سوسيولوجيا المذكرات والسير الذاتية في اليمن في العشرية الأخيرة

سوسيولوجيا المذكرات والسير الذاتية في اليمن في العشرية الأخيرة

هل المعاناة حقًّا تصنع الإبداع؟! وهل الاستجابة الإبداعية تولد من رحم المحنة، كما يقولون؟! يبدو أن لمثل هذه المقولات ما يبررها في مشهد الكتابة والإبداع في اليمن الآن. يتعزز هذا الرأي عند النظر في معدلات الكتابة والنشر في مجالات أدبية عديدة: شعر، قصة قصيرة، رواية وكتابة ذاتية، فضلًا عن الأصوات الجديدة التي أعلنت عن نفسها بقوة في فضاءات الكتابة منذ 2012م. فهل يصنع اليمانيون في عشرية المحنة والحرب المفارقة بين عقم الواقع وخصوبة الإبداع والكتابة؟! والمقصود بالعشرية هنا السنوات منذ 2012 حتى 2022م.

يمكن قراءة المشهد الإبداعي في هذه العشرية من خلال جنس أدبي واحد، وتخيُّر مسبار الكتابة الذاتية، وكتابة المذكرات والسير الذاتية على نحو خاص للدلالة على بدايات طفرة نسبية في إطار هذه الأشكال الكتابية الذاتية في اليمن. صحيح أنه بحسب سوسيولوجيا الأدب لا يمكن الاطمئنان كثيرًا للاستجابات السريعة؛ ذلك أن التأثيرات الاجتماعية والنفسية التي تحدثها التحولات الكبرى التي تمر بها المجتمعات كالأزمات والحرب والصراعات والكوارث تأتي نتائجها في الأدب متأخرة، بعد حالات من الاستقرار الذي يتيح تأملها والتعبير عنها من مسافة زمنية كافية. وصحيح أيضًا أن هناك نوعًا من الأدب والكتابة يطلق عليه «الكتابة الاستعجالية» لكن واقع الحال بالنسبة للمذكرات والسير الذاتية ربما يتجاوز مثل هذه الاشتراطات السوسيولوجية، فاستجاباتها تتصل بوجود الكُتّاب أنفسهم وتفاعلهم في ظل معايشة الأحداث نفسيًّا واجتماعيًّا.

التحولات السياسية ونشر المخبوء

في عقود سابقة صدرت العديد من المذكرات التي كتبها الساسة وبعض الشخصيات العامة، وهي أعمال لا تفتقر إلى الأدبية في بعض الأحيان، لكنها تبقى ظاهرة خاصة في فئة من المؤلفين، أكثرهم ساسة شماليون، تحدثوا فيها عن أدوارهم السياسية والاجتماعية. وكان من اللافت في هذه الظاهرة غياب مذكرات أو سير ذاتية لكتاب جنوبيين. أغلب الظن أن الحساسيات السياسية التي كانت سائدة في الجنوب خلقت نوعًا من العزوف أو الخوف الذي أدى إلى حجب هذا النوع من الكتابة. ومن هذه الناحية نفسها يمكن أن تقرأ ظاهرة مذكرات بعض الشماليين في السنوات الأخيرة، التي ظهرت بعد وفاة كتابها.

وبعيدًا من العرف السائد في رغبة الكتاب في نشر مذكراتهم أو سيرهم الذاتية بعد وفاتهم، فإن المتابع في مشهد العشرية الحالية يجد نفسه أمام كتابات مهمة تنشر للمرة الأولى لشخصيات كبيرة ومؤثرة، ونضرب مثلًا لهذه الظاهرة «مذكرات الرئيس عبدالرحمن الإرياني» الذي توفي في 1998م، وقد صدرت تباعًا في ثلاثة مجلدات كبيرة منذ 2013م حتى الآن. ولعلها من أوثق المصادر في التعرف إلى تاريخ الحركة الوطنية اليمنية وحياة صاحبها وأدواره في التاريخ الحديث. ومؤخرًا صدرت «مذكرات جار الله عمر: الصراع على السلطة والثروة في اليمن» في 2021م، وهو سياسي يساري، اغتيل في 2002م علي يد متطرف في اجتماع عام. تنطوي مذكراته -التي جاءت على شكل لقاءات- على بعد سيرذاتي وجرأة في البوح السياسي.

إن نشر مثل هذه المذكرات في هذه السنوات قد يثير السؤال عن أسباب امتناع أصحابها عن نشرها في أثناء حياتهم! كما أن تأخر نشرها بعد وفاتهم إلى أكثر من عشر سنوات من قبل المعنيين بنشرها يعزز طرح هذا السؤال: هل كانت التحولات المأساوية الكبرى التي يمر بها اليمن في محنته الآن سببًا في الاستجابة لظهورها وانتفاء الحرج أو المآخذ على نشرها؟! وفي الطرف الجنوبي كانت استجابة أخرى، وإرهاص بموجة من مذكرات السياسيين الأحياء، مثل «دبلوماسي من اليمن الجنوبي ـ تجربة شخصية» التي صدرت في 2018م لسعيد هيثم، وهو دبلوماسي وأكاديمي، و«ذاكرة وطن» في 2019م للرئيس اليمني الجنوبي الأسبق علي ناصر محمد، و«البداية: نضال من أجل الاستقلال» في 2022م لمحمد سالم باسندوة (رئيس وزراء أسبق) وغيرها.

ولعلّ في تلك التحولات التي شهدتها اليمن في العشرية الحالية ما دفع خروج المخبوء من هذه المذكرات، وتجاوز أية حساسيات قديمة من آثار الصراعات الماضية، فلم يعد هناك حرج مما يمكن أن يقال في ظل هذه الظروف! وربما تحمل هذه الكتابات ما يدفع إلى التأمل في الأحداث والتفاصيل المروية، وإعادة النظر في بعض أحداث التاريخ وأدوار أصحابها من وجهة نظر جديدة، ما يفتح المزيد من نوافذ كتابة البوح والاعتراف على مصراعيها، مهما كانت كتابات هؤلاء السياسيين موسومة بالمبالغات والادعاء.

السير الذاتية كرد فعل إبداعي

ظاهرة كتابة المذكرات والسير الذاتية في فئة الأدباء والمثقفين اليمنيين هي الأبرز في هذه السنوات، وذلك وفق المعيار الكمي في معدلات النشر، والمعيار النسبي قياسًا بالعقود السابقة. لقد توافر لها من دواعي الكتابة الفردية ما يكفي، غير أن للدواعي الاجتماعية العامة التي أنتجتها السنوات الأخيرة الدور المهم. سنوات من الصراعات والأزمات التي آلت إلى محنة وحرب كارثية بكل المقاييس، تمددت آثارها في العديد من الجوانب، وكانت هذه الفئة هي الأكثر حساسية والتقاطًا لمشكلات الواقع وصدماته، بما في ذلك مشكلات الهوية والتاريخ، وهي الفئة الأكثر استجابة في التعبير عن أزمات الواقع وتشظياته ومحنته.

كما أن تجارب الشعوب وآدابها تعزز فكرة انتشار هذا النوع من الكتابات في ظل الأزمات والصراعات الكبرى، مثل أوربا في ظل الحرب العالمية وجنوب إفريقيا بعد سنوات الكبت في ظل نظام الفصل العنصري. جاءت السير الذاتية تعبيرًا عن التحول الديمقراطي وتأكيدًا لهوية الذات بوصفها جزءًا من المجتمع الجديد. وفي عالمنا العربي تشكل النزاعات والحروب حافزًا مهمًّا لهذا النوع من الكتابة، وتصبح كتابة الذات بمختلف أشكالها رد فعل إبداعي في مواجهة عوامل الفناء والموت والغياب، ورغبة أكيدة في استدعاء الذات وتخليد أثرها ووجودها في بعدها الإنساني والاجتماعي.

في اليمن عشرات من الأعمال المنشورة في هذه السنوات، كتبها شعراء وروائيون وإعلاميون وأكاديميون، في صور مذكرات، ذكريات، سير ذاتية، وذاتية روائية. لسنا الآن بصدد حسم تداخلاتها الأجناسية، فهذه قضية نقدية ليس الآن مقامها. فهذه الأشكال من كتابة الذات تشترك جميعها في دوافع الكتابة وهواجسها، وفي التعبير عن تقاطعات الفردي والاجتماعي في ظل هذه التحولات الكبرى التي يعيشها المبدعون اليمنيون. إنه «انفجار الصمت» إذا ما استعرنا تعبير حاتم الصكر في أثناء دراسته للسير الذاتية النسوية في اليمن؛ ذلك أن المذكرات والسير الذاتية في عَشْرِ السنواتِ الأخيرة أكثر قربًا والتصاقًا بهموم اجتماعية أنطولوجية، وتشكل وحدها ظاهرة خاصة جديرة بالدرس والتأمل.

من بين هذه الأعمال جاءت «أيام تونسية» لمبارك سالمين في 2014م، وهو نص استهلالي في سيرة صاحبه خلال مدة الدراسة العليا في تونس، لكنه يستدعي أوجاع حرب 1994م على الجنوب وأثرها في حياته ومدينته عدن. نص في علاقة التماهي بين الذات والمكان. وسيتوالى العديد من النصوص التي تؤكد المشترك في تجربة الحياة الخاصة وتقاطعاتها مع حيوات الآخرين والأمكنة وأحداثها. تكفي الإشارة هنا إلى نماذج من المنشور في النصف الثاني من هذه العشرية، مثل كتاب «حافة إسحاق: ما تيسر من سيرة الإنسان والمكان» و«لغلغي في صنعاء» لعبدالرحمن بجاش، و«عابر سبيل» لعبدالله الجعيدي، و«مذكرات وشهادات» لسالم بخضر، و«الرصاصة» لمحمد مسعد. وهي نصوص في السيرة الذاتية لأصحابها في استرجاع الوقائع والذكريات. و«تأملات للذكرى» لمحمد عبدالوكيل جازم، و«حقيبة الذكريات» لمحمود الحاج، وهما من كتب المذكرات التي تكتشف الذات نفسها في ملامح الآخرين، أو سرد للذات في مرايا الآخرين؛ فالحياة سلسلة من العلاقات والتواصل الإنساني الذي يمنح الذات شرعية وجودها.

وهناك نصوص راحت تنبش في تفاصيل الذاكرة وبدايات وعيها ومسارات حياتها في المهنة والتكوين، مثل «أيامي» لمسعود عمشوش، وأخرى جاءت في استعادة تفاصيل تعالق تجربة الحياة الإبداعية بتجربة اجتماعية، مثل «رحلتي مع الكتابة والأدب» لمحمد مثنى. وهكذا، هناك العديد من الكتابات التي تشكل مؤشرًا على طفرة نسبية في كتب المذكرات والسير الذاتية اليمنية، فضلًا عن المقالات الذاتية المنشورة في الصحف والمجلات الورقية، وسيل آخر من الكتابات التي تملأ شبكة الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي الخاصة بالأدباء، التي تعلن فيها الذوات عن وجودها وانفعالاتها. ولم تعد هناك أية أيديولوجيات مضادة لكتابة الذات في أوضاع المحنة والحرب التي أدت إلى نوع من «الفوضى الخلاقة» في حرية البوح والتعبير، ولا سيما في ظل غياب سلطات الرقابة والمنع والمصادرة، وانشغال أطراف الصراع السياسي والاجتماعي في اليمن بنفسها، وهنا تكمن مفارقة الواقع والإبداع في العشرية الأخيرة.

زمن السير الذاتية

جانب من سوسيولوجيا الإبداع في العشرية الأخيرة ارتبط بتطور الرواية في اليمن، التي تضاعف المنشور منها. وفي خضم هذا التطور جاءت كتابة السير الذاتية الروائية. صحيح أنها تنحدر في شجرة نسبها من الرواية أولًا، وتلك قضية نقدية أجناسية لا مجال لها الآن، لكنها في إطار سوسيولوجيا الكتابة تتصل بمنطقة السيرة الذاتية وأشكال كتابة الذات ودواعيها العامة، بعد أن اختار كُتابها تدوين حيواتهم في شكل روائي يزاوج بين المرجعي والتخييلي، ربما لأن الرواية أكثر انتشارًا وشعبيةً في زمنها المعاصر، الذي يوشك بفعل حضور السيرة الذاتية وأنماطها النصيَّة عالميًّا وعربيًّا أن يتحول إلى زمن «نهاية الرواية وبداية السيرة الذاتية»، بحسب تعبير دانيال مندليسون.

وعلى الرغم من ذلك، فإن للرواية ألقها الخاص في الفضاء السوسيوثقافي، وبخاصة أن مؤشر الكتابة في اليمن يشير إلى تجارب جديدة في السير الذاتية الروائية، جاءت من حقول أدبية نوعية كالشعر والنقد، وتحمل في داخلها حرفة الاشتغال على الكتابة، وفي أواخر هذه العشرية يمكن الإشارة إلى نماذج دالة، منها مبارك سالمين في «الطوفان»، وآمنة يوسف في «بيت أبي»، وصالح باعامر في «الغمزات الضوئية»، وثابت العقاب في «مواسم الهذيان»، ومحمد علي محسن في «عائدون»، ونصوص عديدة لم تزل تتوالى، وهو ما يشير إلى انفتاح أشكال السرد على تجارب الذات في الحياة في زمن السير الذاتية والمذكرات، حيث البوح والمكاشفة والاعتراف، وحيث الذات تصوغ وجودها وتجربتها. ومهما كان حجمها، فهي تجربة عظيمة وملهمة في مواجهة الفناء. ألم يحسم فيليب لوجون -كبير شيوخ هذا الجنس الأدبي- أن كتابة السيرة الذاتية ممارسة اجتماعية يشترك فيها الجميع، وأنها ليست حكرًا على نخب بعينها؟! وبهذا المعنى تصبح كل حياة جديرة بأن تروى، ولكل واحد منّا قصته. يقول رولان بارت: «لكي نعرف أنفسنا علينا أن نكون رواة ومستمعين».