قصص عبدالحميد البرّاق الحازمي.. «تسير على ظهر غيمة»

قصص عبدالحميد البرّاق الحازمي.. «تسير على ظهر غيمة»

البطلة وأمها في القصة، التي تحمل عنوان المجموعة، «تتقافزان وتمشيان على أطراف أصابعهما، كأنما تخافان أن تطآ غيمة بقوة، فتمتنع بقية الغيوم عن التحليق بقربهما ثانية». ص26. وكذلك يفعل الكاتب عبدالحميد البرّاق الحازمي عند كتابته للقصص الأربع عشرة التي ضمتها مجموعته الأولى، «تسير على ظهر غيمة»، وقد أصدرها نادي جازان الأدبي عن الدار العربية للعلوم 2015م.

كتبها الحازمي بخفة ورشاقة كأنما يخشى أن تمتنع قصص أخرى عن التحليق في فضاء خياله، وبخاصة أنه نشر المجموعة وهو يدرس الطب البشري الذي يحتاج إلى كثير من الوقت والتفرغ والالتزام حتى يتفوق ويبدع الطبيب فيه. ولكن القاص الحازمي أشار إلى تفاؤله بإمكانية الجمع بين الطب والأدب مثلما فعل أنطون تشيخوف، وكونان دويل، ويوسف إدريس. ص47. وذلك عندما جعل بطل قصته «ظلّ بخّره الضوء» طبيبًا شهيرًا أصدر رواية «أحدثت ضجيجًا في الساحة الأدبية» ص43. وبطله هذا عظيم الطموح إلى درجة أنه يطمح إلى الجمع «بين جائزتي نوبل في الطب والأدب» ص45.

ومثلما تتفاوت الغيوم في الشكل والحجم وكمية المطر الذي تحتويه كذلك تتفاوت قصص المجموعة. فمن حيث الطول تميل معظمها إلى القصر إلا أن آخر خمسة منها (رضيع امرأة عاقر- الفتى الديك- ذنب جائع للحياة- بضاعة كاسدة- سرقة) تندرج ضمن القصص القصيرة جدًّا؛ إذ لم تتجاوز الطويلة منها صفحة ونصف الصفحة، لا بل إن الأخيرة لم تتجاوز ثلاثة أسطر، وهذا نصها: «الجميلة التي دأبت البلابل على الإنصات لغنائها الساطع وهي تتوسد صدر حبيبها كل صباح، رحل، فسرق صوتها غراب يقطن الشجرة المطلة على المقبرة المجاورة». ص62.

وما قبل الأخيرة لم تتجاوز ستة أسطر، وهذا نصها «يحكى أن التاجر الكبير الذي كان له في كل صنعة سوق، ويطربه الاستماع إلى توسلات الناس، صار مقعدًا وحيدًا، يدفع عربته خادم أجنبي متذمر، بعد أن رشى أبناؤه طبيبًا جشعًا، وزوروا شهادة تخلف عقلي للحجر على أمواله، ثم أرسلوه مع خادمه ليسكن في بيته القديم بإحدى المدن النائية التي امتلك نصف أسواقها». ص61. وهذا الانتساب إلى القصة القصيرة جدًّا ليس بحكم القصر فقط وإنما بما يتطلبه هذا النوع السردي من تكثيف لكل عناصر القصة القصيرة مع زيادة حمولاتها ودلالاتها.

ومن حيث الموضوعات تناولت معظم القصص موضوعات إنسانية كالحب الضروري للحياة؛ لأنه القادر على بث التوازن فيها كما لو أنها «ميدان تزلج واسع» ص9. وهذا مكان الحدث في قصة «أنا معك»، والحب من طرف واحد في قصة «مظلة زهرة الدفلى»، والحب المبتور في قصة «ظل بخّره الضوء». ومقابل الحب هناك الموت نتيجة الحوادث المرورية، وقساوته على ذوي الميت، وبخاصة الأم، في قصة «استحالت دمعة»، والحلم بالأمومة في قصة «رضيع امرأة عاقر»، والفقر في قصة «الفتى الديك».

فنيًّا، صيغت معظم القصص بأسلوب القصة التقليدية: بداية- ذروة- خاتمة. حيث يتوازى زمن السرد مع الزمن الكرونولوجي، حتى في القصة الرمزية «صراط الأحلام» والقصة الفانتازية «شبح لم يخلق بعد». يمكننا أن نستثني فقط قصة «أحرف من ندم»؛ حيث يتناوب السرد بين مقاطع من الرسالة التي تركها الأب لابنه وفيها نتعرف إلى ما حدث بينهما في الزمن الماضي، وقد طبعت بخط عريض، مع ما يحدث بينهما الآن في الزمن الحاضر، وقد دخل الأب في سبات دماغي في حجرة العناية المركزة، وعاد الابن الطبيب من أميركا لزيارة أبيه وربما توديعه.

جاءت اللغة القصصية بسيطة توصيلية للأفكار والموضوعات التي تحملها القصص مع القليل من الومضات الشعرية التي أكثر ما يمكن ملاحظتها في العناوين التي اختارها الكاتب عتبات جاذبة لدخول عالمه القصصي.

خيمياء السرد في «صرخة مونش»

خيمياء السرد في «صرخة مونش»

محمود الرحبي

صدرت المجموعة من دار الآن، الأردن، 2019م. ووصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة الملتقى للقصة القصيرة العربية. على الرغم من أن عنوان المجموعة، وهو عنوان القصة الأولى منها، يحيل إلى لوحة الصرخة الشهيرة للفنان النرويجي إدفارد مونش، ص7، فإن المجموعة ليست مشغولة بعلاقة السرد مع الفن التشكيلي، وإنما باستلال القصة من الحكاية، بإخلاص للسرد، وللبيئة العُمانية مكانًا وزمانًا، حيث تجري فيها أحداث القصص. في هذه القصة نقرأ عن معادل فوتوغرافي للوحة الصرخة كان ضحيته الراوي الذي أصيب على ما يبدو بخلع للفك.

طالما اعتُقد أن الخيميائي يستطيع أن يحول المعادن الرخيصة إلى معادن نفيسة مثل الذهب، ولكن في السرد يمكن للمبدع أن يحول حكاية إلى قصة. وقد اعتمد القاص محمود الرحبي في العديد من قصصه على حكايات محلية غالبًا. وقد تفاوتت هذه القصص في نتائجها. في «النصف» حكاية عن صبي ولد بنصفٍ ظاهر وآخر خفي، فسمي بـ «قحيف» ص65. وقد شرح الكاتب في هامش معنى قحيف «من الدارجة: وتعني الفلقة أو النصف الظاهر لأي جسم» ص 65. أعتقد أن كلمة قحيف أنسب عنوانًا للقصة، وربما كانت كلمة الشِّق هي الأقرب للمعنى الذي أراده القاص. وقد ظل نص «النصف» أقرب إلى الحكاية منه إلى القصة لعدم تدخل القاص فيها، واكتفائه بروايتها.

أما قصة «صفحة من خيالها» فقد حاول فيها القاص تحويل حكاية الولد الذي ربته القرود في الغابة إلى قصة. وقد بدأ القاص بممارسة خيمياء السرد عندما جعل جدته هي أم ذلك الولد، والغابة هي (غابة جوزاني) بزنجبار. إلا أنه بعد ذلك استرسل في تلخيص سريع ومكثف لحكاية طالما أعيد إنتاجها.

في قصة «هجير مات» يحكي القاص الحكاية في نصفها الثاني، ولكن في نصفها الأول يمهد لها بما يجعلها قصة: «هجير مات هو اسم حي في ولاية عبري، ملامحه صحراوية في مجملها ولا يتعدى أثاثه –ساعة كتابة هذه القصة- الصخور وبيوتًا قليلة متباعدة برؤوس شعثاء. لا شيء يوحي بأن حكاية مؤثثة بأجواء مخملية شبيهة بأجواء ألف ليلة وليلة يمكن أن تكون قد نشأت يومًا في هذا المكان» ص 57.

يوجد في المقطع السابق إشارة صريحة إلى أن القاص يكتب قصة اعتمادًا على حكاية «ولكن سطوة الحكاية هي الفاعل الأصلي في ذلك التحول؛ سطوة حكاية هجير، الذي تحول مجرد الإعلان عن موته إلى اسم لحي بكامله» ص 58.

من الواضح أن رغبة القاص عارمة في تحويل الحكاية إلى قصة مثلما تحول اسم ميت إلى اسم حي؛ علمًا أن التضاد بين كلمتي ميت وحي، وتنوع دلالات كلمة حي، كانا من الممكن أن يفيداه في عملية التحويل إلا أنه لم يستفد منهما. كما أن الفصل واضح بين نصفي القصة. الفصل سيكون أوضح في «حكاية النهاية» حيث يفصل القاص بين مقطعي القصة بنجوم ثلاث. في المقطع الأول نقرأ نصًّا أقرب لمقال «يسوغ النهاية المفاجئة لسطوة السحر في عمان» ص 61. خاصة في ولايتي بهلا ونزوى؛ بوصول الكهرباء «ولم يكن لتلك السطوة أن تتبدد بدون نسج حكاية تبريرية تطيح بكل الأساطير السابقة وبمن تبقى من رموز السحرة» ص61.

في المقطع الثاني يحكي الحكاية؛ حكاية آخر ساحرين؛ فبفعل المنافسة بينهما حول أحدهما إلى جرادة، والثاني إلى سمكة صغيرة جدًّا. التهمت الجرادة السمكة، والتهم عصفور ما الجرادة. إلا أن إنقاذ القصة يأتي في آخرها «منذ ذلك الحين، زالت هيبة السحر في عمان» ص 62.. هكذا نقل القاص الحكاية إلى مستوى القصة التي رفعها بدورها إلى مستوى الأسطورة التي تحاول تفسير الأحداث بطريقتها.

في «الحجل العربي» يبدأ القاص بسطر واحد من الحكاية «يحكى أن دجاجتين هبطتا من جبل ظفار إلى السوق لشراء مؤونة» ص 45.. ثم يعلق عليه بمقطع اعتراضي يتقصد قطع وتيرة الحكي ثم يكمل بمقطع من الحكاية ثم مقطع ليس منها «وجبال ظفار، التي يعيش فيها الدجاج آمنًا؛ إذ يأنف الجبليون من أكله، تصنف ضمن مناطق قليلة جدًّا في العالم يعيش فيها الحجل العربي، وهو يختلف اختلافًا بينًا عن الحجل البري، بل يمكن عده، وبدون مجازفة، من أجمل المخلوقات الريشية على الإطلاق…» ص 45-46.

على الرغم من أهمية المعلومات الواردة في هذا المقطع، فإنها جاءت أقرب إلى مقال، وقد كان بإمكان القاص تكثيفها في هامش كما فعل في العديد من قصصه. وينهي القصة بالمقطع الأخير من الحكاية الذي ينتهي بـ«في الصباح عوقبت إحداهما بأن ظلت كما هي دجاجة منزل، بينما كوفئت الأخرى بأن حولت إلى حجل عربي». ص 46.

مرة أخرى تنتقل الحكاية من مستوى لآخر حتى تصير أسطورة بفضل خيمياء السرد التي جاءت أكثر إتقانًا في هذه القصة.

الأسماء

يكاد الكاتب لا يسمي شخصياته القصصية عندما لا يكون للاسم وظيفة فنية أكبر وأهم من مجرد التمييز والتفريق بينها. حتى عندما استعملها بما يبدو أنه الحد الأدنى من وظيفتها مثل اسمي عمر وعلي في قصة «فراغ.. بين أخوين» فمن الممكن أن نرى أسبابًا أخرى لانتقاء هذين الاسمين.

في قصة «غناء النخيل» يستمع البطل إلى أغنية سميرة توفيق «دوروا لي عن حبيب» ثم ينادي على جاره الذي اسمه حبيب. وفي قصة «على الساحل الشمالي» اسم البطل كُليب وبسبب هذا الاسم تصل القصة إلى ذروتها «بدا لي نطق اسم العم «كُليب» مصغرًا خاليًا من الأدب واللياقة». ص27.. وكذلك نهايتها «عمي كلب، عمي كلب.. أعطني صيد» ص28. وفي قصة «غريب» يصبح الاسم عنوانًا للقصة، وينطبق عليه المثل القائل لكل من اسمه نصيب «غريب يحمل معنى اسمه كاملًا» ص49. أما في قصة «هجير مات» فيغدو الاسم
هو القصة.

مقابل تقليله من تسمية الشخصيات، يحرص القاص على تسمية الأماكن التي تجري فيها أحداث قصصه، وكلها في بلده عُمان (سوقا فنجا ومطرح- قرية السيب- ولاية عبري- قلعة بركاء- جبال ظفار- سوق صلالة- سوق نزوى- زنجبار- ولايتا بهلا ونزوى- الخوير- رأس جنز- قريات صور). هذا الحرص يعكس اعتزازًا بهذا الانتماء إلى هذه البيئة التي تجري فيها أحداث قصصه، أما الزمان فيُراوِحُ بين الماضي والحاضر.