العين إذ تكتب

العين إذ تكتب

نار

منضدتي الصغيرة، مقعدي الصغير، درجي إلى اليسار، قلم رصاص جديد،

أوراق، ولهب في رأسي، أترصده، أطبق على عنقه حتى يغدو حريقًا،

لكن أكبر الحرائق ينطفئ دومًا.

الليل الحالك والبارد يمتد حولي،

أمام منضدتي الصغيرة، أنتظر شعلةً مراوغة.

قراءة على الملأ

وحدنا، أنا وقصائدي في مواجهة الجميع. هي تعرف أن اللحظة مصيرية فتهبني كلّ ما في وسعها من عون، غير أنّها تغدو أحيانًا صحارى لا تنتهي. قد تكون العجلة انتحارًا؛ لذا خير لنا أن نجر الخطى، وأن نغتنم الفرصة لتتلاقى النظرات، بانتظار الوصول إلى الواحة والظل الظليل.

في ثنايا كل نصّ، منكفئًا، أنام بعين واحدة.

البارون

كانت عائلة ف… تتنقل في عربة فاخرة وتدفن موتاها على قمة أعلى من الآخرين فتتقاطع صلبانهم المسنّنة مع السماء. في القصر كانت الطواويس تقذف بصراخها في وجه القرية. آخر من حمل اسم العائلة مات بائسًا، كانت لحيته قذرة، ويكسو مطبخه السواد، في أواخر أيامه كان يذهب إلى المدينة سيرًا على الأقدام. لم يكن والدي يحب ذلك الرجل الذي كان يحييه برفع قبعته.

ها هما اليوم، حاسرَي الرأس، جاران في مقبرة واحدة.

نساء السلطان

في الليل، حين ينام الجميع، كنت أجلس إلى النافذة، أحدق في السماء المشتعلة ضوءًا.

لأتنزّه فيها، كنت أدخّن سجائر تركيّة. عند السيجارة الرابعة أبدأ بالصعود، عند

العاشرة كنت في إسطنبول. كان ثمّة نساء، وكنت رجلًا ناضجًا.

في اليوم التالي: عند بيدر الحشائش، مع أبي، كان عندي أربعة عشر عامًا، مذراة،

وصداع الثمالة.

بيت جميل

في الحشد، يلمح كل منهما الآخر عن بعد. يمضي كل منهما صوب الآخر كما لو أن شيئًا لم يحدث. ينتظران اللحظة الأخيرة ليمد كل منهما خده للآخر مسلّمًا مثل زوجين عتيقين، كأخ وأخت، كصديقين. أصابعهما الخبيرة تتشابك، تضطرب الشفاه، وأخيرًا تلتقي النظرات، يبتسمان فقط، ويظلّان هناك، مثقلَين بالأمر الهائل الذي يصرّان على إخفائه مثل بيتٍ جميل وراء الأشجار.

شارل

كان شارل فلّاحًا، لم يكن يرتاد الحانة قط، ولايسافر، ولا يدخّن. كان يعمل حتّى في أيام الأحد ليربّيَ أطفاله الأربعة، ويرمّم بيته، ويدّخر بعض المال. منذ أن تقاعد بات يقرأ الجريدة، ويقطّع الحطب ويعتني بالحديقة، ويمضي بقية الوقت في التفكير.

في عيد الفصح، ذهب إلى القدّاس لأوّل مرة، فدهش الناس. الأمر مع ذلك في منتهى البساطة، فطيلة حياته كدّس شارل الممتلكات، لكن ظلّ ينقصه شيء واحد: الجنّة.

كان يستمع بهدوء، في مكانه، للقسّ الذي يمتلكها.

فنّي

كان والداي فقيرين. يبيعان بقرتين في كل عام لينفقا على دراستي.

كنت أحيا متكاسلًا. ذات يوم شعرت بالخزي، فحبست نفسي مع الكتب.

كنت أرمي بها إلى الجدران ثمّ أجمعها فتدخل شيئًا فشيئًا إلى رأسي.

عُيّنتُ في الأشغال العامة. في البيت دُعي أحد الأقرباء للاحتفال بنجاحي.

كنا نَمضي معًا، مساءً في الشوارع، متشابكي الأيدي، نغنّي، ونتقيأ.

في السماء، كانت أمي تضحك.

في رأسي

أنا جان بيير، من نسيته أمّه قرب النبع، ولم تستطع العودة.

سيسرنّي أن أعرفها، بعدُ. يحدث أن أتخيّلها وأختارها من بين النساء. ليس أولئك النساء المرحات، والأطفال ملء أحضانهن؛ بل الأخريات، السيّدات الجليلات اللواتي يعبرن بسيّاراتهن دون التفات. وكذلك بائعة الصحف التي لا تقوى على تربية طفل. كل هذا في رأسي المحكم الإغلاق، وما من أحد بوسعه أن ينفذ إلى رأسي.

سوى أمّي.

الحقيبة

هيلير في السوق الموسمي. يتذكّر زوجته التي تحرس المزرعة، فيشتري هديّةً: حقيبة بيضاء ملأى بالملابس الداخليّة. يعود مبكّرًا. يضع الحقيبة على الطاولة. تتسمّر زوجته الشابّة من الدهشة، فلم يسبق أن رأت حقيبة بيضاء. تخطر لها فكرة. تحلّ مئزرها بسرعة، ترتدي معطفها وتأخذ الحقيبة. تتأمّل نفسها في المرآة الكبيرة. ما زالت على أناقتها. تنطلق سائرة، وتصل المدينة. تستقلّ القطار إلى باريس؛ باريس يا هيلير!

يصمت الفلّاح. ينتظر بصبرٍ أن تعود. فهذه سفْرتها الأولى.

خشخاشٌ منثور

حزمتان اختارتا قبر أبي. وشكّلتا الباقة الأجمل في المقبرة. أهل المنطقة يعزقون سرير الموتى. ومن فوق عرباتهم، يهزّون أكتافهم ويغتابوننا. لا يأبه أبي لذلك، ولكن ليس أمّي الراقدة بجواره. أقتلع الأزهار بيديّ وأرمي بها إلى القمامة خلف شجيرات الغار، طالبًا الصفح من أبي وأمّي ومن الربيع.

الخلود

باع البطاطس المقلية حتى وفاته، دون أن يتكلم أو يضحك. أطلق عليه الأطفال اسم الدبّ البنّي. عندما أسدلت ستارة الكشك، علمت الصحف أن بائع رقائق البطاطس كان قد ألّف، في شبابه، ثلاث أغنيات شهيرة. جال حشدُ متنزّهي الأحد حول الكشك المغلق. كانت الريح قد حملت آثار القلي. وبحث الجميع عن آثار الأغاني على الأرضيّة الخشبيّة.

أمّا الراهبة التي كانت تسهر على الجثة في كنيسة المشفى، فلم يزرها أحد.

هذا هو الخلود.

اليد

كان الرجل الذي افتتح حفل الرقص في الثلاثين من العمر عامًا، لم يبق من يده اليسرى سوى جدْعة. حتى الحمقى تظاهروا باللامبالاة. كانت الغريبة التي دعاها تبتسم بالصورة الأكثر طبيعية في العالم. وحين انتهت الرقصة، جلسا إلى طاولة واحدة وشرعا يتحدّثان. من المحتمل أنها استفسرت عن إعاقته، فقد وضع جدْعته على الرخام وطرح تفسيرات هادئة. النادل قال: إنه كان نشّارًا محترفًا في مصنع تقشير الخشب، وهي مهنة شاقّة وخطيرة.

تأملت كليهما، هي على وجه الخصوص. كانا جميلين جدًّا.

في شهر آب

من لا يذهبون إلى البحر أو الجبال أو باريس يحتفظون بعشرة فرنكات في جيوبهم. يمسكون بقطعة النقود المعدنية بإحكام من أجل الدخول إلى المسبح. ولوضع سراويلهم القصيرة وصنادلهم في أحد الصناديق يحتاجون قطعة نقديّةً ثانية. لكنّ واحدة كل يوم! هذا يُعدّ ترفًا. في الماء، هذا كلّه لا يُرى.

جذور حيّة

لم تَعُد ذا الشعر الأحمر المطارد في مدرسة البلدة؛ بل رجلًا حرًّا بين آخرين. تعيش في الضواحي، في منزلٍ بسيطٍ مع أطفالك العشرة. كل مساء، تمرّ على دراجة بخارية، معتدلًا مثل دركيّ. بتّ تعمل في المصنع ليلًا. إنّها الساعة التي أجلس فيها على عتبة بابي لأدخّن غليونًا. أرفع يدي حين تمر. تغمز بعينك لكنّك لا تنزل أبدًا. أنت لم تنس رماة الحصى.

جورج- ليون غودو،

«شاعر أصيل يسحرنا بمنعرجات ورشاته المستفِزّة»، هذا ما كتبه رونيه شار في قصيدة مهداة لجورج. ل. غودو (1921- 1999م) الذي بدأ ينشر قصائده في سنٍّ متأخرة نسبيًّا (في الأربعين). قدّم غودو، منذ مجموعته الأولى «الكلمات الصعبة» الصادرة عام 1962م عن دار غاليمار بتقديم عالم اللسانيّات المعروف جورج مونان، عبر 15 مجموعة شعرية، قصائد نثر بالغة التكثيف والاقتصاد اللغوي، متخفّفة من البلاغة والمجاز، في بنائها التركيبيّ الكثير من الحذف والإضمار. تتناول قصائد غودو عبثيّة الوجود الإنساني كما يتجلّى في صور تفاصيل الواقع اليومي للبشر «العاديين»، من خلال بنية سرديّة تقربها من القصّة القصيرة جدًّا، لكن الشاعر يَعْمِد في الآن ذاته إلى تثوير السرد ومقاومته، بتدوير الزمن واستخدام المفارقة، ليلتقط الجوهر الشعريّ الدفين تحت قناع العاديّ والمألوف. إنّ «العين هي من يكتب» عند غودو محيلةً كلّ ما تراه إلى كلمات، في مصالحة حميميّةٍ بين الشعر والحياة. من أعماله نذكر: غور الأشياء، 1974م، عندما الأيام، 1979م، من عالم إلى آخر، 1984م، العين تكتب 1989م، آخر المطاف 1991م.