جليلة الطريطر: الوصاية الذكورية حتى إن كانت تحريرية تنويرية مرفوضة لدى المرأة العربية

جليلة الطريطر: الوصاية الذكورية حتى إن كانت تحريرية تنويرية مرفوضة لدى المرأة العربية

برزت الأستاذة جليلة الطريطر كمُؤسسة ومؤصلة التنظير في كتابات أدب الذات في الجامعة التونسية. واصلت جهود الباحث الفرنسي فيليب لوجون بعدما لفتت الانتباه بمؤلفها «مقومات السيرة الذاتية في الأدب العربي الحديث: بحث في المرجعيات» الصادر عن مركز النشر الجامعي ومؤسسة سعيدان للنشر بتونس سنة 2004م، وأعقبتهُ بمؤلفات عدة وسعت خلالها من آفاق اهتماماتها البحثية لتسلط الضوء على مختلف أجناس الكتابة المنتمية إلى منظومة الأدب المرجعي كالبورتريه واليوميات والتخييل الذاتي، وهو الأمر الذي أكسبها شهرة أكاديمية في الجامعات العربية والعالمية. وهي إلى جانب نشاطها العلمي الأكاديمي ناشطة مدنية مهتمة بالشأن العام المحلي ونسوية تعنى بمشاغل المرأة وقضاياها عبر نشاطها خبيرةً في مركز البحوث والدراسات والتوثيق والإعلام حول المرأة (الكريديف)، وعبر مقالاتها والبحوث الأكاديمية التي تُشرف عليها في الجامعة التونسية. وقد عُرفت عنها شجاعتها وجرأتها في آرائها ومواقفها مما يحدث في الجامعة التونسية والساحة الثقافية اليوم.

أصدرت الأستاذة الطريطر عددًا من المؤلفات أولها كتاب «رجع الأصداء في تحليل ونقد أصداء السيرة الذاتية لنجيب محفوظ»، تلته بأطروحتها «مقومات السيرة الذاتية في الأدب العربي الحديث: بحث في المرجعيات»، وأعقبتها بكتاب «أدب البورتريه، النظرية والإبداع»، وأخيرًا صدر لها «مرائي النساء، دراسات في كتابات الذات النسائية العربية»، وعززت مصفوفة هذه الكتب بترجمة كتاب «اليوميات الخاصة لبياتريس ديدياي». والخيط الناظم بينها هو البحث في خصائص كتابات الذات وتبين الفروق الدقيقة بينها وما يَسِمُ كل جنس كتابي منها من خصائص فنية ودلالية، وما شهده هذا الأدب من تحولات مهمة تاريخيًّا.

وقد حاورتها «الفيصل» حول المرأة والكتابة والنسوية.

الذات في خارطة الأدب الإنساني

  يُمكن اليوم تصنيفك كأبرز رائدات أدب الذات في العالم العربي من خلال ما قدمتِه من إسهامات معرفية واضحة أضافت إلى هذا الحقل العلمي الكثير، فأي منزلة لكتابات الذات على خارطة الأدب الإنساني اليوم، وما تقييمكم لوضعية هذا الضرب من الكتابة في العالم العربي؟ هل يدخل هذا الاهتمام في سياق وعي بضرورة رد الاعتبار للذات، وهي السمة الأساسية للنقلة الحديثة التي وقعت مع الحداثة الأوربية؟

  بدأت في الواقع أتطلع لنقد ما أسماه جورج غوسدورف بكتابات الذات منذ التسعينيات ويتمثل ذلك تحديدًا في اختياري دراسة السيرة الذاتية في الأدب العربي الحديث في نطاق إنجازي لدكتوراه دولة في الأدب. وقتها كانت منظومة الأدب الواقعي أو المرجعي في طور تكوين نظريتها النقدية أوربيًّا، وبخاصة في فرنسا مع غوسدورف وفيليب لوجون. وهو ما يفسر اصطدامي بعوائق جسيمة؛ لأن النقد العربي لم يكن قد تهيأ بعد لمتابعة هذا الحقل الأدبي متابعة نقدية اصطلاحية ومنهجية وتحليلية. وبقدر ما كانت مغامرتي المعرفية صعبة جدًّا كانت واعدة وحافزة؛ لأني كنت على وعي تام بأني مطالَبة بردمِ الهُوّة القائمة وفتح سُبُل جديدة ومدونات، منها المعروف ومنها المغمور في نطاق أفق جديد وغير مسبوق، فالفاصل الزمني بيني وبين استكشاف الأدب المرجعي (تبلور الميثاق السيرذاتي نهائيًّا في 1975م) لم يتعدَّ خمس عشرة سنة، وهي مدة وجيزة في عمر الاختصاص النقدي.

هذا في مستوى ظرفية الريادة. أما تقويمي لهذا الأدب عالميًّا وعربيًّا، فأرى أن السبعينيات مثّلت منعرجًا حاسمًا في الانتباه إلى مدونات هذا الأدب الذي يكتب الذاكرة الفردية والجماعية بطرائق متنوعة، تجعلنا نتساءل عن مفهوم الأدب: ما هو؟ ونعيد النظر في جعله منحصرًا في المتخيل الروائي خاصة. هذا فضلًا عن أن هذه الكتابات تمثل شهادات حية ومثيرة عن حياة الإنسان فاعلًا ومنفعلًا بالحياة والتاريخ سواء كان عظيمًا أو عاديًّا؛ لذلك فهي ذات قيمة أدبية وتوثيقية في آنٍ تمكن من إلقاء أضواء متميزة على أنماط من الحيوات والعصور وتقدم الإضافة في قضايا الهوية وإشكالياتها الإنسانية والتاريخية.

الذات النسائية خارج الوصاية الذكورية

  كان لك اهتمام كذلك بكتابات الذات النسائية في الأدب العربي الحديث من خلال إصدارك الأخير «مرائي النساء»، فكيف يمكن تصنيف هذه التجربة في سياقها التاريخي، وهل كانت هذه التجربة امتدادًا لنشاط ذكوري في الكتابة أم خروجًا وتمردًا على الخط السردي الذي أسسه الرجل؟

  اهتمامي بكتابات الذات النسائية تبلور تأليفيًّا في «مرائي النساء»، الصادر عن الدار التونسية للكتاب آخر 2021م، وهو في الواقع خلاصة سنوات طويلة من البحث العلمي ومحاولة فك العزلة الثقافية والفكرية عن تاريخ النساء العربيات الكاتبات. فكنت سباقة في قسم العربية بالجامعة التونسية إلى الخروج من سلطة أدب الرجال وتكريسها رسميًّا على حساب مدونات الكاتبات العربيات التي هُمشت، حتى إن المتخرج من الجامعة لا يطرح سؤال وجودها من عدمه! وفي الآن نفسه اكتشفت مدى جهلنا بهذه المدونة وثرائها فضلًا عن كونها تؤرخ لذاكرة نسائية مستبعدة من تاريخ الأفكار وهامشية فيه. كتابات الذات النسائية العربية هي كتابات نضالية بامتياز تكتب تاريخ المرأة العربية وطموحها إلى تحرير نفسها بمجهوداتها وبقلمها خارج الوصاية الذكورية. إنها تمثل في الثقافة العربية إحدى صور صراع الهامش ضد هيمنة المركز الذكوري المادية والرمزية. أهمية هذا الكتاب لا تكمن في التعريف بمدونات النساء العربيات الذاتية الممتدة من آخر القرن التاسع عشر إلى يومنا واقتراح منهجيات مستحدثة لدراسة أجناسها المتنوعة فحسب، بل في توظيفها للذاكرة النسائية من أجل إعادة كتابة تحرير المرأة العربية الذي احتكرته الحركة الإصلاحية ممثلة في قاسم أمين والطاهر الحداد بتونس.

  غير أن هذا المُنجز الإبداعي للمرأة لم يلْق حظهُ من الدراسة والنقد؛ فأي أسباب تكمن وراء ذلك؟

عدم الاعتراف تاريخيًّا بالمرأة فاعلة في الثقافة وفاعلة تاريخية على وجه أعم هو أهم الأسباب المهمشة لكتاباتها، فالهوية الجندرية تنظر إلى المرأة في نطاق وظائفها الأسرية زوجة وأمًّا خاصة، ولا تشجع على تعليمها لتدخل مجال الفاعلة الرمزية المرتبطة بالحضور الفاعل في المعارف وإنتاج الأفكار. لذلك هناك تلازم موضوعي بين الحصار المضروب على شخصية المرأة الإنسانية والتنكر لأهميتها، وعدم الاعتراف بقدرتها على قول العالم أو التموقع الفكري فيه بوصفها ندًّا للرجل العالم.

  كيف يُمكن للكتابة بوصفها فعلًا إبداعيًّا أن تُصبح علامة تحرر وإثبات للذات عند المرأة؟

  الكتابة هي تجسيد لوجود الذات رمزيًّا في الكون، لذلك مثلت عبر التاريخ استقطابًا لنخبة عالمة مؤثرة في تاريخ العالم. هذه النخبة كانت طبعًا رجالية للأسباب التي ذكرناها. المرأة التي تكتب ذاتها لا تموت رمزيًّا لأن كتابتها ستبقى عنوانًا لوجودها؛ فالكاتبة الإنسانة تموت ولكن كتابتها تعيش بعد موتها الطبيعي، وتستمر داخل الثقافة في التوجيه والتأثير. نوال السعداوي من أهم الكاتبات اللاتي تمسكن بالكتابة كعنوان وجود لا يفنى، وحللت بإسهاب هذه القضية في سيرتها الذاتية «أوراقي… حياتي». حيث قالت: أنا أكتب إذن أنا موجودة.

  في رأيك، هل نجحت المرأة العربية اليوم في افتكاك سلطة الكلمة اليوم؟

المرأة العربية ناضلت على امتداد أكثر من قرن لافتكاك الكلمة، وكانت مؤمنة في كتاباتها الذاتية بأولوية دورها وقلمها في رفع الوصاية الذكورية عن حياتها الخاصة والعامة، حتى وإن كانت هذه الوصاية الذكورية تحريرية تنويرية فهي مرفوضة لديها، وأبرز مثال على ذلك ملك حفني ناصف في مراسلاتها مع مي زيادة. المرأة العربية كاتبة لم تنجح فقط في رفع الوصاية الذكورية بل نجحت في تكوين مدرسة نسائية عالمة في الثقافة العربية لها توجهاتها الأيديولوجية وآراؤها الاجتماعية والسياسية والتعليمية وإستراتيجياتها الدفاعية والاستشرافية والتحررية، وهو ما حاولت استكشافه والبرهنة عليه بالأدلة من خلال المدونات التي اشتغلت بها في «مرائي النساء».

التعريب وإثراء الخطاب النقدي

  كان لك تجربة واسعة في مجال الترجمة من الفرنسية إلى العربية ومن العربية إلى الفرنسية، تتضح جليًّا عبر عضويتك في المجلس العلمي لمعهد تونس للترجمة ومشاركتك في تعريب أجزاء من موسوعة دائرة المعارف الإسلامية، ومؤخرًا كتاب اليوميات الخاصة للناقدة الفرنسية بياتريس ديدياي، فأي قيمة لهذا الكتاب وما الأسباب التي حدت بك لترجمتهِ؟ وما الإضافة التي يمكن أن تحققها هذه الترجمة اليوم؟

  التعريب، من وجهة نظري النقدية، هو ممارسة نقدية أساسية للناقد المختص في مجاله؛ لأن النظريات النقدية الحديثة أجنبية والناقد العربي مطالب بمعرفتها جيدًا لتحيين معارفه النقدية المنهجية والاصطلاحية والفكرية. أقول مطالب لأني أعي أن النقد أضحى اليوم عالميًّا، وكل من لا ينخرط في هذه العالمية فلا معنى لصوته ولا أحد سيسعى إلى فهمه والتفاعل معه، وهو لن يستطيع أن يجعل من ممارسته النقدية ممارسة فاعلة في سياقها العام وقادرة على احتلال مكانة فيه. سيكون ناقدًا منعزلًا وغير مفهوم لغير نفسه أو مصنفًا ضمن الهواة.

النقد مثل الطب والفلسفة والرياضيات منظومة عالمية، ولا عبرة هنا بالتعلل بالفرادة الثقافية؛ لأنها لا تنتج إلا بأدوات العصر المعرفية وبواسطتها تتبلور. من هنا جاء اهتمامي بالتعريب وممارسته على نطاق نقدي خاص وعام داخل مؤسسة معهد تونس للترجمة. فتعريبي اليوميات الخاصة لبياتريس ديدياي هو من باب التموقع في نظرية كاتبة مؤسسة ورفد النقد العربي بإضافاتها العلمية، وهنا طبعًا ندخل باب إثراء الخطاب النقدي العربي بمجهودات في تعريب المصطلحات وتطويع الخطاب لنقد من نوع خاص مختلف عن النقد الروائي فضلًا عن الإثراء الحاصل من الإتيان على ذكر نصوص عالمية أجنبية مهمة ومجددة في مجالها ستوسع من دائرة القارئ العربي الأدبية، وبخاصة إن كان غير قادر على فهم اللغات الأجنبية بما فيها الفرنسية. التعريب عندي هو نشاط تكميلي لرفد مجال اختصاصي بأدواته المطلوبة والعمل على تطويره وجعله مواكبًا لحركة نقد كتابات الذات على مستوى مختلف أجناسها، مع الإشارة إلى أن مجهوداتي لا تسد وحدها الحاجة الكبيرة إلى تعريب أمهات النصوص النقدية الأوربية فضلًا عن المدونات التي تعالجها. النقد الثقافي عندي هو نقد يتبين الخصوصية الثقافية في أفق عالمي.

  كان لك إسهام واضح في الكتابة باللسان الفرنسي حول قضايا ومسائل ثقافية عربية ناهيك عن إسهامك في المعجم الكوني للمبدعات وهو أول معجم من نوعه، فما سبب توجيه اهتمامك للكتابة بالفرنسية؟

  توجهي للكتابة بالفرنسية مرتبط بإجابتي الأخيرة. مثلما يحتاج الناقد العربي اليوم إلى التعريب ليتموقع معرفيًّا، هو محتاج أيضًا لإيصال ثقافته الأدبية إلى العالم لتصبح الثقافة العربية في علاقة تفاعل بسياقاتها المعرفية الأجنبية مؤثرة فيها ومتأثرة بها. نحتاج إلى توسيع أفقنا الثقافي والتعريف بأدبنا الثري، فلا بد من أن نخرج من الانغلاق في لساننا؛ لذلك أرى أن الفائدة الحاصلة من الكتابة عن الثقافة العربية بلسان أجنبي كبيرة جدًّا ودليل قوي على كفاءة الناقد في اختصاصه؛ لأن من لا يقدر على الكتابة بلغة أجنبية لا يقدر على قراءة المدونات النقدية في أصولها الأجنبية أيضًا، والترجمات مهمة للأسباب التي ذكرتها ولكنها لا تغني في بعض الأحيان من العودة إلى الأصول.

مستقبل الأدب النسوي

  وما تقييمك للنشاط النسوي اليوم بتونس بعد عقد من الثورة؟ هل ما زال للمؤسسات والمنظمات النسوية دور في ظل انقسام المجتمع أيديولوجيًّا إلى شق محافظ وآخر متحرر؟

  النضال النسوي متواصل، في تونس وفي غير تونس؛ لأن العقليات الذكورية ما زالت راسخة، والمعركة أصبحت أشد اليوم؛ لأن النساء تعلمن وحققن مكاسب وكفاءات تؤهلهن لقيادة مجتمعاتهن والإسهام في بنائها، وهذه الكفاءة هي دليل تمكنهن من سلطة يراها الذكوريون إلى اليوم تهدد هيمنتهم التاريخية، ولا شك في أن سطوة التيارات الدينية المتشددة تنذر بتقهقر مخيف في المحافظة على مكاسب النساء، وأولها حق التعليم لأنه مطية كل المكاسب الأخرى، ويمكن للمتأمل أن يجد أمثلة كارثية اليوم في مجتمعات تهيمن عليها سياسيًّا قوى الردة الحداثية تحت غطاء ديني متشدد.

  ما الانتظارات المستقبلية من الأدب النسوي ومن الحركة النسوية عامة في ظل ثقافة محافظة يهيمن عليها التصور الديني الكلاسيكي، أي ما المجالات أو الأفكار التي عليه أن يهتم بها؟

  الأدب النسوي سيتابع تطورات المجتمعات وسيتفاعل معها بما يناسب سياقات النساء المخصوصة، فما يحدث في الغرب ليس مطابقًا لما يحدث في الشرق وفي دول العالم الثالث. قضايا المرأة تبقى سياقية جدًّا؛ لأن الأولويات تختلف، وتطور العقليات يختلف أيضًا. ولكن في كل الحالات تموقع النساء في مقامات السلطة الفعلية سيعمل لصالحهن، واليوم مثلما نشهد انتكاسات في بعض الدول نشهد صعودًا للنساء إلى مراكز القرار في بلدان أخرى. لا سبيل عمومًا لإنكار تطور فاعلية النساء في العالم للأسباب التي بينا، وهو ما لا يمكن التراجع عنه نهائيًّا؛ لأن دخول المرأة الفاعلية الاجتماعية أصبح في ذاته أمرًا ضروريًّا لبقاء هذه المجتمعات وتطورها.