الاستعارة في نظرية المناسبة.. مقاربة تداولية معرفية

الاستعارة في نظرية المناسبة.. مقاربة تداولية معرفية

تستند الدراسة الشعرية والأسلوبية، عند سباربر وولسن، إلى طريقتين في المعالجة: تستند الأولى إلى الاستدلال على التأثيرات الأسلوبية انطلاقًا من الشكل القضوي للقول، أي الشكل الصريح الذي يمكن الاصطلاح عليه بسطح القول. وتُستخرج تأثيراته مما وقع حسابه من المقتضيات ومن الاستلزامات التي تتزامن مع عملية النطق. وأما الثانية، فتستند إلى الاستدلال على التأثيرات الضمنية.

الضمني والتأثيرات الشعرية

اهتم سباربر وولسن بالتأثيرات المجازية والأسلوبية. وانطلقا في ذلك من نقد غرايس الذي عالج هذه المسائل انطلاقًا من منوال منطقي استلزامي يعدّ الربط بين القضايا إشكالًا منطقيًّا. والإشكال في منظور منوال استدلالي هو كيفية تطبيق الاستلزام على المجاز. لقد حلل غرايس الاستعارة بوصفها عدولًا عن الاستخدام الحرفي على أساس المشابهة. وقد عدّا المقام التأويلي الحرفي والمجازي والأسلوبي واحدًا؛ لأنه راجع إلى المناسبة. وهي القاعدة الاستدلالية الوحيدة التي تُعَدّ ضرورية للفهم. ولا يُعَدّ المجازي انحرافًا عن الاستخدام الحرفي.

فالمعالجة الاستدلالية استندت، عندهما، إلى وظيفة اللغة التمثيلية، وكفاءة المتخاطبين التمثيلية، وإلى علاقة اللغة بالكون بالنظر في شروط صدقها. وقد أطلق عليها المؤلفان الأبعاد الوصفية والتأويلية لاستخدام اللغة. فالمتكلم يبني علاقتين في قوله يستدل عليهما المخاطب انطلاقًا من قرائن مقامية ودلالية تتحكم في استخراجها المناسبة بكل اعتباراتها واستنادًا إلى الشروط الذهنية لانبناء المقصد، وعلاقة هذا المقصد الذي يولده القول بشروط صدقه. وأما العلاقة الأولى، فهي علاقة بين فكرة المتكلم أو مقصده والقضية التي تؤول هذا المقصد وبمقتضاها يؤول المتكلم مقصده بوصفه حالة ذهنية. والتأويل معناه توليد قول يبلغ على أساس المشابهة مقصدًا. ويستخرج المخاطَب هذه العلاقة ببناء فرضيات يستدل بها على مقصد المتكلم انطلاقًا من المقام، متوخّيًا المناسبة.

فالمتكلم يؤول قولًا، أي أنه يولده في علاقته بما يرغب في تبليغه. ولكن هذه العلاقة تترك دلائل للاستدلال عليها لأن اللغة لا تعبر. فعلاقتها بالأشياء ليست طافية على سطح القول بل يُستدل عليها. وهذه الدلائل هي عبارة عن جسر يصل بين القول ومقصد المتكلم. ورُب مسافة بين القول والمقصد يملؤها الاستدلال انطلاقًا من المقام والمناسبة بتكوين الفرضيات. وأما العلاقة الثانية، فهي علاقة بين فكرة المتكلم أي مقصده وشروط صدق القضية التي تؤول هذا المقصد وتستند بدورها إلى علاقتين ممكنتين حسب اختيار المتكلم. وذلك وفق شروط صدق الفكرة التي يبلغها.

فأما العلاقة الأولى فهي الوصف. وأما الثانية فهي التأويل. وهذه العلاقة الثانية هي بحث في ماهية الفكرة التي يؤولها القول؛ أي يولدها على أساس علاقاتها بشروط الصدق لأن القول هو بنية من المفاهيم، أي هو بنية ذهنية داخلية. وهو، كذلك، يهدف إلى بلوغ معطيات خارجية في الكون. فإذا كانت لها علاقة مباشرة بما يؤوله، فهي علاقة وصفية على أساس الصدق. وإذا كانت العلاقة غير مباشرة، فالعلاقة علاقة شبه؛ لأن المتكلم لا يلتزم بصدق القضية، وإنما بصدق استلزاماتها؛ لأنها تؤول فكرة ولا تؤول معطى خارجيًّا. وإن النظر في علاقة بناء الفرضيات بشروط صدق القضية يُطلعنا على مقصد المتكلم انطلاقًا مما ينص عليه القول؛ إذ يبلغ القول مقصد المتكلم نصًّا.

ويوجد فرق بين أن يعبر وأن يبلغ. فكون اللغة معبرة فرضية ألغاها المؤلفان من منطلقاتهما، وكذلك انطلق المؤلفان من ضمنيات القول. وإن مجال الضمني هو مجال بناء الخطاطات المتشابهة. وهي أشكال، كل شكل منها ينتج استلزامات القول الضمنية المشتركة وينفرد باستلزامات لا يكررها شكل آخر. وهي جميعها عبارة عن نواة أصلية تمثل معنى عامًّا مشتركًا ومعاني حافة كالذرات المحيطة بها. ومن الضروري النظر في المقصود بعلاقة المشابهة؛ لأنها أصل توليد أقوالنا. وما تبلغه من مقاصد صريحة وضمنية تثير إشكالًا مهمًّا لدى المؤلفين. ففي الأصل، وفي التصور التقليدي، هناك معنى حرفي وهناك عدول عنه إلى المجاز مثل الاستعارة التي عُرفت بكونها عدولًا على أساس المشابهة، غير أن سباربر وولسن يتصوران، في إطار نظرية المناسبة، الأمرَ على وجه مختلف. فكل أقوالنا تعبير تأويلي، يعني أنها قائمة على المشابهة بينها وبين ما تستلزمه.

«فأي درجة للمشابهة يجب أن تكون بين شكلين قضويين حتى يمكن أن يشكل أحدهما تأويلًا للآخر؟ سنبين أن الإجابة عن هذا السؤال تختلف من حالة إلى أخرى. ولكنها تنشأ دائمًا عن مبدأ المناسبة. وما نريد أن نلفت إليه النظر هو أنه، مهما أمكن أن توجد درجة في المشابهة دنيا لا يكون أي استخدام تأويلي ما دونها ممكنًا، فإنه لا يوجد ضرورة درجة مشابهة قصوى لا يكون الأمر، إذا وقع تجاوزها متعلقًا بمشابهة وإنما بتماهٍ، ليس بتأويل وإنما بإعادة إنتاج». (Sperber & Wilson، 1989م، ص343) فهناك حد أدنى للمشابهة هو الاشتراك في استلزام واحد على الأقل. وأقصى درجات المشابهة الاشتراك في كل الاستلزامات. وبموجب ذلك يتحول القول إلى إعادة إنتاج للفكرة التي يبلغها كما في الاستخدام الحرفي للغة. ولكن لا يوجد، بالضرورة في كل مشابهة تطابق في كل الاستلزامات. وإن أصل الإشكال هو كيفيات تعرف المتكلم على الاستلزامات المقصودة بوساطة فكرة المتكلم والاستلزامات التي لم يقصدها. وهذا إشكال مهم أثارته الدراسات العرفانية ونظريات التواصل بوجه عام، وتكمن الإجابة عنه، حسب نظرية المناسبة، في البحث الآلي عن المناسبة لأنه توجد استلزمات لا يقتضيها القول. فليست كل استلزمات القول استلزامات للفكرة المشابهة. وقد فكر سباربر وولسن في نسق هو كون المشابهة تؤدي إلى الاختلاف. فكثير من الأقوال تتشابه في مستوى شكلها اللغوي. ولكنها تؤدي دلالات مختلفة؛ لأن الاستدلال يكذب التشابه الظاهري.

الاستعارة: استدلال على التشابه التأويلي

لتمثيل من درجة أولى

يعرف سباربر وولسن الاستعارة بأنها علاقة تأويلية غير حرفية بين الشكل القضوي للقول والفكرة التي يبلغها. وهي وصف لحالة واقعية للأشياء. فتوليد الشكل القضوي للقول المنشئ للاستعارة يتم على غير الطريقة الحرفية ما دام المجاز، حسب سباربر وولسن مبنيًّا على جملة من الأشكال المفارقة لحرفية اللغة، وهي مفارقة ليست بمعنى العدول، وإنما بمعنى كون المقصد غير حرفي، بمعنى أنه ليس هناك تطابق في الاستلزامات المقامية والتحليلية. فهناك تشابه في مستوى بعض الاستلزامات. ويحيل مقصد القول على عناصر واقعية خارج الخطاب. ولكن السبيل إليها ليس حرفيًّا. وإنما هو تخييلي ضمني. وإن جهة النظر التي يعبر عنها المؤلفان هي مرجعيات القول وطريقة تشكل المقصد انطلاقًا من عمليات الاستدلال، وليس انطلاقًا من أصل الوضع اللغوي. فإشكال المشابهة الحرفية وغير الحرفية لا يُفض بمَعزِل عن الاستدلال داخل المقام وانطلاقًا من المناسبة. فإذا كانت المشابهة حرفية أي تامة بمعنى المطابقة في الاستلزامات المقامية والتحليلية، أو كانت المشابهة جزئية أي غير حرفية، ولا يوجد تشابه إلا في عدد من الاستلزامات، ففي كلتا الحالتين فإن دور المتكلم هو التوصل إلى الأحداث والأشياء الغائبة عن القول والحاضرة في المقام المناسب.

سباربر

وأما الإشكال الثاني في معالجة الاستعارة فهو التأثيرات التأويلية المضمنة في درجة الخلق القائمة في الاستعارة. إن الاستعارة كما عالجها سباربر وولسن تنتمي إلى حيز التأثيرات الشعرية الضمنية. وإن مدى الضمني في الاستعارة هو الذي يحدد درجة الخلق فيها. ودرجة الخلق هي التي تحدد درجة وجود الضمني في القول. والعكس صحيح. وبناءً على انبناء الاستعارة على الضمني، ليس هناك حاجة إلى بناء الشكل القضوي؛ لأنه لا يمثل وجهًا مما ينصّ عليه القول. وإن الضمني كما يعدّه المؤلفان درجات، فهناك الضمني القوي، وهناك الضمني الضعيف، وهناك الضعيف جدًّا. وهذا ما بينه سباربر وولسن بفرضية التواصل القوي والتواصل الضعيف، أي ما يبلغ تبليغًا قويًّا أو ضعيفًا. فإذا كانت الاستعارة من قبيل الضمني القوي كانت جامدة ومتداولة. فسباربر وولسن يقيمان تمييزًا أساسيًّا يمكن القول من بلوغ المناسبة، إما باستدعاء بعض الفرضيات الضمنية القوية أو باستدعاء الفرضيات الضعيفة. وهي تشكل خطاطات متشابهة؛ لأنها تشكل استلزامات القول الواحد، كما يبدو ذلك في التحاليل التالية: «هذه الرواية تجعلني أنام».

التشابه في العبارة اللغوية والاختلاف في المقصد

إن الفرضيات التي يجعلها المدخل الموسوعي لـ«أنام» بينة مشتركة هي مجموعة الفرضيات التي لا تحتوي، فحسب، إغماض الجفون ولكن أيضًا السآمة وعدم الشعور بالمسؤولية وعدم الانشغال. وكل هذه الفرضيات هي من صعيد الضمني القوي. فإذا لم تحقق المناسبة يكون البحث عن ضمنيات أخرى ضعيفة. فقد يحيل النوم على انعدام الوعي. فنحن نقرأ لتحصيل درجة من الوعي بالواقع ومشكلاته ومفارقاته. ولكن الاستعارة قلبت المعادلة. فعوض أن نقرأ لكيلا ننام، نحن نقرأ لننام. ولهذا القول الاستعاري شبيه كأن نقول: «ينام البحر في عيني».

ففي هذه الاستعارة يبلغ النوم معنى الهدوء والسكينة والأمان. فالمقصد هو الذي يوجه الاستعمال الاستعاري فحيث يوجد التشابه في العبارة اللغوية يوجد الاختلاف في المقصد. وعَدَّ سباربر وولسن هذا الموضعَ محددًا لنشأة نظرية تداولية استدلالية. فمعارفنا الموسوعية تختزن فرضيات ضمنية قوية وضعيفة، يستخدمها المخاطَب. وذلك حسَب الحاجة التي تدعوه إليها عملية المناسبة في أثناء المسار التأويلي. فإذا دعت الحاجة إلى توسيع مدى الضمني وقع توسيعه. ويكون التوقف عندما يصل المؤول إلى تحقيق المناسبة.

وفي هذا البيت لأبي ذؤيب الهذلي: وإذا المنية أنشبت أظفارها/ ألفيت كل تميمة لا تنفع.

تبني الاستعارة الضمنيات القوية التالية: تُمثِّل المنيةُ حسَب المدخل الموسوعي لهذا المفهوم حيوانًا مفترسًا. ويستلزم ذلك من ناحية الضمنيات القوية أنها لا تُبقِي ولا تَذَر. وأما الضمنيات الضعيفة التي تبنيها فهي كون المنية لا يُفلِت منها أحد. فنشب الأظفار دالّ على الإمساك وعلى الوقوع في قبضة الموت بشدة لا تدع مجالًا للإفلات.

هذه الأمثلة وقع تحليلها بالاستناد إلى مداخلها الموسوعية؛ أي بالاستناد إلى استلزام القول ومقامه. ولكن من الاستعارات ما لا يحمل تأويلًا؛ ولذلك يكون المؤول إزاء مسؤوليته التامة في التأويل، وعليه بذل مجهود إضافي حتى يفهم الاستعارة، كما في الاستعارات التالية، وهي تحمل المفهوم نفسه، وفي هذه الأمثلة التي نحللها نبين أن النظرية التداولية الجديرة بهذا الاسم حسب المؤلفيْنِ هي التي تؤول الأقوال من دون تأثر بدرجة المشابهة في الأقوال. ففي الاستعارة التالية يوجه المتكلم الخطاب إلى مخاطَبِهِ وهي امرأة، فيقول عن وجهها: «ألقى القمر رداءه عليه».

فالقمر كأنه ملك يخلع حُلَّتَه على مادحه. وفي هذا المثال الذي تداوله العرب جُعل القمر كأنه يرتدي الضياء. فلما رأى من هي أجمل منه ألقى عليها ضياءه. فالضمني هو في الجمال البارع والاستعارة، هنا، هي من مجال الضمني الضعيف انبنت على التخيل الخلاق لفرضيات من صعيد ضعيف؛ لأن هناك استعارة أخرى هي: «جاء القمر».

ففي هذا المثال المرأة جميلة والمدخل الموسوعي لـ«قمر» يمكننا من فرضية قوية هي المرأة الجميلة. أما الاستعارة السابقة فهي تعبر عن درجة عليا من جمال المرأة. وليس، فحسب، عن كون المرأة جميلة. وانبنت في المثال الأول على ضمني ضعيف، وأما الثانية فانبنت على استلزامات القول القريبة. وأما المثال الأخير الذي يشبه في بنائه اللغوي الاستعارات السابقة، فإن الشبه فيه يؤدي إلى الاختلاف: «كان زاده القمر». ففي هذا المثال عبَّرت الاستعارة عن فرضيات ليس لها علاقة بالمدخل المفهومي للقمر. فهو ينبني على فرضيات ضعيفة جدًّا واقعة على مسؤولية المتكلم وتتمثل في كون الرجل كان يسير، ولشدة فقره لم يكن له زاد. فكأنما لم يتزود إلا بضياء القمر. فمعنى ذلك أنه فقير محتاج لا يملك شيئًا. فالقمر يصبح في مقام المال والأكل أي الزاد. والعلاقة التأويلية هي علاقة تأويلية ضعيفة جدًّا تولد استلزامات شديدة الدقة واللطف.


المصادر:

  • SPERBER, DAN et WILSON, DEIRDRE.: Relevance: Communication and cognition, Oxford, Blackwell publishers.
  • Grice, H.P., (1975), Logic and conversation », dans Cole et Morgan, 1975: 41-58.
  • Dan Sperber & Deirdre Wilson (1997) Remarks on relevance theory and the social sciences. Multilingua 16, 145-51.

هوامش:

(١) المقصود بسطح القول شبكة العلاقات المنطقية والدلالية للقول التي تعتمل في نسيجه من الداخل والتي يقع استخراجها بالاستدلال في شكل استلزامات تحليلية قائمة في مستوى البنية الظاهرة والمباشرة للقول.

(٢) في مفهوم الاستخدام التأويلي يمكن العودة إلى سباربر وولسن (97).

(٣) لقد اعتمدت أمثلة عربية مطبقة عليها مبادئ استدلالية أجراها سباربر وولسن على أمثلة فرنسية وإنجليزية؛ لأختبر جدوى النظرية في معالجة أقوال باللسان العربي وفي شروط الثقافة العربية.