التمظهر الديني.. سمة ثقافية في المجتمع السعودي

التمظهر الديني.. سمة ثقافية في المجتمع السعودي

تعني الثقافة في نظر علماء الاجتماع جوانب الحياة الإنسانية التي يكتسبها الإنسان بالتعلم لا بالوراثة، ويشترك أعضاء المجتمع في عناصر الثقافة التي تتيح لهم مجالات التعاون والتواصل. وتتألف ثقافة المجتمع من جوانب مضمرة غير عيانية مثل: المعتقدات، والآراء، والقيم، التي تشكل المضمون الجوهري للثقافة، وجوانب عيانية ملموسة مثل: الأشياء، والرموز، والتقنية التي تجسد هذا المضمون، وتعد التنشئة الاجتماعية الوسط الأول الذي يجري فيه انتقال الثقافة على مدى الأجيال.

وفي خضم التغيرات المتسارعة يصعب تحديد سمة بارزة للمجتمعات؛ إذ باتت المجتمعات تتشابه أكثر مما تتمايز، وتتغير باطراد غير مسبوق تبعًا للثورة التقنية التي أحدثت تغييرات بنيوية هائلة طالت حتى البنى الاجتماعية والثقافية توصف بأنها الأكثر تعقيدًا والأقل مرونةً في مواجهة التغييرات إذا ما قورنت بالبنية الاقتصادية مثلًا.

غايات التمظهر بالدِّين

هذه الصعوبة في تقبل التغيير خصوصًا في المجتمعات النامية، جعلها تحافظ ولو نسبيًّا على كثير من السمات الثقافية، مثل التمظهر الديني، وهي سمة ثقافية منتشرة في المجتمعات العربية والإسلامية بشكل عام. ففي دراسة أجراها معهد (غالوب الأميركي) عن أكثر المناطق تدينًا في العالم، وجدت أن العرب من أكثر الشعوب تدينًا على وجه الأرض، ولكن في الوقت نفسه، نجد أن شعوب هذه المنطقة تحتل مراكز متقدمة في الفساد والرشوة، والتحرش الجنسي، والغش والنصب والتزوير. والسؤال الذي يظهر هنا: كيف يمكن لنا أن نكون الأكثر تدينًا وفي الوقت نفسه الأكثر انحرافًا؟ وبطبيعة الحال تنتشر هذه السمة في المجتمع السعودي بشكل أكبر، ربما، مقارنةً بالعالم العربي والإسلامي، باعتبار مركزيته الدينية في العالَمين. إن المسميات العديدة التي تُطلق على السعودية بأنها مهبط الوحي، وقبلة المسلمين، وبلاد الحرمين، قد انعكست على ذهنية الفرد السعودي وجعلته يضع التدين ومظاهره كأولوية ولو كان بدون اقتناع حقيقي.

فولتير

وبالرغم من التحولات الحديثة التي مست المجتمع السعودي والتي أسهمت في الحد من هذه السمة، إلا أنها لا تزال قائمة. إن المجتمع السعودي، سواء الرجل أو المرأة، لا يزال يستخدم حجاب المرأة كطريقة لإظهار مدى تدينه، ليتجنب انتقاد المجتمع، وهدفًا للوصول إلى التقدير الاجتماعي، بينما نجد الأفراد ذاتهم لا يتلزمون بالمظهر المحافظ إذا كانوا في رحلة سفر خارج السعودية مثلًا.

جاء اختيار تسمية «التمظهر الديني» عوضًا عن تسميات أخرى تصف الظاهرة ذاتها كـ«التدين الشكلي» لاعتبارين: لأنه يعبر عن ممارسة الأفراد للسلوك، وكذلك عن المظاهر الشكلية أو الرمزيات في آنٍ واحد. فالتمظهر الديني أشمل من التدين الشكلي، لاشتماله الممارسات الدينية/ الاجتماعية، والرموز الثقافية المادية الدالة على التدين كإطالة اللحية أو تقصير الثوب عند الرجل أو ارتداء الحجاب أو النقاب عند المرأة، بينما يصف مفهوم التدين الشكلي الرموز أكثر من الممارسات. والثاني أن التدين الشكلي غالبًا موضوعٌ يتعلق بالدين أكثر منه بالاجتماع. ويعرّف التمظهر الديني بأنه مجرد اتصاف بالمظهر الديني الشكلي لا الروحي، فهو يرتبط بعوامل سوسيولوجية وثقافية ونفسية، أكثر من ارتباطه بالدين كمفهوم عقائدي أو أخلاقي، أو كتطبيق للشعائر لنيل مرضاة الرب. فالتدين سلوك بشري معرّض للاختلاط بالخصائص البشرية كالأفكار والعادات والتربية والثقافة، مما يجعله عرضة للاختلاف حسب تفاعل الدين مع الموجودات الداخلية، ومع خصوصيات كل مجتمع على حدة.

تاريخيًّا لا تقتصر الظاهرة على المجتمعات الإسلامية، وقد استخدمت لأغراض سياسية كالسيطرة على الناس، وتجارية كالتسويق للبضائع، وإنسانية لجمع التبرعات. يذكر الكاتب غوستاف لوبون في «سيكولوجية الجماهير» اقتباسًا عن القائد الفرنسي نابليون بونابرت، مستدلًّا به على استخدامه للدين لتحقيق منافع سياسية: «لم أستطع إنهاء حرب الفاندي إلا بعد أن تظاهرت بأني كاثوليكي حقيقي، ولم أستطع الاستقرار في مصر إلا بعد أن تظاهرت بأني مسلم تقي، وعندما تظاهرت بأني بابوي متطرف استطعت كسب ثقة الكهنة في إيطاليا، ولو أنه أتيح لي أن أحكم شعبًا من اليهود لأعدت من جديد معبد سليمان».

أسلوب لتحقيق مكاسب اجتماعية

يظهر تمظهر الأفراد بالدين على طريقتين: إما أن يعبر عن حالة من الخنوع الفكري لدى الفرد، بحيث يكون السبب في إظهاره عكس ما يعتقده هو الخوف من مواجهة المختلفين عنه، سواء كانوا مسؤولين عنه وتربطهم به علاقة رأسية، كمديره في العمل أو والديه، أو أية علاقات أخرى من أشخاص متدينين، وهذا يدل على قلة الوعي. ودوافع هؤلاء الأفراد عاطفية تتحرك وفق «الانحياز العاطفي». أما الطريقة الثانية فهي استخدام الأفراد للدين للوصول إلى منافع اجتماعية وقبول مجتمعي، وفرص في الحياة المهنية.

وبما أن ثقافة المجتمع السعودي تقدس الدين، وتنظر إلى المتدينين نظرة تقدير وهيبة، وربما تصل إلى إعطائهم الحق في إصدار الأحكام على الآخرين؛ فالمتدينون يتمتعون بنوع من المكانة الاجتماعية، والمجتمع يعطي لبعض السلوكيات الإيمانية الظاهرية كعدم لبس العقال، واستخدام السواك، وتقصير الثوب أو لبس النقاب للنساء دلالات أكبر مما تنتجه في الواقع، بحيث أصبحت «شهادة حسن سيرة وسلوك» للملتزم بها.

وسيلة للهيمنة على المرأة

كثيرًا ما يستخدم الرجل «الدين» عند رغبته إعطاء طابع الشرعية لهيمنته على المرأة وتبرير سلطته عليها. إن بنية الأسر العربية تخضع للسلطة البطريركية، فالأب أو الرجل الأكبر في الأسرة يمثل قمة الهرم، ويبرر النظام الاجتماعي القائم تسلطه تجاه الأبناء والزوجة لصالح اعتبارات دينية واجتماعية، وسلطته مفتوحة لا حدود لها. عندما نشاهد التباين في المظهر الخارجي بين رجل يلبس ما لا يصل إلى ركبتيه، بينما يُلبِس زوجته حجابًا كاملًا بحيث لا يكاد يُرى منها إلا عينيها. وعندما يستشهد رجل بالآية القرآنية التي تجيز تعدد الزوجات بينما هو لا يقدر على إدارة منزل واحد، ولا يؤدي فروضه الدينية كمسؤول وراعٍ عن أسرته وزوجته، ويجد قبولًا لفكرته من بقية الرجال. هذا يقدم لنا مثالًا حيًّا للهيمنة الذكورية، المتلبسة باسم الدين، إن هؤلاء يعتقدون أن «تدينهم الظاهري» يتيح لهم تفسير النصوص الدينية وفق مصالحهم، فغالبًا تحمل طريقتهم في التدين ازدواجية في المعايير، تقوم على تكييفهم للنص الديني مع ظروفهم.

وسيلة للتفاوض عند المرأة

تمارس النساء شعائر دينية لا للاعتقاد بشرعيتها، ولكن لتجاوز قيود اجتماعية كثيرة مثل الرضا عن عملها أو خروجها(١). في الوقت الحالي لم تعد النساء السعوديات مضطرات إلى أخذ موافقة ولي الأمر، ولم تعد هناك عوائق قانونية تخص حق تقرير مصير المرأة، ولكن عندما ترغب المرأة بمساحة في حرية الحركة والتنقل أو اختيار مهنة متاح فيها العمل للجنسين أو حتى الظهور بمظهر لائق أمام من يشكلون فرصًا للزواج منها، سواء الرجال أنفسهم -وقد أصبحت المرأة السعودية تختلط بالجنس الآخر في مقرات العمل وغيرها- أو أسر من يمكن أن يتزوجها؛ يكون عليها الالتزام بهذه الممارسات الدينية. ولو تُركت هذه الممارسات لاختيارات النساء، لوجدنا الكثيرات لا يمارسنها، والدليل أن كثيرًا منهن يلتزمن مثلًا بطريقة محددة للحجاب سواء كان لبس النقاب أو تغطية الشعر أمام أسرهن، ولا يلتزمن به في الفضاءات العامة.

الصحوة والتمظهر الديني

«العقل يحتله الأسبق إليه» جاءت هذه العبارة ضمن نظرية المفكر السعودي إبراهيم البليهي(٢) التي أسماها بنظرية «الإنسان كائن تلقائي»، مستندًا فيها على أحد أفكار المفكر الفرنسي الشهير فولتير، في القرن الثامن عشر، الذي يرى أن معضلة البشر أنهم مقيدون بالمعلومات السابقة الخاطئة وأن الأوهام والأغلال النفسية والأيديولوجية والآراء والمواقف المسبقة تحتل عقولهم وتقف حصونًا منيعة لتصدهم عن الحقائق وتمنعهم من قبول المعارف الممحصة. ويعني بهذه النظرية أن الإنسان يولد بدماغ فارغ مفتوح المنافذ لتقبل ما يأتيه من معلومات عبر حواسه والأسبقية تكون دائمًا للمعلومة الأولى التي تحتل دماغه ولو كانت خاطئة، وتصبح معيارًا حاكمًا لقبول أو رفض أي معلومات لاحقة. التلقائية هي «المعضلة» وهي «الضرورة» وهي «الحل»؛ وذلك لأنها السبب الطبيعي للتشرب التلقائي للأوهام والأحقاد والتنافر بين الأمم والثقافات والطوائف، ودعاوى العرقية والتمييز العرقي، ولأنها الأصل في كل الإعاقات البنيوية في الثقافة والتعليم والتنمية.

إبراهيم البليهي

إن بعض الناس يعتقدون على نحو سطحي أن العقل الفارغ يحتله الأسبق إليه ويمنع وصول وقبول أية معلومات تعارضه بسبب امتلاء الذاكرة، ولكن الحقيقة أن العقل لا يضيق بالمعلومات مهما كثرت، ولديه قدرة هائلة على الاستيعاب، والمشكلة ليست بضيق الذاكرة ولا بامتلاء المكان. بل المعضلة الكبرى أن المعلومات السابقة مهما كانت ضالة وقليلة تحتله وتحدد اتجاهاته وتصوغ مواقفه وتجعله يرفض استقبال ما لا يتفق معه، فلا يستجيب لأي تصحيح لاحق إلا إذا تعرض لصدمة قوية، وفي حالات استثنائية عند بعض الأفراد وبجهد شاق. فمن الصعب على الإنسان أن يتوقف للمراجعة ويقطع التلقائية الراسخة ويسمح للجديد بأن يحل مكانه مهما كان القديم رخيصًا وخاطئًا ومهما كان الجديد ثمينًا وصحيحًا.

بإمكاننا اعتبار هذا تفسير لما كان عليه جيل الصحوة، ولا يزال الكثير منهم عليه، فهم تلقّوا هذه الأفكار وتشرّبوها حتى أصبحوا يعتقدون أنها الدين. وعلى الرغم من صدور فتاوى من مرجعياتهم الدينية السابقة نفسها كهيئة كبار العلماء للإفتاء، تُجيز مثلًا إغلاق مكبرات الصوت في المساجد في أثناء أداء الصلاة أو عدم إغلاق المحلات التجارية في أوقات الصلاة، فإنهم يحرمون ويستنكرون هذا الفعل ولا يرضونه ويعادون من يرضاه؛ لأنهم نشؤوا على تقييد عقولهم، فهم لا يفهمون جوهر الدين، وإنما يمارسون هذه الممارسات السطحية لأنها أول شيء عرفوه وأدركوه.

نشأت حركة الصحوة(٣) في سبعينيات القرن الماضي وبدأ يقل نفوذها تدريجيًّا بعد أحداث 11 من سبتمبر 2001م. إن الجيل الذي ولد في هذه المرحلة وتأثر بها وكانت هي أول أيديولوجيا يعرفها تُراوِح أعمارهم الآن بين الثلاثين والستين وقد تزيد قليلًا. وهذا يعني أن آثار فكر الصحوة لا تزال موجودة في المجتمع السعودي؛ لأنها متأصلة في الذهنية الفكرية لشريحة واسعة منه، حتى إن لم تعد ممارساته تظهر في العلن كالسابق. وبالطبع مع مرور الأجيال من الممكن أن تختفي هذه الآثار ولا يبقى منها إلا رواسب لا تذكر.

نشرت الصحوة، على المستوى الاجتماعي العام، الهوس في التصنيف، وغلبة شهوة الإقصاء، وروح الاستعلاء، والعنصرية، والتعصب المذهبي، وعدم الانفتاح على الآخر، وطغيان روح الكراهية على حساب روح المحبة والتسامح، وعدم تقبل ثقافة الاختلاف، من هنا انتشرت ممارسات مجتمعية لا يمكن أن تكون مرجعيتها دينية؛ لأنها لا تمتُّ للدين بِصِلة، ولكنها ممارسات أقرب ما تكون للتمظهر الديني.

أخيرًا لا شك أن مسيرة التدين في المجتمع كان لها إيجابيات كثيرة، وتحديدًا ما له علاقة بمنظومة القيم والأخلاق والتعامل داخل المجتمع، ولكن في الجانب السلبي انتهت بنا مسيرة التديّن في المجتمع إلى تقليديين ومتطرفين ومنقسمين بين تيارات وتصنيفات فكرية.


المراجع:

١)  البليهي، إبراهيم. (2021م). «الإنسان كائن تلقائي» (نظرية جذرية تؤسس لرؤية شاملة عن الإنسان والإنسانية). بيروت، دار الروافد الثقافية ناشرون وابن النديم للنشر والتوزيع.

٢)  بركات، حليم. (1984م). المجتمع الغربي المعاصر: بحث استطلاعي، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية.

٣)  سحبان، عثمان. (2018م). «موضة التدين: كيف يعبر التزامنا بالدين عن مشكلات نفسية واجتماعية؟» ميدان الجزيرة.

٤)  قيدنز، أنتوني. (2005م). علم الاجتماع. بيروت: المنظمة العربية للترجمة.

٥)  لاكرو، ستيفان. (2012م). «زمن الصحوة، الحركات الإسلامية المعاصرة في السعودية»، بيروت، الشبكة العربية للأبحاث والنشر.

٦)  لوبون، غوستاف. (2011م). «سيكولوجية الجماهير». بيروت، دار الساقي.


هوامش:

١)  وضعت مفردة الرضا وليس السماح؛ لأن كثيرًا من النساء السعوديات حتى مع صدور القرارات التي تدعم حقها في اختيار مصيرها، لا تتجاوز مسألة رضا الأسرة المحيطة بها وفي أحيان كثيرة تفكر بالمجتمع، أي أنه لا يزال هناك نوع من الاعتدادية برأي الأسرة والمجتمع.

٢)  مفكر عربي سعودي مهتم بدراسة أسباب التخلف في العالم العربي والإسلامي، ينادي بتنمية التفكير العلمي، وتشجيع التحليل بدلًا من التلقين، والإبداع بدلًا من الاتباع. يعمل على سلسلة كتب بعنوان: «تأسيس علم الجهل لتحرير العقل»، أحدها كتاب «الإنسان كائن تلقائي» والمقتبس منه أعلاه.

٣)  الصحوة الإسلامية: هي حركة فكرية اجتماعية إسلامية نشأت في السعودية في حقبة السبعينيات من القرن الماضي، اتخذت من «إيقاظ الناس من غفوتهم» شعارًا لها، وسرعان ما استطاعت التأثير في جيل كامل من الشباب وأصبحت عنصرًا محوريًّا في النسيج الاجتماعي السعودي (لاكرو، 2012م).