بروكسيل تحت ظلال الحداثة

بروكسيل تحت ظلال الحداثة

1

محمد بنيس

جاءت زياراتي إلى بروكسيل تلبية لدعوات متقطعة بين مدة وأخرى. زيارات لأيام معدودات، نشاط شعري أو ثقافي، ثم أغادر المدينة. هذه الزيارات أخذت تمتلئ، شيئًا فشيئًا، بما ألاحظه من حياة الناس والمكتبات، بالاستفسار عن أسماء وأمكنة وقضايا، بزيارة المتاحف، بالسير على الأقدام لساعات.

للمدينة حيويتها؛ ذلك أن الأوربيين اختاروا المدينة لتكون مقرًّا لمؤسسات اتحادهم. إنها العاصمة السياسية لأوربا. هنا البرلمان الأوربي، وهنا يصنع القرار الجماعي بشأن الاقتصاد، عبر مجموع دول الاتحاد الأوربي. وجود مقر الاتحاد والإدارات الملحقة في مركز المدينة لا يروق البروكسيليين دائمًا. العولمة تدخل إلى بروكسيل محفوفة بطبول الاقتصاد. طوابق عمارات يزداد علوها. ازدحام السيارات. والضجيج، الضجيج.

2

كانت زيارتي الأولى إلى بروكسيل في ربيع سنة 1996م، صحبة برنار نويل والموسيقي المغربي أحمد الصياد. كنا جميعًا مدعوين إلى مهرجان الموسيقا أرْس Ars Musica. مع برنار اكتشفت بائعي الكتب المستعملة، وبخاصة الكتب الفنية في رواق بُورتيي Galerie Bortier، الواقع في مركز المدينة. عمارة تعود إلى القرن التاسع عشر. الواجهة من فن الباروك. ندخل إلى مكتبات، نقضي وقتًا طويلًا. وعند المغادرة كان كل واحد منا راكم مجموعة من الكتب النادرة، وبثمن نقدر على أدائه.

هذا الاكتشاف علّمني أن أعود، مع كل زيارة، إلى البحث عن مكتبات الكتب والمطبوعات المستعملة. مكتبات موزعة بين أحياء قديمة. ومنها ما يوجد في السوق الشعبي بساحة جو دي بال Place jeu du bal. أطلب سيارة أجرة. أتوجه إلى السوق. وهناك أقضي ساعات. كتب عن الفنون من جميع الأزمنة، موزعة بين معروضات البائعين أو في متاجر. وقريبًا من وسط المدينة القديمة، مكتبات من الصنف ذاته تفاجئك وأنت تمشي.

3

تشكل الأروقة الملكية سان هوبير تحفة معمارية، من حيث الاتساع ونوعية الرخام المستعمل وأشكال تطويع الحديد وامتداد السقف الزجاجي. ضوء خفيف، كأنه موسيقا تنبعث من كمنجة عتيقة. أروقة من تقاليد الأسواق التجارية الأوربية. من هذه الأروقة كان فرلين اشترى المسدس الذي أطلق منه رصاصتين على رامبو، فأصابت إحداهما معْصم يده اليسرى.

توجد في الأروقة مكتبتان فريدتان. الأولى مكتبة تروبّيزم، العريقة، والثانية مكتبة سان هوبير، المختصة بالكتب الفنية. ثم متحف الآداب والوثائق. تروبيزم. مكتبة – متحف. لا تعرف أتأسرك الكتب في البداية أم جمال معمار المكتبة؟ هما معًا؟ بالتأكيد، هي مكتبة تدل على معنى الكتاب في حياة البروكسيليين، وعلى ما كان لهم من شغف بالتأنق في عرضه على القراء وتقديمه لهم كأرفع ما يمكن أن يحصلوا عليه لأنفسهم وأقربائهم وأصدقائهم. عرض الكتب هنا ينافس عرض القطع الفنية، في أروقة ومتاحف. مساحة العرض. السند. الإضاءة. جسد من ورق وكلمات. تلك متعة العين التي ترى وتعشق ما ترى لتقبل على القراءة.

4

من هذه الأروقة إلى الساحة الكبرى للمدينة. عادتي أن أنوّع الطريق إليها. فالدخول إلى هذه الساحة يمثل، بالنسبة لي، وصولًا إلى ساحة أوبرا مفتوحة. لا أريد أن أقول قاعة، بل ساحة أوبرا. طرق من نواح تحيط بالساحة.

هذا المكان مسكون بأطياف الحداثة وبتاريخ الحرية. في هذا المكان أقام ماركس وصديقه إنغلز، كلاجئين سياسيّيْن، من فبراير 1845م إلى مارس 1848م، وكتبَا أشهر بيان ثوري في تاريخ البشرية؛ البيان الشيوعي. ومن الواجهة اليسرى، في البيت الذي يحمل اليوم اسم «بيت أنطوان»، اختار فيكتور هوغو أن يقيم منفيًّا من تلقاء نفسه سنة 1852م. مسكنان يكادان يحتلان موقعين متقابلين. كل منهما ينظر إلى الآخر، حتى بعد مضيّ أكثر من قرن ونصف. فماذا يقول اليوم كل منهما للآخر وهما يلاحظان ما تؤول إليه في بروكسيل أفكار الحداثة وقيمها؟

زائرو هذا المكان اليوم سياح منهمكون في ارتياد المقاهي وتسوّق الشوكولاته. كوديفا. نيوهاوس. بور روايال. نساء ورجال يغادرون المحلات التجارية وهم يتباهون بعُلب الشوكولاته. السرُّ كله في التعليب والتغليف. إلى جانب السياح، شبان يتكلمون العربية المغربية. يجلسون فوق مقدمة درج البنايات أو يقعدون فوق الأرض مباشرة. يلتقون للّهْو، وربما لتزجية الوقت في مكان يمنح متعة الفرجة للجميع.

5

خلال زيارتي الأخيرة، في 2012م، قدمت يوم 27 نوفمبر محاضرة، بدعوة من جمعية «لقاءات منتصف النهار الشعرية». أقيمت المحاضرة في قاعة متوسطة الحجم بالمتاحف الملكية للفنون الجميلة. جمهور هذا النشاط الشعري وفيٌّ، منضبط، شغوف، يؤدي ثمنًا مقابل المحاضرة، يملأ القاعة بكاملها. يواظب على الحضور كل ثلاثاء من أكتوبر حتى يونيو، منذ 1947م، ابتداءً من الثانية عشرة وأربعين دقيقة حتى الواحدة والنصف، ليتتبع محاضرة عن الشعر، ثم يمضي كل واحد إلى عمله أو إلى سبيله. موعد المحاضرات لا يتبدل. والمكان دائمًا هو نفسه، القاعة الصغرى للمحاضرات، داخل المتاحف.

هذه المتاحف من معالم بروكسيل. لكن إلى جانبها متحف متفرد، من أربعة طوابق، مخصص لأكبر فنان تشكيلي بلجيكي حديث، روني ماغريت. ورغم أن أعمالًا مرجعية لا تتوافر في المتحف، فإن ما هو معروض يعكس ما اتسمت به أعمال ماغريت من تجربة خارجة عن التصنيف المعتاد له ضمن السوريالية. فجرأته الفنية هي التي جعلت ميشيل فوكو يكتب كتيبًا عن لوحته «هذا ليس غليونًا»، أو يكتب برنار نويل كتيبًا أيضًا يحمل عنوان «ماغريت»، يتناول فيه عملًا آخر هو «عطلة هيغل»، أو ديديي أوتانغر «اسم غليون!». إنْ كان ماغريت تقاطع مع السورياليين في مدة محدودة فهو مستقل بذاته. أستمتع بهذا المتحف المصمم وفق جمالية العتمة والضوء، أو الاختفاء والظهور.

6

ثمة مركز فني وحديقة. سهرات وعروض غنائية ومسرحية على امتداد السنة في المركز الفني، الذي لا تعلن عنه أي علامة أو إشارة. الملصقات وحدها تدلك على حركة تتبيّـنها في الداخل. بائعون يبسطون فوق طاولاتهم المشتركة كتبًا أدبية وسياسية ثورية من أوربا وأميركا اللاتينية وإفريقيا. يعرضون أسطوانات الموسيقا وفيديو الأفلام. مطعم في نهاية البناية، يرتاده طلاب وفنانون. مكان للقاء قبل الحفلات الموسيقية أو العروض المسرحية وبعدهما.

ويلي المركز حديقة التجارب الزراعية. تطل من فوق على صفوف من جمال الطبيعة. تصميم الحديقة يراعي مستويات أرضية، في الوسط نافورة، والنباتات موزعة بطريقة هندسية تحترم تقسيم المساحات المزروعة إلى وحدات متساوية ومتقابلة، يحكمها منظور عقلاني. بروكسيل مدينة الحدائق. وهذه الحدائق تجسد رؤية أوربية حديثة إلى مكانة الحديقة في جميع نواحي المدينة.

7

بروكسيل تتفـيأ ظلال الحداثة وتتسرب إلى زمن ما بعد الحداثة. مدينة صغيرة، تجري نحو كل الاتجاهات بقدمين هوائيتين. أجلس في مقهى «خمارة الممر» Taverne du passage، داخل الأروقة الملكية سانت هوبير، أفتح الكتاب وأقرأ المقطع الأول من قصيدة بول فرلين «الخريف وجنيُ العنب»:

أشياءٌ تغنّي في الرّأسِ
فيما الذاكرةُ غابتْ
أنْصتُوا، إنه دمُنا الذي يُغنّي
أيتُها المُوسيقَا البَعيدةُ وَالكتُومَة!

لا تَحزنْ على قُرطبة

لا تَحزنْ على قُرطبة

محمد بنيس

1

لي مع قرطبة صورٌ عديدة. هي صور في الذاكرة، تجمعتْ عبر زيارات متدرجة عبر عقود. كنتُ في البداية زرتُها عند عودتي من باريس في صيف 1968م. آنذاك، كنت سافرتُ عبر القطار من الجزيرة الخضراء إلى مدريد، ومنها إلى باريس. وكنت استفدت، في شراء بطاقة السفر، من امتياز العائلة المتعددة الأفراد، بتخفيض يصل إلى خمسة وسبعين  في المئة، على ما أذكر. لكن كان لي امتياز آخر، هو أنه كان بإمكاني التوقف في محطات القطار لقضاء الوقت الذي أريد في أي مدينة، ثم أستأنف السفر. بهذا فزتُ بزيارة أهم مدن الأندلس. واكتشافها ترك أثره في ثقافتي الأندلسية حتى اليوم.

قرطبة إحدى أكبر هذه المدن، إلى جانب كلٍّ من إشبيلية وغرناطة. أما المعلمة الكبرى المتبقية في قرطبة من الآثار الأندلسية فهي الجامع الأموي، الذي كان يحمل اسم «ميسْكيتا»، أي المسجد بالإسبانية.

تلك الزيارة تلتها زيارات لا أعرف عددها. كلما كانت الفرصة تسنح كنت لا أتردّد. قرطبة للمرة والمرات المتلاحقة. وكل زيارة تُهديني شيئًا مما لم أكن أعرفه من قبل، أو مما لم أكن انتبهتُ إليه، أو مما انتهى ترميمُه وفتحت أبوابه للزائرين. مثلًا، في سنة 2008م، شاركت في مهرجان «كوسمُوبويتيكا» العالمي للشعر. وخلال تلك الزيارة، افتُتحت مدينة «الزهراء» لأول مرة، فبادرت إلى زيارتها، صحبة صديقي إبراهيم نصر الله، الذي عرّفتُه عليها.

في شهر ديسمبر الماضي، دعاني فرع «البيت العربي» في قرطبة، لتقديم ديواني «كتاب الحب» بمناسبة صدوره مترجمًا إلى الإسبانية. وجدت في هذه الدعوة تكريمًا خاصًّا لي وللديوان؛ لأن عملي يتقاطع مع كتاب «طوق الحمامة» لابن حزم، ابن مدينة قرطبة. عندما كتبتُ هذا الديوان، أصبحتُ أعشق هذه المدينة الأندلسية أكثر مما كنت في السابق. فهي أيضًا مدينة ولادة وابن زيدون. بل هي مدينة ابن طفيل وابن رشد وابن باجة. وهي، قبل هؤلاء جميعًا، مدينة عبدالرحمن الداخل وزرياب وعاصمة الدولة الأموية. في ذلك العهد اشتهرت بأنها مدينة العلم. ذلك ما قاله عنها ابن رشد: «إذا مات عالم بإشبيلية فأريد بيعُ كتبه حُملت إلى قرطبة حتى تُباع فيها، وإنْ مات مطرب بقرطبة فأريد بيعُ آلاته حُملتْ إلى إشبيلية».

2

أسماء طافت بذهني وأنا أدخل المدينة من بابها القديم، وأمرُّ بالقرب من تمثال ابن رشد، ثم من تمثال رمزي لكل من ولادة وابن زيدون، وقد تلامست أصابع يديهما. مقر «البيت العربي» تحفة أندلسية، بترميم فائق البساطة والأناقة، مع تكييفه للأنشطة الثقافية الحديثة. غادرت البيت بعد انتهاء الأمسية، وأنا أحس بقوة المكان. أنا الآن في أندلس حديثة. البيوت والمتاجر والفنادق والمطاعم والحانات والمتاحف. مع صديقي، المستعرب الإسباني والمترجم فديريكو أربوس، استسلمتُ لمسار الزقاق الضيق المحاذي للمسجد. معًا وصلنا إلى قنطرة الوادي الكبير. المياه المتدفقة بقوة تمر تحت أقواس القنطرة. أحسست بعهود تقف هنا معي. وأنا أتأمل. بردٌ شديدٌ في منتصف الليل. مع ذلك ظللنا نستدعي أسماء وأعمالًا وحكايات.

في الصباح أشرقت شمس ربيعية. ضوء يسطعُ من جنبات الجامع. وقفتُ أمام أبوابه كما كنت دائمًا أقف. منذ تلك الزيارة الأولى في صيف سنة 1968م، كانت استأثرت بعيني كلٌّ من هذه الأسوار والأبواب. بإمكاني أن أبقى هناك واقفًا لساعات، أتأمل جمالية الزخارف المحيطة بالأبواب. هي وحدها كانت، خلال زيارتي الأولى، جديدة عليّ؛ لأن شكل الأبواب هو نفسه شكل أبواب الجوامع في المشرق والمغرب. لكن زخارف هذا الجامع شيء تختص به قرطبة. وها أنا، بعد زيارات للعديد من البلدان، أزداد يقينًا بأن هذه الزخارف متفردة في العمارة عبر العالم.

3

عند صحن الجامع حديقة من أشجار البرتقال والنارنج. حديقة واسعة، وعلى جوانبها سلسلة من الأقواس. في الركن الخلفي مئذنة، ترتفع، وقد تحولت في العهد المسيحي إلى برج للأجراس. ثم مدخل الجامع. أما النطق بتسمية «ميسْكيتا» الذي كان متداولًا آنذاك لم يعد اليوم كذلك. بنى عبدالرحمن الداخل الجامع الأموي سنة 785م ميلادية. لكن اتساع المدينة استدعى توسيعه عدة مرات. ثم مع سقوط قرطبة سنة 1236م ميلادية، خلال حروب الاسترداد، استلمت الكنيسة الجامع واقتطعت مساحة بداخله أحاطتها بشبابيك حديدية، أقامت في وسطها كنيسة. ورغم أنني لا أعرف التطورات التي عرفها الجامع بعد الاسترداد، فإني أفترض أن الكنيسة تركت داخل الجامع على حاله، باستثناء المساحة التي اقتطعتها. عندما زرته أول مرة تخيلتُ أن بناء الكنيسة حديث العهد؛ لأن الجزء الأهم في الجامع باقٍ كما كان. ثم كنتُ أسمع تسمية «ميسْكيتا» مثلما أقرؤها على تذاكر الزيارة. ولا أتذكر أن هناك من كان يخالف هذا الاستعمال.

في زيارة لاحقة لتلك الزيارة الأولى، وجدتُ تداول تسمية جديدة هي «المسجد – الكنيسة». وعندما كنت، هذه المرة الأخيرة مع فديريكو، أنتظر دورنا في الدخول وفوق رأسي قبعة تقيني من البرد، أمرني الحارس بنزع القبعة دون أن يبرر لي هذا الأمر. مباشرة عند المدخل، لاحظت آخرين أبعد مني يحملون القبعات فوضعت القبعة فوق رأسي. عندها فوجئت بحارس ثانٍ يوقفني بعنف، ويأمرني بنزع القبعة قائلًا لي: «إنك في الكنيسة». لم أترددْ، وأجبته بأنني في المسجد. فرد علي بحدة أكبر، وقد كادت عيناه تنفجران، إنها الكنيسة.

فهمت أن المسألة تتجاوز ما هو تنظيمي. نزعت القبعة ودخلت. بادرني فديريكو بقوله: «أرأيت ما معنى حكومة مدريد اليمينية؟ إنهم متطرفون ومتخلفون». هذا القرار موقف ديني، تتكلم من خلاله الكنيسة التي لا تتسامح مع حضارة الأندلس العظيمة، التي يجسدها هذا الجامع.

4

عندما تدقق في حركة السياح الذين يقصدون هذا المكان، قادمين من جهات مختلفة من العالم، تجدهم يتوجهون نحو أنحاء الجامع. يتوقفون، يتأملون، يلتقطون صورًا مع الأعمدة الشهيرة، ثم مع المحراب. لا أحد من هؤلاء يجيء لزيارة الكنيسة. عمارة الكنيسة لا ترقى لجمالية الجامع، بل هي تتنافر معها. وما كان استبد بي عند زيارتي الأولى هو الذي لا يزال يستبد بي وبالزوار حتى اليوم. لهذا الجامع هندسة معمارية تقوم على التساوي والتوازي بين الأعمدة والأقواس، التي تتناسق في طول الجامع وعرضه. عتمةٌ هادئة تملأ الفضاء، وأنا أتقدم ببطء كبير. لا يمكن أن ترغم جسدك على الحركة فيما هو جمال الأقواس، باللونين الأحمر والأبيض، يثبّت قدميك ويجعلك تنظر إلى الأقواس وحدها، من زوايا متعددة، وسط هذه العتمة الهادئة. قليلًا ثم قليلًا تتقدم. وها أنت أمام المحراب – المعجزة الفنية.

تُزيِّن المحرابَ وبابَ المنبر وبابَ مقصورة الخليفة أحجارٌ زجاجية ذات لون ذهبي، ومطعمة باللون الأحمر والأخضر والأزرق. جمالية هذه الزخرفة تتضاعف بفعل الأحجام المتوسطة للأبواب. لا تعرف بالضبط سر التوازن بين العناصر الزخرفية حتى يتضح الضوء الخافت المنبعث منها ومن أعلى القبة المخرمة. في وسط الأشكال الهندسية كتبت بخط كوفي آيات قرآنية واسم الإمام المستنصر. يتجمع الزوار في هذه المساحة الصغيرة من المسجد، وهم يشاهدون صامتين. عيونهم لا تتحرك. وأنا أرى وأعود لأرى. أركز النظر على دقة قياسات أشكال التزيين المعماري وعلى تساويها وتناغمها مع الألوان التي يتوجها اللون الذهبي مثلما تبثّ فيها الكتابة بالخط الكوفي حركية مركّزة. فهل جمالية الجامع الأموي أبعد من تعبيرها الديني؟ أم أن جمالية هذه العمارة الإسلامية تكتنز أسرارًا تعبيرية لا ندركها بما يكفي؟

5

من تسمية «المسجد» إلى تسمية «المسجد – الكنيسة»، حتى أصبحت تسمية «الكنيسة» تنفرد اليوم بهذه التحفة المعمارية الإسلامية. هي مراحل من محو الذاكرة. لا تحزن، أقول لنفسي. في أكثر من عمل معماري في العالم تحضر أقواس جامع قرطبة بلونيْها الأحمر والأبيض، وجميع السياح القادمين (من بينهم إسبانيون) إلى قرطبة لا يأتون إلا من أجل الميسْكيتا. وسيظلون ينطقون بتسمية الميسكيتا، حتى لو حرمته الكنيسة ودعّمتها الحكومة الإسبانية اليمينية.

خريف باريس

خريف باريس

علينا ألا نستسلم لهذا الخراب الذي يحاصر العالم العربي؛ إرهاب ديني متعدد الأشكال، تدمير الشعوب والبلدان، انغلاق في العلاقة مع الآخر المختلف دينيًّا وحضاريًّا، تراجع الثقافة عن مكانتها، إنكار ما كنا وما سنكون. نعم، بكل صرامة علينا أن نغضب على أنفسنا المتهاوية، ونتوجه نحو ما نظن أنه الممكن للبقاء على قيد الحياة. بهذا أغالب اليأس الذي أكاد أعثر في كل المناحي على ما يبرره. شيء من الغضَب، ثم خطوة ثانية نحو العالم. أشاهد وأقرأ وأنصت.

ما الفرق بين العالم والمكتبة؟ سؤالٌ ليس هيّـنًا، وهو يغري بقليل من الصمت. في المكتبة تكمن أسرار لا تتكشّف لك إلا بعد أن تتعلم آدابها. وهي تمنحك اليوم، كما منحتك من قبل، ما يساعدك على الجلوس في ركن، أنت تختاره، وتنظر إلى نفسك، ومن نفسك إلى العالم من حولك. مكتبتك التي بنيْتَها عبر سنوات من الشغف بالقراءة والسؤال هي دليلك الأول. مكتبة اقتنيت عناوينها من مكتبات مختلفة، من داخل بلدك ومن خارجه. ويفتح لك السفر إلى مناطق مخصوصة في العالم أبواب مكتبات عامة وخاصة، تضاعف من رغبتك في القراءة والإقبال على عوالم المعرفة والإبداع، من زاوية لم تكن تخطر على بالك.

بهذا أقنعت نفسي وأنا أتوجه إلى باريس في خريفها. لم أعذّبْها بالتخلص من شيء لا يمكن التخلص منه، بل رغبت في أن أسمح لها بأن تتنفس قليلًا من الهواء النازل من أعالي النفوس المبدعة. هواء في كوْن تعودتُ على زيارته منذ شبابي، وما زلتُ وفيًّا له حتى اليوم، وأنا على طريق الشيخوخة. هناك جهات في العالم لا عمر لها، نصاحبها عبر جميع فترات الحياة، وتظل هي نفسها. تظل ضرورة للمعرفة والتأمل والحوار. ذلك هو شأني مع عدة مدن في العالم، وباريس في مقدمتها.

نهاية خريف في باريس. كنت أحس برجّة عاتية ترفعني وتلقي بي في الأمكنة التي أحب أن أزورها. لا يمكن أن نزور مدينة بكاملها، هذا مستحيل؛ لذا نختار جوانب من المدينة، نختار شوارع، متاحف، مكتبات، قاعات للعروض السينمائية أو المسرحية أو الموسيقية. نختار حدائق ومطاعم ومقاهي وحانات. باريس توفر إمكانية الاختيار، مثلما هي لندن، أو نيويورك، أو مدريد، أو برلين، أو طوكيو. مدن تجسد مفهوم المدينة، حيث تجمع عمارتها بين الجمال والمنفعة والمتعة. باريس اليوم تخبرني بأن باريس التي عرفت في الستينيات شملتها تحولات عديدة، لكنها تظل مدينة الحضارة الغربية في عصرها الحديث.

* * *

أول ما كان يشدني إلى خريف باريس هو النشاط الثقافي الذي يطبع هذا الفصل من فصول السنة. خريف باريس هو بامتياز فصل الكتاب، أو ما يعرف بالدخول الثقافي. منذ نهاية أغسطس تشرع دور النشر في إصدار عناوينها الجديدة. ومع أكتوبر يبدأ انتظار الإعلان عن الجوائز. جائزة نوبل في شهر أكتوبر. واجهات المكتبات يملؤها العمل الأدبي الفائز بالجائزة، وإلى جانبه أعمال أخرى للفائز، تكون في غالب الأحيان قد صدرت من قبل مترجمة إلى الفرنسية. ومن أكتوبر إلى ديسمبر، تتكاثر التكهنات بالعناوين التي ستفوز بجوائز فرنسية، وفي مقدمتها جائزة الغونكور الشهيرة. سنة بعد أخرى تصبح الجوائز ذات طغيان إعلامي وذات سلطان على عرض الكتب في المكتبات. ومنذ التسعينيات من القرن الماضي لم تعد المكتبات تخفي رغبتها في الاكتفاء بعرض ما هو قابل للبيع بكميات كبيرة. وأنا من بين القراء الذين لا يعبؤون كثيرًا بالجوائز. لباريس ومكتباتها عوالم لا متناهية من الكتب؛ منها ما يصدر في خريف كل سنة، أو خلال شهورها، ومنها ما صدر من قبل ولم يتمكن كثيرون من اقتنائه.

عالم الكتاب عجيب ومدهش. عندما تطأ قدماي مكتبة أنسى بسرعة ما هو خارجها. أتوقف قليلًا لتحية المكتبة، قبل وضع القدم على عتبتها. هكذا احتفلتُ بالمكتبات يوم كان حي السان ميشيل والسان جيرمان يتوفران على مكتبات من أصناف مختلفة. كل واحدة منها تقدم لك في الغالب فرصة التعرف على ما لا تحتفي به مكتبات سواها. الذهاب إلى المكتبات لاقتناء الكتب أجمل ما أغتنمه من السفـر. غالبًا ما أدخل إلى المكتبة وأنا أحمل في يدي ورقة تضم لائحة الكتب التي أبحث عنها. أكون حريصًا على البحث عن هذه اللائحة. لكن الأجمل دائمًا هو أن أعثر، إلى جانب تلك التي أبحث عنها، على عناوين لا أعلم بصدورها أو ضاعت مني فرصة اقتنائها، أو أتوفق في اللقاء بمساعد في المكتبة، ذكي وخبير، يعرف جيدًا طبيعة احتياجات القراء، فيدلني على عناوين مفيدة، وقد تكون أحيانًا ذات أهمية غير اعتيادية.

* * *

تلك المكتبات، التي كانت تملأ الشوارع، أضحت في عهد امتياز السياحة مجرد محلات تجارية لمختلف أنواع السلع. مرة بعد أخرى تتغير الواجهات والمعروضات. وأنا أحافظ على علاقتي بباريس. في هذه السنة، كما في السنوات السابقة، توجهتُ إلى المكتبات التي أفضلها. هي مكتباتي. وأنا متأكد من أنها ستوفر لي ما أبحث عنه أو ما أحتاج إليه.

بذلك اليقين أقبلتُ على مكتبات. لكن ما صدمني هذه المرة كان أكثر مما أهداني مفاجآت جميلة. قلتُ، في البدء، لا بدّ لي، من باب الفضول، أن أبحث عن الرواية الفائزة لهذه السنة بجائزة نوبل. أريد أن أراها أولًا. «بقايا النهار» للروائي البريطاني كازو إيشيغورو. أريد أن أراها. هذا يعنيني، قلت في نفسي. فأنا أودّ أن أفهم قليلًا سبب تجنب لجنة نوبل إعطاء الجائزة لكاتب عربي. عندما أقبلتُ على أكثر من مكتبة وجدتُ أن الكتب المعروضة فوق طاولاتها هي التي فازت في شهر ديسمبر بالجوائز الأدبية الفرنسية، فيما هي رواية الفائز بنوبل غير معروضة في المكان المفترض وجودها فيه. فضلتُ ألا أسأل عنها أيَّ مسؤول في المكتبات التي زرتها. وبعد جهد، وتغيير مكان مجموعات الأعمال المعروضة، عثرتُ على رواية كازو، بل عثرتُ على عدد من رواياته.

هذه الحادثة العابرة نبهتني على معنى زيادة تسلط الحس التجاري على السوق الثقافية. مركز المكتبات مخصص للكتب ذات السلطة الآنية. هي وحدها التي تحتكر وجاهة العرض. أما التي مضى على صدورها وقت قصير، حتى لو كانت من صنف جائزة نوبل، فهي محكومة بالانسحاب إلى الخلف، ومن الخلف إلى النسيان فالإهمال. كان واضحًا، منذ بداية التسعينيات من القرن الماضي، أن عمر الكتاب يتقلص شيئًا فشيئًا. لكننا اليوم لسنا فقط أمام هذا النوع من التعامل التجاري الوقح مع الكتاب، بل نعاين الانتقال إلى مرحلة أعلى يتقلص فيها عمر الكتب إلى أقل فترة ممكنة.

* * *

ما الذي سنقوله عن كتب ليس لها قوة المبيعات نفسها؟ قديمًا، كانت قيمة الكتاب تتمثل فيما يأتي به من اجتهاد في مجال معرفي من مجالات العلوم الإنسانية، مثلًا، أو في مجال الإبداع الأدبي. كانت المكتبات تتسابق في عرض كتب الفلاسفة وكتب النقاد الأدبيين وعلماء الاجتماع والتحليل النفسي، إضافة إلى ما كان للشعر من مكانة عليا في العرض وأحيانًا في التقديم. وكان للمسرح ما كان للشعر. أما اليوم فالقيمة، كل القيمة، بدون تقسيط، محفوظة للكتاب الذي يحقق المبيعات العليا. بهذا المعنى نفهم السبب وراء تخصيص زاوية جانبية للدواوين الشعرية. الجديد منها، لدى دور النشر المميزة، يحظى بعرض لمدة قصيرة، ونادرًا ما يصل إلى واجهة المكتبات، التي تفوز بها الأعمال المرشحة لتحقيق أعلى المبيعات.

خريف باريس هو موسم الكتاب في فرنسا. عديدة هي المدن التي تحتفي بالكتاب في الخريف، ربما بطريقة باريس نفسها. لكن ما لا يجب أن أنساه هو هذا التحول الجارف الذي يزيح الكتاب الثقافي عن صدارة الأحداث الثقافية ليحل الكتاب التجاري محله. ثمة عنف في هذا السلوك، الذي لم يعد يبالي بالقيمة الثقافية للكتاب ولا يوليها الاعتبار الذي تستحقه.

الثقافة من الخوف إلى الإنصات

الثقافة من الخوف إلى الإنصات

1حازمعاصفة العنف التي تهبّ هنا وهناك تستدعي الوقوف مرة تلو أخرى عند مسألة الموقف من الثقافة في العالم العربي. هذا رأيي باختصار. في غمرة عاصفة العنف التي تتضاعف شراستها، يستبدّ الحل الأمني بأصحاب القرار في العالم العربي، كما في كل مكان يهجم عليه العنف. لكن الوقوف عند مسألة الموقف من الثقافة هو ما يجب عدم التفريط فيه.

ليس لي أمل في أن يغير أصحاب القرار نظرتهم إلى المثقفين النقديين العرب، فيقتربوا قليلًا منهم. لكن المثقفين النقديين لا يتعبون من الطرْق على الأبواب طيلة الليل والنهار. يواصلون الطرْق؛ لأنهم يدركون أنهم لأجل هذا كانوا ويكونون. أو بالأحرى لأنهم يعرفون أنهم يقولون ما لا يحب أصحاب القرار أن يسمعوه. لقد تعود أصحاب القرار على أن يطلبوا من أبناء بلدانهم، من أي فئة، أن يقولوا لهم ما هم يحبّون. والمثقفون النقديون يعرفون أن هذا ليس من طبيعة واجبهم. واجبهم هو أن يقولوا ما يفكرون به؛ لأنهم يحرسون حلم الناس جميعًا بعالم حر، ينتقل بالأرض وأهلها إلى زمن يتخلص من الجهل والاستعباد والكراهية.

هل هذا كثير؟ ربما كان أكثر من كثير، في عالم عربي يقف اليوم مذعورًا، مرتبكًا، حابس الأنفاس. لا يدري من أين يقبل العنف بهذا الشكل وهذا الحجم. لا يصدق أن كل ما حقق من مراحل على طريق البناء الاجتماعي والتعلّم من العالم يصبح في لمح البصر في مهب عواصف العنف التي تتضاعف مآسيها.

لكن يحق لكل واحد منا، قبل هذا، أن يتساءل عن معنى أن يقول المثقفون النقديون ما يفكرون به، وليس ما يحب أن يسمعه منهم أصحابُ القرار. فالتساؤل قيمة سابقة على القبول وعلى اليقين. قد لا يخطر على بال الشخص أن يتساءل عن معنى ما يتكلم بشأنه المثقفون النقديون، إما لأنه يجعلهم في مكان اللعنة، أو في مكان التبجيل. وهما معًا منافيان لأخلاقيات الثقافة وأبجديتها.

ما أفكر به، شأني شأن كل مثقف نقدي ارتبط مصيره بمصير أهله وأرضه، هو الثقافة. هي كلمة السر. هي الإشارة والملاذ. الثقافة التي تعني المعرفة المتصلة في آن بالفرد والجماعة، بالواقع والمصير، بالإنسان والأشياء والكون، بالاكتشاف والإبداع، بالذات والآخر، بالحياة والموت. كل معرفة تدلنا على هذه جميعًا هي الثقافة. مهما كانت صيغة التعبير عنها، أكانت فنية أم فكرية أم علمية. لا أقصد إعطاء تعريف يعيّن الحدود، بل أفتح الطرقات على الفضاء الشامل للثقافة، بما كان لها عبر الأزمنة، وما هي عليه في حياتنا اليوم.

تعريف كهذا للثقافة لا يتوقف عند حد معلوم، لا يتعب من السعي في طرقات الثقافة، ولا يتأفف من طلب استئناف السير بقدمين لم تتدربا على المشي في المسالك المتشعبة. تعريف يخرج بالتأكيد على صيغ الفرجة التي نرتاح إليها، وعلى ثقافة الاستهلاك التي يكون الهدف منها هو امتصاص الطاقات المبدعة الخلاقة. تعريف مستخلص من الثقافة التي تتطلب الجهد والتركيز والمعاناة. وبه تكون الثقافة رفيقة لنا في الحياة، تدلنا على ذاتنا، وعلى الفضاء الذي نعيش فيه: فضاء المجتمع والقيم، فضاء الأشياء بما تمثله بالنسبة لي ولك، فضاء الكون الذي نحن جزء منه.

والثقافة هي التي تعلّمنا معنى الثقافة. عندما لا نكون باحثين في مجال من مجالات المعرفة، ونريد أن نعرف معنى الثقافة، فمن الأحسن أن نتجنب التعريفات القديمة والحديثة، ونذهب مباشرة إلى ما يشكل الثقافة ذاتها. عندما أقرأ قصيدة أو رواية، عندما أشاهد مسرحية أو شريطًا سينمائيًّا، عندما أتعرف على نظرية فلسفية أو علمية، عندما أنصت إلى موسيقا وأستمع إلى غناء، عندما أسكن بيتًا أو أعمل في مكتب، عندما أركب سيارة أو حافلة أو طائرة، عندما أتبع طريقة في الأكل، وأفضل لباسًا على سواه. هذه كلها هي الثقافة.

ما أتعلم من كل هذا هو كيف أميز بين ما يمنحني رؤية متجددة إلى الحياة، وما يشوش عليّ الرؤية أو يمنعها عني. ولا شك أن الكتاب يظل المادة الأكثر قدرة على تعليمنا معنى الثقافة. الكتاب بتاريخه العريق، من العهود القديمة حتى اليوم. كتاب متعدد: في الأدب، والفنون، والتاريخ، والفكر، والعلوم. كل فرع من هذه الفروع يتسع ليشمل حقولًا لا عدّ ولا حدّ لها. تلك هي الثقافة التي بنتْها شعوب عبر تاريخ الحضارات. إنها الثقافة التي صقلت حواس الإنسان وفكره، هيأته ليعيش بأفضل طريقة، ويتعايش مع الآخرين. هي التي نقلته من وضعية الغاب إلى وضعية الحضارة، في المدينة والبادية على السواء. هي التي أمدته بالمعرفة، وهيأت له شرائط الإقامة في وسط مجتمع ومؤسسات دولة. هي التي حمته من السقوط في الغوغائية، وهي التي ساعدته على الاحتماء من سطوة الطبيعة، وإبداع وسائل لتطويعها لصالحه.

لنتأمل تاريخ الشعوب التي بنت حضارات باذخة، وكان العرب من بينها. ألا يمكن أن نتوقف لنسأل عن السبب الذي كان وراء نشوئها، منذ الحضارات الفرعونية والبابلية حتى حضارة العصر الحديث؟ سيقودنا السؤال إلى البحث عن معنى الحضارة، سينقلنا من قبول الحياة كما نحياها إلى الوقوف على عتبة معناها. وستسعفنا الثقافة، من جهتها، في جعل حياتنا أكثر امتلاء مما هي عليه بدونها. بحساسية الإبداع ونور الفكر سنعثر على طرائق لم نعهدها في حياة الانغلاق والاستهلاك. وبفضلها سنتكلم مع العالم لغة مشتركة، وسنقيم على الأرض بين جميع أهل الأرض.

هذه الثقافة هي التي خاف منها أصحاب القرار في العالم العربي الحديث. بذل المثقفون النقديون مجهودات متوالية؛ لتفسير مصدر هذا الخوف، وفي كل مرة يذكّرون بأن الثقافة نعمة بدلًا من أن تكون وحشًا. خاف أصحاب القرار من الثقافة؛ لأنهم لم يفهموا أنها تدل على كيفية التخلص من التخلف والاستعمار والتبعية. وها نحن اليوم، بعد قرنين من مشروع التحديث، نجد أنفسنا في تخلف أكبر مما كنا فيه. تخلف هو الجهل الذي يستولي على العقول، ومصدره حرمان العربي من الثقافة.

ما عليه العالم العربي اليوم من ذعر، وارتباك، واحتباس الأنفاس، ربما وجّه أصحاب القرار إلى ما يجب أن يبدؤوا به. أن ينتقلوا من الخوف من الثقافة إلى الإنصات إليها. ذلك شرط يتقدم الشروط كلها. منذ ما بعد 11 سبتمبر، شرع الغرب في توجيه التوصيات إلى أصحاب القرار في العالم العربي. توصيات العناية بالعلوم الإنسانية، بالفلسفة، بالفكر النقدي إجمالًا. وفي كل مكان من العالم العربي اليوم مجموعات عمل تشتغل على تنفيذ ما ينتظره الغرب منا. لكن الغرب ينسى أن يذكّر أصحاب القرار بضرورة أن ينتقلوا هم أنفسهم من الخوف من الثقافة إلى الإنصات إليها.

لا يمكن لمؤسسة أن تقوم بتنفـيذ مشروع إن كانت هي نفسُها لا تستوعب فاعلية ما ستقبل عليه. من هنا يصبح اقتناع أصحاب القرار بالثقافة لازمًا في الخروج من تعليم الجهل الذي أمروا به، ومن ثقافة الجهل التي عمّموها عبر وسائل الإعلام. أما أنت، فلك أن تتكلم بحرية صوت لا يخشى، وصوت لا يتوقف عن الجهر بضرورة الإنصات إلى الثقافة.