لم تكن تجربتي سَلِسة مع سدنة المحاكاة والسلفية العثمانية

لم تكن تجربتي سَلِسة مع سدنة المحاكاة والسلفية العثمانية

لفت نظري عناوين الكتب المدرسية التي كانت تكتب بأيدي خطاطين مميزين، فبدأت أقلدها. وجّهتني بعد ذلك مديرة المدرسة التي كانت تدرس لنا الرسم والأشكال لتعلم الخط على يد أستاذ محترف، وهو ما كان. فبدأت تعلم قواعد الخط الكلاسيكية منذ كنت في العاشرة عند الأستاذ بدوي الديراني، وهو كبير خطاطي بلاد الشام. ثم ظللت أتلقي دروسًا على يديه حتى وفاته بعد خمس سنوات. لكني قبل وفاته كنت قد بدأت أعمل في الخط كحرفة. حيث أعمل خطوطًا للمطابع واللافتات وغير ذلك. وكنت أخجل من التوقيع عليها في حياة أستاذي. ثم بدأت أعمل خطاطًا محترفًا منذ ذلك الوقت، وأنا ما زلت في المرحلة الإعدادية. ساعيًا لأن يكون في عملي بعض الجدة أو الاختلاف عما يقوم به الخطاطون الآخرون.

كنت في الوقت نفسه مقبلًا على التدريب في الرسم، واتجهت لدراسة الفنون الجميلة بعد الثانوية العامة. فتخصصت في التصميم الغرافيكي. وخلال مدة ما قبل الجامعة كنت أسعى إلى التوسع في ثقافتي الخطية تاريخيًّا، من الناحيتين النظرية والبصرية. وهو الأمر الذي لفت نظري إلى كثير من الأمثلة -في ديوان العصر العثماني وما تلاه- على خطوط مسكوت عنها من عائلة الكوفي، تنطوي على قيم تشكيلية وجمالية عالية يمكن إحياؤها وإعادة العمل بها بعين معاصرة. وهو الأمر الذي سبقني إليه محيو بعض أنواع الخط الكوفي التي عرفت في مصر، كالأثري الخطاط يوسف أحمد. عملت على بعض الخطوط المختلفة التي أنتجت في أماكن أخرى، ورأيت أن هذا يلبي سعيي إلى التجديد والإضافة بعيدًا من قيود التقليد والمحاكاة التي تجمدت عند العصر العثماني. ومن هنا كانت البداية وتكريس الوقت والجهد للتجديد والتطوير والإضافة على المستويين النظري والعملي، وهذا ما ميز تجربتي منذ بدايتها حتى اليوم.

النضج

ساعدتني دراستي الأكاديمية للتصميم الغرافيكي فيما قمت به من تحديث وتجديد وإضافة. وفي سياق التجربة قمت بتجديد بعض الخطوط المعروفة بعين معاصرة، وإحياء وتطوير بعض الخطوط القديمة واستكمال نواقصها، واستخدامها في أعمال فنية، ثم توليد واشتقاق وابتكار بعض الخطوط الأخرى، وهذا ما بدأته في الجامعة ثم في عملي على تصميم أغلفة الكتب والملصقات والشعارات، بالإضافة إلى الخطوط المبتكرة التي طورتها للاستخدامات الطباعية. ومن الخطوط التي عرفت بها: الخط الكوفي، القيرواني، المشرتي، النيسابوري (من أنواع الخط الكوفي)، والخط السنبلي، وغيرها من الخطوط المرنة التي بدأت بتوظيفها في لوحاتي وأعمالي التشكيلية، لكني لم أبدأ بعرضها إلا بعد أن أنضجتها. وكان معرضي الأول عن رؤيتي لتطوير الخط العربي في الأعمال الفنية عام 1987م الذي أقيم في أتيليه القاهرة للفنانين والكتاب، والذي لقي ترحيبًا كبيرًا من كبار الخطاطين في مصر كالأستاذ سيد إبراهيم، والأستاذ محمد عبدالقادر، وكبار التشكيليين كالأستاذ حسين بيكار وحسن سليمان وغيرهما، والنقاد والغرافيكيين كمحيي الدين اللباد وحلمي التوني وغيرهما. بالإضافة إلى الإقبال الذي حظي به من الجمهور، وكان هذا المعرض دافعًا كبيرًا للمضي فيما بدأته وتأكيد رؤيتي للخط العربي وتطويره.

على مستوى الأهداف أعتقد أنني حققت الكثير في الجانب التأسيسي لأفكاري حول تطوير الخط العربي، وإعادة الاعتبار له كفنّ تشكيلي، مميز للفن العربي، وكان من نتائجه أن كثيرًا من الشباب الخطاطين تأثروا بتجربتي، وعملوا على الاستفادة منها، ولو أن كثيرًا منهم تعامل بمنطق التقليد والمحاكاة، لكن قلة منهم عملوا على فهم المنهج الذي وضعته واتبعته في التعامل مع هذا الفن.

ولا يعني ما سبق أن الأمور تمت بسلاسة مع سدنة التقليد والمحاكاة والسلفية العثمانية. فقد لقيت عنتًا من كثير من السلفيين الجامدين في مجال الخط العربي، بالإضافة إلى اعتمادي على قدرتي الذاتية من دون أي دعم من أي جهة ثقافية أو فنية، ولم أستطع تجاوز ذلك إلا بفضل عمق بحثي وثقافتي الخطية التاريخية والبصرية والفنية التشكيلية بشكل عام.

والخط العربي فن يقوم تشكيله على الأسس العامة نفسها التي تجمع بين الفنون التشكيلية، لكنه كما كل أنواعها يتمتع بخصوصية ومكانة خاصة بينها؛ لكونه فنًّا يقوم على التجريد، ويضاف إلى ذلك المعنى الذي يستمد من العبارة التي يشكلها الفنان، وهو بذلك يحل معادلة الشكل المحتوى التي طالما شغلت الفنانين.

تاريخية الخط

تدل تاريخية الخط العربي وتطوره كفن على أنه ليس فنًّا جامدًا مقولبًا، فهو منطلق من أساسيات هيكلية ليشكل اعتمادًا عليها أبنية مختلفة من المشهدية، لكنها لا تخرجها عن الإشارة إلى هذا الهيكل، كما هو الحال بالنسبة للهيكل العظمي للإنسان أو الحيوان الذي يتعامل معه الرسام أو الفنان بطرق مختلفة، حتى في تحويره، تمنع من رؤيته بصفته الأساسية.

والخط العربي هو خط عربي وليس إسلاميًّا، وأنا أرفض أي تسمية أخرى للخط العربي، لأن بدايته الهيكلية موجودة قبل الإسلام بما يزيد على 600 عام، وهذا ما تدلنا عليه النقوش المكتشفة، وقد تطور في بداياته في ظل الحضارة العربية، وكانت أولى خطوات تطوره المهمة مع تعريب الدواوين في أيام عبدالملك بن مروان في العصر الأموي. وقراءة التاريخ بعين فاحصة تبين لنا أن كل من قاموا بنقلات نوعية في تطويره كانوا من الكتاب العاملين في الإدارة، ولم يكونوا من الفقهاء، وهذا ينطبق على ابن مقلة، ثم ابن البواب، ثم يقوت المستعصمي، الذين أجروا أهم نقلات في تطويره في العصر العباسي. لكن هذا لا ينفي أنه كان له دور في أعمال تتصل بالدين كمخطوطات المصاحف وخطوط المساجد والجوامع، تلك التي كانت تتم جنبًا إلى جنب مع التجليات الأخرى للحضارة الصاعدة، حتى ذلك الوقت من مخطوطات ودور وقصور وبيماريستانات ومنتجات فنية يتعامل معها الناس في حياتهم اليومية. وتتفق مع القول: إن الإسلام دين ودنيا. لكن الخط العربي وضع في العصر العثماني في قفص من القدسية لأسباب عديدة، وهذا أدى إلى حرماننا من اكتشاف الآثار الخطية الجميلة في خطوط غير التي اعتمدها العثمانيون حتى وقت متأخر، وليس أدل على ذلك من الخطوط الكوفية برمتها، التي وضعت في الظل طوال العصر العثماني.

علمًا أن العثمانيين اعتمدوا على خطي الثلث والنسخ كخطين أساسيين، وقصروا دورهما على الاستخدامات الدينية، وهذان الخطان كانا سابقين على العثمانيين الذي لم يضيفوا إليهما إلا من باب التجويد دون التجديد. واستخدم العثمانيون خط التعليق (الفارسي) للأشعار والأناشيد انطلاقًا من خط التعليق الذي سبقهم إليه الفرس، لكنهم حاولوا تطويعه لذائقتهم بعد ذلك. فاعتمدوا على التعليق التركي الذي يقل جمالًا عن التعليق الذي صممه الإيرانيون أو الفرس وقتئذ، وبرعوا فيه. لكنهم أضافوا للاستخدامات اليومية خطي الديواني والديواني الجديد، واستخدموهما في الدواوين والأمور الرسمية، إضافة إلى خط الرقعة للكتابة العادية. وظل الخط الديواني والديواني الجديد حَبِيسَيْ وظيفتَيْهِما التي كرسها لهما العثمانيون حتى تَطوَّرَ الخط الديواني على يد مصطفى غزلان في مصر، وممدوح الشريف وبدوي الديراني في الشام، فصار قابلًا للاستخدام في الأعمال الفنية بعيدًا من الوظيفة التي كرسها العثمانيون.

الوظيفة والجمال

الكتابة في كل اللغات لها وظيفة توصيلية مهما حُسِّنَ شكلها. وهذا منطبق على كل كتابات اللغات باستثناء عائلتي الخطوط العربية والصينية/ اليابانية. فقد التقتا كفنّين قائمين بذاتهما، لهما أصولهما الفنية وتجلياتها البصرية التي تضعها في مصافّ الفنون التشكيلية. وقد بدأ الخط العربي في الارتقاء من وظيفته التوصيلية الدنيا إلى الوظيفة الفنية الأعلى مع ارتقاء الحضارة العربية، واستمر في ذلك بشكل مكثف حتى سقوط بغداد الذي تلاه تباطؤ شديد في إغناء هذا الفن وتطويره. ثم بدأت محاولات العودة إليه بشكل لافت مع بدايات القرن الماضي، وما تم فيه من اكتشافات أثرية لفتت الأنظار إلى الأهمية الجمالية للخط العربي.

غادرنا العثمانيون بعدما تكرست في أذهان الناس فكرة ربط الخطاط بوظيفة دينية تجعله مهنيًّا يقوم بأعمال اللافتات والمطبوعات وغيرها، وأبعدته من التعامل مع نفسه كفنان في فن متميز بسبب التنميط والتقليد والقيود الأخرى. وقد بدأت معطيات جديدة تلفت الأنظار بدءًا من دخول الطباعة إلى بلادنا متأخرة، وتجلى ذلك في تصميم حروف المطابع للاستخدام في الطباعة. لكن المحاولات الأولى تأثرت بالرغبة في عمل كتب شبيهة بالمخطوطات، وهذا أدى إلى أن تكون صناديق الحروف الأولى كبيرة جدًّا، وعدد أشكالها كبير أيضًا؛ بسبب تعدد وكثرة أشكال الحروف، الأمر الذي دعا إلى محاولات اختصار الحروف عبر تصرفات فنية من مصمميها.

واستمر الأمر طويلًا حتى عُقِدَ مؤتمر أو ندوة في الأربعينيات حول إشكاليات الطباعة في اللغة العربية، وتفاوتت الدعوات بين القائلين بالانتقال إلى حروف لاتينية أو تصميم حروف منفصلة أو اختصار الأشكال بحيث تتماشى مع التقنية الخاصة بالطباعة. وظهرت نماذج الحروف التي اقترحها أصحابها، لكن كانت الغلبة للدعوة إلى اختصار أشكال حروف الصناديق. وبدأت بعض الجرائد ودور النشر في هذه المحاولات مع الرغبة في المحافظة على قدر من الجمال وتلبية الوظيفة الجديدة. وعندما تطورت وسائل الطباعة ظهرت أشكال أكثر اختصارًا لكنها كانت محدودة، ومع عصر الحاسوب والتطورات المتسارعة التي شهدها العالم بدأت تصميمات جديدة تظهر، وحلت إشكالية الصندوق.

هنا ثارت ثائرة الخطاطين الحرفيين الذين وجدوا في هذا قطعًا لأرزاقهم، وهو ما جعلهم يقفون في وجه هذه التصميمات. غير أن الأمر في الواقع خلق فرزًا بينهم وبين المبدعين الذين انتبهوا إلى أن بإمكانهم التعامل مع فنهم بطريقة مختلفة، فركزوا على إنتاج أعمال فنية لا تستطيع التقنية الجديدة أن تحققها. وشهدنا صعود معارض الخط وتداول اللوحات الخطية، واتجه بعض المبدعين إلى تصميم حروف طباعية جديدة للاستخدامات الطباعية. فقل وجود الخطاطين المهنيين وزاد عد المهتمين بالخط كفن. وأعتقد أن هذا التحول بدأ يعطي ثمارًا من حيث الاهتمام باللوحة الخطية كعمل فني جمالي لا وظيفي.

لكن كما هي الحال في كل النقلات يختلط الحابل بالنابل في هذا المجال، فهناك الغث والسمين، وهو الأمر الذي لن يستمر طويلًا، وسيحدث فرز بين التجارب المميزة والتجارب المتواضعة على حد سواء، في اللوحة الخطية أو في تصميمات الحروف الطباعية. ولكن المحصلة ستكون في مصلحة هذا الفن واستخداماته المتعددة.