القوس المشدود بين الطرف والأصل والرامي… قراءة في آخر أعمال محمد علوان «موز ريدة»

القوس المشدود بين الطرف والأصل والرامي… قراءة في آخر أعمال محمد علوان «موز ريدة»

ثمة تحول سردي لوحظ في تجربة محمد علوان، خصوصًا في كتاباته القصصية الأخيرة. خرج من الزقاق الضيّق للقصة القصيرة ليقترب من أفق القصة القصيرة الطويلة أو (نوفيلا)، فكتب «المرتزقة» ثم «تهلل»، وكتب آخر نص له بعنوان «موز ريدة»، ورحل قبل أن يراه مطبوعًا، ولو طال به العمر لتوقعنا كتابته للرواية أو السيرة الروائية كما كان يُلمِح لي في أحاديثنا المشتركة.

أستدرك هنا لأقول: إن هذا النص الأخير كان يختزن طاقة روائية هائلة، وحشدًا من الحيوات والشخوص وصورًا من تناقضات وخرافات وميتافيزيقيات وكوميديات فكرة (الطرف والأصل) وخبايا الصراع التراتبي الطبقي بين (الزارع والصانع) والمالك للأرض. ولو أن الراحل علوان صبر على تدفق نصه وكان لديه الزمن الكافي لأتحفنا برواية مكتملة الأركان بأحداثها وتركيبها الفني والرؤيوي الخطابي الأكثر إقناعًا، لكنه الزمن الغادر وشبح الموت المتربّص الذي كمن له من قرب فخطفه منا ومن إبداعاته.

هذه النصوص السردية هي من تلك السرديات التي تعدّت في شريطها اللغوي حدود القصة القصيرة التقليدية تلك التي عرفنا من خلالها تجربة علوان الفنية غير التقليدية عبر عقود من إنتاجه، لتصل إلى حدود القصة القصيرة الطويلة كما كتبها يوسف إدريس في «العسكري الأسود» و«الحرام»، أو كتبها تشيكوف في بعضٍ من قصصه القصيرة الطويلة. ولعلني لا أبالغ لو أطلقت تسمية «الميني رواية»؛ لأن لكلٍّ منها وحدة وعي فنية متماسكة، وخطابًا روائيًّا مضمرًا أطلقه الكاتب في فضاء نصه.

من بئر الذاكرة القروية

تبني سردية «موز ريدة» خطابها الفني القصير بتؤدة من خلال الغرف من بئر الذاكرة القروية، والحكي العفوي العذب الأقرب إلى الحديث الشفوي المتعدد الأصوات؛ إذ إن القاص اختزن في وعيه الداخلي وذاكرته المكانية، حكايات طرية طازجة كأنها ما زالت ترعف في شرايينه وخلايا ذاكرته ووجدانه. وحين تنتهي الحكاية كلها هنا فهي لا تنتهي، لكنّ بناءها الخطابي يصل ذروته، فيتركها القاص بنهايتها المفتوحة للمتلقي؛ لأن الخطاب الروائي الذي شيّده هو لُحْمة وسَدَاةُ نصِّهِ، وهو وحدة رؤيته الكلية.

وربما من المفيد في تحليلي لهذا النص العلواني المتميز أن أقول: إن النص قام في الأساس على مرجعيتين اثنتين: مرجعية الحكاية القروية التي تنتسب لمكانها وزمانها وشخوصها، وإلى مرجعية خطابية زمنية تنتسب للدلالة الفنية وقناعات الكاتب ورؤيته المضمرة وأسلوبه في تحريك وضبط تشكيلية النص وتخومه بالصورة التي كتب بها، بعيدًا من أي موقف أيديولوجي له من خارج النسيج الفني. وأنا أعرف محمد علوان جيدًا فهو عندما يكتب نصوصه القصصية يكتبها بفطرية خالصة كما تجيء له، مادة خام من الأطراف البعيدة من الذاكرة ومن قاع اللاوعي، ويترك لها حرية التسرب من بين أصابعه معجونة بمعلّميته. وهي لا شك عند اكتمالها تخلق متخيّلها الفني وزمنيتها الخاصة وموقفها الأيديولوجي بالضرورة من داخل نسيج الحكي لا من خارجه.

في هذا النص نجد علوان، على شفافيته وتلقائيته في الامتياح من أقاصي الذاكرة، لم يبتعد كثيرًا من مهارات وفنيّات القصة القصيرة في حساسيتها المتقدة أو في اقتصاديات لغتها، والتعبير البسيط العفوي عن الحدث في تعاقبيته وانسيابه. أما التعدد الصوتي للحكي وسردية الضمير الغائب المتكلم، فقد منحها هذا البعد الروائي، والخطاب المضمر.

فما الحكاية القروية/ المرجعية، وكيف أعاد صياغتها علوان بطريقته التخييلية؟ وهل هناك مسافة ما بين واقع الحكاية وتخييلها من جديد كواقع افتراضي؟

يجمع كثير من النقاد على أن المسافة بين الواقع والتخييل في إعادة صياغة الحكاية هي مسافة زمنية لها أبعاد خطابية ومسافة نفسية لها أبعاد دلالية، بمعنى أن النص المكتوب ليس له مرجعية واحدة بل مرجعيتان؛ الأولى منهما تنتمي إلى العالم الخارجي، أما الثانية فتنتمي إلى العالم الداخلي للسارد نفسه، إلا أن النص واحدٌ وله هذه الجدلية المثمرة بين المرجعيتين، وهو ما تؤكده الناقدة اللبنانية رفيف رضا صيداوي؛ إذ تقول: «من الضرورة بمكان عدم الخضوع للإيهام الذي يوقعنا فيه النص التخييلي، وهو إيهام بأن هذا النص معزول عن «الواقع»، ولا سيما أن عنصر التخييل هذا يسمو به إلى ما هو فوق الواقع، وذلك على عكس النص التسجيلي الذي يغيب فيه عنصر التخييل وتغيب معه جدلية الداخل والخارج».

ففي نص علوان «موز ريدة» لا يداخلنا هذا الإيهام بأنه نص تسجيلي بالقدر نفسه الذي لا يداخلنا الإيهام الشكّي ذاته بأنه نص فوق واقعي. فحين نقرأ هذه السردية نجدها تمضي رشيقة سلسة بحيث لا يستغرق قراءتها أكثر من عشرين دقيقة. يحكي من خلاله السارد تاريخًا قرويًّا بأبعاده المكانية والنفسية في صفحاتٍ قليلة مكثفة.

والحكاية تبدأ هكذا:

مع البنت الصغيرة المملوحة التي أجمع أهلها على تسميتها «موز ريدة»؛ لأنها أجمل بنات الجبل، والقادمة من تخوم الطرف، من المرتبة الأدنى في المجتمع القروي الذين لا يملكون الأرض كالأصل، بل يعملون إمّا في فلاحة الحقول زرّاعًا أو في أعمال الحدادة صنّاعًا. تكبر الصغيرة ويشتدّ عودها، وتخرج للغابة تحتطب لبيت أهلها أو تغرف الماء من البئر، وهناك تلتقي موز ريدة مصادفةً شابًّا وسيمًا من تخوم الأصل، ومن قرية مجاورة من ملّاك الأرض تبادله شعور الإعجاب والحب وقد نضجت مشاعر أنوثتها بين أضلعها كما تنضج أصابع الموز وتفوح رائحتها الزكية، وعندما تمكّن حبه في قلبها افتضح أمرها، فقال أبوها لأمها ذات مساء في قلقٍ واضح: «منذ شهر لاحظت شابًّا من أهل القرية المجاورة يحاول التقرب من حبيبتنا موز، وأنت تعرفين الأمور التي لا تدركها. أومأت الأم برأسها موافقة، ثم أردفت بسؤال: وما هو الرأي؟».

يوسف إدريس

الأمر الذي لا تدركه موز هنا هو فكرة الأصل والطرف العتيدة التي تكون حائلًا بين تقارب العائلتين من القبيلة نفسها والتزاوج من بعضهما، وهي عادة بالية أدركت موزة كنهها لاحقًا، وضحكت على تناقضاتها، وطرحت السؤال القلق: «أليس الذي يملك صنعة أفضل من الآخر؟». ويلوذ أبوها بالصمت بلا إجابة؛ لأنه يدرك في قرارة نفسه صحة قولها. وتمضي الأيام ويرفض والد الشاب «الأصل» فكرة تزويجه من البنت «الطرف»، ويستنكف بقسوة أن يكون له ذلك. وفي الجانب الآخر، وخوفًا من الظنون والأسرار المتداولة بين نساء القريتين، يقبل والد موز طلب الرجل الكبير الذي تقدم له زوجًا لابنته، كأنها لحظة إنقاذ سانحة ليبعدها من طريق الشاب/ الأصل، وتقبل موز قرار أبيها على مضض تلبيةً لأخلاقياتها القروية وتعيش مع رجلها شهورًا قليلة من دون أن تمنحه جسدها، ويقدر هو بكل نبلٍ وحكمة شعورها المحب للشاب الذي قالت عنه ليلة عرسها: «هذا الجسد لن يناله سوى من أحببت».

وعدها بالانفصال بعد أشهر عدة إكرامًا لمشاعرها الصادقة، وتَتحرَّر منه، وتنفتح من جديد أمام وجهها أبواب الفرح، ويقترب منها الفتى، ويبث في رُوحها شعورًا قلقًا بالأمل والحيوية. ولعل لحظة تقشير الموزة قد أزفت. يلتقيان ذات يوم وتلومه لعدم الإفصاح عما يعتمل في داخله: «لماذا لا تبوح بحبك؟»، وهل ينفع البوح بشيء ووالده مستمر في عناده وموقفه القاسي من فكرة ارتباط الطرف بالأصل، رغم توسطات كبير القوم في القريتين؟

وتشاء الأقدار أن يذهب والده لتفقد شقيقته في مرضها ولم يدرك أن هناك فخًّا قدريًّا يعدّ له وسيُحدث في تفكيره انقلابًا جذريًّا، وأن الزمن كفيل بإحداث هذا التغيير كما تنبأ نائب القريتين. وهناك في بيت شقيقته يتعرف إلى مطلقة اسمها شهرة، محرومة من الإنجاب كانت تأتي لخدمتها وتمريضها. أعجب بها، ودخل حبها قلبه ففاتح أخته برغبته في الزواج منها. ضحكت أخته، ولما سألها: «لمَ هذه الضحكة!» ردّت عليه: «إلا، وبسبب يفاجئك كثيرًا… شهرة طرف».

صُدِم للوهلة الأولى، إلا أنه ضحك كثيرًا لهذه المفارقة، وحين قالت له شقيقته: «يوم زواجك وزواج ولدك في يوم واحد» غرقا في ضحك متواصل.

وهنا وصل التناقض الاجتماعي ذروته فانقطع القوس المشدود بين الأصل والطرف، والسبب هي شهرة. وهنا اكتمل الخطاب الفني للحكاية في تحقيق التوازن النفسي والاجتماعي في الوعي القروي المنقسم، كأن رؤية السارد تقول: إنه من دون هذا التوازن الفكري والأخلاقي والتناغم الاجتماعي، سيظل الوعي منقسمًا متشظّيًا في زمنيته ومؤثرًا سلبًا في سياق تطوره.

وهكذا انتهت الحكاية

وهكذا برع قاصنا الفذّ علوان في كتابة نص الحياة كما هي، ونص الجبل «ريدة» بموزة وأحلامها وأحزانها، ونص الذاكرة القروية بصحوها وضبابها، بغيومها وبروقها ممطرةً على قارئه بفيض من مشاعر البوح والدفء الإنساني الذي يسري على ألسنة شخوصه كلها وهي تحكي على لسان السارد متناغمة متآلفة على قدرٍ كبير من البساطة ونقاء الفطرة الجبلية، كأن أصواتها نسائم رقيقة تنطلق في كل جهات الروح والقلب. في كل جهات المكان وأطرافه.

أنطون تشيكوف

إن علوان في هذا النص القصصي المبدع طوّع لغة القص واقترب بها من اللغة المحكية القروية بتعبيراتها العفوية والإنسانية وتداعيات خواطرها المتدفقة، وعقد قرانًا متوازنًا بين لغة الكتابة الفصحى ولغة الحكي المحلية بما تختزنه من اللطائف في القول والمُلَح والنوادر من الأمثلة الشعبية كنوعٍ من تأصيلٍ للشكل السردي ومحتواه، جسّد ببراعةٍ من خلاله الحياة اليومية في هذه القرية بما كانت تمور به من أحلام وأشواق وصراعات صغيرة وعادات وتقاليد، ومواقف إنسانية نقية. رصد علوان بعينٍ بصيرة التحوّلات الهادئة غير المرئية في مجتمع القرية التي كانت تدفع بها تناقضات وضرورات التوازن الاجتماعي والنفسي، ومتطلبات الموقع التراتبي ومتغيراته، وكيف حُلَّتْ هذه التناقضات البسيطة وغير الصراعية تلقائيًّا تعبيرًا صادقًا فطريًّا للروح القروية لأهل الجبل؛ لكي يُحافَظَ على وَحْدة وتماسُك رُوح العيش المشترك، وبنية الوعي البسيط في المكان والزمان القرويين، فيخلق علوان شكله السردي القصير الخاص به النابض بفكره الجمالي والاجتماعي.

دلالة العنوان

لماذا عنوَن علوان نصه السردي هذا بموز ريدة؟ إن عنوان النص هو العتبة التي نَلِجُ منها إليه. وهو في ظني يبتعد من دائرة التحديد الضيقة أو التسمية ليتجاوز في كثير من النصوص السردية إلى الإشارة الخفية إلى مبناها وخطابها المضمر، وتعين القارئ بنسبية معينة في إنتاج الدلالة، فما دلالة العنوان في نص علوان؟

إن عناوين كثيرة لسرديات تكاد تكون مضللة وربما لا تكون لها أي دلالة تعبيرية عن مضامين النص، وقد يسري هذا التضليل العنواني في بعض النصوص حتى بعد الانتهاء من قراءتها ولا يستطيع القارئ الربط بين المضمون بما يوحيه عنوانه، ومن هنا تنطلق الحيرة التأويلية عند المتلقي.

وبحق، شعرت بدءًا ببعض الحيرة في تأويل عنوان النص «موز ريدة»؛ فهو جاء كعنصرٍ دلالي على مكوناته ونسيجه، فهو الدال والمدلول الرمزي في آن. ولعلي هنا أجتهد وأقول: إن العنونة ذات ملمحٍ كنائي يطابق بين ثمرة الموز وتحولاتها وبين رشاقة وملاحة بنت الجبل وتحولات مشاعرها، حين تنتابها حالات بين الفرح والقلق من وقتٍ لآخر تمر بها من الاخضرار مبتهجة ضاحكة إلى الاصفرار- كما هي حال الموز- حين تكون قلقة مكتئبة من موقع عائلتها الاجتماعي (الطرف)، أو هي في قمة نضجها وأنوثتها، حين بدأ يخفق قلبها لشابٍ وسيم من موقعٍ اجتماعي آخر (الأصل).

هو الموز يؤول إلى معنى للجمال والرشاقة والتحوّل والنضج البطيء وقد عرف أنه ثمرة طيبة جذابة للقرود والإنسان معًا في جبال أبها والجنوب. كادت البنت تُسمى رفعة أو نمشة، ولأنها أجمل بنت في أعالي جبل ريدة، فقد وافق كل الأهالي على تسميتها «موز ريدة»؛ فهو بذلك «علامة ناجزة» على حد قول الناقد الكويتي مرسل العجمي، وهو أيضًا من نمط العتبات المباشرة المطابقة لمضمون السرد وأجوائه وأمكنته، وليس من الأنماط الرمزية التي يتأولها القارئ في أثناء قراءته النص.

تشكيلات اللغة ومراوغات المعنى في التجربة الشعرية لعلي بافقيه

تشكيلات اللغة ومراوغات المعنى في التجربة الشعرية لعلي بافقيه

لذة الشكل اللغوي ولذة الإحساس الشعري المتوتر والقلق، لذتان تمضيان بنا إلى لذة الرؤية الممتنعة عن الظهور من القراءة الأولى، ما تجعلك تخوض في أرخبيلات لغته الطافحة بماء صافٍ من المعاني وتشربها بكفيك بحيث تحرص على ألا تنسرب من بين أصابعك.

مذاق الشكل الفني متجددًا في لغته وفي تشكيله الفني وشكل الرؤى الحسية والرؤى التعبيرية منصهرة كلها في صياغات التخييل والمجاز غير المؤتلف والمختلف في الآن ذاته. التخييل المختلف والمؤتلف في لحظته الشعرية هو جوهر قوله الشعري، كالمجاز الذي يتخطى تشكيله اللغوي إلى تشكيله الرؤيوي والصوري ويصنع جمالياته الفنية والتعبيرية.

كيف يبدو لنا الشكل الشعري مكتوبًا في شعر علي بافقيه؟ وهو الشكل الذي يبدو في ملامحه الأولى تفعيليًّا لكي يتجاوز ما هو فني لغوي مغاير إلى ما هو ذاتي منحوتًا من أضلعه شقائق من كائنات حية لها دم وروح. شعرية ظمأى لما هو غير موجود وحاضر في اللحظة الشعرية ذاتها. بعض قصائده نجدها قصيرة موجزة رقيقة ومتمردة على مفهومها التفعيلي مقتربة كثيرًا من نثريتها لكنها النثرية التي تكاد تكون هي الشعر كله.

حساسيته الملتحمة بموسيقا شعره، تنبع من داخل النص ذاته رغم أن التشكيل اللغوي موسيقا رهيفة صامتة حتى النخاع. موسيقا تنبع من أدغال بعيدة في أشجارها وغصونها، في عتمتها وضيائها الوجداني.. هو الشعر الباسق في معناه وتشكيلاته حين يقول: «كدت/ ألمس القاع/ هناك حيث الحجارة تقطر لدانة وبهجةً/ …../ صلبة تملأ الكف». وحين نمضي معه في رحلته الشاقّة نحو (النجمة)، تطربنا هذه الموسيقا الكامنة في التشكيل الشعري المتقطّع وفي البوح المتهدّج يتوقف لكي ينهي عزفه اللغوي: «هويت طباقًا عشرًا/ كانت ملونة/ وكان الهواء يهزج/ والشوق يخفر الطريق/…/ الرمل يضاجع الهواء».

السهولة والوضوح الشكلي الممتنع متبديًا في شعر علي ليست بمستوى الغموض الواضح نفسه في اقتفاء المعنى الشعري المنسرب في تضاعيف التشكيل.. في تضاعيف المعاني. المعنى الصعب في نص «النجمة» يتفتت ويتشظى في البوح الصامت حين واقعت الذات الشعرية فوهة البئر في إيماءة حسية كمعادل شعوري عند صعوده للنجمة حيث يزاوج الشاعر بين حالتي الصعود والسقوط في جدلية تشكيلية باهرة تذكرنا بالحالة السيزيفية؛ فكل ما كاد يلمس نجمته سقط عند فوهة البئر ممارسًا عندها فعل الديمومة فتسيل منه غابة من الشجر والطيور. وحين يبدأ الكلام تحضر الدهشة وهنا في نظري يصبح للتشكيل والمعنى سهولة ممتنعة ومضاعفة وتحل الإشارة كدرجة أدنى للبوح: «كدتُ/ أبدأ الكلام/ لكن يديّ أشارتا/ وفمي أطبق على الدهشة/ …/ للحلم/ أن يلمس كالحجر». نظام وبنية القصيدة عنده يعتني كثيرًا بالإيقاع وكما يعتني بالتفعيلة في كثير من نصوصه، وبخاصة في ديوانه الأول «جلال الأشجار»، إلا أنه في ديوانه الثاني «رقيّات» الذي يشفّ بغنائية عالية النغم كان في جُلّه محتفيًا بمركزية المرأة في وجدانه وفكره ومعتمدًا على بنيات نصيّة قصيرة: «سلام عليهنّ/ يهوى الهواء الرشيق عباءاتهن/ فيهفو ويصفو ويعتلّ/ ينضج/ يؤكل بين أناملهنّ/ سلام عليهنّ».

اتسمت قصائد ديوانه الأول «جلال الأشجار» بالطول النسبي وفي بعضٍ منها تمردت على تفعيلاتها، واحتفظت بإيقاعها الداخلي وموسيقاها الكامنة، وكاد أن يقترب من أجواء قصيدة النثر كما في قصيدته المتميزة «أشجار: أوراق الحلاج»، فاختفت التفعيلة وتباطأ الإيقاع وإن ظلّت غنائية البوح مستترة على الرغم من أنه لا يعدّ من شعراء قصيدة النثر: «طالعًا من وجع الخلوة/ مخلوعًا من الجثّةِ/ منزوعًا من الأصوافِ/ مبتلًّا بماء الخلق والألوان/ أندقّ على الساحة/ ظُهْرَ المسجد الأول نصف الليل/ هذا رطب الصبحِ إذًا مفتاحُ هذا الكون». لكنني ومع هذا أعدّه شاعرًا تفعيليًّا بامتياز، وتفعيلاته مبتكرة متجددة في أفقها التجريبي المرهَف.. وتبتكر غنائيتها وشجنها.

نحن أمام شاعر نسيج وحده.. موسيقاه كامنة، تأتي مثل انثيال ماءٍ باردٍ مثلج تترامى نبراتها وأنغامها بمكعبات ثلجها بين الأحجار السوداء الملساء. لكنه «الثلج مشتعلًا» بالمعنى من الداخل، على حد قول الفرنسي ريجيس دوبريه.. مشتعلًا في لحظة شعرية مباغتة وذائبًا في لحظةٍ أخرى. إن قصائد علي بافقيه في ديوانه الأول «جلال الأشجار» -الذي أُعدّه أحد أهم الدواوين الشعرية التي صدرت في ثمانينيات القرن الماضي- من نوع النصوص الشعرية التي قال عنها ت. س. إليوت: «يثيرنا معناها أولًا وتصلنا موسيقاها بطريقة لا شعورية».

خصوصية علي بافقيه التعبيرية

على الرغم من تميّز وخصوصية التشكيل الشعري وخصوبة الرؤية الفنية وحداثتها عند بافقيه فإنه يعدّ من رموز الجيل الشعري المحوريين في تجربتنا الشعرية الذين لم يحظوا كثيرًا بالالتفاتات النقدية اللامعة كما حظي علي الدميني مثلًا أو محمد الثبيتي وعبدالله الصيخان وآخرين. فلكل جيل من الشعراء في ظني ضحايا نالها الإهمال النقدي واختفت ملامحها التجريبية خلف وجوهٍ شعرية بارزة نالت حظوظًا مسغبة من الدرس النقدي رغم أن منجزها الشعري لا يتفوق كثيرًا عنهم.. لأسبابٍ معلومة وغير معلومة، ولعلّ أبرزها دور العلاقات الشخصية البينية، والمحاباة الظرفية بل القدرة المذهلة على تسويق الذات واختراق الأوساط الاجتماعية والإعلامية.

فشاعرنا علي بافقيه من المبدعين الحقيقيين، وأعرفه شخصيًّا زميل دراسة وصديقًا حميميًّا هادئًا في سمته، عازفًا في خلقه عن الأضواء والمباهاة الزائفة، وادعًا حييًّا، وليس عنده ادعاءات كبيرة في تجربته الشعرية الأصيلة، بل كان صاحب تجربة حياتية غنية ومعنية بعذاباتها الخاصة والفردية وتصدّعاتها الروحية والعاطفية التي تركت أثرها الواضح في شعره بخصوصيتها التعبيرية وتوهّجاتها الذاتية. إن المعادل الشعوري الذي تحدث عنه إليوت في نقده لـ«هملت» شكسبير نجده في تجربة علي بافقيه يتحوّل إلى سلسلة من معادلات شعورية يجري تمثيلها في كثير من الرموز والإيماءات والاستعارات والصور.

حين نقرأ قصيدة بافقيه الفذّة «غصن أسود» -التي أُعدّها من عيون نصوص تجربتنا الشعرية الحداثية وقد كتبها الشاعر في الثمانينيات، ذروة النهوض الكتابي الحداثي- نقف عندها بجلال الأشجار ذاته؛ لأن لها وجودًا ذاتيًّا شجريًّا خاصًّا استطاع شاعرنا أن يضعنا بها في قلب العملية الشعرية الثرية بكل تمثيلاتها الواقعية والشعورية والحلمية.. وبكل تدفقاتها اللغوية الجمالية.

يبني علي بافقيه في قصيدته المائزة هذه عمارة شعورية خاصة لها إيقاعاتها المتلاحقة واستعاراتها ودلالاتها البنائية ويعيد فيها تركيب منطق القول الشعري ومنطق المجاز ومنطق التأويل، فيما يتعدى الذاتي الحلمي إلى التاريخي والصيروري والكوني. إنه محتشد بالمرأة/ الأشجار في جلالها وجمالها وغموضها في معادلاتٍ شعورية ناطقة، وإيماءاتها الكثيفة، وصورها الاستعارية المتتابعة تؤول إلى حدّة انفصال الغصن الأسود وعمق اغترابه عن جذعه الرئيس.

«أرى حشدًا/ حشدًا من النحل/ أرى حشدًا من الطلحِ على الحلم/ أرى حافلة الصبح/ أرى أرصفةً بيضاء مثل الكحل/ حشدًا من نساءِ النحل».

والمرأة تبدو هنا كوجود فيزيقي وروحي شديد المحورية لدى علي بافقيه في هذه القصيدة/ اللوحة المتعددة المستويات، وفي غالبية قصائد الديوانين، هي كل الأشجار الواقفة، وهي كل الحشود القادمة، وهي النسغ اللوني والمائي الجذري والشجري.. و(وقت القصيدة)، تسيل في دمه في جلالها وعمق ظلالها، يلتجئ إليها الغصن الأسود ثانيةً بعد أن انفصل عن جذعها فتيبس واسودّ لونه:

«مقطوع من جسدها/ مثل غصنٍ من جذعه/ ونظل/ نقطرُ».

ولهًا يتمنى أن تضحك في مائه المحبوس كي تستعيده من جديد برقًا من بروقها، ومطرًا من أمطارها، يبتهل لها ويخاطبها ويذكرها أنها لم تبرح تسير في جسده.. ولم تزل تتوسد حفافي قلبه:

«تسيرين في جسدي كالمياه السحيقة/ تبنين متكأً في الهواجس/ أو تنصبين بقارعة القلب خيمتك الشجرية». إن الشاعر وهو ينتقل من معادل شعوري إلى آخر لا يعني أنه خرج من حصار اللحظة التعبيرية ذاتها بل يتمادى في استيلاد اللحظات الشعورية الطاغية المنسابة في لغتها الجمالية واستعاراتها القلقة، فبين:

«أرى في المسيل الحصى يتضاحك/ أبيض/ أبيض». وآخر المقطع الشعري: «يقض الهوى مضجعه/ ويرقى معه/ إلى موجةٍ تتلوى/ وتشهق حتى التلاشي/ فيزجي الحصى أدمعه». يختفي الفرح الجمعي بالحياة، ويختزل في فرديته، والماء الذي ينعس على أجساد القرويات تستدعي اللحظة فعل الهوى والأنثى التي تتلوى كموجةٍ حتى التلاشي. إن عمق ودلالة الاستعارة الشعرية وحدوساتها، والصورة الفنية المتخيّلة المذهلة التي جاءت كمعادل شعوري تمثّلت في هذه الجملة الشعرية الباهرة: «فيزجي الحصى أدمعه».

أنسنت الحصى والماء ينحسر عنه، وأدخلته مشاركًا فيزيقيًّا في الحالة الحزينة التي انتابت الذات الشاعرة وهي تبحث بين القرويات الضاحكات عن أنثاها. لنتمعن مرةً أخرى هذا الدفق اللغوي الصافي في المقطع الثامن من النص لنكتشف كيف أن المعنى يراوغ الشكل، كأن النخلة الأنثى تداعب سعفة بنداها فتنتفض من إغفاءتها: «عرِقت نخلة / فاستدارت نداة على عرفها/ أنتفض السعف/ ها إنها تتنفس/ ……/ تكبو على الماء».

الأنثى والحبيبة مهيمنة في شعر علي، إنها لُحْمة النص الشعري في لغته الجمالية وسَدَاهُ في مراوغات المعنى وتموجاته المائية، وهذا ما نلحظه أيضًا في جُلّ قصائد ديوانه الثاني «رقيات». تكتسب غنائية قصائده في هذا الديوان من قِصَر النص وتكثيف الحالة العشقية ومن الموجات الشعرية المتقطعة لهذه القصيدة البارعة.

في مرآة عروة بن الورد

يتحرك نص «عروة بن الورد» لعلي بافقيه طليقًا بين أبعاد وخلفيات مختزلة تُلمح إلى صورٍ أولى لحكايا وسيرة عروة بن الورد/ الشاعر الجاهلي الصعلوك. يستدعي نص بافقيه الزمن في لحظة باهرة من ألف عامٍ متمثلة في حركة عروة القلقة والنائسة بين «القصيدة والسيف».

ما كتبه علي بافقيه هنا ليس نصًّا واحدًا بل نصين كما أرى، النص البكر في معناه وفعله وتاريخيته الموروثة، والنص المتخيّل زمن الشاعر أو ذاتها كما في حضور معناه ولغته ومؤثراته المعاصرة.

وتنويهًا بتجربة علي بافقيه الشعرية تتميز لغته جماليًّا بالتأنق والغموض الشفاف، والرقة التعبيرية-إذا جاز التعبير- بعيدًا من البلاغات المفخّمة، والاستعارات المقحمة، أو المراوغات اللغوية والمفردات المتداخلة، وهو ما انعكس على باقي نصوصه الشعرية في ديوانه الأول: «جلال الأشجار» بل وسمت تجربته الشعرية برمتها حتى اللحظة وهو المُقِلّ في إنتاجه للقول الشعري.

وعلى الرغم من أن هذا النص القصير يعد من بواكير نصوص عليٍّ الشعرية فإن بداياته تشفّ عن حلمه في الكتابة الشعرية الأولى، بما انبثق عنه من دلالة على وعي قَلِقٍ وبِكْرٍ بالمعنى الشعري الحلمي، وموقع الشاعر وفعله المنحاز للفقراء والإنسان بشكل عام. فكان عروة «مثالًا» له في صعلكته ونبله. فعروة لم يكُ صعلوكًا ذاتيًّا وفرديًّا ومنعزلًا يغترف من ملذات الحياة ويقترح الحيلة والمراوغة والمباغتة القولية من أجل تكسبٍ آني. عروة بن الورد في نص علي بافقيه «يسكن بين القصيدة والسيف»، و«يلقي قصائده للنجوم البعيدة» عَلَّها تسمعه، وحين تناديه سلمى امرأته «يسمع خيلًا» و«نخلًا» ويصغي مليًّا لنبض البرّية الشاسعة.

هو عروة بن الورد مجازيًّا في وجهه المعاصر: علي بافقيه، كلاهما في المسافة الزمنية المختزلة بين المعنى والفعل. كأن بافقيه يقول متصاديًا مع مثاله عروة: لا معنى للمعنى الشعري، إلا بمعادله/ الفعل. ولا معنى للفعل إلا بمعادله النظري، اللغة الشاعرة.. حيث يروّض القول والفعل من أجل الإنسان.

كأن النص يُلمح في دلالاته اللغوية ومضامينه كيف كان المثال الشعري معنًى ومبنًى وموقعًا في إهاب شاعرنا المبدع علي بافقيه منذ البدايات مؤتلقًا ومنحازًا للمثال عروة بن الورد، وكيف يبدو الشاعر/ المثال في راهنه قادرًا في آنٍ على فلسفة المعنى والفعل بشفافية ورقة باذخة في تجلياتها الجمالية.

النص:

(١) «كان عروة يسكن بين القصيدة والسيف/ يهجع في لحظة ألف عام/ وألفاظه تتناسل بين الرموش/ وبين المقيمين في الخسف/ عروة يرحل مع خاطف البرق/ يهجع في وهجه ألف عام/…./ وسلمى تناديه يسمع خيلًا/ وسلمى تناديه يسمع نخلًا/ وسلمى تناديه يسمع برية شاسعة».

(٢) «كان عروة يرمي مقاطعه للرياح الطليقة/ عبس تنام وعروة يلقي قصائده/ للنجوم البعيدة/ والليل أطول».

(٣) «عروة يرسم برية/ ويلملمها».

(٤) «رسول الخليفة يهمس في أذن عروة: شيخنا يطلب اليوم سيفك/ حرفك/ هيا معي/ فالجفان/ ممرعة/ والدنان/مترعة/

وعروة حدّق في وجهه ألف عام».