جدلية كونية حقوق الإنسان والخصوصية الثقافية.. نحو منظور سوسيولوجي

جدلية كونية حقوق الإنسان والخصوصية الثقافية.. نحو منظور سوسيولوجي

تسعى هذه المقالة إلى المساهمة في إبراز إمكانية أقلمة كونية حقوق الإنسان والخصوصية الثقافية، وذلك عبر تشخيص الحجج، ورصد بعض معالم «خرائط الطريق» المنهجية والعملية والمعرفية، التي اقترحها كل من محمد عابد الجابري وعبدالصمد الديالمي، واعتبراها مسالك لا بد منها لتجاوز التعارض بين كونية حقوق الإنسان وخصوصيتنا الثقافية. وعمومًا، تهدف هذه المساهمة، التي لا تخفي انتصارها لكونية حقوق الإنسان، إلى تأكيد ضرورة تنويع المداخل المعرفية، وتعديد «الجبهات الثقافية» التي يمكن الانطلاق منها للترافع عن قضايا حقوق الإنسان باعتبارها قضية آنية، وجوهرية في مسرى صيانة كرامة الأفراد والجماعات.

يجب التأكيد في هذا الصدد، بأننا نعتمد هنا المقاربة السوسيولوجية كخلفية نظرية وإبستمولوجية لا تنظر لقيم حقوق الإنسان باعتبارها آفاقًا للفعل، أو معاييرَ عملية عامة للحكم على السلوك، وإنما باعتبارها مبادئ فعلية للسلوك؛ لأن هاجس عالِم الاجتماع(١) هو استجلاء كيفية استدماج واستبطان قيم حقوق الإنسان، وإعادة تصريفها في سلوكات الأفراد بما فيها قيم الحريات الفردية. وهو مجهود ليس بالهين، إذا استحضرنا كثافة حضور المقاربة القانونية والفلسفية في الإنتاج الأكاديمي حول هذه الثيمة، في مقابل ندرة المقاربة السوسيولوجية التي نسعى إلى الاسترشاد بها هنا.

بين الكونية والخصوصية الثقافية

مما لا شك فيه، أن خطاب حقوق الإنسان ليس خطابًا واحدًا وموحدًا، بل هو متنوع ومتعدد، تتجاذبه تيارات وتنظيمات متناقضة، من حيث المرجعية والمنطلقات الفكرية والسياسية والأيديولوجية، لعل أبرزها التيار الاشتراكي، والليبرالي، والإسلامي. تتقاطع هذه التيارات في التوظيف السياسي والأيديولوجي لهذا الخطاب، بحيث يلحظ أن كل تيار يحاول أن يجعل منه ورقة للضغط على النظام السياسي؛ ليعزز مكانته في المشهد الحقوقي والسياسي، أملًا في أن يصبح رقمًا صعبًا في معادلة رسم السياسات العمومية والقطاعية.

محمد عابد الجابري

إن التوظيف السياسي والأيديولوجي لخطاب حقوق الإنسان من طرف التيارات السالفة الذكر، سبقه خطاب معرفي رصين، يقر بمساهمة الفلسفة والأديان والثقافات المختلفة في بلورة قيم وثقافة ومنظومة حقوق الإنسان، مساهمًا بذلك في تطوير وتثوير ثقافة حقوق الإنسان، فتحولت من قيم ومُثُل عليا ينشدها الإنسان لتحقيق السلم والأمن العالمي، إلى مصادر للتشريع الأخلاقي في معظم دول العالم، بما فيها دول العالم العربي والإسلامي.

لكن الإقرار والاعتراف بمنظومة حقوق الإنسان، من طرف أغلب الدول، لا يعني التفعيل الواقعي لمبادئها، ما دامت بعض القوى الاجتماعية، تنظر إليها باعتبارها مجرد انعكاس أمين للثقافة الغربية، ونتاج خالص لعمقها الحضاري والتاريخي، الشيء الذي يفسر مقاومة الثقافات الأخرى المنافسة للثقافة الغربية، ويطرح من جديد مسألة الصراع حول المرجعية؛ لذلك نعتقد أن كونية حقوق الإنسان كمنظومة قيمية، لا تتحقق كليًّا إلا كمبادئ فلسفية مجردة، ما دامت سيرورة أجرأتها الواقعية، غالبًا ما تصطدم بصخرة «الخصوصية الثقافية»، التي تعتصم بشوكتها بعض الدول لصياغة موقف رافض أو متحفظ على بعض المواثيق والمعاهدات الدولية المتعلقة بها باعتبارها مجرد آليات ميكيافيلية للنيل من تراثها الاجتماعي والروحي المحلي الذي إذا ما افتقده شعب معين سيشعر «بالاستلحاق والاستلاب والاغتراب اتجاه ذاته واتجاه الآخر»(٢). هكذا، يبدو طبيعيًّا، أن تسارع بعض الدول المتخلفة التي داهمتها الحداثة بشكل قسري إلى محاولة حماية «لغتها ودينها وتراثها من الاستدابة»(٣).

لهذا، سيعرف عقد التسعينيات من القرن الماضي، ظهور العديد من الكتابات(٤) التي حاولت الدفاع بشراسة عن مبدأ الخصوصية الثقافية، وقيمها الدينية، وتحذير شعوبها من إستراتيجيات القوى العظمى التي تسعى إلى الهيمنة قيميًّا وحضاريًّا، بعدما نجحت في ذلك سياسيًّا واقتصاديًّا وعسكريًّا.

لكن، وفي ظل المد العولمي الجارف، أصبح من الصعب على كل الثقافات المحلية أن تحافظ على «نقائها الخالص»، فهي تظل محكومة بما يقع في محيطها الخارجي؛ «إذ إنها تدمج داخلها ليس فقط المعارف والتقنيات ولكن أيضًا الأفكار والتقاليد والمأكولات والأفراد الآتين من آفاق أخرى. وكل ربط بين الثقافتين فيه إغناء للثقافات ذاتها. إنه يفضي إلى إنجازات خلاقة بفضل التهجينات الثقافية، كتلك التي أعطت الفلامنكو وموسيقا أميركا اللاتينية… وعلى العكس من ذلك، يشكل تدمير ثقافة ما بفعل الهيمنة التقنية الحضارية خسارة للبشرية جمعاء، والتي يشكل تنوع ثقافتها أحد أغلى كنوزها»(٥).

ولعل هذا ما جعل المفكر المغربي المهدي المنجرة يخص هذه المسألة بمؤلف سماه «قيمة القيم»(٦)، وحذر فيه من نزعة التمركز حول الثقافة والمجتمع التي تميز الغرب، الذي يعتبر أن ثقافته وقيمه هي أرقى ما وصلت إليه الإنسانية، ضاربًا عرض الحائط كل الثقافات الأخرى التي يعتبرها متخلفة؛ لذلك عمل على استبدالها أو محوها خلال الحركة الاستعمارية التي قام بها انطلاقًا من القرن التاسع عشر. وهو ما رفضته الحركات الوطنية بشدة، وحاولت أن تتصدى له عبر شحذ الهمم والتعبئة المجتمعية الشاملة لمقاومة الاستعمار الثقافي، باعتباره أخطر أشكال الاستعمار. أكثر من ذلك، لقد اعتبرت مناهضته شكل من أشكال التحرر من الاستعمار العسكري والسياسي.

وبالمنطق نفسه، ستوظف الأقليات العرقية والثقافية بعد الاستقلال مقولة «الاستعمار الثقافي» للمطالبة بحقوقها المتمثلة في «إحياء اللغات المحلية، وتدريسها ونشر آدابها واعتمادها بجانب اللغة الوطنية السائدة»(٧). الشيء الذي نتج عنه تقاطب وصراع حاد بين مختلف قوى المجتمع، حيث ستُتَّهَم الأقليات بالرغبة في «تمزيق وحدة الأمة وخلق ما سمي بالطائفية الثقافية، والتمهيد للانفصال السياسي»(٨)، في الوقت الذي ستؤكد فيه هذه الأخيرة «أن ثقافتها مكون أساسي من مكونات الهوية الثقافية للأمة، بل ربما هي مكونها الأصلي والأساسي، وأن الثقافة السائدة حاليًّا هي ثقافة دخيلة»(٩).

أما الدول المتقدمة، فغالبًا ما تنظر إلى سيرورة التمسك بالخصوصية الثقافية من طرف الدول المتخلفة، باعتبارها مجرد «مطية لإخفاء بعض أشكال القمع وعدم احترام حقوق الإنسان»(١٠).

ما نود تأكيده هنا، هو أن الإضاءات السابقة حول بعض ملامح الصراع، بين دعاة الكونية ودعاة الخصوصية الثقافية، ليست ترفًا فكريًّا، بل تسعى إلى إبراز كيف أن هذا التقاطب المجتمعي الحاد حول التعاطي مع المنظومة الحقوقية الكونية هو امتداد طبيعي لتقاطب أوسع، عادة ما اختزلت عناوينه العريضة في ثنائية الأصالة والمعاصرة.

لكن السؤال الذي يبرز هنا: ألا يمكن تجاوز هذه التعارضات، عبر القيام باجتهادات وتأويلات للتوفيق بين الخصوصية الثقافية وكونية حقوق الإنسان، وبخاصة إذا استحضرنا أن معظم الانتقادات لا تـطعن في الطابع الكوني لهذه الحقوق، بقدر ما توجه النقد، إلى التوظيفات والاستعمالات التي خضعت لها، باستعمالها أداة لصراع أيديو- سياسي، سواء على المستوى الداخلي أو الخارجي.

التوفيق بين كونية حقوق الإنسان والخصوصية الثقافية

لا شك أن المتتبع للكتابات المهتمة بالموضوع، سيلحظ أن أغلبها يشير إلى إمكانية تجاوز ذلك التعارض المفترض بين الكونية والخصوصية، الذي أبرزنا أبعاده العميقة آنفًا. في المقابل، هناك بعض الباحثين الذين لم يتوقفوا عند تأكيد إمكانية التوفيق بين الكونية والخصوصية، بل ذهبوا إلى أبعد من ذلك، عبر القيام بحفر أركيولوجي للتراث، سعيًا منهم لإبراز إمكانية تبْيِئة تجارب ومفاهيم الآخرين. تلك حالة عابد الجابري، الذي انكب على نصوص التراث بالدرس والتحليل، قصد تكييفها مع خصوصية عصرنا؛ من أجل تجاوز هذا التعارض بين كونية حقوق الإنسان والخصوصية الثقافية في قضايا عدة، وعلى رأسها تلك المرتبطة بالحريات الفردية. فلقد خصص الجزء الثالث من كتابه «الديمقراطية وحقوق الإنسان»(١١)، لإبراز بعض معالم «خرائط الطريق» المنهجية والعملية والمعرفية، التي يجب اتباعها لتحقيق سيرورة الأقلمة والتوفيق بينها.

عبدالصمد الديالمي

يتعلق الأمر بثلاثة مفاتيح أساسية لا بد من استحضارها دومًا لفهم معقولية الأحكام في الإسلام، وهي: «كليات الشريعة، الأحكام الجزئية، المقاصد وأسباب النزول»(١٢). بتعبير آخر، فهو يرى أن «الأصل في الحكم الصادر في الجزئي، يجب أن يكون تطبيقًا للمبدأ الكلي، فإذا كان هناك اختلاف، فلسبب وحكمة. والأسباب التي تبرر الحكم الجزئي وتبين معقوليته هي، إما أسباب النزول، (وهي عمومًا الظروف الخاصة التي اقتضت ذلك الحكم)، وإما مقاصد عامة تستوحي الخير العام»(١٣).

وفي الأفق نفسه، يرى الدكتور الديالمي، أن الأحكام الشرعية التي تستنبط من القواعد الفقهية بشكل عام، يجب العمل بها في حالة ما إذا كانت المسألة المنظور فيها، توحي بنوع من الانفتاح والعقلانية، وإذا كان الأمر مخالفًا، أي إذا كان النص مناقضًا للواقع، ومعرقلًا لسير وتقدم التاريخ، يجب اعتماد خصوصية السبب بدل عمومية اللفظ، في استنباط الأحكام الشرعية. هذه الرؤية المنهجية والعملية، هي التي ستحكم إسهامات الديالمي، حول إمكانية تكييف وأقلمة الخصوصية الثقافية مع كونية حقوق الإنسان.

في الختام، نشدد على خلاصة أساسية، مفادها، أن التعارض الموجود بين كونية حقوق الإنسان وخصوصيتنا الثقافية، كما توحي به القراءة الحرفية للنصوص الدينية ذات الصلة ببعض قضايا حقوق الإنسان، يمكن تجاوزه، عبر تأويل النص «تأويلًا جديدًا يتلاءم والظروف الجديدة التي يوجد فيها مسلم اليوم»(١٤). وهذا ما أكدته إسهامات عِدّة لمفكرين متنورين، تميزوا بالقدرة والجرأة على مساءلة التراث، مساءلة عقلانية تقوم على غربلة نصوصه وقراءتها في سياقاتها التاريخية والاجتماعية. فانتصار هؤلاء المثقفين لهذه القراءة التاريخية التي تستحضر روح النصوص، يعكس وعيهم الحارق بضرورة مواكبة التحولات العميقة التي عرفها -المجتمع المغربي بشكل خاص والمجتمع العربي بشكل عام- في العقود الأخيرة، والمتمثلة: في ارتفاع المستوى الدراسي، وتأخر سن الزواج، والرغبة في تحقيق الاستقلالية المادية، والانفتاح على الثقافات الأخرى عبر الآليات التقنية الجديدة، والإيمان بملكية الجسد وحرية التصرف فيه… إلخ.

وهي تحولات مهمة، ساهمت في انبثاق ثقافة الحريات الفردية، إلى أن أصبحت، مطالب اجتماعية آنية، تسعى القوى الحداثية إلى إقرارها دستوريًّا، والاعتراف بها قانونيًّا. حتى لا يظل هذا الأخير، متخلفًا عن الواقع المعيش. وبخاصة أن التشريعات القانونية، ليست بالضرورة أداة لتغيير المجتمعات على الأقل في المدى القريب، وإنما هي بالأساس، «انعكاس لما يعتمل داخل هذه المجتمعات من تحولات ناضجة لا تنتظر إلا تكريسًا لها على المستوى القانوني والتشريعي»(١٥).


هوامش:

(١) بدأ التفكير السوسيولوجي في حقوق الإنسان منذ سبعينيات القرن الماضي مع ريمون أرون، انظر: R. Aron, Etudes politiques : Pensée sociologique des droits humains, Gallimard, 1972, P 233- 238.

(٢) محمد سبيلا، «الأسس الفكرية لثقافة حقوق الإنسان»، المركز الثقافي العربي- الدار البيضاء، 2010م، ص60

(٣) المرجع السابق، ص60.

(٤) هناك العديد من الكتابات التي اهتمت بهذا الموضوع أهمها: المهدي المنجرة، «الحرب الحضارية الأولى»، مكتبة الشرق، 1995م.

Samuel. P. Huntington, Le choc des civilisation, éd, Odile Jacob, 1997

وما زال النقاش لم يحسم في هذه النقطة، ومن أهم الدراسات الجديدة التي طورته نجد:

Emmanuel todd et Youssef Courbage, Le rendez- vous des civilisations, Seuil, Coll « la république des idées », 2007.

Amine maalouf, Le naufrage des civilisations, éd, Grasset, 2019.

(٥) إدغار موران، «تربية المستقبل»، ترجمة عزيز لزرق ومنير الحجوجي، دار توبقال- الرباط، 2002م، ص52- 53.

(٦) المهدي المنجرة، «قيمة القيم»، المركز الثقافي العربي- الدار البيضاء، الطبعة الخامسة، 2013م.

(٧) محمد سبيلا، «الأسس الفكرية لثقافة حقوق الإنسان»، مرجع سبق ذكره، ص62.

(٨) المرجع السابق، ص62.

(٩) نفسه، ص62.

(١٠) المملكة المغربية، وزارة التربية الوطنية، ووزارة حقوق الإنسان، دليل مرجعي في مجال حقوق الإنسان، مطبعة المعارف الجديدة- الرباط، ص158.

(١١) محمد عابد الجابري، «الديمقراطية وحقوق الإنسان»، مركز دراسات الوحدة العربية- بيروت، 1994م.

(١٢) المرجع السابق، ص174.

(١٣) نفسه، ص174.

(١٤) عبدالصمد الديالمي، «نظرية الانتقال الجنسي».

(١٥) عماد المليتي، «التحولات الاجتماعية والحريات الفردية لدى الشباب في تونس: أي علاقة؟» مجلة عمران، العدد32، 2020م، ص28.