سيمون دو بوفوار: كتابات عن السياسة والجسد والموت والتقدم في العمر

سيمون دو بوفوار: كتابات عن السياسة والجسد والموت والتقدم في العمر

ولدت الكاتبة الفرنسية سيمون دو بوفوار، في 9 يناير (1908م) لعائلة بورجوزاية في باريس، ورحلت في 14 إبريل (1986م) مخلفة أرشيفًا مميزًا لامرأة شغلت الأوساط الثقافية الفرنسية والعالمية بأطروحاتها الراديكالية حول المرأة والجسد من منظار نسوي مرة، ويساري مرة، ووجودي في الغالب. أتوقف في هذا البحث مع مسائل شائكة تخص التقدم في العمر من خلال بعض كتاباتها في هذا الباب؛ إذ صدر لها كتاب بعنوان: «التقدم في العمر»، ولم يترجم إلى العربية. وهناك فِلْم عنها بعنوان « بروميند» أو «منتزه»، أخرج بالسويدية عام 1974م. وفِلْم وثائقي أخرج عام 1979م يحمل اسمها «سيمون دو بوفوار» مدته 110 دقائق، وتتحدث فيه مع 9 أصدقاء من بينهم شريكها الفيلسوف الوجودي جان بول سارتر.

محطات نهاية العمر

فِلْم «بروميند» ليس متوفرًا في الشبكة لكن مسودة سيناريو الفِلْم محفوظة في كتاب صدر بعد رحيلها عام 2012م مترجمًا إلى الإنجليزية بعنوان: «سيمون دو بوفوار، كتابات سياسية». وهو أرشيف كبير يضم 394 صفحة من القطع الكبير ويجمع كتابات منشورة وغير منشورة لها في مراحل متفرقة من عمرها الغزير بالإبداع الروائي وكتابة المذكرات، والسجال السوسيو-اقتصادي، والفكري، الذي قوبل بردود أفعال مختلفة من قبل المجتمع والصحافة في ذلك العهد، وتبحث فيه عن العجزة وكبار السن في دور العجزة وتدلو بصوتها الخاص.

أترجم هنا نقلًا عن سيناريو الفِلْم، حيث تظهر سيمون دو بوفوار في آخر الفِلْم وهي تتمشى في مقبرة وتقول: «لا أدري ما سأكون عليه إذا أصبح عمري 90 سنةً مثلًا. ولكنني لا أمتعض من فكرة أن امرأة في الثمانين من العمر ستختفي عن وجه الأرض، بينما لم أكن أستطيع تقبل فكرة أن أختفي عن وجه الأرض حين كنت امرأة في الثلاثين والأربعين من العمر. هكذا تغيرت فكرتي عن الموت. ولهذا وبشكل أكيد إن اشمئزازي من الحياة صار أكبر من خوفي من الموت». «سيمون دو بوفوار، كتابات سياسة».

في الفِلْم «بروميند» (متنزه/ منتجع)، تعالج مشكلة كبار السن في دور العجزة الفرنسية في ذلك الوقت من خلال أحاديث مع شرائح من النزلاء، من الرجال والنساء. تكتب كلمات على ألسنتهم وتشخص الحالة البائسة التي يعيشونها ويعانونها في محطات نهاية العمر. تذكر مقولات واقعية مع طبيعة مهن العجائز في شبابهم. ونلاحظ من السيناريو أن الجميع يعاني بدرجة أو بأخرى القصورَ في تلقي الرعاية الأولية المطلوبة نفسيًّا وجسديًّا. ومنهم من كان ممرضًا، أو معلمة، أو ساعي بريد، أو عاملة في الجيش، أو منظفة وسيدة بيت، في فرنسا الستينيات.

سيمون دو بوفوار التي اقتحمت عالم الثقافة والفكر والفلسفة بأسلوبها المعروف، لم تغادر هذا العالم قبل أن تبحث في موضوع الشيخوخة، وتخصص له كتابًا يخضع للتحليل الاجتماعي والاقتصادي والجنساني الجندري للمرأة والرجل، للكبار من النساء والرجال. ولعل المتلقي يعيد النظر في مسألة تقييمها الأخلاقي.

لا أومن بنظرية تفوق عرق على آخر ولا جنس على آخر على اختلاف اللون والشرق والغرب والطبقة والمنبت الطبقي، لكنني أومن بأن مساحة الحرية المعطاة لأي فرد هي التي تطلق الموهبة وتدفع نحو الابتكار والإبداع العلمي والفلسفي والأدبي سواء في العصر الراهن أو الماضي. ولا شك لدينا أن في الشرق مؤهلات لبناء فكري وميداني يحمي الأسر من مغبات ذلك الذل الذي قد يصيبهم في آخر المشوار على هذه الأرض.

وهذا يقودني للحديث عن البيت العربي وقلة دور العجزة، وتابو التحدث بصراحة عن المشاكل العائلية والشيخوخة وهذا بحث سوسيو-اقتصادي معقد ويزداد بؤسًا في البلاد الفقيرة التي يخضع أهلها للتشرد بسبب الحروب. إضافة إلى عدم توفير قطاع خدماتي يحمي كرامة الإنسان في شبابه وشيخوخته. ولكن لماذا نخشى التقدم بالعمر، والحديث عن فلسفة الجسد وهو يضمحل ويخفق في انتصابه وفي خصوبته وفي اكتناز الجلد المشدود واللماع والخالي من التجاعيد والتصبغات اللونية المرافقة للكبر؟ لماذا نلجأ إلى ترقيع خارجي وتجميل عاجل من أجل استجداء محبة الآخر وقبوله، ونغمض العين والقلب عن المشكلة الأساسية والنظرة نحو الجسد! لماذا لا نتحدث عن مشاكل شريحة كبيرة من مجتمعاتنا، شريحة الشيوخ الذين هم الآباء والأمهات والجدات.

الاحتفاء بالشيخوخة

لا شك أن العامل الاقتصادي والوعي الاجتماعي يلعب دورًا. ولا يكفي القول بأن الدور الاجتماعي معروف ومضمون سواء من قبل المؤمنين بالأديان أو العادات والتقاليد المتعارف عليها التي كانت توصي بالوالدين إحسانًا. ويغيب عن ذهننا أن واقع الهجرات المعاصرة طرح مشكلات جديدة تكاد تسيطر على شريحة من الأسر العربية المشتتة بين اللجوء والهجرة للعمل في دول أجنبية من أجل لقمة العيش والأمان، وهذه تخلق بحد ذاتها منظومة اجتماعية جديدة شائكة ومتعسرة، صلبها العلاقة الروحية والمادية بين الآباء والأبناء في البلد الواحد، أو في بلاد الله الواسعة.

هذه الجوانب تتطرق إليها سيمون دو بوفوار في كتاب بعنوان «التقدم في العمر» الذي صدر بالإنجليزية عام 1970.

المعالجة الأدبية لفكرة الشباب وما بعد التقدم في العمر والتحدث عن أمراض الشيخوخة ومتاعبها شعرًا وأدبًا وفنًّا ليس محبذًا ولا متناولًا في الثقافة العربية بالشكل الذي يجب ويليق. إذ نحن جميعنا إن لم نمت في أول الطريق سنموت في آخره. وكثيرون في العربية يسمونه «أرذل العمر». وهذه عبارة ناقصة ويجب أساسًا تحريم استخدامها.

الشعراء الشيوخ لا يزالون في قصائدهم يغازلون جسد المرأة الفتي الغض المراهق بمخيلاتهم القصيرة السمينة العرجاء. بعض الكاتبات أيضًا تبذلن جهدًا للبقاء شابات باستخدام ما يمكن من محسنات الصورة الخارجية التجميلية بما في ذلك العمليات الجراحية. لم أنسَ قول صديق إعلامي لي ذات مرة: «أوه، لقد أصبحت عجوزًا يا جاكلين، أين ذهب شبابك؟» امتعضت وقلت له: «أنت أكبر مني سنًّا، ألا ترى صورتك وتساقط شعرك وتجاعيد وجهك؟!».

بحثت في الأرشيف عما يصلني من حكمة الشعراء والكتاب عموما وقلَّما وجدت احتفاء بالشيخوخة؛ لأن الاعتراف بإخفاق الجسد وتعثره ومحدوديته يتناقض مع مفهوم السلطة الأبوي البطريركي، ويتعارض مع تجليات الإيجو، أو الاعتداد بالنفس، حد الغطرسة عند الفرد المبدع ذكرًا كان أو أنثى. ربما مرآة الذات الداخلية لا تتفق مع المرآة الخارجية. وما في داخلنا يبقى شابًّا وهناك تكون المعادلة الصعبة. تناقض المظهر والإحساس الداخلي والمشاعر. بالتأكيد مشاعر الآباء تجاه أولادهم لا تخفت عند الشيخوخة بل تزداد قوة وتعلقًا، ومرده الضعف والخوف وفقدان السيطرة والسلطة.

مختارات من كتابات سيمون دو بوفوار

«المجتمع يهتم بالفرد طالما هو قادر على تقديم الفائدة. الشباب يعرفون هذا. قلقهم حين يدخلون ميدان الحياة الاجتماعية يماثل المعاناة التي يشعر بها كبار السن حين يُقْصَوْنَ عنه».

سمعت كبار السن يشتكون ويتمنون الموت بكل صراحة؛ لأنهم يشعرون بعجزهم عن تقديم الدعم المادي والجسدي، بل قد يصيرون مقعدين في أسرتهم فيشعرون بأنهم عالة على الأولاد والمجتمع. ويكون الإحباط والموت النفسي سابقيْنِ لموت الجسد، ومعاناة يومية مريرة.

* * *

«الفرد لا يمكنه إطلاقًا أن يعرف نفسه بل أن يرويها».

نعم، نحن نحكي حكايات عن أنفسنا وأفكارنا، ونبلع كمًّا كبيرًا من تلك الأسرار التي تموت معنا خوف أن نواجهها بشجاعة ونكون ما نحن بكل بساطة. وذلك مرده الخوف من الحاكم الأخلاقي الاجتماعي الذي يتدخل في الصغيرة والكبيرة من خصوصيات الفرد العربي تحديدًا.

* * *

«حياة الفرد لها قيمة على الدوام، ما دام قادرًا على تقديم الفائدة لحياة الآخرين، عن طريق الحب، الصداقة، عدم الطاعة والولاء، والتعاطف».

قالت لي أمي مرات عدة على الهاتف وهي عجوز في الثمانين، وكانت هي سيدة البيت القائمة على خدمة وتربية 7 أولاد وبنات: «أتمنى أن يأخذ الله أمانته ولا أصير عالة على أحد من أولادي، لقد عشت ما يكفي. لم يعد لي دور، حتى إنني لا أستطيع أن أغسل الصحون في بيت ابني وابنتي».

* * *

«معرفة الذات ليست ضمانًا للسعادة، لكنها تقف في جانب السعادة وبإمكانها أن تحفز على شجاعة المحاربة من أجل الحصول عليها».

* * *

في الفِلْم الذي أخرج بالسويدية، هناك فقرة بصوت سيمون دو بوفوار، أترجمها هنا:

«هناك ناس يواظبون على العيش بفرح حتى الثمانين وما بعد، والاستمتاع بالأنشطة التي اعتادوا على مزاولتها من قبلُ سواءٌ أكانت المشي، الصيد، سياقة الدراجة، وأشياء كثيرة تعيش مع الشخص وهو يتقدم في العمر إذا استطاع، وإذا نجح جسده في التأقلم والاستمتاع وتذوق المتعة كما كان في الشباب. وهؤلاء هم الأكثر سعادة، والأوفر حظًّا» («كتابات سياسية، سيمون دو بوفور»). ص 355.

* * *

أعرف أن هذه الكتابة مجرد مدخل إلى هذا الفكر وهذا الموضوع عن الجسد والشباب والشيخوخة. لقد رحلت الفيلسوفة الإشكالية الثائرة على التقاليد والتابو عن عمر يناهز 78 سنة. والكتاب الذي أشرت إليه «كتابات سياسية» جَمَعَه وحَقَّقَه وتَرجَمَه أفراد يسعون لتخليد ما كتبته ليكون محفوظًا للدراسين وللتاريخ، وذلك بدعم مادي من جهات حكومية؛ كي تتم الترجمة الأمينة من الفرنسية إلى الإنجليزية. أنا أكتب لأنني أحلم أن أترك أثرًا صادقًا قد يدفع عجلة التفكير والتحرر خطوة إلى الأمام. في هذا اليوم الشتوي الغائم، وعطلتي عن العمل، كان بإمكاني أن أخرج وأقضي الوقت بمرافقة الأصدقاء، لكنني اخترت أن أجلس للترجمة والقراءة والكتابة، وبذلك أحقق متعة مضاعفة وربما فائدة لقارئة في آخر العالم.