فلسفة الزمن وطرائق السرد في «رجل تتعقبه الغربان»

فلسفة الزمن وطرائق السرد في «رجل تتعقبه الغربان»

رجل يخاف خوفًا مرضيًّا من صوت الغربان، يعاني قلقًا وجوديًّا من انتشار الأوبئة، حيث تكثر الجثث في الشوارع لتتخطفها الغربان. فرّ هذا الرجل من وباء «كورونا» تاركًا قريته قبل عقود من انطلاق السرد، وسكن مدينة أخرى بمرافقة ابنته وحفيديه، لكنه في لحظات قلق وجودية مشابهة، وبعد عشرين سنة من فراره من الوباء، يفتح دفاتر أحزانه، دفاتر يومياته؛ ليسرد لهذين الحفيدين حكاياته وحكايات أجداده عن الأوبئة. وفي أثناء ذلك يسرد طرفًا من سيرته الذاتية وسيرة قريته الصغيرة في صحراء المملكة العربية السعودية؛ لنتعرف إلى تفاصيل الحياة وسيرة الناس الديموغرافية، سيرة الإنسان في الزمان والمكان في رواية «رجل تتعقبه الغربان» للروائي يوسف المحيميد التي صدرت عن دار العين بالقاهرة.

مدينة بيضاء ميتة

إنها رواية أقرب إلى روايات الدستوبيا، حيث يعيش السارد في عام 2048م، وسط عالم فاسد بيئيًّا واجتماعيًّا. تبدأ الرواية من المستقبل، حيث يعيش سليمان الزارع مع ابنته وولديها، في مدينة «بيضاء ميتة» في إشارة لمدينة غريبة يغطيها الثلج والموات النفسي بعيدًا من الأوطان: «هل تحتفظ بالذكريات التي كتبتها آنذاك يا أبي؟ حين كنا محبوسين في منزلنا القديم في حي قرطبة؟ ليتك تقرأ عليهم شيئًا مما كتبت! تنحنح الجد، وقال لهما: تعاليا هنا أنتما بخير» (ص11). يتخذ السارد من طلب ابنته تكأة سردية ليبدأ الحكي لحفيديه إبراهيم وإسماعيل التاريخ الاجتماعي لعائلته البسيطة. لكن أية مدينة تلك التي لم يحشد السارد إشاراته الثقافية لنتعرف إليها إلا في موضع وحيد، حيث يقول: «صخب المتظاهرين بجدائلهم القصيرة وقبعاتهم الصغيرة المستديرة السوداء، وقد مروا أمامه حاملين لافتات وأعلامًا زرقاء وبيضاء، وهم يغنون احتفالًا باليوم الوطني المئة لبلادهم». فهل هي إسرائيل التي خرج العم ليحارب ضد نشأتها وضياع القدس قبل مئة عام من هذا التاريخ؟ فهل قصد الكاتب أن يحدث صدمة وعي للقارئ، بأن زمن الدستوبيا سوف يحول العدو إلى صديق؟ أم إنها مدينة لا تزال تعاديه كما عادت عمه والعرب جميعًا، ولو كانت العداوة ضمنية؛ فهي «مدينة بيضاء ميتة»؟

إن السارد يعاني غربة واغترابًا نفسيًّا، فقد فرّ من بلده هربًا من قضاء الله، إلى «مدينة بيضاء ميتة» ليعيش الغربة بعيدًا من الوطن، والاغتراب الذي لم يحققه بالاندماج مع الآخر الذي كان يومًا عدوًّا. يقول: «من أنت؟ أنا سليمان الزارع أو سليم كما يسمونني، يصغرون اسمي احتقارًا، فأنا مجرد رجل حقير، لم يستطع أن يحافظ على شيء، لا امرأة استطاع أن يخرسها حين تعصف به مجنونة كالريح، ولا أم رد عنها الأذى والموت، ولا أب استطاع أن يغسله ويكفنه، ويقبله، أو حتى يلمسه قبل دفنه، كل ما فعله أن تأمله من وراء زجاج سميك وهو يحتضر، حتى بلاده التي انفرطت من بين يديه بغتة كمسبحة في هاوية» (ص9).

يحاول السارد أن يبرر غربته واغترابه، لكن محاورة حفيديه لا تترك له فرصة للهروب من انثيال الذاكرة، يقول: «حين عاد الأب إلى غرفته، جعل يستعيد تلك الذكريات أيام حظر التجوال، وما تلاها من أحداث سريعة، وابتسم في عتمة غرفته، تذكر سؤال إسماعيل لماذا تركت بيتك وشجرة التوت التي تحبها يا جدي؟ قال: إن دراسة أمهما هديل هي السبب، فسأل إبراهيم: لماذا لم تعودا بعدما خلصت أمي من الدراسة؟ لم يجب، وإنما استمر يحكي لهما عن ذكرياته، فلا أحد غيره وهديل يعرف سبب هجرتهما… إنه الخوف المرضي الذي لازمه» (ص12).

لم يكن وباء كورونا هو الوباء الوحيد الذي أثار كل هذا القلق الوجودي في أرواح شخصيات الرواية، فها هو وباء آخر يقفز في الفضاء السردي من ذاكرة الجد صالح. إنه وباء الجدري الذي أصاب القرية قديمًا وأودى بحياة أحد أولاد الجد صالح الثلاثة، فقد غادر قريته إثر إصابة ابنه بالوباء إلى الرياض بحثًا عن علاج، لكن الزوجة تصاب بالعدوى، وتلحق هي الأخرى بابنها، ليظل الجد صالح وابناه في الرياض بمرافقة أخيه حمد. يسافر حمد ليشارك في الحرب في فلسطين، ولا يعرف عنه الجد صالح شيئًا، لكنه سمع أن كتيبة الجنود عادت إلى جدة، فقرر الذهاب للبحث عنه. وفي طريق الذهاب إلى جدة تنفتح ذاكرة السرد، سرد الوباء وما رافقه من مآسٍ إنسانية غير محتملة: «فوق جذوع الأثل على صناديق الشاحنة صوب الرياض، الصراع مع الجدري، وموت عثمان الصغير، ودفنه في مقبرة ضارج، ورحيل زوجته في ثليم، ودفنها في مقبرة شلقا، وإصابة محمد بالجدري» (ص151).

عتبات النص

عتبة العنوان تستحق تأملها بتروٍّ، فقد دأب الناس على تسمية سليمان الزارع بالرجل الذي تتعقبه الغربان نتيجة لخوفه المرضي منها. معروف عن الغربان أنها تحوم حول الجثث التي تخلفها الأوبئة. تشير الغربان إلى الأوبئة التي لم تقتصر على وباء كورونا الذي فرّ منه السارد 2020م، بل تعقب الكاتب تاريخ الأوبئة عبر تاريخ المنطقة، ما بين وباء الطاعون والجدري والكوليرا وكورونا. ويتجلى العنوان في أكثر من موضع في الرواية. يقول وهو يتذكر زميلًا له في عمله السابق: «لم تعد الغربان هي تلك الطيور التي تحلق وتنعب طول الوقت، بل حتى زميلي في العمل تضعف ساقاه وتحمران أحيانًا، ثم ينحني نحو الأرض شيئًا فشيئًا، وينبت حول ذراعيه ريش أسود، فتصبح مشيته في الممرات كمشية غراب يبحث في الأرض، أهرب منه من دون أن أفضي إليه بوساوسي، لكن الآخر… الغراب يلاحقني بصوت غير مفهوم، صوت غامض يشبه النعيب» (ص180).

أما الاقتباسات والعناوين الداخلية، فتكمل ما تحققه عتبات النص من تفاعلات نصية تخرج بالنص عن مجرد سرد الحكاية إلى جدل في الوعي وتفاعل للإشارات الثقافية؛ وهو ما يوسع منظور الرؤية. حيث يفتتح المحيميد روايته باقتباس دال من الشاعر العراقي عبدالكريم كاصد (1946م): «أيها الغراب / كف عن نعيقك / جنازة تمر»، وبالمقولة النجدية: «لا عيون إلا بعد جدري، ولا عيال إلا بعد حصباء»، وبقول جاك لندن (1876 -1916م): «الأنظمة المتوارية تنهار مثل رغوة. نعم، رغوة ومتوارية. كل كدح الإنسان على الكوكب كان مجرد رغوة». تتألف الرواية من تسعة فصول «مدينة بيضاء ميتة/ فبراير 2048»، «كيف أحرك يدي الحجرية/ مارس- فبراير 2020»، «تفاصيل منسية/ ضارج- الرياض 1939»، «سجين خلف زجاج نافذة في ملحق خارجي/ الرياض 2020»، «أوراق منسية في زمن بعيد/ الرياض- فلسطين 1945- 1950»، «يطرقون رؤوسهم كما السجناء/ الرياض 2020»، «الجنود في حقل الذرة/ الرياض- فلسطين 1948-1949»، «أعد المنظار الروسي إلى جرابه القديم/ الرياض 2020» و«الحكاية دائرة تتكرر، مايو 2048».

فلسفة الزمن

إن الاشتغال على الزمن وفلسفته رهان رئيس من رهانات الرواية، سواء زمن القصة أم زمن السرد. زمن القصة يتوزع ما بين النصف الأول من القرن العشرين وعشرينيات الألفية الثالثة وصولًا إلى نهايات النصف الأول من تلك الألفية، حيث ينطلق السرد عام 2048م. أما زمن السرد فقد فارق الكاتب الزمن التتابعي الخطي الذي يعد ثمة من سمات السرد الكلاسيكي إلى زمن يتوزع ما بين الفلاش باك أو الزمن الاسترجاعي وهو المهيمن فعليًّا على بنية الزمن السردي، والزمن الاستباقي الذي جاء، على قلته، ليكشف عن جِدَّة بناء الرواية ومعمارها.

منذ البداية يحرص الكاتب على توظيف زمن الاسترجاع، فحين يفتح دفاتره ويقرأ على أحفاده تاريخ أسرته، منذ الجد صالح، يضطر إلى أن يعود بالزمن مرة إلى زمن وباء كوفيد 19 وأخرى إلى زمن انتشار الجدري وثالثة إلى زمن انتشار الكوليرا، وقبل كل ذلك وباء الطاعون الذي أصاب قرى نجد قبل مئة عام. كان الراوي (سليمان) يقرأ من دفتر مذكراته بصوت يشبه تلاوة القرآن، فتعيده الذاكرة إلى حيث حياته الأولى، حين كان يسمع القرآن بصوت أبيه، فطريقة التلاوة قفزت من ذاكرة السرد لتحمل تفاصيل حياة مرّت، لكنها تثير النوستالجيا في روح الجد: «التلاوة ذاتها، والصوت العميق الذي أسمعه الآن في حوش منزلنا، زمن الوباء والعزلة، لتذرف عيناي خلسة، وتنتابني غصة بكاء مكتومة، كنت أرى الله ماثلًا أمامي حين يتلو أبي الآيات في العتمة بصوته الذي يجرح الروح، ويبث قشعريرة كالماء في الجسد» (ص30).

أما عن الزمن الاستباقي أو الاستشرافي، فهو يتكرر في الرواية؛ ليفيد منه الكاتب من شد انتباه القارئ للأحداث المتوقعة عبر الزمن السردي، فيأتي الاستشراف في النص لتهيئة القارئ نفسيًّا لما سيأتي من أحداث. عقب انتشار وباء الكورونا وخوف السارد الرئيس سليمان الزارع من كل ما حوله، حتى عواء ذئب في الجوار يجعله يفكر في مطاردته ببندقيته. يقول المحيميد على لسان سليمان الباحث عن الذئب العاوي: «كيف لي أن أستدرجه بأن أرمي قطعة لحم مقلي قرب الحاوية الصفراء، ثم أنثر أحشاءه بالبارود، أو أخرج باحثًا في الطرقات المحيطة، كيف أخرج في الشوارع حاملًا بندقية صيد بطول جسدي؟ كيف ستكون ردود أفعال الجيران؟ ستصيح امرأة تطل من نافذة غرفتها، وتهرول بحثًا عن زوجها… وقد يبادر الزوج الأحمق مرتبكًا، فيتصل بدوريات الأمن، ثم تأتي الشرطة على عجل فتقتادني» (ص137).

«يوميات حقيقية لفتاة متخيلة» لهناء حجازي مساءلة الأنساق الثقافية

«يوميات حقيقية لفتاة متخيلة» لهناء حجازي

مساءلة الأنساق الثقافية

تعد المذكرات واليوميات من السرود التي تركز على هوية الذات ومشاغلها وهمومها وأحلامها، فيتم تضييق المسافة بين الذات والعالم، بين الذات الساردة والراوي الخارجي، لكن هل هذه الذات هي ذات الكاتب الحقيقية؟ وهل يمكن النظر إلى السردية التي توظّف اليوميات والمذكرات كطرائق سردية جمالية باعتبارها انعكاسًا لذات المؤلف؟ أم نعتبر كل هذه السرود رؤى تخييلية لا تخص الذات إنما تخص الشخصية الروائية، ففي الرواية التي توظّف اليوميات والمذكرات تبدو الذات في هذه النصوص «ترتكز على الهوية، أي على غياب المسافة الفاصلة بين شخصية السرد الرئيسة التي هي الذات وبين الراوي الذي يتحدث بضمير الأنا ويكتب بصيغة المتكلم» (بول ريكور، بعد طول تأمل، ترجمة: فؤاد مليت، منشورات الاختلاف، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى 2006م، ص: 23).

حجاب التخييل

إن اليوميات والمذكرات كتقنية فنية توهم بالإحالة إلى الذات بشكل مباشر دونما مواربة أو التخفي وراء التخييل، وتحفل بالإسهاب في السرد ونقل المشاعر والانطباعات. وأتصور أن الكاتبة السعودية هناء حجازي في نصها الأحدث «يوميات حقيقية لفتاة متخيلة، أو العكس»- الذي صدر عن دار جداول (يوليو 2022م) -كانت تعي تلك المساحة الملتبسة بين التخييل والواقع، بين المذكرات كتقنية جمالية وبين كونها كتابة سيرية صريحة، كما أتصور أنها تعي المحاذير في الثقافة العربية التي لا تسمح بالكشف والتعرية وفضح المسكوت عنه؛ لذا عنونت النص بعنوان يضع مسؤولية تصنيفه على القارئ، فهي لم تحسم أمرها صراحة في تجنيس النص هل هو «مذكرات حقيقية لفتاة متخيلة» أم «مذكرات متخيلة لفتاة حقيقية» ألم تقل لنا «والعكس» في تجنيس النص؟

تترك الكاتبة للقارئ مهمة التصنيف الإجناسي، فتقول في إحدى عتبات النص: «لا أعرف ما الذي جعلني أقرر كتابة يومياتي. لم أنجح يومًا في فعل ذلك، وحتى هذه المرة لا أستطيع الادعاء أنني نجحت تمامًا. هذه مذكراتي لمدة عامين… هل يمكنني أن أدع أمي تقرؤها، ربما أبي؟ لا، لا أتخيل ذلك أبدًا، حتى لو بعد وفاتي… أنا حريصة على تدوين يومياتي، قررت أنني سأتوقف تمامًا عن إكمال هذا الفعل. ولا أعرف إن كنت سأحتفظ بها أم سأقوم بحرقها» (ص6).

في هذه المقدمة تطرح الكاتبة فلسفة الكتابة، فهي تخشى المحاذير الاجتماعية، فلن تدع أسرتها تقرؤها، كما أنها لم تحزم أمرها هل ستحرقها أم تتركها للقارئ، وما دامت قد وصلت لنا- نحن القراء الافتراضيين- فقد حزمت أمرها ودفعتها للنشر. تبدأ الكاتبة المذكرات في أكتوبر 2019م، وتنهيها في يوليو 2020م، لكنها تقدم لها صفحتين أو يزيد لتُوجز لنا سيرة الساردة، فهي امرأة مطلقة، تعيش بمفردها ولم تعد لبيت أهلها كخطوة أولى للتحرر من هيمنة الثقافة الذكورية التي تفرض وصاية على المرأة بعد أن تُطلق، كما أنها تعمل، وتنتمي لأسرة تحترف الكتابة، أب وأم يمارسان الكتابة الإبداعية، وهي في طريقها لذلك عبر تدوين مذكراتها ويومياتها.

هناء حجازي

الخطاب المعلن والنسق المضمر

تراهن الكاتبة على مساءلة النسق الذكوري الذي يستغل الوضعيات الاجتماعية للنساء، فتبدأ أولى يومياتها «20 أكتوبر 2019م» يوم إعلان نتائج جائزة نوبل، ثم تخبرنا أنها ستعلَن بعد حجبها العام الماضي بسبب الفضائح الجنسية، ثم تتوالى سرديات ابتزاز النساء جنسيًّا انتقالًا من نوبل إلى فضيحة المذيع الأميركي الشهير، ثم فضح النسق الثقافي الذي أدى للتحرش بالنساء في بلاد الغرب التي من المفترض أن المرأة فيها وصلت لمكانة وتمكين قضيا على تهميشها، لكن الساردة تقفز فجأة من الثقافة الغربية إلى النسق الثقافي العربي، وتتخيل اليوم الذي تتمكن فيه النساء من فضح من يتحرش بهن.

الكاتبة واعية لآليات النسق الذكوري الذي يتخذ من النساء أنفسهن مدافعات عنه؛ وهو ما يمثل مزيدًا من تهميش النساء. فوالدة الساردة -وهي مثقفة وكاتبة ومن المفترض أن تمتلك خطابًا نسويًّا قويًّا ينحاز للمرأة- نجدها تُدين فضح المتحرش، بل تطالب عبر نقاشها مع الساردة بالستر والتغاضي والتجاوز: «يرعبني أحيانًا هذا البرود الذي تتحدث به ماما. هذه المرأة المثقفة التي عانت وخاضت الكثير من الحروب في أيامها، كي تحصل، هي وغيرها، على حقوق لم تكن متاحة، كيف تتكلم بهذا الشكل عن النساء؟» (ص12).

كما تسرد الكاتبة العديد من الممارسات التي يقوم بها النسق الثقافي؛ ليُهمن على النساء، فتحتفي في النص بالنقلة الثقافية الكبرى التي حدثت في المجتمع السعودي المحافظ بمجيء الأمير «محمد بن سلمان» الذي أحدث تغييرًا جذريًّا: «أحب محمد بن سلمان، كلنا نحبه نحن الذين عانينا من الخوف من الهيئة، نحن الذين كنا نقابل الشباب في الشقق خوفًا من لقاءات المقاهي بسببهم. نحن الذين كنا لا نجرؤ على كشف شعورنا في المولات خوفًا من طريقتهم القاسية… سيبقى ما فعله أمرًا تاريخيًّا» (ص56).

إنه احتفاء كبير بالسماح للنساء بممارسة حرياتهن بدءًا من قيادة السيارة والتخلص من وصاية «هيئة الأمر بالمعروف» على النساء، والتدخل فيما يرتدين ويفعلن والاعتراض على الحفلات والفعاليات الفنية، ولكنها في تبنيها للخطاب النسوي لم تكن واعية بأن ذلك الخطاب يعامل النساء كذوات كاملة الأهلية والحقوق، ولا يجب أن يكنَّ موضوعًا يُفعل بهن ما يشاء أصحاب الثقافة الذكورية، فنجدها تحتفي بالحرية التي حصلت عليها صديقتها «وعد»؛ لأن هناك رجلًا دعمها وحماها من مساءلة المجتمع. فتقول: «لا أظن أنني أستطيع الخروج دون عباءة. وعد تستطيع لأنها متزوجة وزوجها يدعمها. وعد أيضًا استطاعت أن تحصل على رخصة قيادة، وعلى سيارتها الخاصة» (ص14).

في أكثر من موضع تقرن الكاتبة بين تحرر النساء ودعم الرجال، وكأنه تحرر مشروط، إن دعمك رجل فيمكن لك أن تنالي كل حريتك، وإن لم يدعمك رجل، فسوف يقيدك المجتمع «تضع وعد صورها في «الانستغرام» وفي «تويتر» و«الفيس بوك» تضعها في كل مكان، وهي ترتدي الفساتين القصيرة، وتقبل زوجها، وتنام بالبيجاما… كنت سأفعل كما فعلت وعد لو كنت متزوجة من شخص كزوج وعد» (ص15). وعلى الرغم من أن الخطاب النسوي ينقصه الوعي الكافي بأهمية أن تكون المرأة ذاتًا فاعلة لا تحتاج إلى الرجل لدعمها، فإنها تلح على كشف الممارسات الذكورية ضد النساء، وهو ما يستوجب المساءلة: «اكتشفت أن الرجال هكذا، شيء في تركيبتهم يجعلهم يضخمون الأشياء التي يقومون بها…إذا قررنا أن نتغافل فنحن ضعيفات ومسكينات وعبدات للرجل، وإذا قررنا ألا نتغافل، فنحن مسترجلات ونسويات وضد الرجل» (ص51).

مساءلة النسق الاجتماعي

تحتفي الكاتبة بالخطاب الاجتماعي، فالسرود الروائية قادرة على أن تكتب خطاب الهامش الاجتماعي وعلاقته بالمتن أو المركز، وأتصور أن الكاتبة واعية بذلك الخطاب، فقد حاولت في مواضع جمة أن تكشف النسق الاجتماعي، نسق العادات والتقاليد، نسق التغيرات الاجتماعية التي حدثت في المجتمع في السنوات الأخيرة والتي نقلته نقلة حداثية لا يمكن للمراقب من الخارج إغفالها. تقول حجازي: «غدًا 14 فبراير. أتذكر كل أعياد الحب التي قضيتها خائفة من هيئة الأمر بالمعروف. كل الحكايات. كل الورد الأحمر الذي لم نجده، كل الهدايا التي لم نتمكن من استقبالها. كنت أحاول مع أمي وأبي في كل مرة كي أسافر. ماما تفهم وتحاول أن تساعد، تخاف لكن تحاول. بابا لا أدري إذا كان لم يفهم، أو أنه يتخذ وضعية الرجل الشرقي الذي يعتقد أن كل البنات إلا ابنته يمكن أن تفعل شيئًا يسيء إلى براءتها» (ص22).

تحيل الذات الساردة الأنثى (الفرد) من جهة، والمجتمع بأسره من جهة ثانية، إلى أنها ذات شديدة الارتباط بهموم مجتمعها وتناقضاته وأزماته. ولذلك يمثل البحث عن الهوية والتوازن النفسي أحد مكونات هذه الذات المأزومة: «ما زال النقاش مستمرًّا حول أغنية «بنات مكة»… حزنت من أجل الفتاة، كلمات الأغنية وطريقة غنائها وفخرها ببنات مكة كانت جميلة. مشكلتها الوحيدة أنها كانت سمراء، وكل من معها في التصوير كانوا كذلك. بين يوم وليلة انقلبت الدنيا… فجأة قبض عليها. انفجر «تويتر» بالتعليقات. قلة من يرون فيما فعلت أنه شيء عادي. وعلينا ألا نفرط في ردة الفعل» (ص25).

كما ترصد الكاتبة ما طرأ على المجتمع من تغيرات بسبب جائحة كورونا، وكيف تلقت، هي وغيرها، الإجراءات الاحترازية التي حدثت مع الجائحة: «أي شخص يعود من الخارج، يضعونه في الحجر المنزلي أو في فندق ما، لمدة أسبوعين. والآن، حديثًا، طُبّق منع التجوّل… بسبب كورونا، العدو غير المرئي» (ص29).

كما تعري الكاتبة النسق الثقافي القبلي، وتصنيف الناس بناءً على وضعياتهم الاجتماعية، فترفض التصنيف أيًّا كان، وتنتصر للقيم الإنسانية المشتركة بغض النظر عن وضع الفرد بالنسبة للمجتمع: «لماذا يحتاج الناس إلى تصنيفك؟ ما هذه الرغبة الشديدة عندهم لوضعك في خانة؟ تقييمك يعتمد على البيت الذي قدمت منه. هل أنت قبيلي؟ إذا كنت قبيليًّا والسؤال صادر من قبيلي فهذا يعني الاستحسان، لكن ليس استحسانًا كاملًا؛ لأنك قد تكون قادمًا من قبيلة أقل شأنًا من قبيلته، أو هذا ما يُعتقد؛ لأن غالبية القبائل تعتبر القبائل الأخرى أقل شأنًا منها» (ص49).

تعكس الكاتبة وجود الذات الممزقة التي عجزت عن التكيف مع واقعها، وهو ما دفعها إلى الوهم ورحلة البحث عن اليقين والطمأنينة؛ في حالة توازي بين تلك الذات والمجتمع الذي يعاني هو الآخر، فالذات في النص هي مرآة لحياة المجتمع القائم على التنصيف والاستبعاد والتهميش.