مفهوم التشبيح.. قراءة إبستمولوجية في الدلالة المستضعفة

مفهوم التشبيح.. قراءة إبستمولوجية في الدلالة المستضعفة

ثمة مفاهيم تقدم للناظر أو للسامع حين يراها أو يسمع بها دلالات وتصورات محددة؛ وما ذلك إلا لأنها مرتبطة برؤى ثقافية وتوجهات فكرية مستقرة في الذهنية الاجتماعية التي تتداول هذه المفاهيم، أي لأننا اعتدنا على ترجمة مدلول كل منها وعلى فهم دلالته أو دلالاتها كما عهدناها في أنساقها السياسية والفكرية والاجتماعية المتداولة. لكن البحث في طبقاتها التاريخية سيبين لنا أن لهذه المفاهيم أنساقًا مضمرة تخفي أبعادًا إبستمولوجية تكشف عن قراءة أخرى تنقض الأولى وتنفيها. والأهم أن هذه القراءة ستكشف لنا أن لهذه المفاهيم بعدًا إبستمولوجيًّا ووجهًا جماليًّا ينفي المتداول القبيح ويفضح زيفه.

التشبيح: مصطلح سوري، صار مفهومًا سياسيًّا معروفًا على مستوى الساحة السياسية العربية، ومتداولًا على الصعيدين الاجتماعيين: المحلي السوري الذي أنتجه أول مرة، والعربي الذي استقبله وصار يسهم في تثبيت مدلوله وانتشار دلالته(١). وُلِد هذا المصطلح في ثمانينيات القرن الماضي أو في أواخر السبعينيات، وكان يطلق في الأصل على الأفراد الذين يقتاتون على تهريب المواد الممنوعة بين سوريا ولبنان. وهو بذلك تعبير عامي (لهجة) يراد به صيغة المصدر (تفعيل) من اسم الذات (شَبَح)، أي ذاك الشخص الذي يتسلل ليلًا متخذًا كل إجراءات الحيطة والتخفي؛ فيبدو لخفر الحدود وللمقيمين على تخوم الدولتين كأنه شبح يتنقل من مكان إلى مكان، من دون أن تظهر ملامحه أو تحدد هويته. شبح وجمعها أشباح أو (شبيحة) وهي صيغة مبالغة استُعملت لتكون تعبيرًا عاميًّا محليًّا بلهجة أهل بلاد الشام دالًّا على جمع شبيح بوزن فَعيل.

من المطاردة إلى الحماية

التشبيح في أول ظهوره كان وصفًا يطلق على أولئك الفقراء الذين يغامرون بحريتهم وبحياتهم من أجل رزق أُسرهم وتحسين مستوى معيشتهم. وكانوا كثيرًا ما يُلقَى القبض عليهم بعد وشايات المخبرين. وكانت ظاهرة التهريب/ التشبيح معروفة ومنتشرة على الحدود بين الدولتين، وكانت تلقى تعاطفًا اجتماعيًّا وتكتمًا عليها من جانب القاطنين في قرى تلك المناطق. ولكن الحال لا تخلو أحيانًا من بعض المتذمرين من هذه الظاهرة وما يترتب عليها من إزعاجات ليلية وما يرافقها من أصوات سيارات الخفر وإطلاق الرصاص. وكان يحصل أن يصاب بعض المهربين/ الشبيحة، وقد يفقد أحدهم حياته أو يُعطَب أحدُ أعضاء جسمه جراء رميه بالرصاص. هذا، عدا ما يلحق بالمقبوض عليهم من تنكيل وتعذيب لأجل إرغامهم على الاعتراف.

كان المهرب/ الشبيح يتحمل أنواعًا قاسية من صنوف التعذيب والضرب المبرح بأدوات جَلْد وحشية من كابلات وعصي وصعق بالكهرباء؛ كل ذلك تجنبًا للاعتراف الذي سيودي به بضع سنوات في السجن. فكان يظهر جَلَدًا وصبرًا وعزيمة وإرادة قوية تجعله يصبر شهرًا يزيد أو ينقص؛ ليخرج بعدها منتصرًا نفسيًّا متناسيًا هول عذابات الجسد، وسيصير بعد خروجه رمزًا فحوليًّا وتجسيدًا للرجولة والجسارة. وما كان لهذا أن يتم لولا أنه متهم بقضايا سياسية؛ إذ كان سيجبر حينها على الاعتراف وإلا سيتلقى مزيدًا من التعذيب؛ فيكون في اعترافه خلاص من عذابات لا تطاق. لهذا ثمة تورية ثقافية تشي بتعاطف المجتمع، سلطة ومواطنين، تجاه هذه الظاهرة الفحولية، حتى إن كانت مخالفةً للأطر القانونية.

التشبيح كان في أول ظهوره ظاهرة فردية محدودة الانتشار، مقصور على ثلة من الفقراء، ثم صارت في تسعينيات القرن العشرين حرفة بعض المحسوبين على أناس لهم نفوذهم داخل الدولة، فصاروا يقومون بأعمال التهريب من دون خوف، وصارت عمليات التهريب تتم في رابعة النهار.

سيميولوجيا التحول

مع هذا التحول صار مصطلح التشبيح مفرغًا من جوهره الدلالي ومن مكونه السيميولوجي، أي تحول من مفهوم يدل على أهل الهامش ومحمل بدلالات الضياع والمغامرة بالجسد وبالحرية وبالصحة البدنية والنفسية ومبتور من سيميولوجيا الشبح الليلي وما يلازمه من دلالة الجسارة والكد والمغامرة التي لا تخلو من شرك المقامرة؛ فصار مفهومًا يدل على النفوذ والسطوة وانحراف القادر (غير المجبر(٢)) عن أطر القانون. ويبقى الفارق الأهم أن التشبيح كان ظاهرة تؤكد سلطة القانون وتخضع لها، فصار بعد تحوله ظاهرةً فوق القانون وتبين عجزه، أي تحول الفارق بين الهامش والمركز من فارق في المعيشة ونمط الحياة إلى فارق آخر يضاف إلى الأول ولا يلغيه: إذ صار الفارق في طبقات المواطنة ودرجات الكرامة وتصنيف الناس إلى طبقتين: طبقة التشبيح التي هي فوق القانون، وطبقة الآخرين الذين هم تحت سلطة القانون وضمن مدار يده ونفوذه(٣).

يبدو أن المتداول من هذا المصطلح النعتي كان مقصورًا على صيغة (شبيح) وجمعها (شبيحة)، ولم يكن مصطلح (التشبيح) متداولًا أو مستخدمًا كوصف للمهرب/ الشبيح، بل هو وصف يطلقه بعضهم على الصبية الصغار أو على المراهقين حين يقومون بأشياء تشبه حركات المهربين وتحاكي هيئاتهم؛ أي هو صيغة صرفية دالة على إظهار وصف الشبح (الشبيح) وفعله، ثم صار فيما بعد وصفًا يطلق على أولئك الذين يمتهنون حرفة التهريب -ترفًا وتسلية- نهارًا أو ليلًا معتمدين على نفوذ من يدعمهم ويقف وراءهم ويؤمن لهم الحماية من القانون. وبذلك تحول إلى مفهوم ساخر دال على التكلف والادعاء (أي يتشبه بالشبيح الحقيقي من دون أن يكون له من صفاته إلا المظهر منزوعًا من جوهره الحقيقي القائم على المغامرة والاقتحام والشجاعة). كان مفهوم الشبيح مفهومًا لهجويًّا أشبه بمفهوم (الفارس) في العصر الجاهلي. وكان التشبيح أشبه بالغزو والإغارة؛ فيكون مفهوم الشبيح قريبًا من مفهوم الفارس الغازي في الذهنية العربية الجاهلية، بكل ما لهذا الغازي من قيم جمالية كانت مستقرة في المخيال الشعبي والوجدان العربي.

ما إن بدأ الحراك الشعبي والسياسي في سوريا ضد سلطة النظام القائم، ومع المطالبة بتغيير بنية السلطة ونظامها، أصبح مفهوم التشبيح مفهومًا وصفيًّا دالًّا على الذم، تطلقه القوى المعارضة لتشمل به كل من يدافع عن النظام ويقف إلى جانبه ويؤيده، حتى لو كان التأييد مقتصرًا على الرأي والكلام فقط. وبذلك استطاعت المعارضة أن تعطي مفهوم التشبيح دلالة قُبْحيّة جديدة وأن تحوله إلى مفهوم اجتماعي وسياسي متداول، وجعلت له سطوة دلالية مرعبة، بغض النظر عن مدى مصداقيته وتحققه في شخص المؤيد. هكذا مر مصطلح التشبيح ومشتقاته بتطورات دلالية مفهومية: من الجمالي (اسم ذات: شبيح/ شبيحة) إلى المحاكي الجمالي (وصف الصغار: تشبيح)، إلى النسخة الوصفية التهكمية المزيفة (وصف المهربين المتنفذين وممارساتهم: شبيح/ تشبيح)، إلى الوصف القُبحيّ الخالص (وصف سياسي للمؤيد وممارساته أو موقفه: شبيح/ تشبيح).


هوامش:

(١) علم اللغة، وكذلك حقل المصطلحية والدراسات الفيلولوجية، يفرقان بين المصطلح والمفهوم؛ فلكل مصطلح مفهومه وربما مفاهيمه، وليس العكس؛ وعليه، فالتشبيح مصطلح سياسي اجتماعي، له دلالات مفهومية متعددة.

(٢) غير المجبر: أي ذاك الشبيح الذي لا يمارس التهريب بسبب فقر أو حاجة وإنما للتسلية والمتعة وتأكيد الذات عن طريق إثبات مكانتها الاجتماعية بكونها فوق القانون أو مدعومة من جهات متنفذة في الدولة؛ أي هي حالة من حالات العوز والخلل النفسي والفقر الاجتماعي لا الاقتصادي.

(٣) لقد سعت الدولة في تسعينيات القرن المنصرم أن تتصدى لهذا النوع المتحول من التهريب.