الخط العربي.. من الورقة – اليد إلى المطبعة  إلى الآلة – الحاسوب

الخط العربي.. من الورقة – اليد إلى المطبعة إلى الآلة – الحاسوب

ما الإشكالية التي تعالجها هذه المقالة؟ إن تطور الخط العربي من ممارسة جمالية حرة، بصفته ممارسة غرافيكية شخصية على الورق وباليد (بعبارة أخرى بصفته فنًّا)، إلى دخوله في الفضاء الرقمي، الحاسوب بصفته خوارزمية محسوبة، وبأحسن الأحوال بصفته دزاين (design)، يطرح مشكلة التقنين الذي هو ليس من طبيعة هذا الفن ويحد من إمكانياته البلاستيكية المأثورة المعروفة. فهل يمكن أو يتوجب القبول الإجباري بهذا التقنين الجمالي الرقمي المهيمن على العالم المعاصر؟

في البدء علينا التذكير بأن الخط العربي كان في الأصل (فنًّا) خالصًا في ثقافة العرب، من دون قوانين موحدة، فهو يقوم على معايير بصرية بلاستيكية، ليست رياضية. هكذا رآه العرب، وهكذا رآه من أبصره من جيرانهم. وهذا هو فحوى ما يرويه ابن قتيبة في «أدب الكاتب»: عن ابن الترجمان: وكان الواثق أنفذه إلى ملك الروم [البيزنطيين] بهدايا، فقال: وافقتُ لهم عيدًا فرأيتهم قد علقوا على باب بيعتهم كتبًا بالعربية منشورة، فسألتُ عنها، فقيل: هذه كتبُ المأمون بخط أحمد الأحول استحسنوا صُوره وتقديره، فجعلوها هكذا. يعني استحسنوا أشكاله (صوره) وتناسباته (تقديره). تتواتر هذه الفكرة في التراث العربي بصيغ مختلفة للدلالة على بلاستيكية فن الخط، وهذه البلاستيكية ليست كما هو معلوم (خوارزمية) بالمعنى المعروف: مجموعة من الخطوات الرياضية والمنطقية والمتسلسلة اللازمة لحل مشكلة ما، وفي الأصل كان معناها يقتصر على الخوارزمية لتراكيب ثلاثة فقط وهي: التسلسل والاختيار والتكرار. وفي العالم الرقمي هي «مجموعة من القواعد التي تعبر عن سلسلة محددة من العمليات» التي من شأنها أن تشمل جميع برامج الكمبيوتر. إن تقعيد الخط العربي اللاحق، مع ابن مقلة مثلًا، القائم على اعتبار (النقطة) وحدة معيارية «للتناسب» الحروفي، ليس من طبيعة الخوارزمية.

كان إحساس وتلمس المؤلفين القدامى لهذه البلاستيكية الخطية العربية، قد قادهم إلى اشتقاق فرضيات يمكن تسميها (نظرية جمالية) للخط العربي لا تقوم قط على قواعد رياضية أو خوارزمية، أو أدبية كنائية. وعند الرجوع إلى نصوص تراثية واسعة لأدباء عرب ومسلمين تتعلق حصريًّا بالقيمة الجمالية للخط العربي، وبدراسة متأنية لتصوراتهم يتبين لنا أن هذه النظرية تقوم على مصطلحات مفتوحة نسبيًّا مثل:

الانسيابية والمرونة- الإيقاعية الموسيقية- الدلالية والمعنوية- التلازم بين الضرورة والحرية- لعبة الوضوح والغموض- المتشابه والمختلف- الزخرفة والتشخيص الخطي.

النقطة وحدة قياس معيارية

يعبر الحرف عن الجميل والجمالي، وكانت النقطة وحدة معيارية تقاس فيها تناسبات هذا الجمالي. يعرف المعيار في الفلسفة بأنه نموذج متَحَققٌ أو مُتَصَورٌ لما ينبغي أن يكون عليه الشيء، أي ليس بالضرورة لما يجب أن يكون عليه الشيء، ومن ذلك العلوم المعيارية: المنطق والأخلاق، والجمال، ونحوها. وهو يختلف عن غير المِعياري: المختلف أو غير الملتزم بمعيار معين. نحن نتحدث عند حديثنا عن المعياري، عن نموذج للقياس في المقام الأول وليس قاعدة قياسية مطلقة وثابتة.

كان الأمر يجري على يد ابن مقلة على الشكل التالي: كان «يرسم الحافة الهندسية للحروف ثم كان يصلح أشكالها ومقاساتها على وجه التقريب بواسطة النقطة المعينية، وبواسطة حرف الألف والدائرة المعيارية». «كانت الألف المعيارية خطًّا مستقيمًا عموديًّا يقيس عددًا مخصوصًا من المعينات الموضوعة قمة فوق قمة، وهو عدد يختلف حسب الأسلوب من خمسة إلى سبعة؛ إذ إن ارتفاع الدائرة المعيار كان مساويًا للألف، والجميع الألف والدائرة كانا أيضًا مستخدمين كشكل هندسي مرجعي». هنالك إذن دائرة أليفها هو القطر ووفق هذا القطر سيجري بناء جميع الحروف: ستَشْغل الراء 1 /4 من الدائرة بينما الباء فستساوي القطر أفقيًّا… إلخ. في مخطوطة منسوبة إلى ابن مقلة، يكتب شارحها في الهامش: «ربع الدائرة (هو) ست نقط وربع النقطة وربع سُبع نقطة (و) لإتمام الدائرة خمس وعشرون نقطة وسبع نقط».

لكن ما شكل النقطة على وجه التحديد، وهل هناك فروقات في طريقة كتابتها؟

التعريف الذي يقدمه المسعودي لها يحدد شكلها بوضوح: «هي سطح مربع يتكون نتيجة جرة قصيرة للقصبة على الورقة، طوله مساو لعرض منقار القصبة». إنها إذن «مربع صغير» منحرف قليلًا، كما يرسمها المسعودي نفسه (انظر الشكل).

يتابع اختلاف وتعدد أشكال الخط في النهاية طريقة الترتيب في فضاء الورقة للنقاط المرسومة والمرئية التي ليست سوى (نقاط استدلال) للخطاط نفسه، أو تظهر كعنصر تزييني، يحضر من أجل، كما يقول المسعودي، «إعطاء قيمة للفراغ». إن استخدام النقطة كوحدة قياس يدل على أكثر من أمر واحد: أولًا- يلخص هذا المعيار فكرة الفن الإسلامي الذي وهو يهجر التشخيصية أي يهجر رسم الآدمي، فإنه يسعى، في الحقيقة، إلى قياس المجرد المحض، السامي والرفيع، الروحي والمقدس، وحدها ويركز عليها. يؤكد اليوم المزيد من الباحثين الأوربيين أن دور الخطاط العربي كان يماثل دور الرسام الأوربي (انظر دافنشي: دائرة فيتروف المعيارية) ولكن برؤية مختلفة للعالم، وأن هذا الفن كان يناظر في الحقيقة (فن الرسم)، بالمعاني كلها الممنوحة لكلمة رسم في القاموس الغربي.

لقد ظلت معيارية ابن مقلة قائمة حتى وقت متأخر، كما في كتاب محمد بن حسن الطيبي  (أوائل القرن العاشر الهجري – أوائل السادس عشر الميلادي) «جامع محاسن كتابة الكتاب ونزهة أولى البصائر والألباب»  الذي يصور فيها الأحرف تبعًا لابن البوّاب.

من القياس المعياري إلى الطيبوغرافيا

في كتابه «الخطاطون ورسامو المنمنمات في الشرق الإسلامي»  الصادر عام 1908م، يقول كليمون أوار: «يستند قانون أو مقياس النسب، في كتابة المسلمين، على النقطة المعينية التي يختطها منقار القلم الذي يسير بشكل غير مباشر بطول يساوي عرضه. في القرن الثالث عشر، كانت عناصر الحروف مرسومة أيضًا في دائرة تحيطها من جميع الجوانب؛ اختفى هذا الأساس الهندسي من التدريس الحديث». ص21. والمؤلف يطبق، على هدي معارفه الرصينة، الدائرة المعيارية على جميع أنواع الخطوط، ومنها الخط الريحاني، ويستشهد بأنواع من الخطوط المستحدثة يومها في القرن التاسع عشر وربما قبله في إيران وتركيا.

والكتاب موسوعة عن الخطاطين المسلمين حتى نهاية القرن التاسع عشر، لا ذكر تقريبًا فيها للخطاطين المشتغلين في مطابع الدولة العثمانية، وهو ما يهم جوهريًّا مداخلتنا الحالية. لكن المؤلف يلحظ عرضًا أن «خط الرقعة أو الرقاع هو كتابة قليلة السمك وطرية مستخدمة اليوم في الإمبراطورية العثمانية، حتى إن كتل حروف الرقاع المكرسة لطباعة الكتب والجرائد تذوب في القسطنطينية». ص65. ويكتب أن «أبا الضياء توفيق بك، مؤسس مطبعة القسطنطينية التي تحمل اسمه أصبح فيما بعد مديرًا لمدرسة الفنون والمهن في القسطنطينية». ص198. كما يذكر أن «أحمد راقم، الملقب كوتشوك Kutchuk راقم (راقم الصغير)، تلميذ هاشم أفندي، كان يكتب بشكل جيد للغاية ما يسمى الغريفت girift وكان معظم الوقت يعمل في أعمال الطباعة. ولا بد أنه توفي عام (1865- 1867م)» ص204. مصطلح «الغريفت» يعني حرفيًّا بالتركية (المعقد) ويشير إلى الكاليغرافي متداخل ومتشابك الحروف، كالطغراء مثلًا، ولدينا تمارين مدرسية لخطاط تركي لاحق، هو مصطفى راقم، (1757- 1826م)، القرن الثامن عشر، بخط الثلث المعقد هذا.

هذا النوع من الكاليغرافي، صعب الدخول، إذا لم نقل مستحيل الظهور في العمل الطوبوغرافي (الطباعي).

في عرضه المعمق والموثق، تجاهَلَ المستشرق الفرنسي كليمون أوار بشكل غير مقصود مجمل النتاج الطيبوغرافي typographie في زمنه (ولا يتوجب الخلط بين هذا المصطلح ومصطلح الطوبوغرافي)، وهذا النتاج هو الحلقة السابقة مباشرة على إدخال الخط العربي في الحاسب الآلي. الطيبوغرافية يشير إلى فن صياغة الحروف الطباعية، فن وأسلوب ترتيب اللغة المكتوبة لجعلها مرئية وسهلة عند القراءة. ويتضمن اختيار نوع الخط وحجمه وطوله والمسافة بين السطور وبين الحروف حتى تعديل المسافة بين زوجين من الحروف والوصلات الأبجدية. وهنا يُعَدّ «تصميم الخطوط» فنًّا وثيقَ الصلةِ بالطيبوغرافية، فن صياغة الحروف. ظهر المصطلح اللاتيني typographia للمرة الأولى في فرنسا في القرن السابع عشر، من كلمتين يونانيتين قديمتين وهما: τύπος (طوبوس) ومعناها «دس» أو «تثقيب + γραφία غرافيا ومعناها «علامة» أو «طبعة» أو «صورة» أو «كتابة».

في هذه المداخلة سنستخدم مصطلحي الكاليغرافي calligraphie مؤقتًا بديلًا من الخط [العربي]، والطيبوغرافي typographie (فن صياغة الحروف) بالطاء وإضافة ياء، التي يمكن الخلط بينها وبين الطوبوغرافي Topographie الذي هو علم تضاريس سطح الأرض. الخط مفردة ملتبسة قليلًا وحدها وقد تعني الخط الهندسي، بينما الكاليغرافي فهي مفردة تشير حرفيًّا إلى فن الكتابة، وتميز اللغات الأوربية بينها وبين مفردات مجاورة مثل الخط [اليدوي script]، والحروف lettres، وحروف الطباعة caractères وtypes، وطقم الحروف (بالإنجليزية fonts وبالفرنسية polices) وغير ذلك مما سيأتي فيما نستشهد به.

التحديات في تكييف خط اليد العربي

أما عمل السيدة إيمانويلا كونيدي المعنون «حروف اللغة العربية المطبعية في أوربا والشرق الأوسط، بين 1514- 1924م: التحديات في تكييف خط اليد العربي. من الكتابة إلى النموذج المطبوع»، فهو يسلط الضوء على جوانب من موضوعنا الحالي. وفي مقدمتها تطرح الأسباب التي دعتها لكتابة العمل: «هناك سبب إضافي حفز هذا العمل هو التناقض بين النماذج الكاليغرافية للخط العربي وتطوره المطبعي، كما أن قِلّة الدراسات التي ترصد أصل هذا الاختلاف وتشرح العوامل التي تسببت فيه. من الواضح أن العثور على إجابات، يتطلب بناء فهم للعناصر التي ساهمت في إنتاج تمثيل «أصيل» للنص العربي، والتحقق في كيفية الاهتمام به في بيئة الطباعة. ثانيًا، من الضروري تحديد ما إذا كانت بعض مقاربات صانعي حروف الطباعة قد فشلت في إنتاج الخط [اليدوي script]، وبالتالي المقدرة على استنساخ طيبوغرافي أمين لهذا الخط. غالبًا ما يشار إلى الافتقار إلى الأصالة كعامل حاسم في المظهر «الأجنبي» للتصاميم المميزة للحروف الطباعية العربية الذي يرتبط بالحروف العربية المبكرة المنتجة في أوربا مقابل نظيراتها المنتجة في الشرق الأوسط: وبالتالي وُصِفَت الحروف الطباعية التي تحمل بعض أوجه القصور على أنها تحتوي على مظهر «أوربي ملحوظ»».

وتذكر أيضًا: «يشير حجم الأدبيات المكتوبة التي تفضل الجوانب التاريخية والببليوغرافية للطباعة العربية إلى وجود قدر كبير من المعلومات المتكررة التي تظل مرتبطة بما هو معروف عن تاريخ الطباعة، من دون أن تصبح ذات قيمة نقدية فيما يتعلق بتطور الحروف الطباعية. النهج المقترح هو جعل الحروف الطباعية العربية محور البحث، وبناء المعرفة من خلال تحليلها، وتشكيل الروابط بين مظهرها الرسومي والعوامل التي كانت مؤثرة في عملية تصميمها وإنتاجها. علاوة على ذلك، لتقويم تكييف الحروف العربية في الانتقال من أشكال حروف مكتوبة بخط اليد إلى حروف طباعية من خلال مقارنة مناهج مختلف صانعي حروف الطباعة والطباعين؛ لمعالجة الأسئلة المتعلقة بالجوانب التقنية المعروفة بالثقب – القطع، ومناهج تأسيس الحروف العربية المطبوعة؛ للإقرار وللسجال بشأن العلاقة الصارمة بين تقنية صناعة الحروف وتصميم مظهر الحروفtypeface. ». وتقول المؤلفة: إن دراستها «هي الأولى التي تقدم تقييمًا نقديًّا مفصلًا لأنواع مسابك الحروف العربية وتسلط الضوء على تطور علم أشكال الحروف الطباعية من خلال بحث دقيق ومن خلال استشارة منهجية للمصادر الرئيسية». ص9.

رواد الطباعة

لنعاود طرح الإشكالية من جديد في هذه المرحلة من المقالة: ما طبيعة المشكلة التي يواجهها أو واجهها الخط العربي في سياق العمل الطباعي (الطيبوغرافي) قبل الوصول إلى مرحلة الحاسب الآلي؟ في فقرة مؤلفتنا «خصائص الكاليغرافي وتنوع الحروف» ص 175، تلخص المشكلة بأن «رواد الطباعة -في أية كتابة ولغة- كان عليهم مهمة إعادة إنتاج المخطوطات إلى كتب مطبوعة. ولأسباب واضحة، قَدمت أشكال الحروف المكتوبة يدويًّا مصدرًا مرجعيًّا لترجمتها إلى أنواع معدنية [تقصد طيبوغرافية]. أما الخط العربي، فقد كانت المخطوطات تحمل أيضًا تقليدًا قويًّا للخط العربي [الكاليغرافي]، الذي جسد في العالم الإسلامي صورة الخط [اليدوي] script التي كان القراء مألوفين ومعتادين عليها. يبدو من الآمن أن نقول: إنه من أجل التمثيل المطبعي، الطيبوغرافي، الصادق للخط اليدوي العربي، كان القرب من الأشكال الكاليغرافية شرطًا أساسيًّا لصانعي الحروف ومتطلبًا متوقعًا للقراء الأصليين.

تُظهر الخصائص الكاليغرافية للحرف الطباعي ما إذا كان قد جرى الحفاظ على أي من سمات التقليد الكاليغرافي للخط اليدوي أو رُفِضَ. يتضمن المعيار الذي أناقشه تنفيذ الضربات ونسب وشكل الأحرف الفردية وأسلوب الخط كمعالم للتقويم. لا يكشف تنفيذ الحركات النظامية المتكررة strokes عن قدرة قاطع الثقب بصفته صانعًا فحسب، بل يكشف أيضًا عن حساسية لأشكال حروف النص ومعرفة متطلبات الخط المراد ترجمتها إلى معدن. على وجه الخصوص، أنتج تعديل الحركات النظامية المتكررة الذي تم إنشاؤه في الخط بواسطة قص قلم القصب بزاوية، ضربات رفيعة وسميكة كان لا بد من إعادة إنتاجها في الطباعة للحصول على تمثيل أكثر واقعية للخط اليدوي. يجب أن يقال الشيء نفسه عن التشكيل العام لأشكال الحروف وعلاقاتها النسبية: الوضوح والتمايز والانسجام في الأشكال هي عوامل حاسمة لتصميم ناجح.

يُعَدّ ضبط الأسلوب الكاليغرافي أداة للتحقق من الترابط والتقيد بأشكال الحرف بالأسلوب الكاليغرافي المختار. في الكاليغرافي الإسلامي، هناك تمييز واضح بين الأساليب (الأنواع) التي يمكن تقليديًّا استخدامها جنبًا إلى جنب في العمل نفسه، شرط ألا تختلط في نفس النص. يجب أن يحدث هذا أيضًا في الإنتاج المطبعي للكتابة (اليدوية)؛ ومع ذلك، غالبًا ما كانت الخطوط العربية المبكرة تحتوي على مزيج من أشكال الحروف التي تنتمي إلى أنماط كاليغرافية مختلفة. ليس من الواضح سبب حدوث ذلك: من المحتمل أنه نظرًا للمعرفة المحدودة باللغة العربية في أوروبا في القرن السادس عشر، لم يكن الفصل بين أنماط الكاليغرافي [تقصد أنواع الخط] واضحًا بالنسبة لصانعي الحروف لاتخاذ قرارات واعية عند الانطلاق في عمل العربية…». انتهى الاستشهاد.

هذه المشكلة جرى تجاوزها عند تطور الأدوات الطيبوغرافية العربية في وقت لاحق، وتطرح مقالة روبيرتو هام، بالفرنسية، المعنونة «من الكاليغرافي إلى الطيبوغرافي» عام 1980م المسألة من وجهة نظر مصمم غرافيكي معاصر، بعد تطور واسع للطباعة والصحافة في العالم العربي، ومحاولات جادة لاستخدام طيبوغرافي مغاير لأنواع من الخط العربي في مانشيتات الصحافة العربية. يحاول المؤلف تحديد الفرق بين هذين المفهومين، الكاليغرافي والطيبوغرافي، بشكل أوضح. والسعي لحل المشكلات التي تطرحها الطباعة العربية التي يرى أنها «لا تزال تجري خلف الشكل الظاهري لفن الكاليغرافي الذي فقد صفاته الجمالية، نتيجة الرغبة في فرض شكله الحر ضمن إطار محدود من المعايير التقنية». ويرى أن تحرير الكاليغرافي مرة أخرى من الانحسار القسري لأشكاله التي فرضتها عليه الآلة، يجري «من خلال تعريف الطباعة العربية بشكل أفضل عبر تكيف أفضل، ليس فقط مع الوسائط الحديثة، ولكن مع وسائل الإعلام وسياقاتها التكنولوجية التي هي وسيلة لتطور موازٍ للكاليغرافي: هذا التعبير البلاستيكي التجريدي الهائل والكتابة المحايدة والملموسة وأداة المعلومات والاتصال».

هذا التعريف يغيب تمامًا عن الانشغالات الطيبوغرافية العربية، ناهيك عن الحاسب الآلي.

في طيبوغرافيا الثمانينيات، قبل الاستخدام الواسع للحاسب الآلي، كانت المشكلة تكمن في أنه نظرًا لعدم كفاية اختيار أشكال الحروف، الذي ينتج عنه في الواقع نسخ طبق الأصل ناجحة إلى حد ما عن خط النسخ (أو الخط النسخي وقد سمي بعدة تسميات: البديع، المقور، المدور)، فإننا ننتقل إلى تبسيط الكاليغرافي في الأعمال المطبوعة باللغة العربية. وبالتالي، فإن هذا التبسيط لا يعتمد فقط على جودة الخط المستخدم، ولكن أيضًا على حقيقة أنه لم يعد من الممكن الحفاظ على مبدأ الفن الكاليغرافي العربي المنجز في سياق تكامل العناصر [الإبداعية] الموصوف. واحد من أكبر مواقع الطيبوغرافيا العالمية تلخص مشكلة الخط العربي (الكاليغرافي) مع الطباعة في أن أحرف الأخيرة، شديدة الصلابة والميكانيكية، لم تتمكن من استبدال أناقة وجمال إيماءة الخطاط؛ ولذلك لا يزال يتعين على الأخير في كثير من الأحيان إنتاج أغلفة الكتب وعناوين الصحف والملصقات حتى الإعلانات، وليست كل أنماط الكتابة قابلة للتبديل بسهولة إلى طباعة. وهكذا فإن خطوط النسخي والكوفي والرقعة والفارسي، لها ما يقابلها اليوم في الحروف المطبوعة. وهذا مختلف تمامًا بالنسبة لأنماط الديواني أو الديواني الجلي على سبيل المثال التي لا تصلح لمثل هذا التبسيط.

تركيب ضوئي

حاول فنانون عرب التملص من مشكلات الطيبوغرافية العربية، مثل أبجدية الخطاط والشاعر محمد سعيد الصكار الذي اختصر عدد الحروف العربية الطباعية كي تتناسب مع أجهزة صف الحروف اليدوية والآلية والإلكترونية في سياقها القياسي العالمي. وقد وجد أن جذور الأبجدية العربية هي 21 جذرًا يمكن أن يشكل الحروف الممكنة ويغطي الحاجة المطبعية، وسعى لتقديم خطوط جديدة تتناسب مع الحاسب الآلي.

عندما نصل إلى الحاسب الآلي، نعرف أنه منذ الثمانينيات، مع شاشة أشعة الكاثود (اخترع أنبوب أشعة الكاثود CRT كارل فرديناند براون)، يسمح بإنشاء برامج «للخط الكاليغرافي» الحاسوبي الذي قدمته مجموعات النشر الألمانية كليت Klett Gruppe أو Klett-Interpart (في شتوتغارت) في أكتوبر عام 1978م، وكان قادرًا على إدماج وتعديل 600 حرف، بالإضافة إلى أكثر من 400 حرف مركب. تتشكل الكتابة العربية، وفق عمل هذه البرنامج، من تركيب ضوئي، ولم تعد الأبجدية العربية تتكون من أحرف منفصلة بل مكتوبة بواسطة شعاع ضوء أنبوب أشعة الكاثود الموجه بواسطة الحاسب الآلي. أنشأ الأحرفَ في هذا البرنامج الخطاط (عدلي بولس) وحُفِظَتْ في ذاكرة الحاسب الآلي الذي يعيد إنتاج الأحرف باستخدام شبكة يمكن أن تصل إلى 50000 نقطة لكل علامة (نحو 225 وحدة لكل جانب من الشبكة).

وكان بولس من أشهر الخطاطين في مصر، وأول رئيس تحرير لصحيفة الأهرام وهو الذي أمر بصب أول حروف كُتِبَت بخط النسخ بقوالب معدنية.

ويعتبر معيار (DIN-31635) الرقمي من معايير «المعهد الألماني للتوحيد القياسي» (Deutsches Institut für Normung) الذي يسمح بترجمة الأبجدية العربية، هذا المعيار هو الأكثر استخدامًا في مجال الدراسات العربية في الدول الغربية. ويقدم البرنامج المسمى ArabTeX الذي كتبه كلاوس لاغالي Klaus Lagally دعمًا للأبجديات العربية والعبرية، وهو ينتج حروفًا مركبة عالية الجودة لكتابة اللغة العربية. وهناك غير ذلك من البدايات بالطبع. واليوم تطور الأمر كثيرًا.

التحفظ الأساسي على وجود الكاليغرافي في أنظمة الحاسب الآلي يتلخص في أن هذا الوجود يتناقض مع مفهوم الكاليغرافي ذاته؛ لأن هذا الفن، على حد تعبير هايم يمكن أن «ينشأ فقط نتيجة لسلسلة من الحركات الجسدية الفريدة، حيث كل جرة قصبة، وكل شكل من أشكال الحروف مفكر بها في سياق قطعة محددة من الكاليغرافي. اليد تترجم على الورق الفكر الإبداعي للخطاط، إنها ليست مجرد مسألة تنفيذ أو كتابة، كما هي الحال للناسخ أو الكاتب».

أضف لذلك أن الحاسوب، مع وجود بضع مئات أو آلاف من العلامات في ذاكرته، يعيد إلى ما لا نهاية نفس الإشارات الجسدية (فالخطوط هي آثار وإشارات للجسد) التي أَمْلاها عليه الخطاط – مصمم البرنامج. إن ميزة أجهزة الحاسوب في إنتاج النصوص بسرعة عالية وبجودة فائقة، يستجيب لمتطلبات عصرنا، ولكنها لا تضيف على ما يبدو جديدًا أو تحسينًا لفن الكاليغرافي العربي. لنلحظ أن تاريخ فن الخط في العالم الإسلامي يقوم على سلسلة من «التحسينات» الخطية والإضافات واختراع الخطوط الجديدة منذ أول نشوء الكتابة العربية، وكلها تحسينات تقوم على رهافة وذاتية الاستخدام الجسدي ليد الخطاط، وهذه لا يمكن الاستعاضة عنها حتى الآن.

صحيح أن خطوط الخطاطين العرب المعاصرين حُوِّلَتْ إلى خطوط حاسوبية، ولكن الجميع يعترف بأنها فقدت الكثير من جمالياتها، فلم يستطع المبرمجون الوصول لخط في الحاسوب تعادل أشكاله وحركاته الخط اليدوي للخطاطين. هناك برنامج حديث يحتوي على أكثر من 64 ألف شكل للحروف العربية، عدد يستوجب على مستخدم البرنامج أن يكون قد درس قواعد الخط العربي، ليستطيع استخدامه بشكل جيد. ها نحن نعود إلى نقطة البداية.

يُذكر غالبًا أن محركات الخطوط المتاحة حاليًّا، قد أُنجزتْ للأحرف اللاتينية ولم تأخذ في الحسبان سواها كالعربية التي ظلت غالبًا بسيطة. ويُقترح مع ذلك اليوم محرك خطوط ابتكرته إحدى الشركات العالمية يمكنه التعامل مع الخطوط العربية المعقدة. ويُعتقد أن إدخاله على نظامي التشغيل المعروفين (ويندوز وماكنتوش) سيكون حلًّا جوهريًّا؛ إذ سيكون لدى مصممي الخطوط العربية الأدوات اللازمة لتصميم خط يتناسب وغنى الخط العربي وتاريخه. ولا نعرف مدى صواب ذلك؛ لأن هذا المحرك الخطي هو برنامج للتصميم (دزاين) الحروفي بالأحرى. مشكلة أخرى تتعلق بالخط العربي والحاسوب هي أن فلترات PhotoFiltre أشهر برامج معالجة الصورة، لا تستطيع التعامل الجمالي مع الخط العربي تغييرًا وتعديلًا، إلا بثمن تشويه الخط ومقاييسه كما في المثال المرافق. وهو ما يوجب على المبرمجين العرب التفكير في المزيد من الفلترات المناسبة التي تحور الخط جماليًّا مبقية على المقروئية. يأمل المرء في النهاية أن يقدم المبرمجون العرب المزيد من البرنامجيات المتعلقة بالخط العربي، والتنويع الكبير والمستجد والجمالي والمغامر لخطوطهم؛ ذلك أن إثراء تنافسيًّا جماليًّا كهذا قد يوصلنا لاحقًا إلى نتائج حاسوبية في مستوى جمالية وتعقيد ونفاسة الخط العربي الأصلي.

ملحوظة أخيرة

من الواضح أن طبيعة التقنية والحوامل التي تُستخدَم للخط العربي، تؤثر تأثيرًا بالغًا في طبيعته النهائية. هذا صار جليًّا فيما يتعلق بتقنيات المطابع والبرنامجيات الإلكترونية، ولكنه ليس أقل وضوحًا في الحوامل الجدارية والبنايات والبلاط والسيراميك التي من الواضح أن الخط ينفذ قبل تطبيقها عليها على حوامل ورقية. تضيف تقنيات وأصباغ ومواد الحامل الجديد «قيمة» إضافية على الكاليغرافي النهائي وملمسًا يختلف عن كاليغرافي المطابع وبرامج الحاسب الآلي. هذا مرئي في خطوط العمائر والسيراميك في آسيا الوسطى مثل سمرقند، وفي مناطق أخرى كالهند.