جون ميشيل مولبوا: أكتب كثيرًا بالأذن بإنصاتي في الوقت نفسه لما تفكر فيه وتغنيه الكلمات

جون ميشيل مولبوا: أكتب كثيرًا بالأذن بإنصاتي في الوقت نفسه لما تفكر فيه وتغنيه الكلمات

وُلد جان ميشيل مولبوا في مونبليار سنة 1952م، وبدأ النشر منذ سبعينيات القرن الماضي. وهو ناقد أدبي في مجلة la Quinzaine littéraire، ومؤسس مجلة le Nouveau Recueil، وكاتب مقالات، وأستاذ جامعي للشعر الحديث في جامعة باريس العاشرة- نانتير. عرف في مجموعِ أعماله التي تزيد على خمسة وأربعين مؤلفًا، لكنه يظل قبل كل شيء شاعرًا. حظيَ دائمًا بمكانة خاصة وحضور جميل في كل الأنطولوجيات تقريبًا، وتُوَجهُ له بانتظام دعوات من الخارج، فهو من الوجوه التي يحسب لها في جيل ما بعد الحرب.

نصوصه تحتفي بموسيقا وغنائية عالية. كرس مجمل أعماله البحثية لمفهوم الغنائية التي ناقش فيها أطروحة الدكتوراه المنشورة سنة 1987م، بعنوان «مفهوم الغنائية: التعريف والطرائق». يعود فيها إلى فحص أصل مصطلح الغنائية، ودراسة الأشكال الشعرية والحداثية في أعمال شعراء كبار: ريلكه، بودلير، رامبو، مالارميه. عزز هذا البحث بتأليف العديد من الأعمال النقدية عن الموضوع، نقدًا: «صوت أرفيوس» (1989م)، «عن الغنائية (2000م)، وشعرًا: «الشعر رغمًا عن كل شيء» (1996م)، «وداعًا القصيدة» (2005م). كما أصدر العديد من الأعمال السيرية والشعرية: «لا تبحث أبدًا عن قلبي» (1986م)، «حكاية أزرق» (1992م)، «خطوات على الثلج» (2004م)، «السنونوة الحمراء» (2017م). تُرجِمَت أعماله إلى لغات عدة، وحصل على جوائز عدة مثل جائزة ماكس جاكوب سنة 1987م عن مجموعته «لا تبحث أبدًا عن قلبي»، وجائزة لوي بارتو عن كتابه النقدي «وداعًا القصيدة»، وجائزة روجيه كوفالسكي سنة (2006م) عن مجموعته «السنونوة الحمراء».

جرى هذا الحوار بعد إصداره الأخير «شارع الزهور» عن دار Mercure de France/.

مفهوم الغنائية

  بعد عملك لسنة Locturnes 1987 (يصعب ترجمة هذا العنوان لتعذر إيجاد مصطلح دقيق بالعربية، علمًا أن الشاعر يراهن على لعبة كلمة Nocturne التي معناها «ليلي») الذي تشابكت فيه نصوص نثرية قصيرة وأبيات شعرية، وقع اختيارك على قصيدة النثر، تنشرُ اليوم كتابًا يقول على ما يبدو: إن الشعر كان دائمًا يسكن كتابتكَ ونوستالجيته تخترق ببليوغرافيتك.

  الشعر بالفعل يسكُن مجموعاتي الشعرية. منتظم أو لا، فهي وحدة القياسِ الأَولِي للكتابةِ الشعرية. أنا مع كلمة مالارميه التي يقول فيها: «البيت الشعري هو كل شيء، بمجرد ما نَكتبُ» هو ما يجعل الإيقاعَ، والنفَسَ محسوسَين، فضلًا عن الاندفاعات الغريزية للإحساسات، للإدراكات والأفكار. إنه يبدع بِلوْرات صغيرة لغوية حيث كل الأشياء تسمح لنفسها بذلك. فقد كانت هنا في نصوصي النثرية «الشعرية» حيث لا يتطلب الأمر بالضرورة الحفر عميقًا للعثور عليها. ومن ثم، فإن إيقاع 8+6 أو 8+9 يشتغل بصمت خفيض في نثر «تاريخ الأزرق»، يجمعُ كتاب «شارع الزهور» باقات شعرية بسيطة كانت في عدد كبير منها اللحَظَات الأولى في نصوصي النثرية. فقد كان هناك مثل أثر دائرة كهربائية ومتشابكة؛ إذ أنطلق من اندفاع خفي هو البيت الشعري، فأعبر بوساطة النثر، وأعود مجددًا إلى البيت الشعري.

  هل أنتَ إذن متفِقٌ مع التعريف الذي أعطاه فاليري «القصيدة، هذه الحيرةُ من الترَددِ الموسعة والممتدة بين الصوتِ والمَعنى»؟

  نعم، أكتبُ كثيرًا بالأُذن، بإنْصَاتي في الوقتِ نفسه لما تفكر فيه وتغنيه الكلمات وهي تجتمع شعرًا ونثرًا حسب الصوت والمعنَى؛ إذ كلما كان الصوت مهيمنًا، اقتربت من الشعر الذي يعد عند العديد من الناس غرفة صدى. لكن ما هو مهم أيضًا التوسيع والامتداد الخاص بـ«التردد» (الحيرة) الذي أثاره فاليري: فما يوضع في مكان الصفحة ليس خِطَابًا؛ فثمة قائد لأوركسترا غير مرئي يختفي في الصفحة!

  عندما بدأتَ في نشر عدد من المفاهيم التي لا تقر بمصداقيتها الميثولوجيات الخاصة بالإنسانِ الجديد، الإنسان الأبدي، والشعر، يبدو أنه كان من المستحيل الدفاعُ عنها. لقد دَعمَكَ موريس نادو الذي كان ناشرك الأول، فصعد نجمك بعد ذلك، بفرضك تصورًا آخر للغنائية.

  كنتُ طالبًا، حينما شرعتُ في تأمل الغنائية التي ظلت مفهومًا ملتبسًا بشكل نسبي: فحاولت جاهدًا توضيح ما غمض منها، وقد خصصتُ أطروحتي للدكتوراه التي ناقشتها سنة 1987م بجامعة نانتير، ولكن إذا كان هذا المفهوم قد نال اهتمامي، فلأنه كذلك أمْرٌ يخص كتابتي، كنت أرغب في ضخ بعض الطاقة فيها، فهو تورط ذاتي، وعلاقة دينامية تربطني مع الواقع الملموس للعالم.

  إذن لم تكن الغنائية لديك مرادفًا للنزعة الوجدانية (العاطفية) قط؟

  في الماضي القريب، فمن جهة أندريه بروتون وهو يدعو إلى «السلوك الغنائي»، أو كراك Gracq وهو يثير «المنحدرات المحمومة» للغنائية، التي كنت أشاهدها. لكن هذه الكلمة (الغنائية) تستحق الذكر عند الحديث عن طاقة الشر عند بودلير، أو الرؤى الغريبة لرامبو التي كانت ترفضُ بقوة «الشعر الذاتي». وفي وقت قصير، خطر ببالي، مفهوم «الغنائية النقدية» الذي خصصتُ له بحثًا، نشرته دار نشر José Corté سنة 2009م. مفهوم يدفع إلى وجود فكرة انعكاسية غنائية تتشكل انطلاقًا من أزمات هي كذلك في أزمات البيت الشعري عند مالارميه كما أزمات الذاتية عند فرلين. ليست الغنائية ثَمَالَةَ لُغَةٍ، بل ربما قد تكون قوة اختبار، وكثافة فِكر يعمل مباشرة على تشغيل نوابض اللغة.

الحميمي والترجمة ومصير اللغة

  أين يبدأ وأين ينتهي «الحميمي الجواني» لديك؟

  سؤال شاق! جوهري! سأجيب بوساطة صورة تتبادر إلى ذهني: الحميمي هو كهف، أو متاهة، حيث أجمع فيها خيوطًا متشابكة بقدر مستطاعي؛ لكي أجد نفسي فيها، وألا أَتُوهُ كثيرًا. ثمة ظل أكثر من ضوءٍ، أشياءٌ كثيرةٌ تنفلِتُ مني، تحدد في جزء كبير علاقتي مع الآخر؛ لأن الحميمي يذهب إلى هذا الحد، إلى حد القدرة على قول «أنت»، إلى حد حميمية تحيا هي أيضًا في الكتابة: ألسنَا نحنُ مرتبطين بوساطة ما هو أكثر عمقًا، أقل مرئية، والمجهول في أن يظل كل واحد لذاته؟

  هل يشكل فعل ترجمة أعمالكم إلى لغات عدة إضافة ما لتأملكم؟

  أقف حائرًا أمام ترجمات كتُبِي. حتى لو أنني أقرأ بالإنجليزية والإسبانية، فضلًا عن الألمانية ولو قليلًا، يبدو أنني لا أعرف بما فيه الكفاية هذه اللغات لتقدير مدى ملاءمتها. ومع ذلك، فإن تبادل الآراء مع المترجمين هي مهمة جدًّا عندما يلزم الحسمُ في اختيارات بتفاصيل معينة: فعمل «السنونوة الحمراء» الذي ترجمه مؤخرًا إلى اللغة الإسبانية إيميليو سبوزيتو نتجَ عنه حوارٌ حقيقي، مثل الترجمة إلى الألمانية لكتاب «تاريخ الأزرق» بوساطة مارغريت ميليشر. لكن، في المجموع، أرى كُتُبي تترجمُ كموضوعات أجنبية. وهذا الأمر حقيقي بالتأكيد، بالنسبة لترجمات إلى لغات أجهلها كلها، مثل اللغة اليابانية! ومع ذلك، فأنا سعيد بأن تصل النصوص إلى قراء ثقافة أخرى. وهذا يؤَكد فكرة عزيزة منسوبة لفينيي ومندلشتام، وسيلان وآخرين، تقول: إن القصيدة هي «قارورة في بحر».

  دافعت وتدافع عن شعريات متعارضة جِدًّا. كيف تصل إلى دعم تلك الشعريات الـ«أجنبية»؟

  أنا معنيٌّ بكل ما يحدُث في الحقبة، ولا يمكن أن أكون غير مبالٍ بمصير اللغة التي نتكلمُ ونكتب بها. فمختلف أنظمة اللغة تهمني، تسائلني، ولي حساسية نحو التشكيلية القصوى للشعر، قادرة على أن تفسح المجال لظهور خطابات أكثر بساطة وأناقة، واتخاذ موقف من العرائية والتنميق، ثم تحميل صور وقول الأشياء كما هي،… إلخ. أحب أن أرى اللغة تحيا في جميع حالاتها!

يوغا وجدانية

  أعود إلى مجموعة «شارع الزهور»، نُشِرَ بعض قصائدها تحت شكل مختلف. هل يمكن لكم أن تقولوا لنا: لماذا وكيف كانت استعادتكم لها؟

  وُلد هذا الكتابُ من عمل فيه إعادة قراءة، بل أحيانًا إعادة الكتابة. كنت أرغب في إعادة بعض الصفحات المكتوبة منذ مدةٍ طويلةٍ، شعرًا لبعضٍ، ونثرًا لبعضٍ آخر. كانت نبرة المجموع، كما العادة، بالأحرى كئيبة، لكن الأمر يتعلق هنا بازدهار ذاكرة الوداع مع كلام البدايات. إنه تمرين غريب ذهني، نوع من اليوغا الوجدانية، لإعادة القراءة والكتابة هذه: فهي تعَدّل التنفس، وتمنح المرونة، وتقوم بدور المصفاة، على ما يبدو لي هو استسلام ناعم ومُرّ. هو مثل تَعَلم الاختفاء وقبول غائية التناهي عن طريق الاعتماد على الصور القبلية، القليل الساذج، كما لو أنها بريئة من حمولة الألم التي حملته سابقًا. ومن ثَمّ، يمكن لمجموعة «شارع الزهور» أن تفهمَ بطرائق عدة، إنه اسم الشارع حيث أقيم في ضاحية مدينة ستراسبورغ، إنها استعارة المجموعة، وباقة نصوص مهداة، بل هي أيضًا الممرات المزهرة لمقبرة توسان. ومن جهة أخرى يدور الكتاب حول نص كنت قد ظللت حتى الأمس القريب مرتبطًا به أشد الارتباط، «المقبرة»، التي عنونت لمدة طويلة بـ«توسان». في ذهني يسجل هذا الكتاب وقفةً غنائيةً، فضلًا عن أنه كذلك اشتغال للذاكرة.

  ما مصدر ذوقك فيما يتصل بالاستشهادات؟

  أكتب في الجزء الأكبر في ذاكرة قراءاتي، وأقود نفسي في متاهة الحميمي بفضل أعمدة الزاوية –هي كلمة الشاعر هنري ميشو- التي تضطلع بدور المراصد (الكوى). فوانيس معلقة فيها أحيانًا؛ تلك التي عبر عنها ريلكه: «أن تكون هنا، شيء رائع»، وجوليان جراك: «ليس هناك ما يسمى بالشاعر الكبير، الكثير العتمة، مهما وصلت درجة يأسه، من دون أن نجد في داخله، في الداخل العميق، الشعور بالدهشة، الشعور بالدهشة المتفردة في أن تكون قد عشتَ في هذا العالم وليس بالقطع في عالم آخر»؛ أو تلك التي عبر عنها الشاعر إدموند جابيس: «القصيدة هي العطش الذي يسم لذة العطش الأكبر للحاجزِ المُحْكَمِ».

  مجموعتك الشعرية «شارع الزهور»، ألا يمكن عدّها كذلك على طريقتها، اشتغال للاستشهاد؟

  فعلًا هي كذلك، ما دمت قد استعدت نصوصًا قديمة، وعناوين قديمة أيضًا، بإخراجها من سياقها الأَولِي، ونقلها من مكانها الأصلي، وذلك بإعادة تنظيمها من جديد بطريقة أخرى، حسب مبدأ «الباقة» بغمزات عين متعددة لشعراء من الماضي، مشفوعة بتحيات لبعض الأصدقاء، وانسلالات، وبإيجاز نوع من لعبة المُرَبعاتِ الغنائية، مثل لعبة الفتاة الصغيرة التي أثرتها في كتابي حيث تقفز على مربعات مُشَمع الأرض في ممر المستشفى. كمَا أني في هذا الكتاب أيضًا اخترتُ تحمل مسؤولية هذا الشيء مثل خفة القصيدة، حركتها ولا مبالاتها المزيفة الحاملة لقوة مركز الجذب.


المصدر: https: //www. en-attendant-nadeau.fr/2022 /03/29/entretien-maulpoix/