تشانغ جيه: رؤية واسعة ومهيبة إزاء الواقع والتاريخ واستدعاء الماضي المنسي

تشانغ جيه: رؤية واسعة ومهيبة إزاء الواقع والتاريخ واستدعاء الماضي المنسي

في الحادي والعشرين من يناير عام 2022م وافت المنية الكاتبة الصينية الشهيرة «تشانغ جيه» في الولايات المتحدة الأميركية، بعد معاناتها المرض، عن عمر يناهز الخامسة والثمانين. ولدت تشانغ جيه في السابع والعشرين من إبريل عام 1937م في بكين، وتعد من كاتبات الصف الأول، وقد لمع اسمها في سماء الأدب الصيني، وجسدت تيار أدب الحقبة الجديدة في الصين. حصدت العديد من الجوائز الأدبية المحلية والدولية، وترجمت أعمالها إلى لغات أجنبية عدة. من أهم أعمالها الأدبية: «طفل الغابة»، و«حب لا يُنسى»، و«اللغز»، و«الزمرد»، و«صمت الكلمات» وغيرها من الأعمال. وإلى جانب الكتابة تمتعت تشانغ جيه بموهبة فنية أخرى هي موهبة الرسم الزيتي والتصوير.

عن أعمالها الفنية كتبت تيه نينغ، رئيس اتحاد الكتاب الصينيين: «تتبدى في أعمال تشانغ جيه رؤية واسعة ومهيبة إزاء الواقع والتاريخ، والأمة والثورة، والمجتمع والثقافة، وبصيرة نافذة فريدة من نوعها، وتتسم أعمالها بالتصوير الدقيق للأحداث بشكل حسي رائع، كما يتجلى في أعمالها استدعاء الماضي المنسي بإرادة لا تعرف التراخي. كل هذه الأسباب تدفع القراء دفعًا ليكنّوا لها كامل الاحترام والتوقير. ثمة روح لطالما زخرت بها أعمالها، بينما هي كما الجليد والنار؛ رقيقة وواضحة، تلقائية وصارمة، لاذعة وهشة، انطوائية ومتواضعة.. هي ظاهرة لن تتكرر.. هي لون مبهم لا يفصح عن ماهيته».

وعن أعمالها الفوتوغرافية التي نشرت مؤخرًا في كتاب «كلب شريد» ويحوي على مئة صورة فوتوغرافية، التقطتها تشانغ جيه خلال أسفارها بمفردها، قالت تيه نينغ: «لا تحسب تشانغ جيه أن هذه الصور صورٌ فوتوغرافيةٌ حقيقيةٌ، كما أنه لم يتسنَّ لها أن تصطحب معها معدات تصوير احترافية، فكان كل ما تحمله في حقيبتها مجرد كاميرا تصوير بدائية الطراز.. تتسم صورها الفوتوغرافية بالبساطة والتلقائية، وتتخللها روحٌ من الحرية والانطلاق والتحرر، وتغمرها روح الدعابة والمرح. انطوت أعمالها الفوتوغرافية على إبداع أدبي، وحس جمالي وذوق فني عال، وهذا بدوره جعل لقطاتها التصويرية تتمتع بروح حماسية، ودفعها لتولي اهتمامًا بالمناظر الطبيعية الخلابة البسيطة. وقد شغفها حب التصوير وراحت تمارسه بحرية تامة، واتسمت صورها بحرية مطلقة».

كان الرسم هو مهنة تشانغ جيه الثانية. عن هذه المهنة تذكر نينغ: «وقد اختارت تشانغ جيه الرسم الزيتي، وتلقت دروسها على أيدي أساتذة متخصصين وبطريقة احترافية، وهذا بدوره يشير بوضوح إلى موقفها الجدي في تعلم الرسم. ورغم أنها لم تخضع لتأثير العديد من التيارات والمدارس الفنية، لكن يتبدى لنا أنها تميل نحو التعبيرية أكثر من الواقعية؛ فرسمت مياهًا عميقةً، وسُحبًا داكنة، وأزهار الباتولا البيضاء، وبيوتًا عتيقة، وسيارات قديمة الطراز، وغروب الشمس، كما رسمت جوادًا مجنحًا، ونمرة ثلجية، وجبالًا نائيةً… وتتبدى في لوحاتها ثقة ومساواة تأصلت عميقًا بين الإنسان والحيوان، وبين الحيوانات والمشاهد الطبيعية».

وحول هذه التجربة الإبداعية المتنوعة تختتم تيه نينغ القول: «ثمة أحداث لا يمكن أن يسطرها قلم الكاتب، لكن ما من مستحيل تحت فرشاة الرسام. وهنا يكمن سحر الرسم، ويفسر سبب ترك بعض الكتاب المتميزين بصفة مؤقتة الكتابة وحمل فرشاة الرسم. وفي ظل قيود اللوحات الورقية وأصفاد أطرها الخشبية، يتضافر، في حرية مطلقة، الرسم والأدب والتصوير لتشانغ جيه، ويتردد صداهم الفني من آخر المدى. دعونا نقرأ في رويةٍ لوحات تشانغ جيه. في نهاية المطاف، لطالما كان تذوق الفنون والآداب، من أجل فهم واستيعاب أنفسنا بشكل أعمق، والتنقيب بوضوح عن الإحساسات الساكنة والألوان الغافية منذ سنين في أعماق أرواحنا، هو المعنى الخفي للعالم البشري الكامن في الآداب والفنون».

بهذه الكلمات قالت تشانغ جيه وداعًا

في أكتوبر عام 2014م، أُقيم معرض اللوحات التشكيلية الخاص بتشانغ جيه بمتحف الأدب الصيني الحديث في العاصمة بكين، وكانت الليلة الأخيرة التي التقت فيها الجماهير والأصدقاء، إذ ألقت خطاب الوداع الأخير في حفلة المعرض، ونشر العدد السابع من مجلة «أدب العصر» عام 2015م.

هنا مقتطفات منه:

لطالما تعثرت خطاي على دروب الحياة، فمنذ أن قدرت يداي على حمل نصف دلو من الماء، تحتم عليَّ أن أتصرف كما رجل وامرأة في آن واحد. وبعدما كبرت تعين عليَّ أن أحتمل عبء كوني إنسانة، بيد أن هذا المعرض الفني الذي ربما يكون آخر حدث جلل أشهده في حياتي، لم يدعني القائمين عليه أن أبذل حتى القليل من الجهد… وشخصٌ مثلي قد أنهكته الليالي وأرهقته الأيام، وقضى طيلة حياته ما بين كد وشقاء، عندما يصادف مثل هذه الدعة، ومثل هذا التدليل، فما عساه الفؤاد أن يشعر؟ وهنا تقف كلماتي عاجزة أمام حسن الصنيع والعطاء الموفور!

إذا كنت من المعجبين بأعمالي الفنية، ستغمرني السعادة، أما إذا لم تَرُقْك أعمالي، وهاجمتها بكلمات لاذعة جارحة، فلن أبالي، فأنا في اللحظة الآنية، قد وصلت إلى ميناء السلام، وأعيش مع الذات حالة من الوئام. قبل سنوات طوال، ذات يوم خط حبر قلمي نصًّا قصيرًا، ذاكرًا أنه عندما أغادر هذا العالم، أرجو من أعماق قلبي أن أحتفظ فقط بتلك الأشياء الحلوة على صفحة ذاكرتي، وأمحو منها كل ذكرى أليمة قد عشتها. وقد تبدو هذه الكلمات يسيرة على الورق، لكنها عسيرة في الواقع. قبل سبع سنوات أو ثمان سنوات، كنت أغفو حتى منتصف الليل، وفجأة أنهض من نومي، وأجلس لبعض الوقت، وأشرع أسكب للعتمة مر شكواي وإحساسي بالضجر، ثم أعود وأستلقي من جديد، لكن الآن قد تبدد شبح الخوف، وسكن القلب الواجف.

أنا لا أعتقد في أي ديانة، ورغم هذا أومن ببعض الأمور الغريبة. كنت أجلس دومًا على مقعد عالٍ تحت شجرة، وريح تهب لا أعرف من أي صوب قد جاءت. كنت أحسب أن تلك الريح تمحو ذكريات الماضي البغيضة، والشائعات والافتراءات والجراحات المريرة، وتُبقي فقط على ذكريات حب الأصدقاء، ودفء مشاعرهم، ومساعداتهم السخية، واهتمامهم البالغ، وأشياء حلوة كثيرة. ولطالما كنت أقابل جروًا اسمه «لوسي»، له عينان صافيتان، اعتاد أن يلوي عنقه ويحدق النظر بي طويلًا. عندما كان يتطلع إليَّ بتلك العينين الصافيتين، كنت أشعر وكأنما أغسل روحي بماء طهور. كم أنا ممتنة إلى هذا القدر العطوف الذي منحني هدية عظيمة، قبل أن تسقط آخر ورقة في حياتي وأمضي إلى هناك. ذاكرتي لا تنسى تلك الأشياء الحلوة، وخلافها سوف يمضي إلى ذاكرة النسيان.

وآخر ما أرغب في قوله، هو أنني تركت وصيتي في مكتب للاستشارات القانونية، وقد اشتملت على ما يلي: أولًا، لا أريد نعيي في الجرائد، وثانيًا، لا أحد يودع جثماني، وثالثًا، لا يقام حفل تأبين على روحي. كما أنني أرجو من الأصدقاء، ألا يكتبوا مرثيات من أجلي، ويكفيني فقط أن تحمل قلوبهم تشانغ جيه التي كانت في البارحة صديقتهم… أما هؤلاء الذين لا يكفون عن سبابي بكلمات جارحة، فأرجو منكم ألا تكفوا عن كلماتكم المسيئة، فربما يتسنى لي أن أساهم، ولو بجزء بسيط في تبديد شعوركم بالوحدة وإحساسكم بالملل.