من أسماء الأعلام، والقبائل، والمواضع(٥). كما كان للعريفي اهتمام باللهجات؛ ولذلك «فهو يعتز كثيرًا بكون اللهجة السائدة في حائل أقرب إلى العربية الفصحى، وأن كثيرًا من مفرداتها يعود إلى العصر الجاهلي، وإلى لغة المعلقات، مستشهدًا بذلك بكلمات مثل (القرو)، والمقصود به المكان الذي يعد لحفظ الماء من أجل سقي الإبل والأغنام عند موارد الماء، وكلمة (الدعقاء) التي يرددها الأطفال، وتعني الأرض، وكلمة (أنكل) من النكال وهي التوبة إلى الله، وكلمة (الغبيط) التي يستشهد عليها بما يحفظه من شعر امرئ القيس، وهو ما يوضع فوق ظهر الإبل»(٦).

ومن أشكال اهتمامه اللغوي أنه قد يعقد مقارنة بين لهجتين مختلفتين تمامًا، كما في مقابلته بين اللهجة الحائلية والجزائرية، وقد توّج ذلك الاهتمام بكتابة مقال عنوانه: «التطابق في الألفاظ والمعاني العامية بين الجزائر في المغرب العربي وحائل في المشرق العربي» نشره في مجلة التراث الشعبي التي تصدرها وزارة الثقافة في العراق آنذاك، وقد ضمّنها كتابه عن حائل»(٧).

البعد الأدبي

تميز العريفي بحسه الأدبي المتنوع، فهو كاتب مقالي بامتياز، وهو كذلك يكتب الرحلة، ولديه من الرسائل، والمخاطبات، والجوابات الكثير من النصوص، كما أنه مهتم بجغرافية الأدب، وربطه بتاريخه الأدبي، وتراثه الشعري. وهو إلى جانب هذا مهتم باللون السردي، والأثر الحكائي في عرض قصصه، وتجاربه، أو في حديثه عن منطقته، وذكرياته، وحواراته الصحفية، ومقابلاته الإعلامية، وما شابه ذلك.

ومما يدل على ملامحه الأدبية أنه كان كاتبًا متنوعًا في الصحف والمجلات العربية، فمن ذلك أنه «كتب في مجلة الآداب الشعبية في العراق، وفي غيرها من المجلات، وكانت قراءاته واسعة في الشعر، وقد أهدي له ديوان الرصافي، وكان مولعًا بالرحلات للاستزادة من المعرفة، واستكشاف كل جديد»(٨).

وقد «كانت له ميول قصصية روائية، ولكنه عدل عنها لأسباب يقول إنه لا يعرفها، حيث اتجه إلى المقالة، والمعالجة الاجتماعية الساخرة.. ومن الواضح أن نزعته السردية ظلت متوهجة في كتاباته الاجتماعية، فهو غالبًا ما يرسم مشهدًا، أو يروي قصة، ومشاهده أقرب إلى المشاهد الروائية»(٩). إضافة إلى أنه كان حافظًا للشعر، واعيًا بطرقه وأغراضه، وأشكاله، ومضامينه، وكان يشرح معاني المفردات المشكلة في الأشعار، كما كان مهتمًّا بالمرويات الشعبية، والإحالات التاريخية.

ويظهر أنه برع في نوعين أدبيين: أولهما المقالة، وثانيهما الرحلة، وكلا النوعين كان يصدر عن مخزون سردي حكائي؛ «من هنا كان نشاطه الكتابي نشاطًا إبداعيًّا له صبغته الأدبية، وكانت بواكير كتاباته تتمثل في فن القصة القصيرة»(١٠). وفي كتابه «من وراء الحدود» ما يشير إلى أدب تتنوع فيه صنوف الكتابة، وتتقلب بين السرد والحكاية، يقول فيه مثلًا: «بين يدي الآن مجموعة من صحف يوم الإثنين 29/8/1399هـ الموافق 23 يوليو1979م ها أنا ذا أفتح واحدة منها، إنها صحيفة الرياض الحبيبة إلى قلبي بطابعها، وأبوابها، وأعمدتها المعتادة..»(١١).

البعد الإعلامي

وهو المجال الأبرز في سيرته؛ إذ وُلِد العريفي من رحم الإعلام، وعاش فيه، فنشأ، وترعرع، «كما أنه من أبرز النقاد الاجتماعيين في الصحافة السعودية، وهو المدير العام لمؤسسة اليمامة الصحفية، كتب لعدد من الصحف المحلية والعربية، كصحف الجزيرة، اليوم، الرياض، ومجلتي اليمامة والتراث الشعبي الصادرة عن وزارة الثقافة والإعلام في بغداد (وزارة الثقافة والسياحة والآثار حاليًّا)»(١٢).

ومن آثاره الإعلامية الواضحة أنه «تولى تحرير مجلة «حماة الأمن» التي كانت تصدرها وزارة الداخلية. وكان عضوًا في مجلس إدارة مؤسسة اليمامة الصحافية، فنائبًا لمديرها، فرئيسًا لهذه المؤسسة. كما ارتبط بالعمل الصحفي منذ سنة 1369هـ (1949-1950م)، حينما عمل مراسلًا لصحيفة المدينة المنورة في حائل، وبدأ مزاولة الكتابة الصحفية سنة 1377هـ (1957م)، إلى قريب من وفاته. ونشر خلال هذه المدة المئات من المقالات، تتجاوز ألفًا وثلاثمئة مقالة، نشرها في صحيفة الجزيرة، والرياض، والمدينة، واليوم، والرائد، وحراء، وعكاظ، ومجلة اليمامة، والعرب، والمجلة العربية، ومجلة التراث الشعبي التي تصدر عن وزارة الثقافة والإعلام في بغداد»(١٣).

أما كتابته الإعلامية، فقد كانت «ذات طابع اجتماعي ووطني، هدفها التقويم والإصلاح، ومعالجة مواطن الخطأ والتجاوز، والتنبيه عليها، أفرغ معظم مقالاته في قضايا المجتمع والوطن، وكان صريحًا صادقًا في الجهر برأيه، وما يرى أنه الحق»(١٤). و«يضاف إلى ذلك مواقفه إزاء غيره من زملاء الفكر، والقلم، والرؤى. وكانت له آراؤه التي تتعلق بالشأن الصحافي، وتتجاوزه إلى الشأن العام»(١٥). وكان حضوره المقالي من خلال الصحافة ناطقًا بكثير من آثاره، وجهوده، ولا نبالغ إذا قلنا: إنه عرف من خلال مقالاته، التي كانت مؤثرة في نفوس متلقيها؛ حيث كانت «تنفذ إلى صميم حياة معظم المواطنين بأسلوبه السهل الممتنع في أقل عدد من الكلمات، وبشكل مباشر يلامس الجوهر دون خدش، أو تجريح، وقد تؤلم دون أن تكسر أو تهشم على حد تعبيره»(١٦).

البعد الاجتماعي

أما البعد الاجتماعي فيكاد أن يكون طافحًا بجهوده، وفي كل ما يقدمه ويكتبه، فقد «كان يكتب معايشًا لهموم الناس، وكان يستعيض عن عمق المعنى، بالمفهوم الفلسفي المألوف في الكتابات الثقافية، بالصدق وحرارة القلب والانحياز للضعفاء والمساكين.. ولا تكاد تمر ساعة لا يسدي فيها خدمة لمسكين، أو محتاج، أو مظلوم. وقد أحبه الجميع في مختلف أرجاء المملكة. وحين يساعد الناس لا يسألهم عن أماكن سكناهم، وتلك شيمته؛ فهو ذو قلب يتسع للجميع»(١٧). وقد أشار بعض معاصريه إلى أنه «صاحب فكر اجتماعي مميز، محكوم بأخلاقيات ومبادئ وقيم ومفاهيم خاصة، يرى الأشياء بكلتا عينيه، وله إمكاناته التي تمكنه من قضاء هذه الحاجات من جاه ووجاهة»(١٨). لقد كان العريفي اجتماعيًّا بامتياز، وقد ذكر بعض أقربائه شيئًا من مآثره الاجتماعية: «فقد كان -رحمه الله- نصير المحتاجين والطموحين، اتسع لهم قلبه وروحه وفكره ووقته، وقدم لهم مواقف مشرفة في السعي لقضاء حاجاتهم بكل أريحية الأب الشهم، صاحب النخوة المتفردة، دون كلل أو ملل»(١٩).

البعد التاريخي

كان العريفي مهتمًّا بالجوانب التاريخية، والحديث عن تفاصيلها وأسرارها؛ ولهذا نجد أن منهجه في تحليل الظواهر التاريخية، في كثير من نصوصه «يتراوح بين التفسير الاجتماعي الموضوعي، والتماس الشواهد التي تجعله فخورًا بالمنطقة وأهلها، مؤكدًا صدق انتمائه لمدينته الأثيرة، ويبدو حرصه على تنظيم الحوادث في سياقها الزمني»(٢٠). كما نلحظ عند العريفي اهتمامه بالتأريخ لقضاة حائل، وعلمائها، وشعرائها، وكان يركز على مآثر حائل مكانًا، وتاريخًا، وسكانًا، ومرتادين، وبخاصة من أولئك الرحالة الأجانب، كما كان يشير إلى آثار بلدة جبة التي تعود إلى القرن العاشر قبل الميلاد، وكثيرًا ما كان يعدد من المناطق الغنية بالآثار العربية القديمة، والآثار الإسلامية(٢١).

البعد الوطني

يستحق العريفي أن يوصف بأنه رجل وطني؛ إذ خدم منطقته، ووطنه خدمة جليلة طيلة سنوات عمره، فهو بالإضافة إلى المواقع الإدارية، والإعلامية، والثقافية التي قدم فيها الكثير، فقد كان لسانًا منافحًا عن وطنه، وكان صوتًا جميلًا يعزف مقطوعة حب الوطن ونشيده الخالد، ولعل في كتابه «هذه بلادنا، حائل» ما يدل على تلك الوطنية التي تتأجج في أعماقه(٢٢). ولم يكن حبه لحائل ليصرفه عن الانخراط في الشأن الوطني بكل ما أوتي من قوة، ولعل فيما قاله محمد نصر الله عنه في مقالته التي تحمل عنوان «وطني بكل معنى الكلمة» ما يدل على ذلك، ولو أن باحثًا طبّق الإجراء السيميولوجي دارسًا العلامات التعبيرية في نص العريفي، لأدهشه تكرار كلمة (الوطن)، ما يعني انشغاله الدائم بمشكلاته وقضاياه وتطلعاته(٢٣).

أبعاد ثقافية أخرى

وهناك أبعاد أخرى ثقافية يمكن أن نلمحها عند العريفي، كالبعد الزراعي، والبعد الجغرافي، والبعد الحضاري، والبعد الشعبي، والبعد الرياضي، والبعد الفني، والبعد الأثري، والبعد السياحي، والبعد العلمي، والبعد التربوي، وغيرها من الأبعاد التي تدل على أنه كان رجلًا مثقفًا، وعلامة بارزة في خريطة الثقافة السعودية.

خاتمة

لم يكن المثقف فهد العلي العريفي اسمًا عابرًا، أو شخصية محدودة، وإنما كان رجلًا مخلصًا، وإنسانًا نبيلًا، ورمزًا ثقافيًّا، وعلمًا وطنيًّا مهمًّا، فاستحق بذلك أن يكون واجهة مشرقة، ومنارة عالية. وقد ترك لنا هذا الرجل في تاريخ الوطن، وثقافته الشيء الكثير، ولهذا رثاه كثير من الأقرباء، والأصدقاء، وكتبوا فيه التعازي، ودبجوا فيه المراثي، وهو ما يجعلنا أمام رمز ثقافي من رموز ثقافة الوطن الذين لا يمكن نسيانهم.


هوامش:

(١)  ينظر: فهد العلي العريفي، ثالث الجبلين، أ.د. محمد صالح الشنطي، ط/1، نادي حائل الأدبي، 1434هـ/2013م.

(٢)  تهذيب اللغة، أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري الهروي، تحقيق: محمد عوض مرعب، ط/1، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 2001م، ج/9، ص30.

(٣)  مفهوم الثقافة في الفكر العربي والفكر الغربي، جميلة بنت عيادة الشمري، د.ط، نسخة إلكترونية على موقع (الألوكة)، د.ت، ص5.

(٤)  نظرية الثقافة، مجموعة من الكتّاب، ترجمة: د. علي سيد الصاوي، د.ط، عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 1997م، ص8.

(٥)  ينظر: لمحات من منطقة حائل، فهد العريفي، ط/1، الرئاسة العامة لرعاية الشباب، الرياض، 1403هـ، ص16.

(٦)  فهد العلي العريفي، ثالث الجبلين، ص193.

(٧)  نفسه، ص194.

(٨)  نفسه، ص19.

(٩)  نفسه، ص102.

(١٠)  نفسه، ص153.

(١١)  من وراء الحدود، مشاهدات، خواطر، ذكريات، فهد العريفي، ط/1، النادي الأدبي بالرياض، 1401هـ/1980م، ص11.

(١٢)  https://ar.wikipedia.org/wiki/فهد_العلي_العريفي

(١٣)  نفسه.

(١٤)  الرابط الإلكتروني السابق على ويكيبيديا.

(١٥)  فهد العلي العريفي، ثالث الجبلين، ص193.

(١٦)  نفسه، ص230 – 231.

(١٧)  نفسه، ص83.

(١٨)  نفسه، ص232، 235.

(١٩)  نفسه، ص275.

(٢٠)  نفسه، ص184 – 185.

(٢١)  ينظر: لمحات من منطقة حائل، فهد العريفي، ص93 – 94.

(٢٢)  ينظر: هذه بلادنا، حائل، فهد العلي العريفي، ط/2، الرئاسة العامة لرعاية الشباب، الرياض، 1408هـ، 1988م.

(٢٣)  ينظر: فهد العلي العريفي، ثالث الجبلين، ص94.