الفراشة

الفراشة

لحظات‭ ‬وجاءت‭ ‬عربة،‭ ‬نزل‭ ‬منها‭ ‬رجال‭ ‬ثلاثة‭ ‬بحذر‭ ‬شديد،‭ ‬اتجهوا‭ ‬ناحيتي،‭ ‬دنوا‭ ‬مني،‭ ‬انقضوا‭ ‬عليّ،‭ ‬قيدوا‭ ‬حركتي،‭ ‬ألبسوني‭ ‬القميص،‭ ‬ساقوني‭ ‬إلى‭ ‬العربة‭ ‬وسط‭ ‬همسات‭ ‬العيال‭ ‬المتشفية‭: ‬

ـ‭ ‬مجنون‭… ‬مجنون‭…‬

كنتُ‭ ‬قد‭ ‬أتيت‭ ‬إلى‭ ‬الحديقة،‭ ‬أحمل‭ ‬شِبَاكي،‭ ‬عازمًا‭ ‬على‭ ‬صيد‭ ‬الفراشات،‭ ‬صغيرة‭ ‬كانت‭ ‬بالقرب‭ ‬مني،‭ ‬تلهو‭ ‬مع‭ ‬الصغار،‭ ‬تنط‭ ‬الحبل،‭ ‬تتسلق‭ ‬الشجيرات،‭ ‬يعصبون‭ ‬عينيها،‭ ‬يصيح‭ ‬كل‭ ‬منهم‭:‬

ـ‭ ‬ها‭ ‬أنا‭ ‬ذا‭… ‬أمسكيني‭…‬

خَطَتْ‭ ‬في‭ ‬خطوط‭ ‬متعرجة،‭ ‬ممدودة‭ ‬اليدين،‭ ‬يمينًا‭ ‬أسرعتِ‭ ‬الخُطى،‭ ‬تعثرتْ،‭ ‬سقطتْ‭ ‬العصابة‭ ‬من‭ ‬فوق‭ ‬عينيها،‭ ‬رمقتني‭ ‬وأنا‭ ‬أهمُّ‭ ‬بالصيد‭. ‬

جميلة‭ ‬كانت‭ ‬الفراشة‭ ‬التي‭ ‬وقفت‭ ‬على‭ ‬إحدى‭ ‬الزهور،‭ ‬بهرتني‭ ‬بألوانها‭ ‬المتداخلة‭ ‬في‭ ‬تناسق‭ ‬غريب،‭ ‬شدتني‭ ‬بتحويمها‭ ‬الفريد‭.‬

رأيتُني‭ ‬أخطو‭ ‬صوبها‭ ‬على‭ ‬أطراف‭ ‬أصابعي،‭ ‬صنعتُ‭ ‬من‭ ‬نفسي‭ ‬رحيقًا،‭ ‬طارت‭ ‬وحطت‭ ‬بالقرب‭ ‬مني،‭ ‬وقبل‭ ‬أن‭ ‬تكتشف‭ ‬حقيقة‭ ‬رحيقي،‭ ‬كنتُ‭ ‬قد‭ ‬ألقيتُ‭ ‬بشِبَاكي‭ ‬عليها،‭ ‬بفرحة‭ ‬جثوت‭ ‬أتأمل‭ ‬الفراشة،‭ ‬وهي‭ ‬تحاول‭ ‬الخلاص‭ ‬من‭ ‬شباكي،‭ ‬ولكن‭ ‬دون‭ ‬جدوى‭.‬

على‭ ‬مقربة‭ ‬مني‭ ‬نادتني‭ ‬الصغيرة،‭ ‬التفتُّ،‭ ‬حاول‭ ‬العيال‭ ‬منعها،‭ ‬دفعتْهم،‭ ‬أشارت‭ ‬إليّ،‭ ‬ترددتُ،‭ ‬ألحتْ‭ ‬في‭ ‬براءة،‭ ‬لَبَّيتُ‭:‬

‭ ‬ـ‭ ‬أريدني‭ ‬مثلك‭.‬

داعبتُها‭: ‬تقصدين‭ ‬رجلًا؟

ضحكتْ‭: ‬بل‭ ‬صائدة‭.‬

وضعتُ‭ ‬ذراعي‭ ‬على‭ ‬كتفيها،‭ ‬سرنا‭. ‬على‭ ‬دكة‭ ‬رخامية‭ ‬جلسنا‭. ‬حولنا‭ ‬كانت‭ ‬عيون‭ ‬العيال‭ ‬ترقبنا‭.‬

ـ‭ ‬أتريدين‭ -‬حقًّا‭ – ‬تعلم‭ ‬الصيد؟

أومأت‭ ‬مبتسمة‭: ‬يا‭ ‬ليت‭.‬

ـ‭ ‬وماذا‭ ‬ستفعلين‭ ‬بالفراشات؟

ـ‭ ‬أُقبِّلها،‭ ‬ثم‭ ‬أتركها‭ ‬تطير‭.‬

ـ‭ ‬غلط‭… ‬غلط‭…‬

بجانبنا‭ ‬سقطت‭ ‬عصفورة‭ ‬من‭ ‬فوق‭ ‬شجرة،‭ ‬لم‭ ‬تقوَ‭ ‬على‭ ‬الطير،‭ ‬ترتفع‭ ‬قليلًا‭ ‬ثم‭ ‬تحطّ،‭ ‬صاحت‭: ‬

ـ‭ ‬انظر‭.. ‬لنعدها‭ ‬إلى‭ ‬عشها،‭ ‬إلى‭ ‬أمها‭. ‬

ـ‭ ‬اسكتي‭…‬

تقلَّبتِ‭ ‬العصفورة‭ ‬في‭ ‬ألم،‭ ‬دمعت‭ ‬عينا‭ ‬الصغيرة،‭ ‬نظرتْ‭ ‬إليّ،‭ ‬وجدتْني‭ ‬أبتسم،‭ ‬قامت‭ ‬تحاول‭ ‬إعادتها،‭ ‬جذبتُها،‭ ‬وقعتْ‭.‬

هرولتُ‭ ‬إلى‭ ‬العصفورة،‭ ‬حاولتِ‭ ‬الهرب،‭ ‬عجزتْ،‭ ‬بين‭ ‬يدي‭ ‬كانت‭ ‬تنتفض،‭ ‬ربطتُ‭ ‬طرف‭ ‬شبكتي‭ ‬برجلها،‭ ‬بوهن‭ ‬زقزقت،‭ ‬بكت‭ ‬الصغيرة‭: ‬

ـ‭ ‬أعِدْها‭!‬

أمسكتُ‭ ‬بالطرف‭ ‬الآخر‭ ‬للشبكة،‭ ‬شرعتُ‭ ‬أديرها‭ ‬في‭ ‬الهواء‭ ‬كمروحة،‭ ‬صرختْ‭: ‬

ـ‭ ‬دعها‭.. ‬أرجوك‭ ‬دعها‭..‬

حبت‭ ‬نحوي،‭ ‬تعلقت‭ ‬بساقي‭:‬

ـ‭ ‬حرام‭ ‬عليك‭… ‬دعها‭…‬

أشار‭ ‬العيال‭ ‬إليها،‭ ‬أنشدت‭ ‬العصفورة‭ ‬نشيد‭ ‬الاحتضار،‭ ‬علت‭ ‬قهقهاتي،‭ ‬ملأت‭ ‬المكان،‭ ‬اقترب‭ ‬العيال‭ ‬منَّا،‭ ‬عضتْ‭ ‬ساقي‭: ‬

ـ‭ ‬كلبة‭..‬

تمرغتْ‭ ‬فوق‭ ‬نجيل‭ ‬الحديقة،‭ ‬نادى‭ ‬العيال‭ ‬عليها‭…‬

ـ‭ ‬ربنا‭ ‬يعذبك‭ ‬يوم‭ ‬القيامة‭… ‬

ـ‭ ‬غبية‭… ‬عودي‭ ‬إلى‭ ‬لعبك‭.‬

ـ‭ ‬إذا‭ ‬كنت‭ ‬عصفورة،‭ ‬هل‭ ‬ترضى‭ ‬أن‭ ‬يحدث‭ ‬لك‭ ‬هذا؟‭ ‬

ـ‭ ‬قلتُ‭ ‬لكِ‭ ‬عودي‭ ‬إلى‭ ‬لعبك‭… ‬

ـ‭ ‬اتركها‭ ‬أولًا‭. ‬

ـ‭ ‬لا‭ ‬تعكري‭ ‬صفوي‭.‬

ـ‭ ‬ربنا‭ ‬يعذبك‭ ‬يوم‭ ‬القيامة،‭ ‬يا‭ ‬رب‭ ‬تدخل‭ ‬النار،‭ ‬يا‭ ‬رب‭ ‬تدخل‭ ‬النار‭.‬

ركلتُها،‭ ‬خربشتني،‭ ‬همَّتْ‭ ‬بعضّ‭ ‬يدي،‭ ‬رأيتُني‭ ‬أُمسك‭ ‬بها،‭ ‬أهزها،‭ ‬أطبق‭ ‬بيدي‭ ‬على‭ ‬رقبتها،‭ ‬اندفع‭ ‬العيال‭ ‬إليها،‭ ‬خلصوها‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬يدي،‭ ‬لكن‭ ‬جسدي‭ ‬لم‭ ‬يسكن،‭ ‬وهديري‭ ‬لم‭ ‬ينقطع‭: ‬

ـ‭ ‬مجرمة‭… ‬مجرمة‭…‬

لحظات‭ ‬وجاءت‭ ‬عربة،‭ ‬نزل‭ ‬منها‭ ‬رجال‭ ‬ثلاثة،‭ ‬بحذر‭ ‬شديد‭ ‬اتجهوا‭ ‬ناحيتي،‭ ‬دنوا‭ ‬مني،‭ ‬انقضوا‭ ‬عليّ،‭ ‬قيدوا‭ ‬حركتي،‭ ‬ألبسوني‭ ‬القميص،‭ ‬ساقوني‭ ‬إلى‭ ‬العربة‭ ‬وسط‭ ‬همسات‭ ‬العيال‭ ‬المتشفية‭: ‬

ـ‭ ‬مجنون‭… ‬مجنون‭…‬