فريال غزول : أثر إدوارد سعيد فيَّ تجاوز الانبهار إلى تعلم قيم مسؤولية المثقف  نحو الإنسانية

فريال غزول :

أثر إدوارد سعيد فيَّ تجاوز الانبهار إلى تعلم قيم مسؤولية المثقف
نحو الإنسانية

ساهمت فريال غزول، أستاذة ورئيس قسم الأدب المقارن واللغة الإنجليزية في الجامعة الأميركية بالقاهرة، في الحركة النقدية العربية بقوة. لم تزر العراق منذ منتصف الثمانينيات؛ فقد قطع عليها الدواعش طريق العودة حين احتلوا بيت العائلة العامر في منطقة الدواسة بالموصل، بما فيه من ذكريات الطفولة وأمان الصبا وأحلامه. لكن البيت والوطن ما زالا حاضرين في نفسها.

كانت تلميذة مقربة لإدوارد سعيد الذي أشرف على رسالتها للدكتوراه عن «شعرية بوطيقيا ألف ليلة وليلة» وناقشها الناقدان الشهيران ميشيل ريفاتير وتودوروف. وطبعت الشعبة القومية لليونسكو رسالتها للدكتوراه بالإنجليزية في القاهرة 1980م. وحين صارت التلميذة النجيبة أستاذة عكفت على دراسة منجز أستاذها وقدمته للقارئ العربي. ولمكانة التلميذة وقامتها التي طاولت قامة الأستاذ رأى الشاعر والناقد الأدبي عبد الإله الصائغ في حفل تأبين إدوارد سعيد أن فريال غزول هي الأجدر بحمل إرثه ومواصلة مشواره الحضاري. أهداها القدر إدوارد سعيد، أستاذًا ملهمًا، ومنحها الرفيق وشريك الحياة والعلم نيكولاس هوبكنز، زوجها الراحل الباحث والأنثروبولوجي الأميركي الذي حققت له حلمه بترجمة كتابه «الأنثروبولوجيا » الذي أراده متاحًا لكل قارئ عربي.

أشرفت فريال غزول على «موسوعة الكاتبة العربية ذاكرة المستقبل» التي أصدرها المجلس الأعلى للثقافة في مصر، وحلت مع زميلات لها محل الدكتورة لطيفة الزيات عام 1996م. وحررت الأجزاء الخاصة بالكاتبات العراقيات، وترجمت العديد من القصائد والمقالات وكثيرًا من الدراسات الخاصة بالروائي الفرنسي «غوستاف فلوبير». عدّتها الدكتورة زينب العسال الممثل للنقد الثقافي النسوي. وامتلكت من الجرأة ما جعلها تخوض فيما آثر النقاد الابتعاد منه، فحاولت الإجابة عن السؤال: «لماذا كان الجنس مباحًا في التراث العربي الإسلامي بدءًا من امرئ القيس وأبي نواس والجاحظ، بينما أصبح من المحرمات التي ينبغي تجاهلها والهرب منها إلى التورية والتلميح!».

من مؤلفاتها: «موسوعة الكاتبة العربية ذاكرة المستقبل»، و«ألف ليلة وليلة: تحليل بنيوي»، و«عبدالرحمن منيف»، و«الكاتبات العربيات: مرجع نقدي»، و«الريادة في الرواية: ثلاثية الخراط». ومن ترجماتها إلى الإنجليزية: مختارات من قصائد أمل دنقل وقاسم حداد ونازك الملائكة وأدونيس وفدوى طوقان ومريد البرغوثي. لها بحوث عديدة بالعربية والإنجليزية والفرنسية ودراسات عن ابن خلدون وإخوان الصفا وشكسبير ولطيفة الزيات.

أشياء من الماضي

●  ما الأثر الذي تركته الموصل، ونشأتك في كنف أسرة مهتمة بالثقافة، في مسيرة حياتك الثقافية؟

■  الموصل مدينة معروفة بالعلم إلى حد أن القبول في كليات كالطب، التي تتطلب تفوقًا في امتحان الثانوية العامة والتي كنا نطلق عليها البكالوريا، كان يقتصر على طلاب من الموصل، لولا أن الحكومة الملكية حينذاك سمحت بقبول الطلاب من المحافظات الأخرى بمعدلات أقل من الطلبة الموصليين؛ حرصًا منها على التوازن… أما في بيتنا فكانت والدتي بشكل خاص تهتم بثقافة أولادها وحصولهم على درجات علمية؛ لأنها هي نفسها حُرمت من دراسة الحقوق، فقد كانت تطمح أن تكون محامية. ومن ذكرياتي وأنا طفلة في الرابعة من عمري رغبتي في الكتابة مثل أختي التي تكبرني وأخي الأكبر. هكذا كانت البداية: الانبهار بالثقافة، وهذا الظمأ للمعرفة الذي يراودني دومًا وأجد فيها متعة.

●  تنتمين إلى جيل فطمته أفكار البعث، وأنضجته خطابات الناصرية، وألهب وعيه الفكر العروبي. كيف كان لذلك صداه في نفسك، وهل تجدين تلك الأفكار قد أضحت الآن شيئًا من الماضي؟

■  تنطوي مفاهيم مثل النهضة والبعث والخطاب الناصري على فكرة الاستنفار نحو النهوض عوضًا عن الانكفاء. وفي هذا تلعب اللغة والثقافة دورَيْهما في التعبئة؛ فالشعوب العربية- وإن اختلفت في اللهجات أو السياسة- تنتمي إلى كتلة قومية واحدة. لقد نشأنا جميعًا على الحضارة العربية بكل مكوناتها المتعددة وتنوعها الخلاق ولغتها المشتركة. وقد يبدو البعد العروبي مستترًا أحيانًا، ولكنه يبقى في الأعماق ويظهر في الانتماء، في النصر أو في المِحَن، مثلما بدا في بطولة كأس العالم في كرة القدم في قطر. فنصر المغرب نصر للدول العربية كافة، كما أن استشهاد شيرين أبو عاقلة أوجع الشعب العربي من المحيط إلى الخليج. وتبقى القضية الفلسطينية محورية في الوعي مهما استبعدت، ومهما تمّ التطبيع مع الكيان الصهيوني على مستوى الأنظمة إلا أن عامة الشعب والمثقفين عازفون عنه.

●  كيف بدأت علاقتك بالمفكر إدوارد سعيد حتى صرت الأقرب بين تلامذته، وما الذي تركه في وجدانك وفكرك من أثر؟

■  عندما التحقت بجامعة كولومبيا في نيويورك في مطلع السبعينيات، في فرع الدراسات العليا، كان إدوارد سعيد نجمًا لامعًا في الثقافة والنقد الأدبي. داومت على محاضراته في النقد والأدب الإنجليزي والمقارن وكان محاضرًا مبهرًا يجمع بين المعرفة الموسوعية والعمق الفكري والرؤية الإنسانية، فطلبت منه أن يشرف على رسالتي للدكتوراه، التي كان موضوعها عن «ألف ليلة وليلة» باعتبارها العمل العربي الملهم في الآداب العالمية. كان سعيد في مسيرته الأكاديمية، وبفضل تخصصه في الأدب الإنجليزي والنقد الأدبي، يشرف على رسائل في الآداب الغربية ولذلك رحب برسالة تضيف إلى رصيد الأدب العالمي عملًا عربيًّا يتم تناوله في سياق النظريات النقدية المعاصرة. لقد كان إدوارد سعيد محاضرًا يتسم بالموسوعية والكاريزما إلا أن أثره فيَّ يتجاوز الانبهار إلى تعلم قيم مسؤولية المثقف نحو الإنسانية بشكل عام ونحو المغبونين بشكل خاص؛ فقد قاوم بشراسة كل الضغوط التي حاولت إسكاته عن قول الحق وعن الدفاع عن القضية الفلسطينية بشكل خاص وقضايا المستضعفين بشكل عام، ولم يتراجع عندما هدده الإرهابيون الصهاينة مرارًا بالاغتيال. كما أنه قاوم سرطان الدم لأكثر من عقد واستمر ينتج ويبدع.

●  كنتِ مِن أُولَيَاتِ الكاتبات اللائي عَرَّفْنَ بجهود إدوارد سعيد النقدية، فما علامات التميز في مدرسته النقدية كما تَرَيْنَها؟

■  يُعرَف إدوارد سعيد في الوطن العربي بكتابه «الاستشراق» وبدفاعه عن الحق الفلسطيني، ولا يَعرِف الكثيرون عن إسهاماته النقدية التي أوصلته إلى أرفع المناصب الأكاديمية. وتلخيصًا لموقع سعيد الفكري نجد أنه يعطي النصَّ قيمتَه الجمالية كما يربطه بسياقه التاريخي والثقافي في آنٍ واحد. وقد وضع النقد الأدبي والفكري في خارطة النشاط الإنساني داعيًا إلى إستراتيجية نقدية، تدخل النصوص الجمالية والفنية في علاقات تسهم في جدلية تحرير الإنسان.

أثر التراث العربي في العالم

●  لماذا، في رأيك، اتجهت معظم الدراسات الاستشراقية الحديثة إلى دراسة التصوف الإسلامي واعتبرته جسرًا قد يحقق لونًا من الحوار بين الشرق والغرب؟

■ التصوف الإسلامي جسر بين الثقافات المتباينة؛ لأنه يستحضر جوهر الكينونة في علاقتها مع العالم بشتى مكوناته ويرى المطلق في النسبي.

●  انجذبتِ إلى التراث العربي مبكرًا فكانت أطروحتك للدكتوراه حول ألف ليلة وليلة، ثم أفردتِ لها كتابًا بالإنجليزية.. وبعدها تعددت دراساتك النقدية عن ابن خلدون وإخوان الصفا. ما الهاجس الأكبر الذي يشغلك عند دراسة هذا التراث؟

■  ما يثيرني فكريًّا في هذا التراث هو حداثته، إن صحّ التعبير. ابن خلدون معاصر في فلسفة التاريخ وفي إدراكه لسوسيولوجية العمران والحضارة، وقد دخل الآن في مجال النقد الفكري الغربي، ولا يُستبعد أن يكون الفيلسوف الإيطالي الموسوعي فيكو قد تعرّف إلى فكره عندما كتب كتابه الرائد «العلم الجديد». وكما كتب سعيد عن ابن خلدون كتب عنه فريدريك جيمسون وغيره من فطاحل النقاد في الغرب، فقد أصبح علامة في علم الاجتماع. أما «ألف ليلة وليلة» فلم ينقطع حضورها في الأدب العالمي بدءًا بمارسيل بروست وليس انتهاء بجون بارث. وأما «رسائل إخوان الصفاء وخلان الوفاء» فهي في نظري أُمّ الموسوعات التي تجمع المعارف في عمل جامع وشامل.

●  لك دراسة مهمة عن تجلي الجنس في الرواية العربية.. فكيف تباين ذلك التجلي كمًّا وكيفًا بين الرواية القديمة ونظيرتها حاليًّا؟

■ حضور الجنس في الرواية العربية المعاصرة محفوف بالمخاطر؛ لأن الرقابة واقفة له بالمرصاد. أما في غابر الأزمان فالجنس كان يكتب أدبيًّا وفقهيًّا، شعريًّا وسرديًّا، من امرئ القيس إلى أبي نواس ومرورًا بالليالي العربية.

●  قدمت رؤية ثرية لأربعة عوالم ثقافية فلسطينية في مجال الأدب المقارن هي: إدوارد سعيد، روحي الخالدي، حسام الخطيب، عز الدين المناصرة، فما أبرز نقاط التلاقي والتباعد بينهم؟

■  ما يجمع النقاد الأربعة هو توسيع ساحة الأدب المقارن لتتجاوز المركزية الأوربية ولتفسح مجالًا لحضور الأدب العربي في هذا الحقل.

●  من خلال تناولك التراث العقلاني لابن رشد، هل تعتقدين أن القراءات العربية لتراثه ظلمته؟

■  في «ألف: مجلة البلاغة المقارنة» التي كنت أرأس تحريرها أنجزنا عددًا في أكثر من ست مئة صفحة في عام ١٩٩٦م بعنوان «ابن رشد والتراث العقلاني في الشرق والغرب» فهو المفكر الذي ساهم في تشكيل النهضة الأوربية بما يطلق عليه «الحقيقة المزدوجة»، حيث يتوافق الوحي الإلهي مع العقل البشري؛ أي بشّر ابن رشد بأهمية إعمال العقل في التفسير والتأويل. ومع أن هناك دراسات قيمة عن ابن رشد في الدراسات الفلسفية العربية المعاصرة إلا أنه لم يتجاوز في حضوره المجال الأكاديمي ليدخل فاعلًا في الوعي الجماعي.

غزول المترجمة والناقدة

●  أفردتِ مؤلفًا لإدوار الخراط، فكيف تلخصين دوره في تحديث الفن الروائي عربيًّا وإسهامه في إثراء المشهد الأدبي العالمي؟

■  إدوار الخراط من رواد السرد الأدبي؛ فقد «شعرَن» الرواية وجعل منها ملحمة عصرية. تتميز لغة رواياته بكثافة شعرية. لقد أسهم الخراط، في إضافة حقيقية إلى الأدب العربي والعالمي، بكتابة عبر نوعية تقدم سيرة شبه ذاتية من خلال استشراف المعنى الوجودي. وعندما عكفتُ على ترجمة روايته «رامة والتنين» التي حازت على جائزة نجيب محفوظ التي تقدمها دار النشر في الجامعة الأميركية في القاهرة، كنت أحس بالنشوة في كل جملة منها على مدار ٣٣٠ صفحة. يتجاور، بل يتفاعل، البعد النفسي والفلسفي والاجتماعي في صيرورة شخصيات رواياته التي نحس بالرغبة في إعادة قراءتها كما نفعل مع القصائد التي تشدنا.

●  العلاقة بين الإبداع والنقد علاقة تكامُل، وقلة الدراسات النقدية ظلمت عددًا من المبدعين، فكيف يمكنك التدليل على ذلك من خلال ترجماتك للعديد من الشعراء والدراسات النقدية عنهم؟

■  النقد وصلة بين المبدع والقارئ، وفي النقد أيضًا جانب إبداعي يسعى إلى الكشف عن المضمر في النص المكثف. والقراءة الاستهلاكية تكتفي بالأسهل والمطروق وتسم الأصعب بالغموض والإبهام. أما القراءة المجتهدة فتستمتع بإدراك المستويات العديدة في النص الأدبي، وهنا يكمن دور الناقد في توصيل الأبعاد المضمرة للنص الواحد. فالشعر يتميز بكونه نصًّا خارجًا على لغة التواصل اليومية وقد يبدو مستغلقًا لبعضٍ من الذين ينصرف عنه. لهذا اهتممت اهتمامًا خاصًّا بنصوص تبدو معقدة أو غامضة إلا أنها غنية الدلالة. لهذا ترجمت قصائد وقدمت دراسات عن شعراء مثل محمد عفيفي مطر وسعدي يوسف وقاسم حداد.

●  من واقع قراءتك لأدب الأنثروبولوجيا في إفريقيا، لماذا يعد الأدب الإفريقي غريبًا للقراء والنقاد العرب؟

■  يرتبط كل أدب بالثقافة النابع منها. والأدب الإفريقي يتطلب أن نكون قادرين على فهم العلاقات العائلية والمعتقدات الدينية في القارة الإفريقية، وهذا أمر يمكن أن يتم لو كانت إفريقيا وجهتنا. وبما أن الاستعمار الذي أخضعنا كان أوربيًّا فالتوجه كان نحو الغرب الذي عُرف منذ زيارة رفاعة الطهطاوي، ولم يُبذل أي جهد لاكتشاف حضارة إفريقيا وأساطيرها الخلابة، مع أن عددًا من الدول العربية تقع في إفريقيا. هذا التشتت في عالم المقهورين جعل التواصل نادرًا. لقد اهتم عبدالناصر بالبعد الإفريقي في سياسته، لكن هذا البعد توارى بعد غيابه. أما اليوم فهناك في الساحة الثقافية العالمية مفهوم «الجنوب العالمي» مقابل الشمال العالمي، بما يبشر بالانفتاح على الآخر المماثل وتحديدًا إفريقيا.

●  هل تعتقدين أننا نمتلك حركة نقدية عربية موضوعية قادرة على التأسيس لحركة فكرية خلاقة وإنتاج روائي متميز؟

■  أعتقد أن هناك حركة نقدية في الوطن العربي لكنها تفتقد آليات التواصل بين الأقطار العربية؛ فهناك حركة فكرية وأدبية لكنها غير متبلورة. يكفي أن أشير إلى أطروحة أدونيس في الإبداع والاتباع وأطروحات عبدالفتاح كيليطو في معالجة التراث وقراءة نصر حامد أبو زيد للمقدس.

من العام إلى الخاص

●  لا شك في أن التحولات السياسية العنيفة التي شهدها العراق منذ أكثر من ربع قرن، انعكست على الحركة الثقافية فيه وأنتجت أدبًا وفكرًا مغايرًا، فما أهم المتغيرات التي يمكننا رصدها؟

■  أصبحت الحركة الثقافية العراقية مبعثرة، بين المهجر في أنحاء العالم كافة وبين حضورها في العراق دون رابط وثيق بينهما. ولا شك أن كتاب المهجر المشتتين مرتبطون حميميًّا بالعراق، وعلى سبيل الذكر لا الحصر سنان أنطون في نيويورك، وإنعام كجه جي في باريس، ومي مظفر في عمان، وهيفاء زنكنة في لندن. وإذا كان هناك ظاهرة تجمع الاثنين فهي «الديستوبيا»، أي تصوير عوالم واقعية وغرائبية في آن واحد. إنها أقرب ما تكون إلى جحيم دانتي مضافًا إليها نكهة الطرافة القاتمة.

●  كرمتك حواضر عربية عدة لكنك بقيت بعيدة من منصات التكريم في العراق، فهل ترك ذلك أثرًا في نفسك؟

■  لا يهمني التكريم على الإطلاق، بل يحرجني. يسعدني أن أكون متواصلة مع أبناء وبنات وطني الصغير.

●  متى كانت آخر زيارة لك إلى العراق وإلى الموصل تحديدًا حيث المنبت والنشأة؟

■  كانت آخر زيارة لي للموصل والعراق في عام ١٩٨٦م. بعد أن توفت الوالدة كان أخي وأقاربي يزورونني في القاهرة كلما تمكنوا من الحصول على تأشيرة. أما الآن فقد سافر من سافر إلى خارج العراق أو انتقل إلى محافظة أخرى وخصوصًا بعد احتلال داعش للموصل واستيلاء الدواعش على بيتنا العامر حيث كل ذكريات الطفولة ومقتنيات العائلة التذكارية.

●  ترأست تحرير مجلة ألف الثقافية، فكيف أثرت تجربتك الصحفية في تجربتك النقدية؟

■  «ألف» مجلة سنوية أنشأتها مع الصديقتين سيزا قاسم وبربارا هارلو وبتشجيع من رئيسة قسم الأدب الإنجليزي والمقارن في الجامعة الأميركية. وهي تنشر مقالات محكمة في موضوع محدد مثل «المجاز والتمثيل في العصور الوسطى» و «حقوق الإنسان والشعوب في الأدب والعلوم الإنسانية» وغيرها. نقبل دراسات جادة، تصب في محور العدد، باللغة العربية والإنجليزية والفرنسية ونرفق ملخص المقالات باللغتين العربية والإنجليزية؛ حتى يتسنى التفاعل الثقافي. إنها مجلة أكاديمية يستخدمها الباحثون في كل أنحاء العالم، ويرأس تحريرها الآن الزميل وليد الحمامصي. أنا أرى أن النقد المتخصص مهم في الثقافة ولكن لا بدّ من مخاطبة الجمهور غير المتخصص؛ ولذلك حرصت أن أكتب وأقدم عروضًا لأعمال أدبية في«الأهرام ويكلي» و«أخبار الأدب» وعلى الصفحات الثقافية في الجرائد اليومية. كما ساهمت في مشروع «كتاب في جريدة» برئاسة الشاعر العراقي شوقي عبد الأمير، حيث كان يُوزع ضمن ملحق شهري مختارات من أدباء عرب في كل جريدة واسعة التوزيع في الأقطار العربية.

●  الدكتور نيكولاس هوبكنز أستاذ الأنثروبولوجي بالجامعة الأميركية سابقًا، تجربة حياتية وفكرية ربطتكما معًا وصاغت كثيرًا من سنوات عمرك، كيف بدأت وسارت ولماذا اخترتما مصر مقرًّا ومقامًا لكما؟

■  تعرّفت إلى نيكولاس هوبكنز عندما كنا نقوم بالدراسات العليا، أنا في الأدب وهو في الأنثروبولوجيا. وتواصلنا عاطفيًّا وفكريًّا وارتبطنا لنكون عائلة بولدين، وبقينا زميلين في جامعة واحدة، وإن كنا في قسمين مختلفين في كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية. لماذا اخترنا مصر؟ لأنها أم الدنيا ولتوجهنا نحو إفريقيا جنوب الصحراء وشمالها ولرغبتنا في أن نشارك في نهضتها. وفّرت لنا الجامعة الأميركية بالقاهرة نظامًا دراسيًّا منفتحًا على العالم وفي قلب الوطن العربي الكبير.

●  كتاب هوبكنز عن الأنثروبولوجيا، الذي قمت بترجمته، حدثينا عن أهم ما تضمنه من دراسات تتعلق بالسكان الأصليين حول العالم؟

■  عندما نشر نيكولاس هوبكنز كتاب «الأنثروبولوجيا في مصر١٩٠٠-١٩٦٧م: الثقافة، الوظيفة، الإصلاح» بالإنجليزية، أراد أن يكون متاحًا للقارئ العربي، فترجمتُه، وكان قد اطلع على التجارب الأخيرة عن المركز القومي للترجمة في القاهرة قبل رحيله بأيام. أراد هوبكنز أن يقدم تاريخ علم الأنثروبولوجيا (الذي يطلق عليه أحيانًا علم الأناسة لأنه مرتبط بالإنسان) في مصر وتطوره منذ بداية القرن العشرين على يد أنثروبولوجيين أجانب ومصريين شاركوا في إضاءة الثقافة المصرية الشعبية في القرى والمدن، في الصحراء والواحات، حيث تتشابك القيم التقليدية بالتعليم الحديث، وتتداخل علاقات القرابة بالبنية الاقتصادية، وتتقاطع الأبعاد الأخلاقية بالمكانة الاجتماعية. كما يقدم الكتاب فصلًا عن النوبة والصحراء الغربية. الكتاب، إذن، عمل في تاريخ العلوم الاجتماعية (الأنثروبولوجيا) وتمثلها في إفريقيا وتحديدًا مصر. من دون أدنى شك لا يمكن تحقيق التنمية من دون معرفة المجتمع بكل طبقاته ومكوناته عبر دراسات ميدانية تستوعب الأبعاد الإنسانية في معادلة التنمية والتقدم، فلن نغير ما بأنفسنا حتى نعرف ما فيها.