في أدب الأطفال.. السؤال عن أكوان وكائنات أوجدَتْها الكلمات

في أدب الأطفال.. السؤال عن أكوان وكائنات أوجدَتْها الكلمات

تقول «آليس» في أحد الحوارات: «هيا نلعب لعبة التمثيل، فنتظاهر…». يتعين الإقرار في عَقِبِ هذا القول بأن تمثيلات التجربة في أدب الأطفال تكاد تعادل التجربة نفسها. فليس ثمة فرق بين النص بوصفه حقيقة، والحقيقة بوصفها تمثيلًا؛ ليس ثمة مسافة نفسية فاصلة بين القارئ والمقروء. لذلك لا غرو في أن ينطبع المقروء في أعين القراء الصغار لا من حيث هو منزعٌ خطابيٌّ تخييليّ، بل من حيث هو تجربةٌ تحقيقيةٌ أو تكاد.

تستغرب آليس بعد أن تماهت مع طبيعة الحياة في لعبة التمثيل والتخييل: «إن نوعية الحياة التي أعيشها هنا غريبة جدًّا! أتساءل عما يكون قد وقع لي! في الوقت الذي كنت أقرأ في أثنائه خرافات الجنيات، كنت أتخيل أن هذه النوعية من الأشياء لا تحدث أبدًا، وها أنا أجدني في خضمها!». إن الانغماس في المقروء -على سبيل الاندماج والتماهي- هو ما يؤسس الكون الطفولي الممتع واللذيذ، ذاك الذي يحاكي من أحد الأوجه حديقة فاتنة كُتب على مدخلها: «أيها القارئ الصغير الغريب، هنا ستُعامَلُ جيدًا، هنا المتعة هي الخير الأسمى». لكن مهلًا، هل كانت «آليس ليدل» في رائِعَتَيْ لويس كارول «أبيقورية» الهمة والهوى؟ أم إنها – بحكم شغف الفضول المركوز في طفولتها- كانت مدفوعةً بحافزية السؤال والاستشراف على سحر مرابع الأحلام؟

خرائط الخيال

«احك لنا حكاية…» هذا الرجاء الطفولي من آليس وأُخْتَيْها عادة تشكلتْ من أثر سحره أجنحةُ التحليق في مرابع الأحلام الممتعة. كان لويس كارول (واسمه الحقيقي تشارلز لوتفيدج دودجسون) يعمل أستاذًا للرياضيات في «كنيسة المسيح في أكسفورد»، لكنه كان في الوقت ذاته مولعًا بهواية السرد الطفولي. ويبدو أن ذلك صار مصدر إلهام بالنسبة إليه من أجل إبداع «آليس في بلاد العجائب»، و«آليس في المرآة»، أما «آليس» فهي ابنة العميد هنري جورج ليدل. وقد كان كارول ينفق الساعات الطوال معها رفقة شقيقاتها، يحكي لهن حكايات تخييلية ماتعة من بنات أفكاره عن أكوان وكائنات وشخصيات وجغرافيات قد لا تكون مُتَحَقِّقَةً على أرضٍ ولا مُمَثَّلَةً في أي خريطة، بيد أنها تتلامع في أحلام الطفولة كما لو أنها أَجْلَى مِنْ كلِّ واقع. إن الأماكن الحقيقية -بحسب ما ذكر هيرمان ميلفيل- «لا توجد في الخرائط». ومع كل هذا اليقين، لا تكف أحلام الطفولة عن السؤال عنها والتطلع إلى زيارتها بعد إذ أوجدتها الكلمات.

صدرت الطبعة الأولى من رواية «آليس في بلاد العجائب» سنة 1865م. فذاع صيتها، وانتشر صداها في الآفاق. وكان ذلك باعثًا على كتابة الجزء الثاني «آليس في المرآة»، سنة 1871م. وحين توفي لويس كارول في عام 1898م، كانت الروايتان من أشهر كتب الأطفال في إنجلترا. وبحلول عام 1932م، صارتا من أشهر كلاسيكيات الأدب الموجه للناشئة في العالم. تستذكر آليس: «كان السيد دودجسون يتوقف فجأة، لتشويقنا وإغاظتنا»، ويقول: «تلك هي النهاية؛ إلى أن نبدأ في المرة المقبلة». بيد أن الفتيات الثلاث كن يرددن معًا من أثر التشويق: «أوه، إننا الآن في المرة المقبلة!». وبعد شيء من الإلحاح، «كان يستأنف الحكاية من جديد».

أما بالعودة إلى السؤال عن «أبيقورية آليس» فليس في حوزتنا ما نجزم به في هذا الشأن، بيد أن في أطواء الروايتين ما يُنبئ عن إستطيقا فائقة و«لذة أبيقورية» رائقة في السؤال والاستكشاف مسنودة بدافعية الفضول والفرار من قبضة الملال؛ ذلك أن الكتاب الذي تطلعت إليه «آليس» بضجر -وهو بين يدي أختها، فلم يَرُقْها دَرْبُه، ولم يشغفها حُبُّه، قبل رحلتها إلى بلاد العجائب- كان في الأصل كتابًا «لا صور فيه ولا حوارات». آنئذٍ تلبَّسَ ضجرُها بلبوس سؤال إنكاري، فصاحت: «ما الفائدة من كتاب لا صور فيه ولا حوارات؟». وصارت خطواتُها المقدامة -نحو شيء يصيب شِغافَ قلبها ويوافق هَوَى فضولٍ وأسئلةٍ في دواخل نفسِها- بدايةَ السير نحو الارتقاء إلى سحر المعرفة، واستقراء المخبوء تحت السطح.

أدب الطفل وسؤال المعرفة

ها نحن بإزاء درس بديع توحي به سردية آليس، مفاده أن تَعَلُّمَ القراءةِ لا يعني تزجيةَ الوقت بأسطر الضجر الممض. لا، بل يعني أن تكون حرًّا في اختيار المقروء، وأن تتملَّكَ النص الذي تقرؤه، وتُنْشِئَ من خلاله نصًّا خاصًّا بك وحدك. إن النحل -بحسب ما ذكر ميشيل دو مونتيني- يرتشف «الرحيق من هذه الزهرة وتلك، ولكنه في الأخير يصنع من الرحيق عسلًا هو له، لا للزهور (…) هكذا ينبغي أن يُحوِّلَ المتعلمُ وأن يُدْمِجَ العناصرَ التي استعارها من غيره؛ كي يصنع منها شيئًا يكون حقًّا له». تمامًا مثل آليس التي رفضت أن تكون قارئةً مقيمةً في كتاب تنحصر عوالمه في ورق معدود، واختارت أن تكون مُتَعلِّمةً جوَّالة في حديقةٍ أزهارُها متفتحةٌ، ولا تنتهي جمالياتُ الأسئلةِ بإزائها إلى حد محدود. لطالما آمنت آليس بأن تظل حرة، ولطالما استأنست -في جُزْأَيْ سرديتها- بخيار الحرية. ونحن نزعم أن السؤالَ عن كينونة الذات وصيروراتها «من أكون؟ وإلى أين أصير؟» هو أُسُّ التَّحرُّرِ والتحرير والاستنارة والتنوير.

وصلًا بهذا السياق، تتساءل آليس: «كم يبدو كل شيء غريبًا اليوم! بينما كانت الأمور عادية بالأمس. أتساءل هل غُيِّرْتُ في أثناء الليل يا ترى؟ لنفكر في الأمر: هل كنت أنا نفسي حينما استيقظت هذا الصباح؟ أتذكر جيدًا إحساسي بأني صرت مختلفة بعض الشيء عن آليس الأمس. لكن إذا لم أكن أنا نفسي، يجب التساؤل إذن: من أكون؟ آه! هذه هي المشكلة الكبرى!».

ذكر أفلاطون في «محاورة كراتيليوس» على لسان سقراط أن الفوز في مباراة المعرفة سيكون من نصيب أولئك الذين «يعرفون كيف يسألون، وكيف يجيبون عن الأسئلة». ولعل ذلك ينطبق على أدب الأطفال أيضًا؛ ذلك أننا لم نستوضحْ فيه طريقًا لَاحِبًا إلا طريقَ تَعَلُّمِ الأسئلة. أحيانًا قد يبدو الجوابُ عن سؤالٍ ما مستعصيًا، بالنظر إلى انخراطه في سلك الإشكالات الوجودية، بيد أن في طريقة صياغة السؤال ذاتِـها بَعْضًا من عناصر الجواب.