غابَاتٌ مُقدسة قصائد سلوفينية

غابَاتٌ مُقدسة

قصائد سلوفينية

بوريس.أ. نوفاك (1953-)

ناقش بوريس. أ.نوفاك دكتوراه في الشعر السلوفيني، واشتغل سنوات طويلة في المسرح. وهو أكثر شعراء جيله غزارة في الإصدارات، في كتابة تنحو إلى غنائية، تواجه الواقع باللغة، مستثمرًا الهايكو ومستعينًا بتجاربه الشخصية في الحياة. فاللغة في شعره لا تنفك عن توليد المعاني، وفي خلق صور تتطابق فيما بينها أو تتنافر، من بين أعماله: «بستاني الصمت»، «سيد الأرق» و«الحرية كلمة».

جنوب – شرق الذكرى

(موال قصير)

من المُفزع أن يُنهض الحي

ميتًا بسلطان الذكرى

مُستنجدًا بشاهد أبكم

ويفصح الخلاء

عن صمت الحشد، المُحرم

الذي يرن في ريح الشتاء

كوة الأجل ضيقة

فأرح الموتى في الغبش!

مهما يكن فإن الكلام

يؤلم الموتى

في صمتهم يَلمحون بُرعمًا

يتفتح جنوب – شرق الذكرى

وحقيبة الرؤى تنطبق مثل سر

أمام خطوة الغريب

الأمان أخدودهم

فأرح الموتى في الغبش!

من الأوْلى أن تطلب رُبًى حية

أصرخ بنفسك في وجهك بصوت صبي

أهتف بالصباح، بالغد، وبالطير!

من يعقل البياض

الذي يجري في دم الخطيئة؟

من أنت، يا قاضي الخشخاش،

أنت الذي لا يستقر دم في شريانك؟

أرح الموتى في الغبش!

نورٌ غائر

عَجنته غيمة

فاحضن حقيقة – الذكرى الباطلة

وأرح الموتى في الغبش!

غِياب

غِياب يسترُني

إنه حقًّا نعش من هواء الزجاج

غبارٌ أخرس، يتناثر

كلما خَطوت خطوة

غِياب يُحيلني

إلى وجه أعرفه من شدة غرابته

وجه غامض مثل خزانة

يعلوها خَتم الأزمنة

الذكرى، مفتاح أوْحد

يُقايض الغياب بالضوء

يشع من عيون، مُبهمة

أنا في أمنك فبوسعك أن تلمسني

وبوسعي أن أشكو

الغِياب يُصير الموت حياة.

دُوار

أطل على غور

على ظلمة أنْبتت الأسرار كلها

مغناطيس يجر الجنون إلى بئر

رعشة النشأة، حشرجة عنق مقطوعة

يقهرني فزع صبي يقف أمام الغور

أحجب الغيهب بمرايا مدنسة:

بزئبق على حافة الأشياء

يلتمع مثل كنزٍ أخاذ

الصورة في المرآة تُضخم الحضور

في الحيز الضيق، الرحب

الذي يسند الزجاج ويسند الحطب

دحرت خوفي من النظر في الغور

فأنا الآن أحس بالموت من انزلاق المرآة

موتًا من دُوار إزاء الزجاج.

الرسالة

لست أعرف لماذا أفكر فيك كل حين

أفكر فيما لا أُومِنُ به. معك فقط

أنحني في صمت

ركبتي، تنتزع فتات الكلمات

تدمى كما كنت في صغري

أنت في بيت العوز المفجوع

أي اليدين، تهاب أن تميتها جِراح،

صارحني، هل تتألم؟

إشراقة الألم تشق الليل وكف اليد

لكن من دون جرح لا شيء يكتمل

أنت في غيابك، تُرافقني في رقة

الخوف من القصة الأولى، الثلج المزرق الذي يهطل

من الرؤى، سيف مهمل في بطن بئر

بالنور تدفن أرض القبر المستوية

حيث تكتم صوتي أغصان ذات أوراق عنيدة

أنا وحيد. عاجز عن تحمل عطشي

الذي يُباعد بين فقراتنا كل مرة

مع ذلك أنت أقرب إليَّ من ظلي

صارحني، هل تتألم؟

ما كان وما لم يكن، ينتهي إلى أسوأ ختام.

أبيض لا تُحتمل نصاعته

تعرف ماذا يعني أن تحيا من أجل غيرك.

لا من أجل نفسك. أن تحدق من الربوة الأم،

حين ترحل. أنت فعلتها.

أنت الذي لم تكن. لهذا فأنا أفكر فيك الآن

لم أعد أحتمل. فلنفحص كف اليد

بمقاسات البشر، من الصبح إلى المساء

فكف اليد رسالة،

للمس، للصبية

صارحني، هل تتألم؟

سرعة التحلل

الكون يركض إلى تحلل

أسرع من تحلل الجسد

من خصوبة، من خصوبة إلى غُبار، من غُبار إلى أنفاس

أسرع من تحلل الكلام

إلى صوت، الصوت إلى أثر، الأثر إلى زجاج

سرعة تحلل الكلام هي الصوت

سرعة تحلل الجسد هي الزمن

سرعة تحلل الكون، هي أنا.

أرقٌ

أرِق منحنيًا على عمق بياض الورقة

أرِق على بياض مُلاءة مفروشة

أرِق على حلمٍ ممدد أو خبز يابس

وآن العشاء الأخير

أرِق في حراسة طفل وامرأة في المنام

بحارة كلما لامست يدي أيديهم

يعانق بعضنا بعضًا، نرقص

بأرجلنا تيك تاك، في غرفة لا نهاية لها

لكنني تعبت، أنا جد متعب

أرِق مع لاجئي نزيف الكون

من شق القلب الذي لا يُداوى

ورأسي يتهاوى فيزيد الأمور شقاءً

أرِق على غيابي

تائهًا، ميتًا، أنا الآن كيان

شخص آخر، ما زلت أحمل جسدي

أحمل قِدمي، جسد ينخرني

أرِق، أرِق؛ لأنني سلطان الأرق

الأرق نصيبي من الخلود

التعب يُميتُني، فيزيد الأمور شقاءً.

* * *

توماج شالامون (1941- 2014م)

من رواد الحداثة الشعرية في وسط أوربا. زاول الصحافة وعرف السجن بسبب مواقفه السياسية. درس تاريخ الفن واكتشف الشعر مثل «حجر ينهمر من السماء»، كما قال. أصدر مجموعته الشعرية الأولى «بوكر»، في سن الخامسة والعشرين. تلتها عشرات المجموعات الأخرى، كان متأثرًا بتيار السريالية ومصرًّا على بوليفونية في أعماله، من بينها: «حصن أزرق»، و«قصص باردة» و«موسم».

شاش

يوم أبلغ السابعة والثلاثين، لن يتساقط

شَعري. لن أرتدي مآزر الأطباء البيضاء، التي تطل

من جيوبها أحشاء حمراء.

يوم أبلغ السابعة والثلاثين، ستكون

أمي على قيد الحياة. لن أطرق

أبواب غُرف أبنائي

فأطرح عليهم أسئلة بَليدة، مبتسمًا

أمامهم بوجه أبله.

يوم أبلغ السابعة والثلاثين، لن أتريض

في الخامسة والنصف صباحًا

ولن أصفر من أنفي مثل

من يرتدي قفازًا. لن أدك رأسي في حانات

القرية ولن أزدري الأتقياء،

الذين نجوا من الحرب. لن أرتدي

بنطلونًا عريضًا. لن أشير بإصبعي

إلى تلال الهالوز(1) ولا إلى الأشياء الأخرى

التي سلبوها منا ولن أقول: إن ذلك كان عدلًا.

يوم أبلغ السابعة والثلاثين، سأغادر

العمل، سأتحرر. سأعفي لحيتي

وأظافري،

ستمخر بواخري البحار كلها.

وإذا وهبتني امرأة أطفالًا، سأعانقهم

من زجاج الركن الأيسر من

مطعم مدرستهم،

حريصًا عما سيسقط أولًا على البلاط،

الزجاج أم الشاش.


(1)… تلال في سلوفينيا

الضوء لا يتغذى من ضوء

لماذا رائحة الشعير المُزهر،

تغري مصاصي دماء ترانسلفانيا؟

المقصات مؤلمة.

لا أحد بوسعه تفتيت صخرة.

تحويل باب الشرق إلى الشمال.

مع ذلك: فإن الآثاريين يعثرون على حديد

مصقول. كيف يمكن أن نلين المسؤولية؟

كي تتشكل بمقاس القيامة. لقد سقط،

الكائن الذي أشعل الحريق لأول مرة،

كانت النار محتدمة أثناء المطر أيضًا،

أرادته حطبًا لها: في الرغبة، قدر.

الشجرة كانت مطمئنة إلى نارها. قبالة

الذي يحمي الحياة. وحده من يقص

زجاج الماس، ينام هانئًا.

انْصِهار

امنحني عينين، امنحني عينين، قفْ

أمام العينين. طوال الليل، كان الجو غريبًا. رئتاي

كانتا تغليان. سال منهما ماء

داكن، كما لو أنك ثلاثة آلاف فارسي

يسيرون صوب شجرة

يابسة. عجنتني، ألبستني حديدًا،

أذبتني، ألبستني حديدًا مرة أخرى. فتتت العروة.

اندلعت العاصفة. فوق ألف نملة ذاب

حمض الأكريليك الأخضر. لم أقدر على منعه.

احترقت الأغصان في رمشة العين. هل

أنا سجين؟ ألست من هنا؟ رأيت الحديقة.

أوراق مبللة، يتصاعد دخانها مثل كومة سماد،

ثم تتحرك، مثل عين العملاق الوحيدة

المفتوحة. هذه هي الحقيقة. أنا متهور. وفقط.

* * *

مايا فيدمار (1961-)

تطفو في كتاباتها مشاغلها الوجودية، مع صور إيروتيكية، سبق لها أن تسلمت جائزة «بريشرن» –نسبة إلى شاعر البلاد القومي– على غرار جوائز أخرى في سلوفينيا وخارجها، من بين أعمالها: «حضور»، «غرف» و«كيف نقع في الحب».

في الطريق

ماء أخضر

يلطم ساقي

ونواياي العائمة

هل يجب عليَّ

تعاطي حبوب

أرخص،

قرص أقل مفعولًا من الحبوب التي أتناولها الآن

فلا أحد في المصعد.

الممرضة المُناوِبة التي

تطوف في الرواق تظن

أن هذه الحبوب لي

وهي تحدق فيَّ.

لا حرج من استبدال وهم

بآخر، قالت لي،

من دون أن تعي أن

الرواق قد مال

وتموج

مثل زحلوقة

المسبح الزرقاء القاتمة.

 صائد مُفترس

لم أشك فيه

لكن حين نصحوني

بأن أرتاح دقيقة كاملة

انفجرت بكاءً، مُرهقة. لم يسبق لأحد

أن أمرني بمثل هذا الفعل المُفجع.

والخواتيم إذن! كيف سأُعاقب، يا أيها المعتدي

إذا توقفت دقيقة؟

بأي شكل تنوي إهانتي،

توبيخي، تمزيقي، دفني

في الدخان القاتم؟ ماذا فعلت لي

كيف أخافك، كي أفر من مقابلة بندقيتك

بهذا الركض؟ لا دقيقة، لا دقيقة

واحدة أخرى تهبها لي.

قصيدة من غيمتين

غيمتان عابستان في السماء

لا يعنيني أن رأيتهما في بولندا، ما يُثيرني

أنني قبل عام، رأيتُ

بريقهما الأبيض – البنفسجي في باريس

على حافة مزرقة من بركة

كلود موني الخضراء.

ما بين ذكرى ذلك الرسم

والصورة الآن

شيء ما ينفجر، شيء

آخر – في البدء مثل طقطقة

شفافة، يُشبه ضربة على الرأس،

ثم شيء ما في الحلق،

مثل كلمة نعم الفاتنة

لكن كل هذا يجري على طرف

العين، على حافة الجمجمة، سرعان

ما تبتلعه القفا التي أربكها الشك.

 قصيدة الركبة

ركبتي المتواضعة حية

لا تفصلني عنها سوى بضع سنوات

حين لن يكون لها وجود

ستصدأ تحت الجلد.

يتملكني خجل من هذه الركبة

المضمدة بدموع، قاسية مثل عنق ثور.

الآن، هي حية

منذ أربعة أشهر.

الركَب الصدئة، لا يليق بها

سوى بَترها بضَربة واحدة.

 قصيدة العمالة

حين فارقتك وددت

أن أكتب لك قصيدة

ابْتَغيتها مثلما تبتغي من خياط

أشياء لا يحتاج إليها أحد هذه الأيام.

كما لو أنك تطلب توشية من سيدة

تقبع وراء باب زمن آخر.

كما لو أنك تريد عمالة

من دون إهدائي مقابلًا.

أسماك

عندما انعكست صورتنا، في القوس،

شَغَلنا

في الحين وَرْكنا الفضي

على زجاجك،

شعرتَ بغتة بوحدتك

مثل قُبلات غير مرئية،

مطبوعة بصمت

على جانبنا

الزجاجي.

* * *

آلاش ديبيلياك (1961- 2016م)

من شعراء ما بعد الحداثة، درس في الجامعة وقضى حياته في الترجمة بين لغته الأم والإنجليزية، وفي تقديم شعراء محليين إلى لغات أخرى. التكرار هو جزء من جماليته الشعرية، مع ما يشوبه من نبرة وجودية. حصلت أعماله على العديد من الجوائز والتكريمات، من بينها: «مدينة وطفل»، و«مُهربون» و«كتاب الصور».

معجم الصمت

(١)

أغراض خاوية. لا شيء فيها. كما لو أنها فاكِهة

طريق لم نقطفها. المشهد في الماء،

لونه العُشب اخضرارًا. خطوط المدى تغشاها

ظلال. إنها ظلال موحشة. يتلافاها الناس.

هل من المُحتمل أن يفوح هذا الصباح برائحة شاي بالياسمين؟ لكن

هذا لا يعني شيئًا. بوسعك أن تواصل مَشيك

إلى الساحل. لن يتغير شيء. كل

ما يلمحه بصرك، ليس سوى رؤية مُربكة،

تحيلنا إلى صور وقائع أنت تعرفها. فأنت لا ترغب في العثور على

موطئ لأشياء. تدوم أطول

من خيالك، عقلك، سرك. أنت رهينة أشياء.

ليست سيئة. لكنها أشياء أكيدة. إنها كذلك.

(٢)

عاجزًا مثل حصن لا يتخطاه الأفق. والآن أكثر:

مثل ماء في نهر،

يتماوج في أول الليل

من دون أن يتخطى الضفة. لذتك عاجزة.

أنت في انتظار الموت، تشمه، تراه، تتنفس في سرك. أم

ماذا؟ على طرف النهر لا تظهر الأشكال التي تترقبها.

ولا مرة واحدة. ولا نصف مرة. السمع والبصر

تجاوزا الحدود: تحت صفحة الماء سطح بلا عمق

كأن تتذكر حركة حُبلى،

ذات مرة ذات صباح في الشارع. قوة الجذب

تكفيك كي تُدرك من تكون. والأسماء، الأيام،

والليالي، حيوات الأجيال العجيبة. كلها تخطت الحدود.

(٣)

هذا هو الزمن. قل ما قيل ذات مرة.

اتقاء سوء فهم. ابدأ من حيث شِئت

لن يطول ألمك أكثر

من تحليق عصفور من سطح الماء حيث

سيقع. بينما أنت فلن تخسر شيئًا. لا سيما

أنك سلمت كل شيء. لن تنال أكثر مما نلت. أعلم

لأنك فررت إلى لغة أجنبية تندم على الصمت الذي

يفصل جسدك الذي تعرفه من الداخل

لأن البشر وحدهم يموتون وليس صمتهم

لكن تحليق الزرزور عائدًا إلى عشه أكثر صخبًا.

عليك أن ترفع صوتك. انطق الآن!

احكِ! أنت أخرس وقد صرت روح الجميع.

(٤)

دوي كلمات. أرغب في إغماض عيني. بط متوحش

يحلق فوق رأسي، أسعل سعالًا جافًا وتصفعني نسمة.

هبة ريح تزحزح ديك السقف. في الختام

أنا من يبقى. حان الوقت كي أصير

صوتًا للصمت. حوارًا خفيًّا. لن أصير

صرخة أحد، وقد سكن في القلب كريستال

من كهرمان. النجوم باردة، بشر يُضيئون

البيوت. صخب الليل يدفن الكون. ماذا بوسعي

أن أنتظر، ماذا بوسعي أن أرقص؟ حفظت الإيقاع

ألم جسدي الذي يبتدأ منه الكون كل يوم.

أعرف أكاذيب الصور والكتابات العتيقة، أود أن

أبقى وحدي في الكون. مثل أنين رضيع فارقته أمه

(٥)

الرعشة والخيبة يقبضان عليك: كل شيء في

غرفتك وفي أي مكان آخر، كل شيء له اسم.

دوار يلطم أيامك، عاجزًا عن التحديق في

الصورة المُضببة في التلفاز، في التعاليم الخاوية،

أظهُرُ الكتب والأسطوانات، السلالم الضيقة: السماء المُغتمة

تكرر إحباطها على الزجاج الرقيق، المُنبسط، الأزرق

على صفحة الماء. أشكال غيوم لا نفع منها،

نزر من الحب! بشفتيك، أكثر خجلًا من

أن تفكر فيها تنزلق متحسسًا ثبات الأشياء.

وخفقان الدم لا يضير الصمت، أنت وحدك ما زلت تشكو

مثل

ألمك، لم تستطع أن تصير ما تُريد: الأشياء التي

تدوم من دونك. لقد مت في عيونهم مثل وردة مقطوفة.

(٦)

مسافة تحاول الاتساع

شيء أقسى من العناء

إليزابيث بيشوت: برهان

رعشات الجو التي نعجز عن رؤيتها، حقول ميموزا،

عطر الجذر الأخاذ، قبس مصباح تحمله

في يدها المرفوعة: ماذا تسمع من صخب

بجوار رأسها المغمور في الظل؟

عرق بارد يتسرب من جبهتها ويُخفي عينيها

المفتوحتين. ذلك السائل المالح يحرقها. نظرتها تسقط في العتمة. والصمت يعلو ويعلو. تأججت نار الأعشاب الجافة

تحت قدميها. بسرعة تمحو ذكريات الأيام البهيجة

أنت نفسك لن تلحظ الندبة الجافة على شفتيها

ندبة الألم الذي يكبر في سرها. الأرض تدور،

ومن المحتمل أن لا شيء حصل. الغابة تصمت، كل الطرقات

تنبسط أمامها. إنها تقف صامتة مُصغية إلى هدير الخلاء.

(٧)

الإسفلت المبلل. والصمت. مجرى المعادن الدائم إلى الداخل

من الجبل ومن الوادي. إنك مستغرب، صامت

حد الاستحالة

مثل أشنة في غابات الشمال البعيدة

كلمات حوار دائم يطول منذ الأزل.

ويتداول أربع، خمس كلمات. لا شيء يحوزه أكثر من

هواء حب. – قرص فسفوري في ساعة تلمع.

تاريخ عجزك. تشعر منذ القدم أنك لن تجد

ترجمة لها. – هكذا اقتنعت

لسان من دون كلمة، لعلك ستعمر طويلًا. وستضع

كل ثقل الزمن الهارب في تفتح زهرة لا تعرفها.

لذلك

قفاك يغلي وشيء آخر كذلك.

الوجه مندهشًا.

على شبكية العين بقعة عمياء لن يُقيم فيها سوى موبي ديك.

ما زلت هنا. مثل صوت في جوف

قلب الأشياء. لمعان أبيض. غائب عن البصر،

لكنه ممددًا في البقعة العمياء لانعكاس الضوء. شمع

الإحساس اللامنتهي، من دون بَصمة فارقة!

القلق، والخشخاش. انشطار في المجال المغناطيسي لهذا

الكون

أنت صورة الظل الصباحي من شدة هشاشته لا ينطق.

يتحلل مثل زقزقة عصافير، لكن أيضًا شرخ

جرح مميت حيث يسيل الدم والاسم. غريبًا

وأخرس. في اللامكان. المساء: وأثر الحمى، هذر اللغو.

وردة ضباب مرتعش. رعشة مكتملة: الوجود الذي

يطول منذ الأزل. آه، إنه لا يبتدئ إذا لم يتسق

مع لغة التاريخ الخفي. من المحتمل أيضًا أسى

قادم. كي ترن بمهارة وتتحلل في الوقت عينه.

ما زلت هنا. تنعم في حريتك، ناضجًا ومُشرقًا في دواخلك.

في جوف قلبك لمعان رصاص البداية. لكن فاكهة

الشعور النقية. التي تمشي عليها، واثقًا من نفسك، التي

تحولك بخارًا على الدوام. تصير

أكثر شفافية

بشرة الزجاج الربيعي. ملتصقة بغرابة غير مألوفة

ما بين الشك ورغبة في البحث. في أعماق عينيك:

داخل النسيان، نعم بعيدًا جدًّا عن الأشياء كلها،

الأشياء المُمكنة؛ لذلك تُخلق في قلب جاذبية السماء.

هناك حيث إيقاع ساعات الميلاد معتقًا وكذا الأيام الجليلة.

كي تصير علامة للوجود: علامة العمق والفواصل

بين

الزلازل. لكنك لست سوى ألم. كلا! أنت

أكثر

مما يحتمله حرف. مفتاحك المُظلم يتخطى مادته

غواية لا تنتهي على وجه سيرة غير أكيدة.

وفجأة أنت بلا وزن. لكنك تغرق أعمق من رصاص.

ما زلت هنا. على زجاج الأزل الصامد. في غرفة الانتظار

الضيقة

في تكشيرة لما حدث: متقهقرًا في الوقت عينه إلى عمق الليل

المتوحش. كي تقطع نفسك حين تنحني على هندسة

الصمت

مثل سيل يجري في السر. مثل كوة مغطاة

للوشوشة

حتى وإن ذبلت الوردة السوداء التي لا اسم لها أكثر فأكثر. تظل

الأشياء هكذا

ثم تذهب بسلاسة من هواءٍ إلى هواءٍ. في الخلف، كالعادة.

خطوط في ماء مُضطرب من شدة الخوف. لا شيء هناك

لا شيء هناك.

لعله ظل جلل مُنبسط: بكاءٌ مكتومٌ وبردٌ

نجمي من الباب الموارب. وخلفهم جميعًا. وردة ذابلة وبعيدة.

ليست

محفورة في صورة. ومن ثمة: كيف صرت

رائحة القلق المتوحشة!

لا أعرف مقدرتك على التحمل! فأنت تبدل إيقاع

كل سراب

مثلك. أنت هبة اللحظة التي حد لها وضحيتها: أنت أكثر

انغلاقًا على نفسك. هنا، حيث كل الأشياء تحصل. ولا أحد

يدعوك: تغير كل لحظة ممر الماء، لكنك لا تتغير، أنت

هو أنت

ما زلت هنا. من حولك إيمان لا يتزعزع، أنت موجود.

انتهى. اضطراب العدم الدائم. أنت منطوٍ على حافة

الأمد

المرئي. آه، هذا الجوف المُعتم من الذاكرة: من اللامكان لا يَعرفك.

ربما أنت لست سوى نثار ذاكرة ملتحمة، حماقة بريئة. عدا ذلك لا شيء سوى أرقام

لا يتوافق بعضها مع بعض. أنين الكون المتقطع. تحرم

كل رغبة في التقدم. كما لن تنفع معها المرة الأخيرة. تبدأ

مثل السمع

اهتزاز العلامة: أنت نشوة الأزل. حتى وإن لم تكن

كذلك

تسير في جنون الألم الكاوي. ثم تصير نواة

فاكهة

متخيلة. أولئك الذين يقيمون في شبكية عين السماء. من أول الجوف

إلى منتهاه مثل حصن.

لكن ليست الأحبولة وحدها: إنها كيان لا قيمة له.

وحارة مثلما تُكتب على الحجر كل الحروق الممكنة. إنه

أكثر المقدسات كبتًا. بلا معنى. زمن

أميتشي: صخب أبيض أخير. الكون الفسيح يتوارى في

تطابق

الوجود. الآن أنت الكون ولا شيء. وسكون الموت.

واحدًا. وكل الآخرين.

* * *

بربارا بوجاشنيك (1973م-)

شاعرة ومترجمة. نُقلت قصائدها إلى أكثر من عشرين لغة. عرفت بنشاطها الأدبي أيضًا، في تنظيم الأمسيات والمهرجانات الشعرية، من بين أعمالها: «ورقة ضائعة بين الحشود» و«بيت مطلي بالأزرق».

عودة

أظنني سأبقى

أظنني سأدفنك

أو أدفن نفسي

كيرين آن، نوليتا

جسدك مستهترٌ مثل جُرف.

تخرج من عمارة كي تصطدم بحائطٍ أبيض،

من حولك يصعد صمت أشجار ترمش بأعينها.

كُرة ترفعها الأنفاس

تتعانق في داخلها احتكاكات قيثارة

علك ورديٌّ فاقع لونه في داخلها.

وتشعر أنك في جوف فم.

ترى النظرات تتهاوى مثل دومينو،

حشد قطارات يجر حيوانات، بحجم دود الأرض،

تحدق إلى الأيادي

كما لو أنه لا يسعك أن

تبتعد من واجهة الحياة

التي لم تفتح عينها.

تخرج من عمارة كي تصطدم بحائطٍ أبيض،

كل شيء يُشبه البدايات،

أمامك تنتصبُ أنياب من جبس

الريح تستريح على طرف الفص

تستشعر حركة الباب الخفيفة،

والرواق زلج.

كما لو أن يديك تمسكان بمثانة دائرية،

تود ملْأَها بصوت يعزي الماضي،

من أجل الوديان التي تُرافق الناس

مثل درابزين، يوشوش في البرد

وتحت تقوسات الأكتاف الهشة،

تخرج من عمارة بجسدٍ هزيل، موشوم بحلقات

تطلق عليك المدينة آلاف أقواس قزح مثل رصاص

تطلق عليك سماءها الناعمة.

اليوم الرابع

عابرات بأردية بيضاء، مندسات في حشد طافح،

يوشوشن بين كلب وذئب.

يصطففن في حلقات، على حائط المدرج.

عابرات بأردية بيضاء، تهزها الريح،

فتتلون بلون المطر الشفاف. عابرات لا وجه لهن،

يوشوشن مثل قبيلة السكر.

في اليوم الرابع، ما بين كلب وذئب،

ينبسط الليل بأكمله ويتكور،

ضمادة متموجة بلون المستشفى

تبحث عن وجه لتضمده.

كما لو أن أبولينار قد مات

مجردًا في ساحة المعركة.

أوشحة السكر تسوط بلاط الصمت

قبيلة القطرات، محاصرة في كبيبة،

تدور في حلقات حول كلمات ضائعة.

من أجل عينيك تُخاط جراح

هذا المدرج المبلل مطرًا، الذي ضفرته

أشعة لامعة من مطر ثقيل

يهطل علينا.

مينوتور

جسده الفولاذي ذو رجلين كحلاوين يتمدد

على ملاءة ناعمة بيضاء من دون أن ينفك

عن التعرق. لسانه الثخين يصم

أذني، يسلخ أوتار ظهري النائم.

عضلاته ترقص لذة،

من غير أن يغفل عن الساعة، التي تدق،

معلنة قطار اليوم القادم، رغم المتاهة.

بدنه لم يعجن من دانتيل الوقت

الأنيق الذي يستفرد بأيامنا الحميمة.

المينوتور يلحس رضاي، يمص عقلي، يتخيل

نفسه في السنين الفائتة.

لم يدون شيئًا. لا شيء مكتوب، تحت الشمس المُنبسطة.

لا يسعه أن يؤازر يدي

النائمة. الخواء من حوله محتجز، أسمع

العباقرة يوشوشون أن هذه الملحمة المحكية عنه، على الرغم

من شيوعها على يد ناشر صغير، فإنها

أفضل الملاحم. هم أيضًا

أرادوا أن يصيروا مينوتورًا يملأ العدم،

بدل أن يكتبوا كتابًا.

مونيتورًا من جسد عارٍ يقف منذ الأزل

على طرف، على باب الأدب، يُطالع

أنطولوجيا قصص إيروتيكية.

يحصل أن أمد له يدي البيضاء والفاحمة

بدل خيط ثوبي الأحمر الذي تعود عليه، من دون

أن أعرف من أكون، وأعلمه اللغة. لعلنا

نفلح في لعق جراحنا في هذه الأيام الحارة الثقيلة.

أو ألاحظ حركتي عبر المتاهة

تجري بفضل قصب سكر مبرقش،

بينما في فمه، تنحني زهرة نرد سمراء قاتمة

من لغة تعلمها في الحين، من مكعبات صلبة.

أوراكه دلكها بتباهٍ،

في المتاهة أيضًا، ندرك أنها

كتابة تامة.

عدا ذلك – جسد صلب، وعكس

ما هو متوقع: أصابعه

من حرير. أذناه صغيرتان

لا تتفاهمان سوى مع

المتاهة المعقدة التي لا أحد –يصرخ بداخلها–

هكذا سيكون، هكذا يكون

لا يمكن الإمساك به.

صوت المينوتور يرن في الآذان، لو غادر

نطاق السمع، مثل أريان على جزيرة،

صرخة في السماء، كما لو أنها لم تُخلق.