علي جعفر العلاق وسيرته الشعرية نمضي مع قصيدتنا: فإلى أين تأخذنا، وأين تنتهي بنا؟!

علي جعفر العلاق وسيرته الشعرية

نمضي مع قصيدتنا: فإلى أين تأخذنا، وأين تنتهي بنا؟!

منذ العتبة الأولى، عنوان الكتاب «إلى أين.. أيتها القصيدة؟ سيرة ذاتية»، يلقي بنا الشاعر والناقد والأكاديمي الدكتور علي جعفر العلّاق (1945- ) الفائز بجائزة الشيخ زايد لهذا العام 2023م، في مهب عاصفة من الأسئلة الصعبة، فسؤاله «إلى أين؟» يحتمل وجوهًا متعدّدة، وقد تكون متباعدة حدّ التناقض. ولكلّ قارئ قراءته. فما الذي يريده الشاعر من هذا الغموض في سؤاله؟ هل نحن حيال سؤالٍ عن «إلى أين وصلنا؟»، أم «إلى أين نحن ذاهبون؟»، وربما «إلى أين المصير؟» ولعلّ من اليسير على القارئ إحالة «أين؟» إلى «متى» ليغدو السؤال أشد التصاقًا بالصبغة الوجودية «إلى متى أيّتها القصيدة، وماذا تريدين؟ وماذا نريد منك نحن؟». وهو ما يمكن أن نتبيّنه في نهايات هذه السيرة، حين يجد الشاعر نفسه في حالة تفرّغ تام/ شبه تام لقصيدته هذه، بعد انتهاء تجربته الأكاديمية، التي بدأت في جامعة صنعاء واختتمت في جامعة الإمارات/ العين.

في هذه السيرة/ الكتاب (الحاصل على جائزة الشيخ زايد للكتاب، منشورات «ناشرون الآن»، عمّان، 2023م)، يبدو النزوع واضحًا لتأكيد غلبة التجربة الشعرية، وتغليبها على كل العناصر والملامح التي صنعت تجربة العلاق ورحلته الحياتية والإبداعية. الرحلة التي يرسم الشاعر ملامحها هنا، على قدْر من الغِنى والتنوع بحيث يصعب الإلمام بأزمنتها وأماكنها، بأشخاصها أو وقائعها، لكننا سنحرص على نقل روح هذا النص وجوهره. فنحن حيال نص متلاطم المياه بحركته وأمواجه، شِعرًا ونثرًا، وصْفًا وتصويرًا، بواقعية شديدة حينًا، وتخييل يبلغ حدود الفانتازيا أحيانًا. نص متماسك جسدًا وروحًا، ويعكس روح الشاعر وينابيعه: فالقرية، الطفولة، الحلم، والخيال…، وغيرها من المثاليات، هي «صانعة» الشاعر وصنيعه في آنٍ واحد، وهي ما سنسلط الأضواء عليها أكثر من سواها، خصوصًا والكتاب يحمل عنوانًا مرتبطًا بالقصيدة.

بدايات وأرقام

ولو شئنا قراءة بالأرقام لمسيرة هذا الشاعر وسيرته، فإن اللافت هو التأخر في نشر الكتاب الأول؛ فعلى الرغم من أنه كتب الشعر في سن مبكرة، فإن مجموعته الشعرية الأولى صدرت في بيروت- وليس في بغداد- عام 1973م، لكنها كانت البداية القوية له، فقد دخل بها الحياة الثقافية العربية وتعرف إلى أبرز الفاعلين فيها. وتزايدت منجزاته في أوقات متقاربة. وتجلى منجزه الشعري في ثلاثة وعشرين كتابًا، فيما تجسدت التجربة النقدية خصوصًا، والنثرية عمومًا في أحد عشر كتابًا، موزعة من حيث جهة الصدور بين خمس عواصم عربية هي: بغداد وبيروت والقاهرة وعمّان ودمشق.

في خمسة أبواب، وعدد من الفصول في كل باب، يفتح العلّاق خزائن ذاكرته وثقافته ووعيه، لتنثال الذكريات مصحوبة بالتأملات والشطحات. وينطلق الشاعر، في الباب الأول من فصل «واسط، والحَجّاج، وأخيلة الطفولة»، من مدينته واسط، ومسقط رأسه في إحدى قراها، راجعًا إلى مؤسس المدينة الحجّاج بن يوسف الثقَفي، منذ رأى «حقلًا من الرؤوس يانعًا، وفي لحظة قِطافه تمامًا»، وانطلاقًا من صفة «الطاغية» التي وسمت شخصيته، وأهم أسباب تأسيسه لـ«واسط» واتخاذها عاصمة. فقد «كان اقترانها بفائض الاستبداد كبيرًا؛ فهي مدينة لم يؤسِّسها «طلّاع الثنايا» تلبية لنداء الحياة أو الرغبة في إنعاش مدياتها. بل لتجسد واحدة من أكثر فترات القسوة في التاريخ».

الشِّعر أولًا، والشِّعرُ دائمًا

يبدأ العلّاق ارتباطه بالكون والحياة، من أسرته الصغيرة، الأم والأب وتأثيرهما فيه، ثم من حدود قريته، وبالتحديد من «عاقول البراري أو نكهة الحقول الفوّاحة»، أي أننا حيال البيئة والطبيعة والفصول ومناخاتها، ونوع العلاقة معها «الخريف، والبدايات الأولى للرعد والمطر وقطاف الثمار. ولا أزال أتذكرها بحنينٍ شجيّ. بساطة أقربُ إلى الفقر، وتفاصيلُ عصية على النسيان»، أو قوله: إن ثمّة «خيطًا خرافيًّا، دافئًا ونحيلًا، ما زال يمتد بيني وبين تلك القرية وأكواخها الطينية الصابرة»، وهذه من الصور التي يمكن اعتبارها مصدرًا لقصيدته، التي تتعدد مصادرها وتتنوع منابعها مع مدى أسفاره وتجواله، بدءًا من انتقاله إلى بغداد، مرورًا إلى لندن للدراسة الجامعية العليا (الدكتوراه التي خصص رسالتها لتقديم تصوره عن البياتي)، فاليمن ثم أوربا والسويد والإمارات المتحدة وغيرها، وصولًا إلى تركيا حيث يقيم في شقة صغيرة مطلة على غابة ومتنزه، بعد استحالة العودة إلى عِراقه (هو). عِراقه الذي صارت العودة إليه حلمًا مستحيل التحقق.

مصدر آخر من مصادر التربية الثقافية، وبزوغ الموهبة لدى الشاعر، يتجسّد في الأسرة ممثلة في الوالد الذي سيشكّل النموذج المُحتذى لدى الابن، والوالدة ذات المواهب في قول الشعر الشعبي وحفظه وترديده للطفل، والوضع المادي المتوسط للعائلة حيث الوالد في طبقة وسطى بين ملّاك الأراضي والفلاحين العاملين كما العبيد. وكذلك جاءت «الهجرة» إلى المدينة (العاصمة بغداد) لتشكل صورة من صور التغريب عن «المكان الأول» الحميمي والدافئ، ولكن للمدينة عوالمها الساحرة أيضًا، حيث سينخرط الشاب في علاقات جديدة، وينمو في وسط ثقافي تفتقده القرية وريفها الساحر.

ومنذ أيامه الدراسية الابتدائية فالمتوسطة والعليا، سيبدأ بزوغ نجم طالب متميز وشاعر واعد بموهبته في كتابة الشعر بالعامية، قبل التحول إلى قصيدة الأوزان الخليلية، ثم السيّابية. رحلة يسردها صاحبها بقدر عالٍ من التأني المتأمل لكل خطوة ومسار. تليها مرحلة بدايات النشر في الصحف والمجلات المحلية، وعلى وجه الخصوص مجلة «العاملون في النفط» التي كان يشرف عليها الروائي والشاعر والمترجم الفلسطيني جبرا إبراهيم جبرا، وهو الذي، مع غيره، سيلعب دورًا مهمًّا في تقديم الشاعر العلّاق إلى الوسط الثقافي.

ولتكريس الشعر والحالة الشعرية، نجد العلّاق في مواقف كثيرة يستنجد بمقاطع من قصائد تعزز حالة ما، أو تفسر هذا الموقف أو ذاك. فهو مثلًا يقول: «تشدّني إلى الماء، منذ طفولتي، رابطة خاصة: شيء ما، أو قوة خفية لا تدخل دائرة الإدراك أبدًا، بل تظل، هناك: في الجذر، أو في قاع البئر، أو ظلمة اللاوعي. لتشكل جزءًا بيّنًا من شخصيتي واتجاهات سلوكي ربما»، ويسارع إلى مقطع شعري يعزّز موقفه هذا تجاه الماء، فيقتطف: «يا ماءُ، يا أيهذا البهيُّ، العصيُّ، الحنونْ/ لغةً كنتَ لي، حينما اخشوشنَ/ الآخرونْ..». أو قد يصف ليلة يفيض فيها النهر ويأخذ البيوت والأطفال، فيقول «وهكذا امتلأت أحلام الأطفال بالماء الطيني والصراخ، وكنت أوشك أن أكون، في تلك الليلة، واحدًا من أولئك الأطفال الغرقى. وبعد ذلك بسنوات طويلة اقتحم هذا المشهد عليَّ أحد نصوصي: تُرى لو مضى النهرُ حتى يتمَّ حماقتَهُ.. أيّنا كان يبلغُ أقصى النهاياتِ/ وأيٌّ سيبقى رهينَ الزبدْ؟». وإذ تحتل القرية، وحياة الريف عمومًا، وفي أي مكان يذهب الشاعر إليه في العالم، الحيز الأوسع والأعمق من هذه السيرة، فإن هذا يفرض ويولد لغة ذات طبيعة شعرية وانتماءٍ شعري، حتى في المقاطع السردية الوصفية الطويلة، يبقى الشاعر شاعرًا ومسكونًا بروح الشعر، بجوهره وفلسفته الجامحة والطامحة إلى «شَعْرنة» العالم، حيث الحياة من دون الشعر تفقد نضارتها ونسغ حيويتها وانطلاقها، ولا حياة خارج الشعر.

حتى وهو يعود إلى القرية متأخرًا، فإنه يعود إلى الطفولة، إلى الفرح والشعر والحياة «كانت أحاسيسي متزاحمة، جياشة. لم أكن أقود سيارتي على طرق أرضية، من حجر أو تراب. بل كانت تندفع بنا، أو بي على الأصح، مأخوذة بنداءات غامضة كانت تهبّ علينا من كل صوب… كنت أتخيلها أجمل القرى وأكثرها عذوبة؛ تسترخي بمحاذاة دجلة». ولعل في تجربته الشعرية عمومًا هذه الروح المسكونة بالريف ومكوناته، أي هذا «المزيج من الإيقاع والكلمة والحركة، يذوب في أعماق ذلك الطفل الذي كنته آنذاك، ثم ينسرب إلى ذاكرته ومخيلته، ويضفي على لغته، لاحقًا، ما يتلبّسها من جسدية ودفء وانفعال يقيها خطر الانزلاق إلى التجريد واللغة الناشفة».

الغجر حياة مختلفة

وكما لو كان يكتب عن غجر لوركا، يكتب عن غجر قريته وفضلهم الذي لا ينسى على تجديد أيام القرية: «كنا نظنهم معروفين في قريتنا والقرى المجاورة فقط. فمن أين لنا، نحن الأطفال آنذاك، أن ندرك أن هذه المجاميع من البشر كانت تجوب العالم كله تائهة مشتتة منذ زمن طويل. مواطنون عالميون. يمتهنون التشرد أو الغناء والرقص، وبيع اللذة، أو اللصوصية أحيانًا. لهم وطن شاسع ومليء بالحرمان، يمتد من الصين وجنوب شرق آسيا والهند وإيران إلى أميركا مرورًا بأوربا الشرقية والغربية». وكي لا يبدو «طهرانيًّا» تمامًا، فإنه يتوقّف عند ما يرى فيه «ذروة المتع الحسيّة وأشدها خفاءً: جسد المرأة». ويصف مشهدًا لا يمكن تصديقه «ينبري الرجال للعزف، بينما تندفع النساء في الغناء، والرقص، ومعابثة الرجال بأكثر الحركات إثارة. قد يعزف الغجري حتى تدمَى أصابعه، لامرأة تتلوى بجسدها أمام الليل والأحداق الملتهبة. وقد تكون هذه المرأة، في الغالب، ابنته، أو شقيقته، أو زوجته!».

هذه ملامح أساسية في تجربة الشاعر وسيرته، وعناصر أولى في مكونات روحه المشغولة بالعذابات والغبطة معًا، وعلى الرغم من حضور الجوانب الأخرى من التجربة، سواء النقدية أو الأكاديمية، وهي أيضًا معجونة بالروح الشعرية ذاتها، فالأجدى هو ترك تلك الجوانب لقراءات أخرى مختلفة ومتخصصة. ولذا نكتفي بهذا القدر من القراءة، وحتى نترك لقارئها متعة استكشاف تفاصيلها الأغنى وشاعرها الأشد عذوبة. فهو، أخيرًا، شاعر «من جيل الستينات وليس منه»؛ لأنه يرفض الأيديولوجيات وصراعاتها المقيتة.

يوسف عبدالعزيز صوت فلسطيني.. الشاعريةُ الجامحة في الخيال والصورة

يوسف عبدالعزيز صوت فلسطيني.. الشاعريةُ الجامحة في الخيال والصورة

ما بين قصائد الطفولة والبراءة، وقصائد الذئب وقناع الوردة، مياه شعرية غزيرة سالت على أوراق الشاعر الفلسطيني يوسف عبدالعزيز. صحيح أنه لم يصدر سوى القليل من المجاميع الشعرية، سبعة دواوين فقط في نحو أربعين عامًا مع الشعر، لكنه بدا متميزًا منذ ديوانه الأول الذي صدر في بغداد عام 1980م، وحمل عنوان «الخروج من مدينة الرماد». هذا الديوان الذي جاءت قصائده «أناشيد» ضد الموت والخراب واتفاقية كامب ديفيد 1976م.

منذ البدايات، وجدت قصيدة يوسف طريقها إلى فلسطين، الوطن المغتصب والمتروك لرصاص الأعداء ينهبونه وينتهكونه. وظل صوتُ الشاعر حاملًا هم الوطن والشعب، في صور شتى، ولكن من دون أن تغيب عنه الشاعرية العالية. فقد استطاع يوسف أن يجمع بين الصورة واللوحة والمجاز والخيال المحلق، وبين الهواجس والأسئلة والهموم الفلسطينية والعربية، دون أن يطغى جانب على الآخر، وهو ما ميز بداياته، واستمر يطور تجربته، من حيثُ الرؤى وجماليات القصيدة.

يوسف عبد العزيز

تنوع في التجربة

في مجموعته الثانية «حيفا تطيرُ إلى الشقيف» (كُتِبتْ قصائدها بين 1980- 1982م)، وهو الزمن الذي شهد حصار بيروت واجتياحها، ومجازر صبرا وشاتيلا، يرتفع صوت الشاعر، فنقرأ ما يقارب «النشيد الوطني»، واستحضار الأساطير الكنعانية، إلى جانب صورة المقاتل الفلسطيني واللبناني المُقاوِم: في البَدء كان البحرُ متراسًا/ ورشاشًا على كتِفِ الفلسطيني/…/ مركبةً يسافر فوقها داجونُ. (وداجون هذا هو إله البحر عند الكنعانيين، وكان إلهًا زراعيًّا).

لكن يوسف في قصائد ديوانه هذا، الذي يحمل عنوان قلعة «الشقيف» الشهيرة بصمودها في الحرب على الجنوب اللبناني، لا ينسى ثيمة الحب التي تنتشر في دواوينه، جنبًا إلى جنب قصائد «الوطن». فهو يغني لحيفا وعكا ويافا والقدس، لكنه لا ينسى الحب «وأنا الفلسطيني/ كوكبةُ المُحبين القُدامى». يهتف للمقاتل والعاشق في القصيدة ذاتها، ويزاوج «حالة الشعر الكئيبةَ بالقتالْ»، ويصور «الشاعر المُحتد فوق منابر الكلمات»، ويصرخ به «يكفيك التوجعُ والسؤالْ/ لدَينا الضد/ نرفعُ في السماء يدًا ونمشي خلفَها».

ويواصلُ الشاعر الاشتغال على تجربته، فنقرأ في ديوان «نشيد الحجَر» (كُتبت قصائده في العامين 1980- 1982م أيضًا)، لكن بخصوصية مختلفة عن صوته في الديوان السابق. وعلى الرغم من حضور قصيدة «الوطن» والحرب والرصاص والحرية، فإن حضور المرأة يشهد تنويعًا على شكل هذا الحضور، حيث تغدو المرأة حقيقية، ولم تعد مجرد رمز للوطن السليب. بل تغدو حيفا امرأةً أو «موجة مربكة»، ويغدو وجهها «له شكلُ مدينة». وتختلف أسئلة الشاعر، فيكون من أبرز أسئلته «كيف أدخلُ مملكةَ الشعر ثانية/ أهتدي للينابيع في جسدي؟». أو نقرأ «أنا العاشقُ القروي/ وأقدرُ أن أفتنَ الصخر حين أغني». ولعل سمةً بارزة في قصيدة شاعرنا تتمثل في أن الشعر لديه شديد الارتباط بالمرأة، فالشاعر/ العاشق أمام سؤال «هل أفرَحتْه القصائدُ؟ هل أنقذتْه النساء؟».

وكما تتعدد الصور وتتنوع، ما بين صورة واقعية جدًّا، وصورة شديدة الفانتازية، بل السريالية، كما في قصيدة مستلهمة من عالم سلفادور دالي ومهداة إليه، فإن قاموس المفردات والتراكيب الشعرية لديه شديد الثراء، وكأنه يغترف من مياه المحيط وأمواجه الهادرة. شاعر يلعب بالماء والنار، بالشياطين والملائكة، في آنٍ. وهي مفردات وعبارات مبتكرة وطازجة، لن تجد لها مثيلًا في شعر غيره من الشعراء.

وطن في المخيم

في ديوانه هذا، كما في السابقات، سيجتمع العشاق والمقاتلون، سيجتمع «لوركا المَشرقي»، مع الشاعر علي فودة الذي استُشهد في أثناء اجتياح بيروت 1982م، وسوف نرى كيف «مر الغُزاةُ على أصابعنا/ وذابوا كلهم/ لم يبقَ إلا البحرُ والإنسانْ». ويتكرر السؤال حول الغُزاة والحروب والأوطان والطفولة المستباحة «يولَدُ الطفلُ في وطَني مثقَلًا بالسلاسلْ/ ويرى السجنَ في كل شيء/ كيف أبني إذَن/ حائطًا واحدًا لأصد الغُزاة».

إنها حربُ الشاعر وقصيدته في مواجهة أشكال الموت والانهيارات. فهو يستحضر الشعراء (محمد القيسي، زهير أبو شايب، طاهر رياض)، كما يستعيد الشهداء ومعاركهم، يستعيد معركة «القسطل» وبطلها/ شهيدها عبدالقادر الحسيني. وشخصيات هامشية من هذه القرية أو تلك المدينة، والكثير من النساء اللاتي شكلن شخصيته، وكن «الأثاث» لقصائده، والملهِمات لشعره بأبعاده الوطنية والغزَلية/ الشهوانية في الكثير من قصائده.

تحولات أساسية

أما ذروة التطور في هذه التجربة، فقد شهدتها ولادة مجموعته «دفاتر الغيم» (1988م)، ففي هذا الديوان نجد صوتًا جديدًا مختلفًا، مع الاحتفاظ بسِمات قصيدته الأساسية، لكن النبرة هنا باتت خافتة إلى حد بعيد، بل تكاد تكون اختفت تلك النبرة القتالية، بهزائمها وصمودها، فمال الشاعرُ إلى الهدوء والتأمل والتصوير بعبارات أدق، وامتزجت قصيدة التفعيلة لديه بقصيدة النثر عالية الشعرية، وباتت مفرداته أكثرَ رقة في تصوير أدق الحالات الإنسانية، بل غدا ميالًا، أكثر من ذي قبل، إلى النحت والسرد، كما في قصيدة «جالاتيا» مثلًا، حيث الفنان ينحت عشيقة ثم يقتلها حين يقترب المُهر منها. أو كما في قصيدة «الحظيرة» التي فيها يتصور بيته حظيرة ويتخيل نفسه «شبيهَ تيس» كما يقول، فيذهب إلى النافذة ويبدأ الثُّغَاء. وفي قصيدة بعنوان «سديم» (مُهداة إلى الشعر)، يخاطب الشعر بوصفه عدوًّا، في سابقة شعرية يناديه، ربما تسبب بها غياب الشعر «مرحبًا يا عدوي/ يا قليلَ الكلامْ/ ألهذا الغُبار الكثيف.. قُدتَني…/ ثم أسقطنَني في الظلامْ».

ولما كان الشاعر رتب دواوين هذا المجلد/ المجموع، من النهاية إلى البداية، فسوف نختم هذه القراءة المختزلة بديوانين هما الأخيران لشاعرنا، وصدَرا في مدة متقاربة، هما «قناعُ الوردة»، و«ذئبُ الأربعين».. ويمكن عدّهما امتدادًا للديوان السابق، وتعميقًا لجوانب من تجربته، وتجديدًا في بعض الجوانب.. وإضافات في جوانب أخرى. لكن الصورة في قصيدة شاعرنا تظل تتجدد، تتولد على نحو شديد العفوية، وهو ما يمنح هذه التجربة قدرًا من التفرد والخصوصية. ولعل أبرز ما تنطوي عليه تجربة الشاعر في هذين الديوانين، هو الدوَران ما بين براري الجسد وفضاءات الروح، في مقاطع لا تخفي تلك الشهوانية الهائجة. نقرأ في مقطع منها:

«يشم الحليب الذي يتساقط،/ من فتحة في القميص/ فيعوي/ ولكنْ/ ثلاث صفاتٍ قتلن الفتى/ ورمين نوافذه للغروب:/ إنه من زهور الحدائق/ دائمًا يعشقُ الزهرة الجارحة/ إنه يتوغل في النار/ حتى يذوبْ/ إنه لا يتوبْ».

وفي ديوان «ذئب الأربعين»، الذي يُهديه إلى عائلة الذئاب: زهير أبو شايب، طاهر رياض، عمر شبانة، وغيرهم، نجد الشاعر «وحدَهُ في النفَقِ المعتمِ/ ذئبُ الأَربعين/ يملأُ الأرضَ عُواءً/ ويشم الميتينْ». وفي صورة من صور الشاعر يبدو فيها «سائسُ شِعر»، فيتساءل بحنق «ما الذي يمكِنُ أَنْ تطلبَهُ المرأةُ/ مِنْ سائسِ شِعرْ؟/ أَنْ يرى غُرتها أَعلى/ ويجثو قربَ ساقَيها ككلبٍ/ ويُدَوي مثل صفرْ؟».

وأخيرًا، صدرت الأعمال الشعرية الناجزة، عن «بيت الشعر الفلسطيني»، وزارة الثقافة، رام الله، في 652 صفحة من القطع الكبير. وتجدر الإشارة إلى ما نجده في قصائد شاعرنا من سيرته الذاتية، سيرة الشعر والحياة، فننتهي مع هذا المقطع من قصيدة «سيرة ذاتية»، التي يبدو فيها يائسًا مما آلت إليه الحياة: «حَفنَةُ تبنٍ أيامي/ قالَ الشاعرُ/ وحياتي تلهثُ خلفي كالكلبة/ كانَ العُمرُ الوغدُ يمر كشحاذٍ/ معتمرٍ فوق الرأس حذاءً/ أغمضَ عينيهِ/ فانسَكَبَت جرةُ موسيقا/ واشتعلَ الوردُ على الجدرانِ/ ورفرفَ سِربُ شفاهٍ/ قُربَه/ ما جدوى ذلك؟ قالَ الشاعرُ، ورمى/ مِن نافذةِ الغرفةِ قلبَه».