الفردي والبراكسيس الديني في سياقات متغيرة ذوات فردية أم ذوات متذوتة

الفردي والبراكسيس الديني في سياقات متغيرة

ذوات فردية أم ذوات متذوتة

يمتنع رابط الفرد بممارسة الطقوس المقترنة بدينه، عن أن يسيج داخل حقل نص مؤسس مغلق. بل أعمق من ذلك، فإن النص المؤسس ذاته لا يوجد أصلًا في صيغة المفرد والمتفرد. فالحق أننا أمام نصوص مرجعية متحولة بما أن المنطوق الديني للفرد إنما هو فهم أو حامل لفهم لا ينضبط ضرورة لمشترك يظل مفترضًا. فالذي هو مشترك إنما الظن أننا نتفق حول نص غير أن واقع الحال أننا كفاعلين نؤول باستمرار أفعالنا في حياته اليومية وعلاقاتنا الاجتماعية، أي أننا نحمل كذوات اجتماعية تختلف في تجاربنا وفي سياقاتها الحياتية أفهامًا مخصوصة، تحتفظ بمسافة غموض وتباعد بعضها من بعض، قد تضيق وقد تتسع بحسب طبيعة ونوعية علاقاتنا وروابطنا الاجتماعية.

معنى ذلك أن الإرث الديني الذي ينقل للفرد عبر التنشئة الاجتماعية بقنواتها  المتعددة وأشكالها المتنوعة لا يحتفظ أبدًا بنقاوته أي تماهيه مع فهم الناقل ومستنداته القِيَمِيّة. فالتصورات والتمثلات التي يحملها الفرد وتلون روابطه بسياقاته الاجتماعية المتلبسة بالتنوع والتخالف والتعارض تجاه المشترك نفسه (التراث الديني) إنما هي تحصيل تبادل أفعال متنبه بقوة لمعطى التغير والتحول في السياقات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للفعل الاجتماعي للفرد. وينكشف البعد الفردي في رابط الذات الاجتماعية بالتدين في تنوع البراكسيس الديني اليومي وبخاصة المناسباتي. إننا أمام رابط ثقافي بالدين يتأكد ويتعمق عبر إثبات أشكال التنوع حد التخالف تجاه هذا المشترك الافتراضي.

المشترك المفترض والفردي الحاصل: حدود التماس

تستحضر المقاربة السوسيوثقافية الدين بوصفه نظامًا ثقافيًّا، وأن الحالة الدينية إنما هي صورة للتحولات في هذا النظام الثقافي للمجتمع التاريخي ومنظومته القِيَمِيّة المتحولة. فليس ثمة استنساخ ثقافي تحتكم إليه العلاقة بين الفردي والجماعي، وإنما ذاكرة ومخيال جماعي غير نُصبي أي متحفي، بل خلافًا لذلك مفتوح باستمرار على التغير والتبدل. فالفرد المتدين يتحيز أو ينجرف إلى فهم ما للدين ويتذوت مدونة طقوسية ما بعامل ما يسميه جرافمير بأثر السياق (العائلة، مجتمع المدرسة، مجتمع الشارع، مجتمع الشغل،…) الذي يفرض إكراهاته على فعل الفرد المجتمعي وترتيب أولوياته، غير أن هذا الفرد يحتكم دائمًا إلى هامش من العقلانية في أفعاله وتصرفاته واختياراته مثلما تصر على تأكيده الفردوية المنهجية لريمون بودون يجعله فاعلًا في سياقه، وواعيًا إلى حد ما باختياراته ومواقفه وتصرفاته.

فلا يمكن لنا أن نواصل الانزلاق إلى المقاربات التقليدية التي تستشكل الفعل الديني للفرد في حضور لثنائية نظرية المصلحة ومفهومها الأداتي للأيديولوجيا ونظرية الجهد اللتين قام بتفكيك خطابهما غيرتز في كتابه «تأويل الثقافات» في اتجاه نقدي يقدم الدين نظامًا ثقافيًّا فاعلًا، ينتج حالات نفسية دافعة بصفة مستمرة. فأشكال التدين والممارسة الموصولة به تصيغ عالمًا مشتركًا يرثه الفرد مجتمعيًّا (إسلام الأهل) غير أنه يضعه أمام مراجعات دائمة بفعل تنوع الروابط الاجتماعية التي تنعقد ضمن السياقات الاجتماعية المتعددة والتي يوجد فيها الفرد الاجتماعي طوال حياته، وتعيد ترتيب علاقته بسردية الأهل نحو سرديات منقحة تمجّد أشكالًا متباينة أحيانًا للتدين والممارسة الطقوسية للدين.

لذلك نرى أن أثر النسق الديني في النسق الاجتماعي حتى الشخصي يجعل من الاستحالة بمكان قبول تعميم تقييم ديني ما في المعنيين الأخلاقي والوظيفي. فالتجارب الشخصية بالدين وبالحياة الاجتماعية من منظور ذاتي تضعنا أمام حالات نفسية ودوافع تتغاير وتتخالف في الزمان والمكان، وهو ما يضعنا أمام تجارب طقوسية ووضعيات إيمانية ورؤى إن تقاطعت، فلا يعني ذلك القفز على اختلافاتها أو نفي فردانية الرابط بالدين وأشكال تعبيراته في متعدد مجالات ومناحي الحياة الفردية والجماعية للذات الاجتماعية. تُفَكِّكُ الحالةُ الفردانيةُ للرابط بالديني المنظومةَ الدينيةَ الموروثةَ إلى مدونات قِيَمِيّة أو قيميات متنوعة ومتعددة توجد صنوفًا كثيرة من السرديات الدينية وأشكال التدين تميل إلى إعادة تعريف وإلى رسم للفواصل والحدود بين الحيز الذاتي وحيز المشترك، بين الخاص والعام، بين الفردي والجماعي وبين النص المؤسس كمرجع والأفهام المشبعة حمولة سوسيولوجية تحيلنا إلى تنوع التجارب والخبرات الفردية التي تلون حضور الدين في الفعل اليومي للشخص الاجتماعي ومدى تقارب أو تباعد أو حتى تخالف الحمولة القيمية والتصورات والممارسات الطقوسية.

لا يسجل الدين حضوره وسطوته بنفس الحجم والتأثير والقوة التوجيهية ضمن الحياة اليومية للأفراد. فثمة مشهدية معقدة جدًّا في تلون وتعدد أشكال تشابك الديني واليومي، الالتزام بالمنظومة القيمية والمعاييرية الدينية (دين سكوني) وما تفرضه إكراهات الواقع اليومي من أساليب اندماج وصراع وتلون وتأقلم وتكيف اجتماعي (دين حركي) قد لا يجد له ما يعلي مقبوليته في المدونة الأخلاقية الدينية. تتسع أو تضيق مساحة العقل والاجتهاد والتأويل بين الخاصية السكونية (المحافظ والقطعي) أو الحركية (المتجدد والاجتهادي) للرابط الذي يقيمه متعدد المؤمنين في سياقات متغايرة ومتحركة مع الدين وأشكال التدين.

التدين كتعبير طقوسي: ثابت متحول

تضعنا أنثروبولوجية الدين أمام مشترك إنساني ظل ثابتًا على امتداد التاريخ البشري، وهو ترجمة المؤمن بفكرة القوة الغيبية ميتافيزيقيًّا أو لاهوتيًّا للمنظومة الأخلاقية ومنظومة المعاني في تعابير طقوسية يلزم نفسه بها. وهذا الالتزام الأخلاقي لا يشجع فقط على التدين لدى غيرتز بل يقتضيه أو يفرضه. فالمعاني التي يمنحها الإنسانُ الأشياءَ التي تحيط به والتي يبحث دائمًا عن تفسير وتأويل ما لها يمسرحها طقوسيًّا؛ لتنقل وتتبادل وتخزن ضمن رموز تضاهي الواقع وتحكيه أو تفسره. وتتخذ هذه الرموز في كل الأزمنة والمجتمعات قدسية تمنحها نافذة على الالتزام الجماعي والتحول إلى نظام ديني ينتعش في الممارسة الطقوسية الجماعية.

والالتزام هنا بالطقس الديني إنما هو جماعي يوصم الخارج عنه إيمانيًّا (الدين) أو طقوسيًّا (التدين) بالخروج عن المنظمة الأخلاقية على اعتبار التنافذ الحتمي بين الأخلاقي والمعياري في المنظومة الدينية دائمًا. فالثابت في التدين إذًا هو معقولية التعبير الطقوسي عن معانٍ جماعية مشتركة، تتذوتها الفرديات الدينية في سياق ولائها الهووي الجماعي؛ ولذلك تعمل الجماعة الاجتماعية على إحاطة التعبير عن الهوية الجماعية بقدسية تستمدها من معقولية الالتزام التي تعيد تدييم معطى التوافق كحارس هووي لوجود وإعادة إنتاج وجود الجماعة ثقافيًّا في وعي المؤمن المتدين.

من هنا لا يحضر معطى أو مبدأ الاختلاف الفردي في هذا المقترب الهووي إلا مهددًا للأنا الجماعية التي توثق رابط الفرد بها هوويًّا عبر تقديس معنى الالتزام بالتماهي في التعبيرات الطقوسية عن الدين في مظاهرها الشكلية الموصولة باللباس والهيئة وما إلى ذلك، أو بالمظاهر السلوكية المتعلقة مثالًا بالحركات في الصلاة أو الدعاء أو الأداء الجماعي للصلاة عبر القوة التأثيرية للمتخيل الديني المحاط بهالة من القدسية التي توظفها الجماعات التكفيرية والجهادية والسلفية المتشددة مثلًا لتوحيد الهويات المتنافرة والمتداخلة في سردية دينية واحدة تنتج هوية الراديكالي المنقطع عن المجتمع الواقعي والمنتسب إلى مجتمع متخيل صنعته له هذه السردية البراديغم التي تتعالى عن الجغرافيا وعن التاريخ وعن منطقق الزمن.

غير أن سيرورة التطور المجتمعي نحو الانفتاح الطوعي أو القسري المباشر (الاستعمار والهجرة نحو المجتمعات المتقدمة…)، أو الافتراضي (ثورة وسائل التواصل الجماعي وتقنيات الاتصال…) خلقت ما يسميه باتريك هايني الحراكية الاجتماعية الثقافية، التي أخضعت المسافات والتقاطعات بين ما هو فردي وما هو جماعي في الممارسة التدينية إلى مراجعات بعثرت تقليدية الفواصل التي أنتجها النهج التذويتي للفردي في الجمعي عبر رفض مسارات التجديد وعبر تبديع الاختلاف في حيزه الخاص أو العام؛ أي تصويره خروجًا من التدين الرسمي الجماعي، وتهديدًا للتوافق الهووي للأنا الجماعية.

فلم يعد للفرد وللفردي مع هذا التراجع لدور مؤسسات التنشئة الدينية التقليدية (العائلة، الكتاتيب، المساجد، الزوايا) تمثل الدين نفسه بما هو ثابت هووي جماعي ونظام قبلي لفك رمـوز الواقـع، وظيفته توجيه انطباعاتنا وتقييمنا وسلوكياتنا، يسيج تمثلات الفرد لذاته ولروابطه بالجمعي والجماعي غير أنه يصبح بفعل أثر عوامل عدة يحمل أفهامًا وتصورات متعددة ومتخالفة فرديًّا عن العلاقة بالدين وأشكال التعبير عن هذه العلاقة في الحياة الاجتماعية لكل الأيام. وعليه فإن هذا الثابت الذي هو الدين كنظام ثقافي ورمزي حامل لرؤى وأفهام مشتركة ومتقاسمة اجتماعيًّا للعالم وللعلاقة بين الروحي والمادي، أو لحضور الله في الحياة الاجتماعية لكل الناس، إنما ينفتح بشكل دائم على دينامية تغير في النظرة للدين ذاتها وفي أشكال التدين، تستعصي عن النفي.

فالتدين الفردي يختلف عن التدين الشعبي، مثلما أن التدين الشبابي لا يتماهى في تعرجاته وحمولاته القِيَمِيّة مع التدين الشعبي أو مع التدين الرسمي. فتدين المواطن المستقر بعبارة إتييان دو لا بويسي لا يلتصق بمعطى الحق والعدل، بقدر ما يكشف عن انحباس التدين في الشكل وعدم انتقاله إلى القيم أو إلى السلوك. فهو أداء شكلي لطقوس وارتباط لا يجد تعبيره وقوته إلا في التمسك غير الرخو بالشكل. فهو لا يغفر لنفسه تفويت فرض الصلاة في توقيته مثلًا، ويشعر تجاه هذا التراخي بذنب شديد ينحسب أو هو يغيب بوضوح في حيز القيم والسلوك حين نجد أنه لا يتوانى عن الكذب أو عدم الإدلاء بشهادة حق أو هضم حق الآخرين. وإنما هو مجرد أداء للطقوس واستيفاء للشكل، لا ينصرف غالبًا للسلوك. ثم إن الطقوس التدينية لا تحتل التراتب القيمي ذاته عند الفرد. فترك الصلاة مثلًا لا يتساوى مع عدم القيام بفرض الصيام.

فإن كان الفرد لا يصلي طوال العام فإنه لا يبيح له ذلك الابتعاد أو الفتور التديني أن يهجر الصيام، بل على خلاف من ذلك يصر على الإيفاء به في احتفالية تضعه في قلب الجماعة والمشترك الديني. فما يلحظ إذًا هنا هو تنوع شكل الرابط بالتدين لدى الفرد الواحد من طقس ديني إلى آخر. فلا يستجيب الرابط الفردي بالتدين (المتحول) إلى المرجعية القيمية نفسها ويتعالى عن معقولية السلفنة التي تجمد حركيته وانفتاحه على التجربة الاجتماعية الفردية بامتياز على اعتبار أن رابط الفرد بالمجتمع الحديث يعلن عن نهاية المجتمع وموت الاجتماعي لصالح مسارات فردية للذوات الاجتماعية ضمن الفهم التوراني.

فهو يتأرجح بين الديني (نقلًا أو معرفة أو استجابة لقيمة أو معيار ديني) وبين الثقافي. ولعل أكثر الطقوس التعبدية والتدينية قوة في الرابط الفردي بالتدين هي ذات البعد الجمعي (مثل الصيام) الذي يحيلنا إلى القوة الإكراهية للقيم المشتركة لا بالمعنى الدوركايمي في تمثلنا، بل كسلوك تفاوضي ضمن الإستراتيجية الاندماجية للأفراد وسياقاتهم الاجتماعية المتلونة والمتبدلة والمفتوحة باستمرار على التغير، وبالتالي المراجعات التي تلامس بشكل قابل للمعاينة أشكال الرابط بالدين وبالتدين.

خاتمة

إن إثارة هذا البعد الفردي في الرباط بالدين والتدين على درجة من الأهمية النظرية والممارساتية، بما هي استشكال للعلاقة بين الأنا الفردية والأنا الجماعية (النحن) ثقافيًّا. فانتماء الفرد إلى الجماعة لا يعادل دائمًا معنى الاستيعاب الذي لا يعترف بحيز الغموض واللايقين في روابط الفرد بالآخرين، والذي قد يتسع وقد يتقلص في سياقات متغايرة ومتبدلة، ولكنه لا يغيب نهائيًّا. فالثابت الذي يظل مشتركًا في العلاقة هو حضور الدين في منظومة المعنى التي يحملها الإنسان في كل زمان ومكان حول ما يدور حوله من عوالم وأشياء وأحداث يبحث لها عن تفسير متناسق يمنح وجودَه معنًى ومنحًى ما، إلا أن البراكسيس اليومي للناس ينتقل بنا من النص الثابت الواحد إلى النص المتعدد من جهة أنه فهم وقراءة وتأويل يظل منفتحًا على تأثير وتوجيه وسطوة التجربة الحياتية والوجودية للأفراد كذوات فردية لا كذوات متذوتة في الجمعي.


هوامش :

(١)  فالآخر المعمم الذي يتحدث عنه غوفمان Goffman إنما يصنع مشتركًا لما يمكن تسميته بالشخصية القاعدية، ولكنه لا يعني تماهي الفرد كليًّا مع الجماعة أو حلول الكل كليًّا في الذات الفردية.

(٢)  Goffman. Erving, La Mise en scène de la vie quotidienne II. Les Relations en public, Traduit par Alain Kihm, éd de minuit, paris, 1973.

(٣)  اليحياوي. شهاب، «الدين والمجال العام» تقرير الحالة الدينية: 2011-2015م، مؤلف جماعي، مؤسسة مؤمنون بلا حدود، بيروت، 2018م.

(٤)  Grafmeyer. Yves, Sociologie Urbaine, dir François de singly, Nathan, paris, 2000, p45.

(٥)  Boudon. Raymond, Essais sur la théorie générale de la rationalité, Paris, PUF, 2007.

(٦)  أركون. محمد، الهوامل والشوامل: حول الإسلام المعاصر، ترجمة هاشم صالح، دار الطليعة، بيروت، 2007م، ص 41.

(٧)  غيرتز كليفورد، تأويل الثقافات، مقالات مختارة، ترجمة محمد البدوي، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، 2009م، ص ص 221-288.

(٨)  المرجع نفسه، ص 284.

(٩)  المرجع نفسه، ص 289.

(١٠)  روا. أوليفييه، «الجهاد والموت»، ترجمة صالح الأشمر، دار الساقي، بيروت، 2017م، ص 82.

(١١)  هايني. باتريك، إسلام السوق، ترجمة عومرية سلطاني، مدارات للأبحاث والنشر، القاهرة، 2016م، ص 96.

(١٢)  Pétard. J. P, et autres, Psychologie Sociale, France, Bréal édition, 1999, P 164.

(١٣)  لا بويسي. إتييان دو، مقالة العبودية الطوعية، ترجمة عبود كاسوحة، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2008م.

(١٤)  Dubet. François, Sociologie de l’expérience, éd du Seuil, paris, 1994.

(١٥)  Touraine. Alain, La Fin Des Sociétés, éd du seuil, paris, 2013.

(١٦)  اليحياوي. شهاب، «الدين والمجال العام» تقرير الحالة الدينية: 2011-2015م، مؤلف جماعي، مؤسسة مؤمنون بلا حدود، بيروت، 2018م.