مشهد ليلي

مشهد ليلي

كانت سعادتي بجو المساء الشتائي، وبقطرات المطر الدقيقة المتقطّعة، تفصلني عن كلِّ شيء من حولي، وتمنحني اكتفاءً بإحساسي الشخصي بالعالم؛ لذا لم أكن قد لاحظتهما بين الواقفين على الرصيف المبلّل، الرجل بوجهه الأسمر المدوّر وملامحه الخشنة، والمرأة القصيرة الممتلئة بالحجاب الرمادي والعباءة السابغة، انتبهتُ على الفور، حين تقدّم الرجل باتجاهي، ولمحت المرأة تسير إلى جانبه بخطوات بطيئة مثقلة، حينما أصبحا أمامي، شغلتني الدهشة المرتسمة على ملامح المرأة، كأنها لم تر رجلًا مأخوذًا بجو الشتاء من قبل، رفع الرجل هاتفه النقال ومرّر سبابته القصيرة على الشاشة المضاءة، لمس أيقونة الأستوديو، من بين الصور المتلاحقة أُفردت صورة لم أتبيّنها على نحو واضح، على الرغم من أُلفتي بها، قرّب الهاتف أمامي فتصوّرت وجهي مضاءً تخدشه قطرات المطر الفضية اللامعة، ورأيتني، في الصورة، أقف مع زملاء أوائل التسعينيات الدراسية، استغربت لشواربنا الشبابية المحدّدة -كان شارباي هما الأقل وضوحًا أعلى ابتسامة عريضة بان تحتها بياض أسناني- واستغربت أكثر لتعبير السعادة على وجوهنا، سعادة غريبة وغير مفهومة، قرّب وجهه كأنه يشاركني رؤية الصورة والتفكير بتفاصيلها، سألني:

ـ تذكُر الصورة؟

قبل أن أصدّق المفاجأة، وأتفهّم معناها، أجبت:

ـ إنها صورتي في الكلية، مع محمّد وياسين وجمال.

صحّح على الفور، وقد حدجني بنظرة مؤنّبة:

ـ جميل.

ـ نعم، جميل قاسم سعدون.

ذكرت الاسم الثلاثي دفعة واحدة، لكن الرجل سريعًا ما عاود سؤالي:

ـ متى رأيته آخر مرّة؟

كان جفنا عيني اليسرى قد أخذا بالارتجاف، وأنا أجيب بصوت بدا خفيضًا كأنني أستعيد لقاءً شبحيًّا لا سبيل لاستعادته:

ـ قبل كورونا، بعام أو عامين..

خجلت وأنا أسمعني أقول ذلك، وكما لو كان الرجل قد التقط خجلي، سحب هاتفه من أمامي، أطفأه وقال جملة واحدة وقعت في أذني كانفجار معدن ثقيل:

ـ جميل مات.

هربت بنظرتي إلى المرأة، فرأيتها تقترب أكثر من الرجل محاولة الاحتماء به، قلت لنفسي: لعلها تخشى أن تصدّق ما يقول فتتكبد موت جميل مرّة أخرى، وتذكّرت أنه الوحيد الذي لم يكن يبتسم، كان مكتفيًا بالوقوف، بحجمه الضئيل، في طرفه الصورة، ملامحه مشبعة باستسلام صامت، كأنه وجد نفسه في صورة ليست له، وكان المطر قد توقف وانقطعت الحركة على الرصيف، وبقينا، ثلاثتنا، مسمّرين في المشهد الشاحب: الرجل ذو الوجه المدوّر، والمرأة الممتلئة، وأنا.

ـ لم يمهله الداء طويلًا، أقل من ستة أشهر بين اكتشاف الإصابة والموت.

واصل الرجل، كأنه يحدّث نفسه، وكانت المرأة تضمُّ نفسها إليه أكثر فأكثر، والعالم يزداد شحوبًا.