الفضاء العمومي المعارض اليوم

الفضاء العمومي المعارض اليوم

حتى نكون واضحين منذ البداية، نحن منشغلون منذ ستة أشهر بالأزمة الخطيرة والدائمة للشكل المعاصر للرأسمالية. ما يُدهشني أكثر، هو ضعف التفاعلات مع هذا الوضع، ونُدرة المثقفين القادرين على افتكاك الكلمة من أجل إضفاء الشرعية على سياسة اليسار. هذه الوضعية متناقضة جدًّا. أريد أن أفهم كيف آلت الأمور إلى هذا السوء، حتى أُبلور وعيًا واسعًا بموضوع بنية الرأسمالية العالمية، التي تتمظهر من الآن فصاعدًا في شكلها التاريخي الأصيل. فللمرة الأولى، تشتغل الرأسمالية بالصيغة نفسها التي عرضها ماركس في كتاب «رأس المال». يجب أن نُنوّه اليوم بأن كل الحواجز -التي تآكلت منذ عشرين سنة- أمام التطور الحر للرأسمالية، المُتجسّدة في الدولة الاجتماعية، هي الآن بصدد الانشطار.

الموضة السائدة في الوقت الحالي، هي استبعاد الدولة. يعني هذا، أننا نحذف، أو نتمنى حذف كل أشكال الرقابة حتى تتمكن القوى الخلاقة للرأسمالية من متابعة دورانها الحر. لقد وصلت هذه الحركة إلى نقطة بدا فيها التحطيم الذاتي للنظام الرأسمالي من قبل هذه القوى نفسها، واضحًا للعيان؛ ما يعني أن الدول التي تزعم أنها تُعاني الفوائضَ، مدعوّة لإنقاذ هذا النظام عبر ضخ مليارات الدولارات. لا أعلم بعد من سوف يتحمّل تكاليف تحويل ميزانيات عمومية نحو عالم المال، هذا على الرغم من أن رأس المال المالي، ليس بالرهان الأوحد، نظرًا للتحولات الاجتماعية العميقة التي وقعت أمام أعيننا. على سبيل المثال، مشكلة البطالة الضخمة والدائمة، ليست مشكلة ظرفية مرتبطة بالركود الاقتصادي، فالجميع يعلم أن إنتاج السيارات يفرض التخفيض شيئًا فشيئًا من اليد العاملة البشرية. عقلنة سيرورات سلع السوق: سيارات، آلات غسيل، حواسيب، تتخلى أكثر فأكثر عن الجهد البشري. إذًا هو مشكل يخُص المنوال الاقتصادي الذي يُعتقد أنه الوحيد الممكن.

الإشكالية البنيوية للمجتمع

ظهرت في بدايات سنة 1980م فكرة «مجتمع الثُّلثين» التي ترى أن ثُلثي المجتمع يتكوّن من أشخاص تلقوا تنشئة سليمة، لديهم وظيفة وآفاق جديّة في الحياة، في حين أن الثلث المُتبقّي محكوم عليه بالعيش على هامش المجتمع. أرى من الآن فصاعدًا، أن هذه الفكرة قد وقع تجاوزها. يتأكد هذا التقسيم الثلاثي في مجتمعاتنا المتطورة جدًّا -لا أتحدث هنا عن بلدان الأطراف التي تُكوّن الكتلة الكبرى من سكان العالم- ثُلث السكان مُندمج بصورة جيدة، ينعمون بالراحة ولا يُبلورون أي وعي بخصوص الأزمة الراهنة؛ ينتمون إلى الإدارة البنكية التي قادت كل المؤسسات نحو الإفلاس، غير أن جني الفوائد المُعتبرة من البنوك نفسها، لا يجعل أيًّا منهم يشعر بالخجل. هم أُناس يدعمون ثروة المجتمع، التي تظهر كأنها مُؤمّنة سياسيًّا، ويُصوّتون بالأغلبية لصالح «أنجيلا ميركل»، «نيكولا ساركوزي» أو «سيلفيو برلسكوني».

يُمثّل النصف الثاني من المجتمع طاقة قابلة للانفجار، إذا ما تعرّضوا إلى ظروف حياتية هشّة، من وظيفة إلى أخرى، من عقد عمل إلى آخر. تُصبح آفاق المستقبل صعبة بحكم تغيّر أُفق الحياة من يوم إلى آخر. في النهاية، يُمثّل الثلث الثالث، الجيش الضخم والزائد عن الحاجة، الذي لا يحتاجه هذا النظام الإنتاجي. أعتقد أنه من الخطير استثناء ثُلث المجتمع من العلاقات الاجتماعية والعمل المُهيمنة داخل المجتمع، التي تعود إلى الإشكالية البنيوية لهذا المجتمع، ولا تُمثّل الأزمة المالية دليلًا على هذا الإشكال أو سببًا له.

ذات مرة، همس لي الصحفي الأميركي «جيريمي رفكين»: «إن استغلال الناس أمر خطير ومأساوي، لكن الأكثر خطورة، أننا لم نعد بحاجة إليهم، حتى لمجرد استغلالهم وتحويلهم إلى زائدين عن الحاجة». أُثير هنا فقط ما يحصُل في عُمق مجتمعاتنا، وليس ما يحدث من اضطرابات كتلك التي تسود «وول ستريت» أو البنوك الأميركية. هنا، تسبّب الضيق وارتفاع مؤشر الخوف في عدم تمكن الناس من تخيُّل كيف سيكون مستقبلهم. يجب اعتبار أن الاقتصاد يُمثّل مشكلة تتكامل مع ثقافتنا، كإحدى الرؤى المتناقضة مع النكوص الحالي. عندما تبتعد قواعد التصرف الاقتصادي من نقطة الفائدة المشتركة، وعندما يقع فرض النظرة الضيقة لإدارة المؤسسات على المجتمع، حينها نكون أمام مفهوم للاقتصاد يُعبّر في عمقه عن الإسراف، وليس اقتصادًا عقلانيًّا. في هذا السياق، توجد أمثلة واضحة مثل اقتطاعات الميزانيات في المدارس العمومية، والجامعات والمستشفيات وأين يجب أن نقتصد في كل شيء، في حين أن ميزانيات بالمليارات تظهر فجأة لإنعاش البنوك. هذا التناقض بين الحاجة العمومية والثراء الاقتصادي الفاحش، لم يخترق إلى الآن وعي كثير من الناس، لكنه، ومع هذا، خلق ترسبات ذهنية تسببت في أشكال من الغضب والمقاومة والحاجة إلى التعبير. توجد إذًا مؤشرات على الغضب داخل المجتمع يُمكن أن يقع توجيهها من جانب اليمين، إذا لم تستطع الحركات الديمقراطية أن تفهم هذا التناقض في إحساس الناس واستثماره سياسيًّا.

الاقتصاد في بعده الثقافي

يجب أن نفكر في الاقتصاد بطريقة أخرى، في اللحظة التي يُعاد إدماجه في بُعده الثقافي. ما معنى النشاط الاقتصادي، ماذا يعني العمل اليوم؟ ما الهدف من حياة طيّبة؟ لا بد من وضع حد لاقتصاد الإسراف الذي نعلمه، الذي أسميه الاقتصاد الأول، ونمر إلى شكل آخر من الاقتصاد الذي سوف يكون اقتصادًا ثانيًا للادخار، من خلال الاستثمار في قطاعات التربية، والتكوين، ومجالات أخرى تبدو أساسية. شخصيًّا، لديَّ بعض الشكوك حول ما إذا كنا سوف نتمكن بعد الأزمة المالية من إبراز تفكير اقتصادي جديد على طريقة «أرسطو» في حديثه عن اقتصاد التدبير العائلي. سوف أقوم بإظهار الرافعات التي تُمكّن من دفع بعض الخيارات داخل المجتمع.

يتمثل ذلك في إبداع فضاء عمومي مناسب والذي يمثل حدثًا أساسيًّا؛ لأنه لا أحد يستطيع الخروج من الدائرة المغلقة للوضعية الراهنة بالاعتماد على قواه الذاتية. تأسيس فضاء عمومي خالص هو أحد العناصر المحددة للمقاومة ولتنظيم الخيارات. أُسند للفضاء العمومي الدور المحوري في تكوين وعي بزمننا الحاضر. في الوقت الراهن، لم تتوصل النقابات في أوربا للمشكلات الحقيقية التي نواجهها داخل هذا المجتمع الرأسمالي. يوجد دائمًا نوعان من الفضاءات العمومية. ما يعتمل داخل الفضاء العمومي البرجوازي، ليست له أي علاقة بأشكال المقاومة المباشرة ضد الأزمة الاجتماعية البنيوية، من حيث إن هذا الفضاء العمومي «الرسمي» يُكرّر خطاب النظام الاقتصادي ورمزياته.

من البديهي أن النقابات تُمثّل دائمًا منظمات ضخمة وإطارًا مهمًّا، يستطيع هذا الفضاء العمومي المعارض أن ينمو داخلها، من خلال تمثيل فئات اجتماعية مثل الأساتذة والطلبة وآخرين؛ لأن الأزمة الراهنة أثّرت في نفسية عدد كبير من الناس، إلى حدود قلب الطبقة الوسطى. هذه الشريحة الوسطى بصدد الانهيار في الولايات المتحدة، وينهار معها الحلم الأميركي. تتعرض الطبقة الوسطى إلى التشظّي في كل مكان. أما النقابات، وأعني بالضبط الوضع في ألمانيا والنمسا، فإنه شيئًا فشيئًا يتكون لديهم وعي بالأزمة البنيوية التي نُواجهها والتي لم تكن بمحض الصدفة.

عالم دون روابط

أُعيد استعمال كلمات «دوركهايم» الذي يتحدث عن «الفراغ الأخلاقي». لا يقصد بهذا أنه لا توجد منظومة أخلاقية، لكن الأخلاق القديمة لم تعد صالحة. لنأخذ مثالًا على حالة تطرح خطرًا كبيرًا. يحاول النظام الرأسمالي القائم، أن يُحطّم كل الروابط الاجتماعية. فعندما يقوم عامل في «سيمنس» أو «بيجو» أو أي مؤسسة أخرى، بإظهار تعلُّق بمجموعة العمل داخل المصنع، سيكون من الصعب ضبط الأُجراء إلا إذا كان هذا العامل مهتمًّا بعمله فقط ولا يفكر في مقاومة عزل العمال، والاستعانة بمصادر خارجية. يُمثل غياب الرابط، هدفًا مُبرمجًا للمجتمع الذي يقع تعريفه من خلال النظام الاقتصادي.

يشعر ليبراليون عديدون اليوم بالخوف من تأثيرات النظام الذي لطالما مدحوه. إن تدمير الروابط أخطر بكثير من عرض البدائل إلى درجة لا نريد أن نتمنّاها. لنأخذ مثالين واضحين حول اختفاء الرابط الاجتماعي من دون أن نُعوّضه بشيء آخر. في موضوع العمل، أُفكر في اليوتوبيين الكبار مثل «كامبانيلا»، «فرانسيس بيكون» «توماس موور» الذين يحلمون بأنه عندما يصبح العمل مُنتجًا، سيصبح كل العالم مُكرّسًا للثقافة. انعطف «كامبانيلا» نحو حياة ثقافية تحوم حول محور العبادات والتأملات الدينية، وفكر «بيكون» في أن تسع ساعات من العمل أسبوعيًّا كافية لضمان دخل مادي للجميع، ويقع توجيه باقي الوقت في سبيل حياة جيدة. لو تتأمل هذه اليوتوبيات في مجتمعاتنا اليوم، سوف تلحظ أننا نُنتج ألف مرة أكثر مما كان يقع إنتاجه في مجتمعاتهم، وسوف يتأكد لديهم، على الرغم من كل شيء، فإننا مُحاصرون بمشكلات اقتصادية مثل فقداننا لمواقعنا.

نظام لا إنساني

لو أردنا مواصلة العيش في ظل هذا النظام الراهن، لا بد من مواصلة التقليص الجماعي من ساعات العمل. لا معنى لهذا كله. لماذا نشتغل لخمس سنوات إضافية؟ جدّ يبلغ من العمر 57 سنة، فقط ليضمن التوازن المالي لصناديق التقاعد، في حين أن ابنته التي تبلغ 40 عامًا، تُعاني البطالة؟ لماذا نُجبر هذا الجد على العمل لست سنوات إضافية يحتاجها الجيل الجديد؟ هذا نظام سخيف كليًّا ولا إنساني ويرتهن الكرامة والاعتزاز بالذات. يجب إيقاف العمل التجاري، واختزاله وإعادة توزيعه على كامل المجتمع، حتى نتجنب وضعية البطالة الكثيفة التي تشمل الجميع، وفرض الاستغلال والعبودية الطوعية على أولئك الذين يشغلون وظيفة ثابتة؛ لأن العذاب الذي يُسببه العزل هو الوجه المُكمّل لهذه الوضعية المحتّمة، التي تتسبب في نسبة كبيرة من الأمراض المهنية بسبب الخوف واستغلال الأُجراء.

لنأخذ الآن مثال الأسرة. لا وجود للأسرة البرجوازية بالمعنى الهيغلي للكلمة، أما هيغل، فتتجسّد العائلة لديه في الزواج، والخصوصية والتربية. إذا كانت العائلة لا تزال موجودة بوصفها نظامًا اجتماعيًّا أو كمؤسسة، يجب عليها اليوم أن تتطور تحت أشكال مختلفة تمامًا، وفق صيغة علاقات جيليّة جديدة. يسمح ذلك بتثبيت الانتقال الثقافي الذي لا يمكن له أن يتم إلا وفق علاقات القرابة. لكي يستطيع أي فرد مواجهة الحياة، لا بد له من أن يعيش هذه الوضعيات من التأهيل من خلال القرابة، التي لا يُؤمّنها أضخم حاسوب. إن وجود 48% من الأسر في الولايات المتحدة الأميركية بعائل واحد (الأب أو الأم)، يعني أن علاقات القرابة قد وقع محقها، وهو ما يُثير نقاشًا نقديًّا.

لا بد من الانتباه إلى أننا أمام إعادة بناء لمجتمعاتنا. شيئًا فشيئًا يبتعد النظام المالي ونظام الإقراض من الإنتاج. ينهمك المدير العام لشركة «بورش» في إعداد توصيف سريع لوضعية شركته، بإعلانه تحقيق (8,5) مليارات من الفوائد من رأس مال يُقدّر بـ (5,3) مليار يورو. كيف حصل هذا؟ ببساطة، وقع تحقيق أرباح بقيمة ثلاثة مليارات من خلال عمليات المُخاطرة في السوق المالية. إنها ثمار المضاربة. بصيغة أخرى، يتحقق جزء كبير من أرباح المؤسسات في السوق المالية ثم لا يقع إعادة ضخها في عملية الإنتاج. تُجْنَى أرباح من أسواق البورصة بسهولة أكبر من عمليات بيع السيارات. الفضيحة الكبرى في هذه العملية هي أن نقابات السيارات تدعم بقوة هذه الإستراتيجية.


المصدر: https://www.cairn.info/revue-multitudes-2009-4-pages-190.htm