اغتيال اللغة الكردية

اغتيال اللغة الكردية

خلال‭ ‬مئة‭ ‬عام‭ ‬دأبت‭ ‬الحكومات‭ ‬التركية‭ ‬المتلاحقة‭ ‬على‭ ‬إزالة‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬له‭ ‬علاقة‭ ‬بالمخزون‭ ‬الثقافي‭ ‬الكردي‭. ‬عملت‭ ‬على‭ ‬إعادة‭ ‬صياغة‭ ‬الذاكرة‭ ‬الكردية،‭ ‬ونقلت‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬إلى‭ ‬صندوق‭ ‬الهوية‭ ‬واللغة‭ ‬التركيتين. طردت‭ ‬اللغة‭ ‬الكردية‭ ‬ليس‭ ‬فقط‭ ‬من‭ ‬المدارس‭ ‬والجامعات‭ ‬والتكايا‭ ‬وحجرات‭ ‬الدين‭ ‬والمعاملات‭ ‬الحكومية‭ ‬والقانونية‭ ‬والإدارية‭ ‬والتجارية‭ ‬والدينية‭ ‬ومستلزمات‭ ‬التكسب‭ ‬والبيع‭ ‬والشراء،‭ ‬بل‭ ‬من‭ ‬مساحة‭ ‬البوح‭ ‬الشخصي‭ ‬بين‭ ‬أفراد‭ ‬العائلة‭ ‬الواحدة‭. ‬وسُخرت‭ ‬الموارد‭ ‬والإمكانيات‭ ‬لنشر‭ ‬وتعميم‭ ‬اللغة‭ ‬والثقافة‭ ‬التركيتين،‭ ‬داخل‭ ‬البلاد‭ ‬وخارجها (مراكز‭ ‬وبعثات‭ ‬ودورات‭ ‬وإذاعات‭ ‬وصحف‭ ‬ودوريات‭ ‬وكراسات‭ ‬دعاية‭ ‬وترويج) قُمعت‭ ‬بشدة‭ ‬أي‭ ‬بادرة‭ ‬ليس‭ ‬لنشر‭ ‬اللغة‭ ‬الكردية‭ ‬بل‭ ‬لمجرد‭ ‬التكلم‭ ‬بها.

تحقق‭ ‬ذلك‭ ‬بأدوات‭ ‬القهر‭ ‬العسكري‭ ‬والتعبئة‭ ‬الأيديولوجية‭ ‬والاستنفار‭ ‬السياسي. كانت‭ ‬حملة‭ ‬سفربرلك‭ ‬حقيقية،‭ ‬حرب‭ ‬صليبية‭ ‬لاحقت‭ ‬بضراوة‭ ‬أي‭ ‬ملمح‭ ‬من‭ ‬ملامح‭ ‬اليقظة‭ ‬الكردية،‭ ‬أُغرقت‭ ‬في‭ ‬الدم‭ ‬كل‭ ‬التمردات‭ ‬والانتفاضات‭ ‬والثورات‭ ‬الكردية،‭ ‬وسُحِقَ‭ ‬كل‭ ‬مظهر‭ ‬لغوي‭ ‬أو‭ ‬ثقافي‭ ‬من‭ ‬مظاهر‭ ‬تلك‭ ‬اليقظة،‭ ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬كان‭ ‬كراسًا‭ ‬صغيرًا‭ ‬عن‭ ‬الأبجدية‭ ‬الكردية‭ ‬أو‭ ‬ديوان‭ ‬شعر‭ ‬أو‭ ‬قصة‭ ‬قصيرة.

في‭ ‬عام 1979م أنهى‭ ‬الكاتب‭ ‬الكيني‭ ‬نغوجي‭ ‬وا‭ ‬ثيونغو،‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬مرشحًا‭ ‬لجائزة‭ ‬نوبل،‭ ‬كتابة‭ ‬رواية «تويجات‭ ‬الدم‮»‬،‭ ‬ثم‭ ‬قال‭ ‬وداعًا‭ ‬للغة‭ ‬الإنجليزية، وكتب‭ ‬نصوصه‭ ‬اللاحقة‭ ‬بلغة‭ ‬غيكويو،‭ ‬لغته‭ ‬الأم، يقول: «كنا‭ ‬نتكلم‭ ‬لغتنا،‭ ‬لغة‭ ‬غيكويو،‭ ‬في‭ ‬البيت‭ ‬والحقول‭ ‬وعلى‭ ‬الطرقات‭ ‬والدروب. كنا‭ ‬نجتمع‭ ‬في‭ ‬الأمسيات‭ ‬لنروي‭ ‬القصص‭ ‬والحكايات،‭ ‬نصغي‭ ‬إليها‭ ‬بشغف،‭ ‬كلنا. كانت‭ ‬الحكايات‭ ‬تروى‭ ‬بلغتنا،‭ ‬الساكنة‭ ‬في‭ ‬أرواحنا،‭ ‬كانت‭ ‬تلمس‭ ‬وجداننا‭ ‬وتطرب‭ ‬أسماعنا. كان‭ ‬الأرنب،‭ ‬الصغير‭ ‬الجسم‭ ‬ولكن‭ ‬الذكي‭ ‬والرشيق،‭ ‬هو‭ ‬بطلنا‭ ‬المفضل. نتعاطف‭ ‬معه‭ ‬ونتحمس‭ ‬له‭ ‬في‭ ‬ركضه‭ ‬الأبدي‭ ‬للخلاص‭ ‬من‭ ‬الحيوانات‭ ‬المفترسة. كان‭ ‬خلاصه‭ ‬خلاصنا. نجاته‭ ‬نجاتنا. علمنا‭ ‬منه‭ ‬أنه‭ ‬يمكن،‭ ‬بالمناورة،‭ ‬التخلص‭ ‬من‭ ‬مصيدة‭ ‬الموت‭ ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬كان‭ ‬المرء‭ ‬ضئيل‭ ‬الجسم‭ ‬والعدو‭ ‬عملاقًا. كنا‭ ‬نتعلم‭ ‬من‭ ‬الحيوانات‭ ‬الصبر‭ ‬والصمود‭ ‬في‭ ‬وجه‭ ‬ظروف‭ ‬الطبيعة‭ ‬القاسية‭ ‬التي‭ ‬تجبرنا‭ ‬على‭ ‬التكاتف‮»‬‭.‬

الأرض‭ ‬تتكلم‭ ‬كردي‭: ‬لغتنا‭ ‬ولغتهم

هذا‭ ‬كان‭ ‬حالنا،‭ ‬نحن‭ ‬الأكراد‭. ‬كانت‭ ‬الطاقة‭ ‬الحيوية‭ ‬للغتنا‭ ‬الأم‭ ‬تمد‭ ‬جذورها‭ ‬في‭ ‬أرواحنا‭. ‬كانت‭ ‬الغذاء‭ ‬الروحي‭ ‬في‭ ‬نفوسنا،‭ ‬عبر‭ ‬الكلام‭ ‬والغناء‭ ‬والألغاز‭ ‬والنكات‭ ‬والحكم‭ ‬والاستعارات‭ ‬والأمثال‭ ‬والرموز‭ ‬والإشارات. في‭ ‬بوتقة‭ ‬هذه‭ ‬اللغة‭ ‬الأولية‭ ‬كنا‭ ‬نبني‭ ‬مخيلتنا‭ ‬وننسج‭ ‬قماشة‭ ‬ذكرياتنا‭ ‬ونوطد‭ ‬العلاقة‭ ‬مع‭ ‬العالم. بهذا‭ ‬المعنى‭ ‬فإن‭ ‬الرقعة‭ ‬التي‭ ‬وجدنا‭ ‬أنفسنا‭ ‬فيها‭ ‬وتشاركنا‭ ‬فيها‭ ‬باللغة‭ ‬مع‭ ‬الأهل‭ ‬والجيران‭ ‬وأصدقاء‭ ‬الطفولة،‭ ‬هي‭ ‬الجامعة‭ ‬الأولى‭ ‬التي‭ ‬تلقينا‭ ‬فيها‭ ‬دروس‭ ‬الحياة. هذه‭ ‬اللغة‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬وطدت‭ ‬أسس‭ ‬نظرتنا‭ ‬القيمية‭ ‬والأخلاقية‭ ‬والجمالية. هي‭ ‬التي‭ ‬كونتنا. كانت‭ ‬اللغة‭ ‬الأم،‭ ‬الكردية،‭ ‬ملاذًا‭ ‬آمنًا‭ ‬نشعر‭ ‬فيه‭ ‬بالطمأنينة‭ ‬والألفة‭ ‬والارتياح. فحين‭ ‬انتُزِعَت‭ ‬منا‭ ‬هذه‭ ‬اللغة‭ ‬غمرَنا‭ ‬شعور‭ ‬بالخوف‭ ‬والقلق‭ ‬والارتياب. سيطر‭ ‬علينا‭ ‬الإحساس‭ ‬بالضعف‭ ‬والهشاشة‭ ‬وقلة‭ ‬الحيلة.

اللغة،‭ ‬أو‭ ‬اللغات‭ ‬الأخرى‭ ‬التي‭ ‬فُرضت‭ ‬علينا،‭ ‬كانت‭ ‬ضيوفًا‭ ‬غرباء‭ ‬ثقيلي‭ ‬الظل. كنا‭ ‬نشعر‭ ‬أن‭ ‬الآخر،‭ ‬مالك‭ ‬هذه‭ ‬اللغة‭ ‬الأصلي،‭ ‬يحتقرنا‭ ‬لأننا‭ ‬لا‭ ‬نتقن‭ ‬لغته‭ ‬مثله. نحن‭ ‬في‭ ‬عينيه‭ ‬أشخاص‭ ‬غير‭ ‬مرغوب‭ ‬فيهم. كنا‭ ‬نشعر‭ ‬بالارتباك‭ ‬والخجل‭ ‬بل‭ ‬بنوع‭ ‬من‭ ‬احتقار‭ ‬الذات. حين‭ ‬بدأنا‭ ‬الذهاب‭ ‬إلى‭ ‬المدرسة‭ ‬لتعلم‭ ‬اللغة‭ ‬المسيطرة،‭ ‬تحطم‭ ‬ذلك‭ ‬الانسجام‭ ‬الداخلي‭ ‬في‭ ‬أعماقنا. اللغة‭ ‬الجديدة‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬لغة‭ ‬تآلف‭ ‬وحنان‭ ‬وهناء‭ ‬بل‭ ‬كائنًا‭ ‬غريبًا،‭ ‬عنيفًا،‭ ‬يجرنا‭ ‬جرًّا‭ ‬إلى‭ ‬أرض‭ ‬غير‭ ‬مألوفة. لكنها‭ ‬تمكنت‭ ‬من‭ ‬حشرنا‭ ‬في‭ ‬بوتقتها. صارت‭ ‬هي‭ ‬الفضاء‭ ‬الذي‭ ‬نقيم‭ ‬فيه. لغتنا‭ ‬الأم،‭ ‬الحنونة،‭ ‬الهادئة،‭ ‬طُرِدَت‭ ‬خارجًا‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬أصبحت‭ ‬غريبة،‭ ‬لا‭ ‬نلتفت‭ ‬إليها‭ ‬إلا‭ ‬نادرًا‭. ‬ومع‭ ‬مرور‭ ‬الوقت‭ ‬غدا‭ ‬التكلم‭ ‬بها‭ ‬أمرًا‭ ‬معيبًا‭ ‬وتعبيرًا‭ ‬عن‭ ‬جهل‭ ‬وقصور.

اللغة‭ ‬الجديدة‭ ‬التي‭ ‬جاءت‭ ‬وصارت‭ ‬صاحبة‭ ‬البيت،‭ ‬باتت‭ ‬محل‭ ‬ترحيب‭ ‬وتقدير‭ ‬واعتزاز‭. ‬علامة‭ ‬على‭ ‬التفوق‭ ‬والنجاح. بطاقة‭ ‬دخول‭ ‬إلى‭ ‬عالم‭ ‬رحب‭. ‬كل‭ ‬خطوة‭ ‬نخطوها‭ ‬على‭ ‬طريق‭ ‬إتقانها‭ ‬تقابل‭ ‬بالتصفيق‭ ‬والتقريظ‭ ‬والمدح. إنها‭ ‬بوابة‭ ‬العلم‭ ‬والأدب‭ ‬والطب‭ ‬والفلسفة‭ ‬والهندسة‭ ‬والفنون. إبما‭ ‬أنها‭ ‬كذلك‭ ‬فهي‭ ‬دليل‭ ‬على‭ ‬تفوق‭ ‬الأمة‭ ‬التي‭ ‬تتكلم‭ ‬بها،‭ ‬الأمة‭ ‬التركية. اللغة‭ ‬الكردية‭ ‬التي‭ ‬أُزيحت‭ ‬وأُهملت‭ ‬واستُبعدت‭ ‬واستُعبدت،‭ ‬بقيت‭ ‬مرمية‭ ‬هناك،‭ ‬مُهَمَّشة‭ ‬ومُهَشَّمة،‭ ‬وبما‭ ‬أنها‭ ‬كذلك‭ ‬فهي،‭ ‬إذن،‭ ‬دليل‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬الأمة‭ ‬التي‭ ‬تتكلم‭ ‬بها‭ ‬متخلفة.

دخلنا‭ ‬العالم‭ ‬من‭ ‬أوسع‭ ‬أبوابه‭ ‬باللغة‭ ‬المسيطرة،‭ ‬بهذه‭ ‬اللغة‭ ‬تعرفنا‭ ‬إلى‭ ‬شكسبير‭ ‬وسِرفانتس‭ ‬وموليير‭ ‬وكافكا‭ ‬وجويس‭ ‬وماركيز. قرأنا‭ ‬أرسطو‭ ‬وفيثاغورس‭ ‬وسقراط‭ ‬وماركس‭ ‬وغرامشي‭ ‬وتروتسكي. انخرطنا‭ ‬في‭ ‬السياسة‭ ‬والثقافة‭ ‬والرياضة‭ ‬والفن‭ ‬والسينما‭ ‬والمسرح. بهذه‭ ‬اللغة‭ ‬كتبنا‭ ‬وظائفنا‭ ‬المدرسية‭ ‬والجامعية‭ ‬ومقالاتنا. بهذه‭ ‬اللغة‭ ‬دخلنا‭ ‬في‭ ‬سجالات‭ ‬ونقاشات‭ ‬وحوارات‭. ‬بهذه‭ ‬اللغة‭ ‬صرنا‭ ‬نفكر‭ ‬ونصوغ‭ ‬هواجسنا‭ ‬وطموحاتنا‭. ‬باختصار‭ ‬احتلت‭ ‬هذه‭ ‬اللغة‭ ‬كياننا‭ ‬كله: أذهاننا‭ ‬ومشاعرنا‭ ‬وعقولنا‭ ‬بحيث‭ ‬إننا‭ ‬لجأنا‭ ‬طواعية‭ ‬ومن‭ ‬دون‭ ‬أي‭ ‬شعور‭ ‬بالذنب‭ ‬إلى‭ ‬التخلص‭ ‬من‭ ‬لغتنا «القديمة‮»‬ كمن‭ ‬يتخلص‭ ‬من‭ ‬رداء‭ ‬انقرضت‭ ‬موضته. بل‭ ‬إننا‭ ‬فعلنا‭ ‬ذلك‭ ‬بحماسة،‭ ‬ورحنا‭ ‬نتسابق‭ ‬على‭ ‬من‭ ‬يفعل‭ ‬ذلك‭ ‬بنجاح‭ ‬وسرعة‭ ‬وقدرة‭ ‬أكبر. كلما‭ ‬كان‭ ‬واحدنا‭ ‬متمكنًا‭ ‬من‭ ‬اللغة‭ ‬المسيطرة‭ ‬كان‭ ‬مثار‭ ‬إعجاب‭ ‬أكبر.

كان‭ ‬هذا‭ ‬استعمارًا‭ ‬عجيبًا‭. ‬كان‭ ‬المسار‭ ‬الأخير‭ ‬في‭ ‬نعش‭ ‬هويتنا‭ ‬اللغوية‭. ‬خسرنا‭ ‬مخزوننا‭ ‬الذهني‭ ‬والنفسي‭ ‬والروحي‭ ‬وصرنا مثل‭ ‬حصان‭ ‬يجر‭ ‬عربة‭ ‬جديدة‭.‬

من‭ ‬نافذة‭ ‬اللغة‭ ‬المسيطرة

في‭ ‬اللحظات‭ ‬المتناثرة‭ ‬التي‭ ‬نلجأ‭ ‬فيها‭ ‬إلى‭ ‬أطلال‭ ‬لغتنا‭ ‬القديمة،‭ ‬هناك‭ ‬حيث‭ ‬ما‭ ‬زالت‭ ‬أمهاتنا‭ ‬وخالاتنا‭ ‬وعماتنا،‭ ‬ترتبن‭ ‬العبارات‭ ‬والأغاني‭ ‬الكردية‭ ‬في‭ ‬أصص‭ ‬تسقينها‭ ‬بماء‭ ‬ذاكرتهن،‭ ‬نتكلم‭ ‬ونحن‭ ‬نشعر‭ ‬بالحرج‭. ‬نجد‭ ‬صعوبة‭ ‬في‭ ‬التواصل. نستخدم‭ ‬كلمات‭ ‬وجملًا‭ ‬من‭ ‬اللغة‭ ‬التي‭ ‬استعمرتنا،‭ ‬فتبدو‭ ‬نافرة‭ ‬وشاذة‭ ‬في‭ ‬الجو‭ ‬الحميمي‭ ‬مع‭ ‬الأهل. ولكننا‭ ‬لا‭ ‬نحس‭ ‬بتأنيب‭ ‬الضمير،‭ ‬بل‭ ‬يتولد‭ ‬فينا‭ ‬شعور‭ ‬بأننا‭ ‬نخاطب‭ ‬ناسًا‭ ‬بدائيين،‭ ‬جاهلين،‭ ‬أدنى‭ ‬فهمًا‭ ‬وذكاءً‭ ‬وقيمةً‭ ‬منا،‭ ‬نحن‭ ‬الذين‭ ‬بتنا‭ ‬نملك‭ ‬مفاتيح‭ ‬اللغة‭ ‬المسيطرة. تعزز‭ ‬هذا‭ ‬الاغتراب‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬تحول‭ ‬إلى‭ ‬قبول‭ ‬تام‭ ‬باللغة‭ ‬المسيطرة.

حين‭ ‬تنقطع‭ ‬العلاقة‭ ‬العاطفية‭ ‬مع‭ ‬اللغة‭ ‬الأم،‭ ‬تتحول‭ ‬إلى‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬النفور‭. ‬تنشأ‭ ‬عقدة‭ ‬ستوكهولم‭ ‬مع‭ ‬اللغة‭ ‬المسيطرة. الوقوع‭ ‬في‭ ‬غرام‭ ‬المسيطر‭ ‬نفسه. يتباهى‭ ‬المثقفون‭ ‬الكرد‭ ‬بما‭ ‬يكتبون‭ ‬بالتركية‭ ‬أو‭ ‬العربية‭ ‬أو‭ ‬الفارسية‭ ‬ويترجمون‭ ‬إليها‭ ‬من‭ ‬اللغات‭ ‬الأوربية،‭ ‬وكاتب‭ ‬هذه‭ ‬السطور‭ ‬واحد‭ ‬منهم،‭ ‬ويظهرون‭ ‬ذلك‭ ‬كامتياز. يخجلون‭ ‬من‭ ‬الكتابة‭ ‬بالكردية‭ ‬ويبثون‭ ‬الإيحاء‭ ‬بتميزهم‭ ‬حين‭ ‬يبينون‭ ‬أنهم‭ ‬لا‭ ‬يعرفون‭ ‬القراءة‭ ‬بالكردية. بل‭ ‬إنهم‭ ‬يضحكون‭ ‬ساخرين‭ ‬حين‭ ‬يرددون‭ ‬بعض‭ ‬الكلمات‭ ‬الكردية‭ ‬ثم‭ ‬يتوقفون‭ ‬عن‭ ‬الاستمرار. ‬يمارسون‭ ‬سلوكًا‭ ‬استعلائيًّا‭ ‬على‭ ‬من‭ ‬يكتب‭ ‬بالكردية‭. ‬يرون‭ ‬الأمر‭ ‬بدائيًّا،‭ ‬تافهًا،‭ ‬سخيفًا. هذه‭ ‬النظرة‭ ‬الدونية‭ ‬تترسخ‭ ‬وتتعمم‭ ‬في‭ ‬الفضاء‭ ‬الثقافي‭ ‬كله‭ ‬فيشعر‭ ‬الكاتب‭ ‬بالكردية‭ ‬بالدونية‭ ‬والحرج. يبدو‭ ‬كما‭ ‬لو‭ ‬أنه‭ ‬ضُبِطَ‭ ‬متلبسًا‭ ‬باقتراف‭ ‬شيء‭ ‬معيب‭. ‬ينسلخ‭ ‬المثقف‭ ‬الكردي‭ ‬عن‭ ‬نفسه‭. ‬ينظر‭ ‬في‭ ‬المرآة‭ ‬ويكاد‭ ‬يسأل: أيُعْقَلُ‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬ذات‭ ‬يوم‭ ‬واحدًا‭ ‬من‭ ‬هؤلاء؟‭ ‬أيعقل‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬يتكلم‭ ‬بهذه‭ ‬اللغة‭ ‬البدائية؟

لقد‭ ‬تغيرت‭ ‬رؤيته‭ ‬لنفسه‭ ‬وللعالم‭ ‬بشكل‭ ‬كلي. هو‭ ‬الآن‭ ‬ينظر‭ ‬إلى‭ ‬نفسه‭ ‬وإلى‭ ‬الآخرين‭ ‬من‭ ‬نافذة‭ ‬اللغة‭ ‬المسيطرة. يعلقها‭ ‬في‭ ‬ياقته‭ ‬مثل‭ ‬بروش‭ ‬ذهبي‭ ‬ويخاطب‭ ‬الآخرين،‭ ‬من‭ ‬الناطقين‭ ‬بلغته‭ ‬القديمة،‭ ‬بكل‭ ‬الحمولة‭ ‬الأيديولوجية‭ ‬والسياسية‭ ‬للغة‭ ‬المسيطرة.

اللغة‭ ‬المسيطرة‭ ‬تمنحه‭ ‬ما‭ ‬تعجز‭ ‬اللغة‭ ‬الأم‭ ‬عن‭ ‬فعله: المكانة‭ ‬والهيبة‭ ‬والتفوق. هو‭ ‬يضيق‭ ‬ذرعًا‭ ‬بأهله‭ ‬وأبناء‭ ‬قومه‭ ‬لأنهم‭ ‬باتوا‭ ‬في‭ ‬نظره‭ ‬محدودي‭ ‬الأفق،‭ ‬عاجزين‭ ‬عن‭ ‬استيعاب‭ ‬مكانته‭ ‬وإدراك‭ ‬مواهبه. يبدأ‭ ‬بالتغني‭ ‬بجمال‭ ‬اللغة‭ ‬المسيطرة‭ ‬وتعداد‭ ‬فضائلها‭ ‬وتأكيد‭ ‬عظمتها. وهو‭ ‬إذ‭ ‬يفعل‭ ‬ذلك‭ ‬فلِكي‭ ‬يقول‭ ‬بطريقة‭ ‬غير‭ ‬مباشرة: إن‭ ‬لغته‭ ‬الأم‭ ‬بشعة‭ ‬ولا‭ ‬تملك‭ ‬الفضائل. لا يهمه‭ ‬أن‭ ‬اللغة‭ ‬المسيطرة‭ ‬لم‭ ‬تصبح‭ ‬جميلة‭ ‬إلا‭ ‬على‭ ‬حساب‭ ‬اللغات‭ ‬الأخرى‭ ‬بما‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬لغته‭ ‬الأم.

يقول‭ ‬نغوجي‭ ‬وا‭ ‬ثيونغو‭: ‬‮«‬حين‭ ‬توقفت‭ ‬عن‭ ‬الكتابة‭ ‬بالإنجليزية‭ ‬هب‭ ‬زملائي‭ ‬الإنجليز‭ ‬وصرخوا‭: ‬لماذا‭ ‬تركتنا؟‭ ‬بدا‭ ‬لي‭ ‬وكأن‭ ‬ما‭ ‬أفعله‭ ‬أمر‭ ‬خطير. كأنني‭ ‬ارتكبت‭ ‬الخيانة‭ ‬بحقهم. ولكن‭ ‬يا‭ ‬ناس. غيوكو‭ ‬هي‭ ‬اللغة‭ ‬التي‭ ‬رضعتها‭ ‬مع‭ ‬حليب‭ ‬أمي. تعرفت‭ ‬إلى‭ ‬الدنيا‭ ‬من‭ ‬خلالها. كان‭ ‬المفروض‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬السؤال‭ ‬بالعكس. كان‭ ‬ينبغي‭ ‬أن‭ ‬يسألوني‭: ‬لماذا‭ ‬تركتَ‭ ‬لغتك؟‭ ‬كان‭ ‬ينبغي‭ ‬أن‭ ‬يسألوا: لماذا‭ ‬جردناكم‭ ‬من‭ ‬لغتكم؟‭ ‬لماذا‭ ‬اقترفنا‭ ‬هذه‭ ‬الجريمة‭ ‬اللاإنسانية‭ ‬بحقكم؟‮».

سياسة‭ ‬الصهر‭ ‬والهيمنة‭ ‬والتمييز‭ ‬أدت‭ ‬بنا،‭ ‬نحن‭ ‬الأكراد،‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬نكره‭ ‬أنفسنا‭ ‬ولغتنا. أريد‭ ‬أن‭ ‬أقول: إن‭ ‬كان‭ ‬ثمة‭ ‬من‭ ‬يستحق‭ ‬الكره‭ ‬والاستحقار‭ ‬فهو‭ ‬المستعمر (العربي‭ ‬والتركي‭ ‬والفارسي) الذي‭ ‬حشرنا‭ ‬في‭ ‬زاوية‭ ‬ضيقة،‭ ‬ومنع‭ ‬عنا‭ ‬هواء‭ ‬الحرية،‭ ‬وجردنا‭ ‬من‭ ‬لغتنا‭ ‬وتراثنا‭ ‬وأغانينا‭ ‬وحكاياتنا،‭ ‬ودفع‭ ‬بنا‭ ‬إلى‭ ‬الانسلاخ‭ ‬عن‭ ‬المحيط‭ ‬اللغوي‭ ‬الذي‭ ‬وُلِدْنا‭ ‬فيه؛‭ ‬لكي‭ ‬نتبنى‭ ‬لغة‭ ‬لم‭ ‬نخترها‭ ‬بحريتنا. نحن‭ ‬لم‭ ‬نتعلم‭ ‬في‭ ‬كليات‭ ‬الآداب‭ ‬والطب‭ ‬والهندسة‭ ‬والحقوق‭ ‬باللغات‭ ‬العربية‭ ‬أو‭ ‬التركية‭ ‬أو‭ ‬الفارسية‭ ‬لأن‭ ‬هذه‭ ‬اللغات‭ ‬جميلة. ‬فعلنا‭ ‬ذلك‭ ‬رغمًا‭ ‬عنا؛‭ ‬لأنه‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬أمامنا‭ ‬سبيل‭ ‬آخر. لأن‭ ‬لغتنا‭ ‬كانت‭ ‬ممنوعة‭ ‬من‭ ‬إيصال‭ ‬المعرفة‭ ‬في‭ ‬الأدب‭ ‬والطب‭ ‬والهندسة‭ ‬والحقوق.

على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬هذا،‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬الوحشية‭ ‬التي‭ ‬استمرت‭ ‬لعقود،‭ ‬بل‭ ‬قرون،‭ ‬فإن‭ ‬الكردية‭ ‬لم‭ ‬تمت‭. ‬هناك‭ ‬لغات‭ ‬تأبى‭ ‬أن‭ ‬تموت.