«أُمّةٌ على رِسْلِها» لمها الفيصل… التباسات الهوية وإعادة التفكير في الحضارة

«أُمّةٌ على رِسْلِها» لمها الفيصل… التباسات الهوية وإعادة التفكير في الحضارة

المتأمل في تاريخ الفكر العربي الحديث، منذ محاولاته الأولى في القرن التاسع عشر حتى وقتنا الراهن، سيجد أن سؤال الهوية بالتباساته وتعالقاته كافة هو السؤال المركزي الرئيس الذي انطلقت منه الأطروحات كافة (فهمًا، وقراءةً، وتحليلًا، ونقدًا) للأنا في علاقتها بالآخر. وقد استندت تلك الأطروحات، في معظمها، إلى مواقف أيديولوجية مسبقة تحدد طريقة هذه العلاقة وترسم معالمها. ولهذا ظلت أسيرة ما تستند إليه، ولم تتجاوز ذلك إلى رؤية أكثر شمولية تسعى لفهم الأنا بثوابتها، وعلى امتدادها التاريخي، ومن خلال القوانين الناظمة لها، وتسعى أيضًا لفهم الآخر وتأطيره وفقًا لتجاربه وتمثلاته الثقافية.

من هنا تأتي أهمية الكتاب الذي نشره مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية والمعنون بـ«أمة على رسلها: تأملات في بلاد العرب» 2023م لسمو الأميرة مها بنت محمد الفيصل والذي يقع في 250 صفحة من القطع المتوسط. الكتاب يتكون من اثنتي عشرة ورقة كُتبت في مدد زمنية مختلفة، الناظم بينها هو تأمل مفهوم الحضارة كما يعرف الآن، وتاريخ العرب الحضاري وموقعه بين الأمم. يدخل الكتاب في مساءلة نقدية لافتة مع بعض المفاهيم التي تبدو مستقرة ومتداولة بشكل واسع مثل الحضارة والثقافة والمرجعية والقيم، ليفكك بداهتها ويعيد قراءتها وفق المتغيرات الثقافية العالمية ومنظومة قيمها العابرة للحدود. كما يشتبك مع بعض التصورات الفكرية محاولًا تأطيرها ووضعها في سياقها المعرفي المناسب، دون تهويل أو تهوين.

ومثل العديد من الكتب التي خصصت موضوعاتها لدراسة الهوية الحضارية العربية بأبعادها المختلفة (اللغوية والقيمية والسيكولوجية)، يركز «أمة على رسلها» على قضايا أو ظواهر جزئية بدت مستشرية في واقع عربي متأزم يفتقد تحديد اتجاه بوصلته، ليخرج منها بقضايا أعم تمس الذهنية العربية نفسها وتصوراتها عن نفسها، ومع ذلك يتميز الكتاب بخلوه من الادعاءات الأيديولوجية أو الفرضيات غير المختبرة، إضافة إلى ما يحمله من محاولات تأصيلية لا تقف عند حدود الوصف والتحليل بل تتجاوزها إلى إعادة صياغة المفاهيم وتصحيح التصورات، وربط ذلك كله بالسياقات العربية الحضارية.

ارتباك المرجعيات

ماذا حملته لنا الحضارة والثقافة اللامادية؟ وما تداعيات تبني مقولاتها وتصوراتها على البنى المجتمعية التقليدية والفطرية مثل الأسرة والنسب والقبلية الرشيدة؟ على الرغم من أن الكتاب لا يطرح السؤال بهذا الشكل المباشر، فإنه السؤال المركزي الذي تنطلق منه المؤلفة في تحليلاتها المختلفة. لقد تحولت المؤسسات الكبرى السياسية والتعليمية إلى تبنـِّي منظور السردية المادية اللادينية، بل أُنشئت بفضله أنساق مجتمعية مبتكرة، ومنها خرج تصور جديد لطبيعة الأسرة، وصياغة مختلفة للعلاقات بداخلها، ناهيك عن الميوعة في تحديد الجنس البشري ذاته ليخرج تمامًا عن ثنائية الذكر والأنثى. ومن الآثار المباشرة لسيادة هذه التصورات، الإضرار الكبير بفكرة «المرجعية» ذاتها! فالانتقاص الكبير من قدر الأب، وما حدث من تحول في المكانة المقدسة للأم، في مخيلة وواقع المجتمعات العربية، قد أصابا رمزية كل من الأب والأم في مقتل. وقد انعكس ذلك سلبًا بشكل مباشر على مفهوم الأسرة والقبيلة.

تمضي المؤلفة بعد ذلك في تحليل مفهوم القبيلة وفك التباساته الدارجة، فالقبيلة لا يقابلها التمدن لأن القبيلة شكل من أشكال التجمع البشري وهي أقرب إلى مفهوم الأسرة. والقبلية ليست نمطًا بدائيًّا، مُؤسَّسًا على قاعدة من العلاقات الاجتماعية الجامدة، بل منظومة من العلاقات الإنسانية والبيئية والسلطوية غاية في التعقيد. كما تعمل ضمن نسيج من العلاقات التي تتصف بالتراتبية، حيث لا يمكن تصور أي نظام إلا وفيه تراتبية، لكن الدور التنظيمي للتراتبية هنا ليس قائمًا على ضرورة الفصل الصارم فيما بين الرتب.

صناعة الفرد السيكولوجي

يطغى المنظور السياسي على الحياة الحديثة؛ لذلك أصبحت الفردية فردية سياسية مصطنعة نمطية، وليست فردية طبيعية ثرية وحقيقية. وهذا يفسر لنا التضخم الكبير في فكرة «الحرية الفردية» داخل المجتمعات التي تتبنى الأيديولوجيا الليبرالية، والتركيز على فكرة «الحقوق»؛ أي حق الفرد، وليس «واجباته». ثم تجـاوزت الفردية ذلك لتصبح منهجيـة تفكير من أعظم آفـاتهـا التغـافل الكـامل عن الكل الجـامع، والتركيز على العنـاصر المتجزئـة المنفصلة. تناقش المؤلفة في هذه المقالة نشأة مفهوم الفردية في الحضارة الغربية مع إبستمولوجيا أوكام ونصله الشهير، ومذهب الاسمية الذي ألغى وجود الحقائق الكلية الجامعة إلا كأسماء وتصورات عقلية لا أكثر، وزعم أن الوجود الحقيقي يكمن في الأفراد فقط؛ أي أن الحقيقة لا توجد في ذلك الكل أو الجوهر الجامع، ولكنها مجرد حقائق منفصلة متفردة. وبذلك وضع إبستمولوجيا منغلقة، لا تقول: إن الجزء يمكنه أن يدلل على الكل، ما يخلق في النفس صفة التأمل والتدبر، ولكن الجزء في ذاته هو الكل، ما يخلق في النفس صفة التمركز حول الذات واعتلال العاطفة والشعور بالتوحد والاغتراب إزاء الكون.

يقول جيل دولوز: »إن المجتمع بصيغته المعاصرة ينتج الفصامات بالقدر نفسه الذي ينتج به المنتجات الاستهلاكية كافة»، هذه الفصامات، والأمراض النفسية عامة، قد جعلت إمكانية التحكم في الجانب السيكولوجي عند الإنسان يسيرة إلى حد كبير. وفي ظل غياب كامل للحقائق العلوية الثابتة للدين التي تنبني عليها فكرة الصواب والخطأ، وفكرة الحدود والمقدس، لا يجد الإنسان إلا ذاته كي يتكئ عليها، وهذا يفتح أمامه إمكانية تحقيق كل التجاوزات، وفي نهاية المطاف، ليس له إلا العلاج السيكولوجي؛ كي يداوي به العواقب المؤلمة لهذه التجاوزات.

اللغة مسكن الوجود

يصور نيتشه اللغة شبحًا جبارًا تمتد يداه نحو البشر لسحبهم إلى أماكن لا يريدون الذهاب إليها! وذلك لأن اللغة أمست منفصلة عن واقع البشر مستغرقة في حيز بعيد لا تعبر عن همومهم. «فما عاد من الممكن التعرف إلى الإنسان في اللغة… لأن اللغة ما عادت تتوافق مع همومه الحقيقية، ولكن مع خواء تلك الكلمات والمفاهيم المستبدة». من هنا تفرق المؤلفة بين الكلمة الحية والميتة، فكل كلمة لها عمق وتوسع. الكلمة الحية لها جذور، كما وصفها القرآن الكريم: «كشجرة طيبة»، أما الكلمات البلاستيكية المصنعة والمسطحة، فلها امتداد أفقي الإيحاءات فقط. إن حياة الكلمة تكمن في المعنى، وخارج حدود ذلك المعنى، تموت.

ثقافة حية وأخرى ميتة

إن كلًّا من «الثقافة» وابنتها المزعومة «الحضارة» لا يمكن لهما أن يمثلا غاية أو قيمة في ذاتهما. بل وجودهما إشارة إلى شيء أبعد منهما يُخدم من قِبَلهما؛ إما دين سماوي أو أيديولوجيا بشرية. والمتدبر لفعل الثقافة الحديثة يجد وكأنها تكتسب حيويتها من كل ما هو مضاد للثقافة التقليدية وصادم لها، كما يظهر في كثير من النتاج الإبداعي الحديث. فهي تُعرَّف سلبًا، بالنظر إلى الثقافة الحقيقية التقليدية، أي بكل ما يهدم تلك الثقافة التقليدية ويخالفها. لكن، أين الحضارة؟

ما من شك في أن أهم شيء لأي ثقافة ذات بال، هو تعريف تلك الثقافة للإنسان. لهذا تحاول المؤلفة تأكيد أنه في ظل غياب المرجعيات، وبعد أن أصبح الإنسان مرجعًا لذاته، اختُزل معنى أن تكون إنسانًا. ترتبط الحضارة بشكل وثيق بالتمدن. أما «الثقافة» فهي مرتبطة بشكل أكبر بالمجتمعات البدائية قليلة التمدن. لكن في الواقع إن سلمنا بهذا الوصف سيخرج علينا فهم «للثقافة» مغاير تمامًا لتلك الفكرة التي تتحدث عن صفات بدائية بسيطة، متأثرًا بالمدرسة الألمانية. فالثقافة، في هذا الفهم، مجموعة من القيم العليا وهي تمثل درجة أعلى من التمدن. ثم تشرع المؤلفة في رصد تاريخ هذين المفهومين، أي «الثقافة» و«الحضارة» والدواعي المجتمعية والمسوغات التاريخية الخاصة بالمجتمعات العربية التي تطلبت إيجاد مثل هذا التصنيف، والأهم، محددات هذا الفهم بالنظر إلى التجربة التاريخية والفكرية الخاصة لأمة العرب. مؤكدة أن مصطلح «الحضارة» فكرة حديثة، عـاجزة عن احتواء التجربـة البشريـة المتنوعـة.

قلق الثقافة

في أي تناول جاد للغرب الأوربي لا بد من النظر بتعمق إلى دور الكنيسة. فقد ربطت المسيحية وعي قبائل الجرمان بالشرق بشكل قدري، حتى أمسى مفهوم الوجهة لديهم  Orientationهو صنو مفهوم الشرق. فهي كلمة مشتقة من كلمة  Orient التي تعني المشرق، فأمسى يقال لمن أضاع وجهته فارتبك : Dis-oriented هذا الدور الذي تقف عنده المؤلفة تفصيلًا، أدى لخلق حالة من الارتباك والقلق الوجداني لدى الغرب؛ بسبب ارتباطه بالشرق وتأثير الدين والكنيسة في تكوينه، وكذلك تبعيته للحضارتين اليونانية والرومانية القديمة.

أنسنة أم فصام؟

كان كثير من مفكري عصر الأنسنة يعملون ضمن ثنائية تتنازعهم، أي واقع الإيمان بالمسيحية في حياتهم اليومية، وفي الوقت نفسه استلهام النموذج الوثني الكلاسيكي كمرجع يحتذى به. فهذه النصوص القديمة إما أن تقرأ بشكل تاريخي ولغوي كنماذج أدبية لأمة وثنية غابرة، تساعدهم في فهم الأناجيل، أو على أنها تمثل نصوصًا حية تحمل معاني وقيمًا تصلح في تشكيل الأنموذج الحياتي الأسمى للقارئ المعاصر. وهذا ما تسميه المؤلفة «الفصام التأويلي» أي ذلك المزيج من التعالي الثقافي الوثني، والحماسة الدينية المتوثبة للانتقام، وما نتج من ذلك جرّاء تبني حكام أوربا هذا المنظور، إلا أن المدهش أننا أمسينا نحن أشد المدافعين عن هذا الطرح، فإن جاز في الحالة الأوربية، فما المنفعة المرجوة بالنسبة لنا؟

الأميرة المخطوفة

حينما نحاول فهم ظاهرة الحضارة الغربية المادية الحديثة، غالبًا، لا نبحث في حقيقة جذورها الفكرية ومكوناتها العرقية. الافتتان بها جائز، كما هي الحال في العديد من التيارات الفكرية التي تقع أسيرة الفكر الغربي، لكن المهم، وهو ما تركز عليه المؤلفة، ألا يكون لدينا، نحن العرب، منطق ومنطلق حضاري موازٍ ومختلف، وذلك على الرغم من التجاور الجغرافي والتداخل الحضاري والتقاطع الفكري. وعلى الرغم من أن التماهي مع أطروحات «تأليه الإنسان» وفكرة «الفردوس الدنيوي» أتت متأخرة إلى العالم العربي، وتبناها كثير من النخب الفكرية، فإن المشكلة حدثت عندما غاب التمييز بين واقع الانهزام السياسي الساحق أمام تلك القوى، وحقيقة وجود مرجعية فكرية أصيلة متينة، ذات بناء أخلاقي روحي مقنع.

العرب ورثة اليونان وترجمان الحضارات

يزعم كثير من مفكري الغرب أن العالم العربي لم يكن سوى ناقل للحضارة الإغريقية، وهذا تقرير مجحف؛ لا يقبل به أحد اليوم. بل إن بلاد العرب كانت قبل دخول الإسلام تمثل حواضن للفكر الإغريقي، وبعد الإسلام قدمت الحضارة العربية قراءة منتقاة وعظيمة لإرث الإغريق أعادت إحياءه وصححت عليه، بعد طول سباته. لم تهتم الحضارة العربية الإسلامية بأساطير الإغريق أو المسرح ولا بإرث الديانات، بل انصب اهتمامها على الفلسفة والفكر بشكل كبير، ومثلت بذلك يقظة فكرية مكنتها من الأخذ والإضافة من هذا الإرث العظيم وإليه.

لماذا ومتى حذفت العربية؟

على الرغم من أن النقاشات حول توصيف حضارتنا بالإسلامية والعربية لم يتوقف حتى الآن، فإن المؤلفة لا تتعرض إليها بشكل مباشر، بل تركز على مسألة أخرى تتمثل في أنه لا توجد حضارة أمست تسمى بدين في يومنا هذا إلا «الحضارة الإسلامية»، وهي لا ترى في التمسك به عيبًا بأي حال من الأحوال، بل هو شرف لأي فرد يندرج ضمن هذا التعريف، ولا ننسى أن الإسلام خرج من جزيرة العرب؛ فالشرف الأكبر في ذلك للعرب، كما أنه لا عز للعرب من دون الإسلام. لكن، إذا نحن سلمنا بمنطق ادعاء مفهوم «الحضارة» وسلمنا بمحددات هذا الوصف وأهمية هذا المفهوم، الذي بفضله وعلى أساسه تصنّف الأمم والدول، فلا بد لنا، من طرح السؤال: لماذا؟ بل، متى حُذف وصف «العربية» من مصطلح «الحضارة العربية الإسلامية»؟

أخيرًا، إذا كان ثمة خطاب ممتد منذ بداية الألفية الثالثة يدعو إلى تجاوز مسألة الهوية وتعويضها بالإنسانوية، التي هي عبارة عن «هويات هجينة»، أو إذا شئنا استخدام لغة إدوارد سعيد «هجنة الهويات»، فإن كتاب «أمة على رسلها» يقف في الجهة المضادة من هذا الخطاب ويفتح النقاش من جديد، بلغة هادئة وبسيطة، حول هذا المفهوم بتحدياته الراهنة وأبعاده المختلفة.

عمارة أنطونيو غاودي بين الحداثة والمقدس

عمارة أنطونيو غاودي بين الحداثة والمقدس

لم يكن المعماري الإسباني الشهير أنطونيو غاودي، أحد الأضلاع الرئيسة للعمارة الحداثية، امتدادًا لمدرسة معمارية معينة، بل شكل في ذاته مدرسة مستقلة فريدة، ونقطة تحول فارقة في عالم التصميم المعماري. استطاع غاودي أن يتجاوز التقاليد المعمارية السائدة ويخلق مزجًا مميزًا بين الطابع الروحاني للعمارة وتعاليم الحداثة التي بلغت أوجها، وقتما كان غاودي يمد العالم بتصاميمه الهندسية، التي ما زالت حتى الآن تشكل المعالم البارزة لبرشلونة.

أنطونيو غاودي

في المذكرات التي تركها فنان السوريالية الأشهر سلفادور دالي، أحد المعاصرين لغاودي وأحد المنتمين لبلدته، نقرأ: «ما أحبه في غاودي هو حيويته. إن ذهنه في أطراف أصابعه ولسانه، إنه قوة هائجة. تكشف تصميماته المعمارية التي تبلغ أوجها في «ساغرادا فاميليا»، «العائلة المقدسة»، عن حساسية هائلة من يد تمتلك أحاسيس دبقة… لقد ألف غاودي باليتة متعددة الألوان لتتواصل مع المقياس البوليفوني. كل شيء في عمله، الضوء، والسكون، فضلًا عن الصمت، ينقلنا إلى مكان آخر». يلمس دالي، في نصه هذا، أحد أبرز المعالم الخاصة بأسلوب غاودي المعماري؛ ذلك المزج الفريد الذي أقامه بين تعاليم الحداثة والطابع الروحاني المقدس.

غير أن هذا الاحتفاء بغاودي، الذي نجده في مواضع عدة من مذكرات دالي، يجعلنا نتساءل عن ملامح السوريالية في تصاميمه المعمارية! في الواقع إذا اعتمدنا تعريف السوريالية بأنها «وضع العناصر المألوفة في نظام أو سياق غير مألوف»، لكان غاودي بالتأكيد أحد روادها. وعلى الرغم من أنه مارس عمله، قبل تدشين السوريالية كحركة بسنوات عدة، فإنه يبدو منتميًا لها بأثر رجعي! فأكثر ما يثير الدهشة في أعمال غاودي ليس فقط «طابعها المفارق» الذي يشعر الرائي كأنه في إحدى قصص الخيال العلمي، وليس فقط تطبيقه لمبدأ «انسياب» و«سيولة» المواد الصلبة، وإنما لتعمده وضع «العناصر المألوفة في مواقع غير مألوفة وبطريقة غير متوقعة!».

أهم إنجازاته

أنطونيو غاودي أحد أشهر المهندسين المعماريين الإسبان. وُلِدَ في مدينة رويس في منطقة كتالونيا عام 1852م وتوفي في برشلونة عام 1926م. تعكس أعماله أسلوبًا معماريًّا مميزًا وفريدًا من نوعه. وقد تركزت معظم أعماله في برشلونة، وكان من أهم إنجازاته فيها كنيسة «ساغرادا فاميليا». يظهر في معظم أعمال غاودي الشغف الكبير تجاه ربط العمارة بالطبيعة والمقدس. يدمج في تصميمه مجموعة من الحِرَف التي كان يتقنها، مثل: الخزف، والسيراميك، والزجاج الملون، وصهر الحديد والنجارة. وقد قدم غاودي تقنيات جديدة في معالجة المواد مثل بعض أنوع الفسيفساء المكونة من بقايا القطع الخزفية.

بعد سنوات عدة، وتحت تأثير العمارة القوطية الجديدة، أصبح غاودي جزءًا من الحركة الكتالونية الحداثية، تلك التي بلغت ذروتها في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. وقد جاء أول مشروعاته متمثلًا في تصميم أعمدة إنارة للرويال بلازا في برشلونة، أكشاك جرائد Girossi لم تكتمل، وبناء الجمعية التعاونية لعمال ماتارو. وفي عام 1883م تولى غاودي مسؤولية مشروع لبناء كاتدرائية في برشلونة عُرِفت باسم كاتدرائية «العائلة المقدسة». وقد غَيَّرَ غاودي التصميمَ الأوليَّ كليًّا وأشبعه بأسلوبه الخاص المتميز. ومنذ عام 1915م حتى وفاته كرس نفسه كليًّا لهذا المشروع.

كان معرض برشلونة العالمي المقام في عام 1888م، واحدًا من الأحداث الكبرى في تلك الحقبة في برشلونة، وقد مثّل نقطة تحول رئيسة في تاريخ الحركة الحداثية. حيث عرض أبرز المهندسين المعماريين أفضل أعمالهم، بما في ذلك غاودي، الذي عرض المبنى الذي صممه لشركة النقل عبر المحيط الأطلسي. في عام 1891م، سافر إلى مالقة وطنجة لفحص موقع مشروع، كان قد طلبه منه الماركيز الثاني لكومياس لصالح البعثات الكاثوليكية. وعلى الرغم من أن المشروع لم يُنَفَّذْ، فإن الأبراج التي صممها غاودي للبعثات خدمته كنموذج لأبراج كنيسة «ساغرادا فاميليا» في برشلونة.

كان للأسبوع المأساوي عام 1909م تأثير عميق في شخصية غاودي؛ إذ لازم غاودي منزله في «غويل بارك» في هذه المدة المضطربة. وقد تسبب جو العداء للدين والهجمات على الكنائس والأديرة في قلق غاودي على سلامة «ساغرادا فاميليا»، لكنّ المبنى نجا من التضرر. وفي عام 1910م أقيم معرض في القصر الكبير في باريس خاص بعمله، وذلك في أثناء الصالون السنوي لجمعية الفنون الجميلة في فرنسا. وقد شارك غاودي، بناءً على دعوة من كونت غويل، وعرض سلسلة من الصور والخطط والنماذج الجصية المصغرة للعديد من أعماله. وعلى الرغم من أن مشاركته جاءت متأخرة، فإنه حصل على تعليقات جيدة من الصحافة الفرنسية.

على المستوى الشخصي، تَعرّض غاودي في عقد العشرينيات لأوضاع بالغة الصعوبة، منها: وفاة ابنة أخته، ووقوع أزمة اقتصادية حادة أوقفت العمل على كنيسة «ساغرادا فاميليا» عام 1915م، ووفاة صديقه جوزيبي توراس أسقف «فيك»، واضطراب العمل في «كولونيا غويل» عام 1917م، ووفاة صديقته وراعية أعماله إيزابيل غويل عام 1918م. ولربما كانت هذه المآسي سببًا في تكريس نفسه كليًّا لبناء كنيسة «ساغرادا فاميليا» منذ عام 1915م؛ إذ وجد في عمله ملاذًا للنسيان. وقد اعترف غاودي لمعاونيه قائلًا: «لقد مات أصدقائي الأعزاء؛ ليس لديّ عائلة أو زبائن، لا ثروة ولا أي شيء. الآن أستطيع أن أكرس نفسي تمامًا للكنيسة». كرس غاودي السنوات الأخيرة من حياته بالكامل لـ«كاتدرائية الفقراء»، كما كانت تُعرف، والتي تلقى المعونات من أجل الاستمرار بها. وفضلًا عن تفانيه في هذا الأمر، فقد شارك في عدد قليل من الأنشطة الأخرى، معظمها كان مرتبطًا بإيمانه الكاثوليكي.

روحانية غاودي

في مقالته عن أصل العمل الفني أشار الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر إلى العلاقة التي تجمع العمارة بالمقدس. يقول هايدغر: «إن المبنى لا يصوّر شيئًا، وإنما ينتصب هناك في وسط الوادي المُتشقّق الصخور. وهو ينطوي في داخله على صورة أو شخص المقدس، وهو في هذا يجعله يظهر بوضوح في الفناء المقدّس من خلال الرواق المفتوح». ويعني ذلك أن المبنى المعماري تتكشف فيه حقيقة العالم المقدس عبر الوسيط المادي الذي فيه وعليه. وهكذا تكشف الأعمال المعمارية العظيمة، وفقًا لهايدغر، عن شكل ما من أشكال الإيمان والعقيدة الإنسانية، كما تتجلّى في رؤية شعب ما، أي رؤية الإنسان للمقدس أو رؤية العالم المقدس كما يتجلّى للإنسان. وهذا هو سرّ الإحساس بالرهبة الذي يلازمنا عند مشاهدة وتأمّل دور العبادة، حيث يتكشف لنا فيها أسلوب من أساليب حدوث حقيقة العالم القدسي، ومن دون هذا المعنى الذي به يجسد الصرح المعماري عالمًا يخلقه الفنان، لن يكون هذا الصرح سوى كومة من الحجارة، أو مخلّفات أثرية لعصر من العصور. والخلاصة لدى لهايدغر أن يكون هناك معمار، يعنى أن ثمة إرساءً لعالم ما يتشكل من خلاله. إذا طبقنا هذا المعنى على عالم غاودي المعماري، فماذا يجسد لنا هذا العالم؟ تستلزم الإجابة عن هذا السؤال، التوقف بالتحليل عند بعض من أهم أعماله.

كنيسة ساغرادا فاميليا

هذه القطعة الفنية لغاودي هي مزيج من ثلاثة أنماط معمارية: القوطية الإسبانية المتأخرة، والباروك، والآرت نوفو (الفن الجديد). بدأ البناء في عام 1882م، بعد أن استغرق غاودي عشر سنوات في مرحلة إعداد المشروع، ثم عمل عليه حتى وفاته التي حالت دون إكماله. لكن الحكومة الإسبانية أكملت العمل في المشروع وفق المخطط الذي وضعه غاودي وقد حددت عام 2026م تاريخًا لافتتاحها في الذكرى المئوية لوفاة غاودي.

التصميم الخاص بكنيسة «ساغرادا فاميليا» يجعلها الكنيسة الأولى في العالم من حيث جدارة التصميم وجدته. كل جزء داخل البناء يقص حكاية كنائسية تاريخية عبقرية، حيث تفصح النقوش عن دلالات عميقة مرتبطة بحياة المسيح. جاء المسقط الأفقي للكنيسة فريدًا من نوعه، متسمًا بنوع من التعقيد، حيث الممرات المزدوجة، والبوابات والواجهات والمداخل المتعددة التي تجسد صورًا إعجازية مختلفة. أما الواجهات، فثمة ثلاث من أعظم الواجهات العالمية؛ واجهة المهد، وهي تتجه إلى الشرق في شموخ كبير، وتأتي بعدها واجهة الآلام، وهي تتجه إلى الغرب، ثم أعظم الواجهات وأكبرها جهة الجنوب؛ بوابة المجد.

عند واجهة المهد سنلحظ المسيح في بداية ظهوره؛ مراحله الأولى وكيفية خروجه إلى العالم. أما واجهة الآلام فهي تعبر عن الهزيمة والشخصيات المعذبة، والأيقونات الخاصة بتعذيب المسيح. تجتاح الأبراج كافة هذه الواجهات بنوع من الجلال والعظمة التي تمنح النقوش والرسومات تعبيرات جليلة مقدسة. أما الواجهة الثالثة؛ واجهة المجد، فهي الأعظم والأكثر تركيبًا؛ لأنها تعبر عن طرق الصعود إلى الله، والأشكال المختلفة للحياة الأخرى، من نعيم وجحيم.

كازا ميلا

من أشهر أعمال غاودي التي تجسد أسلوبه المعماري الخاص. في عام 1969م حصل بيت ميلا على اعتراف رسمي من الحكومة، بمعاملته كأثر فني ومعلم تاريخي مع ضرورة المحافظة عليه. وفي عام 1980م تعرض المنزل لشيء من التدمير، ومن ثم أعادت الحكومة ترميمه من أجل المحافظة على شكله وألوانه الأصلية.

صُمِّمَ المنزل على شكل قوسين يتحدان من الأطراف، ليكونا عبارة عن مبنى واحد على شكل دائري مجوف من الوسط، وهو ما يميزه من بقية تصميمات المباني الأخرى الموجودة في أوائل القرن العشرين. وقد ساعد هذا التصميم على دخول ضوء الشمس لجميع الغرف. هذا إلى جانب أن الواجهة المعمارية للمنزل مصنوعة من الزجاج، وقد أدى ذلك إلى أن ينال تصميم المبنى انتقادات لاذعة من كل مهندسي البناء آنذاك، لدرجة دفعت بعضًا منهم إلى تقديم احتجاج للحكومة؛ بسبب بنائه بهذه الطريقة المختلفة.

يعد هذا المنزل أول منزل بُنِيَ في إسبانيا، يمتلك مرآبًا للسيارات تحت الأرض. كما يتميز المنزل بوجود أعمدة حديدية مميزة تتخذ شكلًا مقوسًا، استخدمها غاودي في تشكيل شرفاته المموجة، ولم يَبْنِهِ بأسلوب الحوائط الحاملة، الذي كان منتشرًا آنذاك.

كازا باتلو

يظهر الخيال الخصب لأنطوني غاودي بقوة في أحد أعظم تصاميمه المعمارية الفنية، التي تشبه قصيدة الشعر في هذا المبنى المعروف ببيت باتلو. هذه التوليفة الفريدة من أشكال الحيوانات، والانحناءات الراقصة، والأشكال المستوحاة من الهيكل العظمي للإنسان، إضافة إلى الأسلوب المتفرد في استخدام الألوان اللامعة من الخزف والزجاج. وقد اشتمل هذا الطراز على العناصر التي أسست ما يعرف باسم الأرت نوفو، وهي المدرسة التي ظهرت أواخر القرن التاسع عشر في أوربا، وركزت على استلهام الأشكال المتعرجة من النباتات والطبيعة داخل الأعمال الفنية. لقد استكشف غاودي في هذا المشروع حبه للأشكال المتدفقة والألوان، ليجسد عن طريقه نوعًا من التناقض الحاد وسط الأشكال الصارمة التي تحيط بها.

تكشف الواجهة الأمامية للمبنى عن تصميم لافت وألوان خاطفة للأنفاس، يعملان معًا على تنشيط الخيال واستحضاره لقصص ألف ليلة وليلة والأحلام الطفولية الخيالية. توجد القطعة النحتية الكبرى للبناء في الواجهة، التي تشكل حدود الشرفات والإطار الذي يحدد المدخل والذي يشبه عظمة الترقوة، التي تحافظ على لغة «الجسم» داخل التصميم. وكلما صعد الرائي بنظره لأعلى المبنى، يستقبله هذا التكوين المختلف والمهيمن للسقف الذي يشبه جلد الزواحف.

كان غاودي ظاهرة فنية مذهلة في عالم التصميم المعماري. وما زالت أبنيته، التي غدت من المعالم البارزة لمدينة برشلونة، شاهدة على عبقريته. وما زال كل من يراها يشعر بأنه في عالم خيالي منفصل عن المقاييس الواقعية التي يعرفها، وعن الأطر الأسلوبية السائدة في عالم التصميم المعماري. وقد استطاع غاودي بعبقريته تلك أن يختطّ لنفسه أسلوبًا ما زال يشكل حتى وقتنا الراهن مدرسة في ذاتها؛ مدرسة ترفع شعار الوحدة بين العمارة والطبيعة والمقدس.