قيس الزبيدي: السينما العربية تمارس التغييب عن الواقع

قيس الزبيدي: السينما العربية تمارس التغييب عن الواقع

بعد أن أنجز قيس الزبيدي المونتاج لفلمي التسجيلي «حلب مقامات المسرة»؛ الذي قمنا بتنفيذه في بيته في برلين؛ أجريت قبل مغادرتي له ولبرلين؛ حوارًا سينمائيًّا مسجلًا بقي داخل الأشرطة لسنوات طويلة… أعتقد أن هذا الحوار يتيح الفرصة للإطلال على تجربة هذا السينمائي؛ وعلى تصوراته السينمائية؛ وآرائه التي – كما أعتقد – لا تزال راهنة؛ وتحمل الأهمية حتى اليوم، وبخاصة لبلدان عربية قررت أن تلج مجال الإنتاج السينمائي الوطني. لذلك قررت الإفراج عن هذا الحوار للمرة الأولى.

يبدأ قيس بالقول:

«إن رؤيتي كسينمائي لأي فلم عربي جديد؛ تقوم على مدى القدرة في السيطرة على وسائله التعبيرية وإدارة الممثل. من هذا المنطلق أراه خطوة متقدمة أو متأخرة؛ في موقعه ضمن وضع السينما العربية».

● أتقصد أن أي فلم عربي جديد؛ لا ينفصل بالنسبة لك عن وضع السينما العربية؟!

فعلًا! تقييمي لا ينفصل عن نظرتي للوضع العام للسينما العربية.

أنظر للفلم متسائلًا إلى أي مدى يطرح هذا الفلم «موديلًا» جديدًا عبر الوسيط السينمائي؟! وهل من الممكن الاستناد إليه ليكون مفيدًا في دفع عملية التعبير لدى السينمائيين العرب ولدى المتلقي؟! فلمك «الليل» كموديل؛ أهم من فلمك «أحلام المدينة » مثلًا! هذا ليس انتقاصًا من «أحلام المدينة» كموديل أو كأهمية! لكن «الليل» أكثر أهمية في السينما العربية. لقد قدمت السينما التسجيلية في العالم؛ نماذج متطورة جدًّا؛ كان لها تأثير كبير في السينما الروائية؛ ليس بتناول المادة؛ أو الموضوع؛ إنما بالأساليب والأشكال والصياغة الجديدة في التعبير. وانعكس هذا على الأعمال الروائية. فإذا لم يتسنَّ للرؤية الدرامية أن تتعامل مع مادة تسجيلية؛ وتكتشف غناها وتحافظ على الصدق والأمانة؛ فهذا يضع هذه الرؤية أمام مشكلة! ها نحن معًا الآن حاولنا «فهم» المادة التسجيلية التي صورتها حول صبري مدلل؛ والمصورة ضمن تصور روائي؛ بهدف رسم «بورتريه» لصبري مدلل؛ كشخصية روائية في الفلم التسجيلي.

● لقد اعتمدت في تحقيق هذا الفلم تصورًا روائيًّا لبناء فلم تسجيلي. والبنية الروائية مستمدة من التماس مع الشخصية المصورة.

هناك حالتان وطريقتان أو منهجان للتعامل مع الواقع: إما الواقع كما هو في وضعه اليومي! أو أن نصنع له موديلًا فنيًّا؛ نتعامل معه يحاكي الواقع؛ لكنه ليس هو الواقع.

في الفلم التسجيلي يكون الموديل واقعيًّا والتعامل معه فنيًّا. وبالتالي فإن العلاقة تعود إلى ما يحاكي الواقع والواقع ذاته. الموديل في الفلم الروائي هو موديل مبتكر! مصنوع ليعالج فنيًّا؛ ليس لأنه فقط موجود في الواقع؛ وينتهي حينما ينتهي تصويره.

من فلم «الليل»

حين تصور صبري مدلل مثلًا؛ وينتهي التصوير فإن حياته تبقى مستمرة. الآن إلى أي مدى تستطيع أن تصنع أنت موديلًا يكون له علاقة بحياته الفنية والعائلية والاجتماعية؛ فهذا سيكون شكل من الأشكال. ولا يفقد الميزة الأساسية للفلم التسجيلي؛ أي كشيء موجود في الواقع؛ بغض النظر عن المعالجة، أما في حالة أن أرى فلمًا وأتعرف على شخوصه بينما هم ليسوا في الواقع؛ فهنا نبتعد عن الصدق والأمانة. الحقيقة هنا خط أحمر… حبن شاهدت فلم «صبيان وبنات» ليسري نصر الله؛ اكتشفت أن استخدام الروائي في التسجيلي قد جعلني أغير من نظرتي لطبيعة المشكلة؛ يعني أن الشيء الذي شاهدته في الفلم هو شيء ليس موجودًا في الواقع. السؤال إلى أي مدى يستطيع الفلم التسجيلي إيجاد شكل فني؛ لخلق موديل لظاهرة واقعية؛ توجد في شكله ومعالجته؛ وتكون قادرة رغم الحرية والابتكار والإبداع؛ على أن لا تغير أو تزيف في هذا الواقع؟!

● أعتقد أن تجربتك التسجيلية – على الأقل في المرحلة التي عملت بها في سوريا – كانت خلالها السينما التسجيلية تسير على المنوال نفسه؛ الذي تناقضه وتنتـقده؛ وهي كذلك إلى اللحظة التي جرى فيها الانتقال من تعبير السينما «الوثائقية» إلى مصطلح «السينما التسجيلية». وانضويت أنت وغيرك من السينمائيين السوريين آنذاك تحت هذا الشعار. بمعنى أن السينما التي يصنع صانعها موديلًا فنيًّا لنفسه؛ ويحاول أن يجر الوثيقة وفق الموديل الفني؛ ليعبر عن الواقع ولا يزيفه. إضافة لذلك فإني أتساءل عن مفهوم السينما الوثائقية؛ دون أن يكون للمؤلف موديل فني.

قانونية الظاهرة وشرعية المنهج؛ قضايا ليس لها علاقة بوجود موديل فني فقط؛ إنما بوعي الموديل! وإلى أي مدى يكون الموديل قادرًا على أن يحتوي الظاهرة.

● حين تراقب شخصًا في يوم من حياته؛ تحتاج إلى 24 ساعة. وأول مسألة تحتاجها هي أن تختزلها في ساعة واحدة. فما المحطات التي تختارها؟ وما مدى درايتها في التعبير عن هذا اليوم؛ وهل هذا اليوم الذي اخترته يوم عادي وغير مهم؟

قد تلجأ إلى تشكيل هذه الـ 24 ساعة ليس من يوم واحد؛ بل من أيام خلال سنة. وهنا البناء الدرامي هو الموديل. في الفلم الروائي يجب أن تعمل وفق تصور درامي وجمالي. أما مسألة إعادة البناء؛ وإعادة إنتاج الحالات اليومية بشكل تمثيلي؛ فإن هذا سيكون تمثيليًّا. فكما صنع آيزنشتاين السينما الروائية بشكلها الجديد؛ فإن يوري إيفانز هو الذي صنع للسينما التسجيلية شكلها الجديد؛ وفتح الباب كما بريخت في المسرح؛ لصناعة موديلات أخرى على نفس المنوال المذكور. فحين ذهب يوري إيفانز ليصور مظاهرة عمالية، ووصل متأخرًا عن المظاهرة التي كانت قد بدأت، فقد اتفق مع النقابة باعتباره نصيرًا لقضاياهم؛ أن ينظموا له مظاهرة ليصورها. فأعادوا تمثيل المظاهرة لكن تدخل البوليس جعل المظاهرة الممثلة حقيقة.

● هل نعد السينما التسجيلية التي حققتها مع بعض السينمائيين السوريين؛ قد انطلقت من الواقع والتعبير عن الواقع بصورة وثائقية؛ أم انطلقتم من موديل في أذهانكم؛ وكان في الغالب فكريًّا وأيديولوجيًّا فأسَّستم لأنفسكم سينما سمَّيتموها تسجيلية؟! هل يمكن أن نلقي نظرة على هذه السينما بمنظور اليوم؟!

إذا كنت أريد أن أختار قضية من الواقع لأتحدث عنها؛ فأنا لا أقف عند جانب أو شكل أو عنصر أو منهج يحددني؛ إلا إذا كان هذا الشكل أو العنصر أو الطريقة تغير في طبيعة الموضوع؛ وتصنع منه شيئًا آخر. إن هدفي دائمًا استخدام كل شيء ممكن بدون حدود. فالأساس هو الموضوع. قد يجوز أن أكتشفه بشكل أكبر أو أكثر أو أعمق؛ من خلال تماسّي مع الواقع. ولكن باعتبار أن السينما هي لغة الدال والمدلول؛ وأن الأشياء في السينما بتجاورها وتداخلها تأخذ دلالات ثانية. فالأشياء التي أراها في الواقع؛ تأخذ في الوقت نفسه دلالات جديدة؛ وهذا أساس التعبير في السينما التسجيلية.

في السينما الروائية نحن لا نرى الأشياء الواقعية؛ ولكن عبر الأشياء الواقعية يحاول كل فلم أن يخلق دلالاته ولغته؛ فأنت تستطيع أن تعيد بناء العلامات في الفلم الروائي وفق ما تراه؛ إذ إن الفلم هو تصور عن الواقع وليس الواقع ذاته. في الفلم التسجيلي أستمد التصور مباشرة من الواقع؛ بعدها يتشكل لدي التصور الفني عن هذا الواقع. في المرحلة التالية يكون عملي مركبًا. من جهة يكون العمل على هذا التصور بشكل فني ودرامي؛ كما تفرض علي طريقة التصوير. بعدها لا يمكن أن أشكل الأشياء وأغير الجغرافيا وأحرك الناس كما أشاء، أثناء التعامل الفني في تشكيل هذا الواقع.

تطوير المنهج والوعي به

● تحدثت عن أن السينمائي يعرف دائمًا دلالات الأشياء؛ ويعرف أيضًا أن يربط بين المادة المصورة ليخلق منها دلالات جديدة. ألا ترى معي أن الموديل الأيديولوجي في عقله؛ والخبرة الحرفية التي لديه؛ تقوده إلى موديل أيديولوجي أكثر منه موديلًا واقعيًّا! بالتالي إن السينما التسجيلية لم تكن مرة سينما تسجيلية! بل كانت كما عبر عنها أي سينمائي ضمن مرجعية أيديولوجية أو تعبيرية خاصة به كسينما مؤلف. هذه قضية مهمة؛ تتطلب إعادة النظر بالتسمية؛ سواء كان الفلم رؤية ذاتية مستمدة من الواقع؛ أو كان تسجيليًّا يصور الواقع بمرجعية ذاتية أو أيديولوجية؛ فما الفرق؟ إذا كانت في آخر المطاف سينما ليس لها علاقة إلا بمؤلفها.

هذا صحيح! لكني لخصت التيارات الموجودة. وبالرجوع إلى المصادر؛ هناك ثلاثة تيارات. وما تقوله أنت هو واحد منها. أعتقد أنك تتذكر ما يسمى «سينما الحقيقة» التي كانت تستبعد المونتاج باعتبار أن المونتاج هو شكل من أشكال التزييف. فنشأ عن ذلك؛ شيء جديد هو اللقطة المشهد؛ حيث تتابع الأشياء؛ ولا يتغير المكان؛ وتستمر اللقطة دون انقطاع. كانت هذه محاولة الأمانة للواقع؛ وقد لعب هذا دورًا في الأربعينيات. لكن النقطة المهمة في تلك الفترة؛ التي كانت نقطة تحول وحققت شيئًا جديدًا؛ هي طريقة أفلام وكتابات آيزنشتاين؛ وبخاصة بعد ما حققه أورسون ويلز في فلم «المواطن كين» واستخدامه للمونتاج البصري داخل اللقطة ذاتها؛ وتجاور الأشياء داخل اللقطة؛ ليس من خلال المونتاج الأفقي كما فعل آيزنشتاين. طبعًا آيزنشتاين كانت له أسبابه؛ ليس فقط الفكرية والبصرية؛ بل أيضًا التقنية؛ التي فرضت عليه خياراته المونتاجية. وما كان يسمى المونتاج الأفقي؛ والتتابع والمونتاج العمودي الذي ظهر بشكل واضح في فلم «المواطن كين». كانت المشكلة في الفلم التسجيلي أيضًا؛ والتطور التقني لعب دورًا أيضًا؛ ما دفع لتحقيق أفلام صادقة تعبر عن الواقع؛ من دون تدخل أيديولوجي لقولبة الواقع.

لم يكن الوصول لذلك إلا عبر تطوير المنهج ووعيه. حين شاهدت في البداية الأفلام التي تحققت عن فلسطين؛ تبين لي أن الذين يحققون هذه الأفلام يحققونها من دون وعي للمنهج.

● على صعيد السينما التسجيلية في سوريا؛ هل نستطيع أن نقول: إنها لم تعبر عن الواقع بل عن مواقف مسبقة من الواقع؟

سؤال يصعب البت فيه! وهي في الحقيقة ليتها كانت أيديولوجية. بمعنى لم يكن الموقف من الواقع تامًّا. كان هناك ثمة شيء مشترك بيني وبين بعض السينمائيين التسجيليين هو «المنهج» والموقف من الواقع.

● يمكننا أن نتساءل هل كان هناك سينما تسجيلية في سوريا مثلًا؟

في رأيي لم يكن! لكني عمليًّا؛ كما أتذكر؛ فإني بعد أن عدت من الدراسة في ألمانيا؛ واشتغلت في سوريا؛ كنت أدرك أهمية السينما التسجيلية؛ ليس من أجل الواقع؛ بل من أجل السينما العربية ككل ومن أجل السينما في سوريا في تلك الظروف. السينما في العالم نشأت وبدأت أصلًا كسينما تسجيلية؛ وكان هناك دائمًا هذا التزاوج والتداخل بالخبرات وبمعرفة الواقع؛ وانعكاس هذا الواقع في السينما التسجيلية والروائية ضمن أساليب ورؤى متعددة ومختلفة. لم يكن هذا متوافرًا لدينا. ففكرت أن الذي يستطيع تغيير هذه المعادلة هو الاتجاه نحو الواقع وكشفه عبر الفلم التسجيلي. وتعليم المتلقين لهذه السينما لدينا؛ أن يقبلوا فكرة أن الفلم يتناول ويعالج الواقع. السينما عمومًا وبشكل خاص العربية والمصرية تغيبك عن الواقع. والمتفرج العربي حين يذهب إلى صالة العرض؛ فهو يذهب ليس ليرى الواقع… لقد كنت واثقًا تمامًا أن الجمهور يرى الفلم ليهرب من الواقع. وأنه إذا دخل ليشاهد فلمًا تسجيليًّا يمكن أن يغادر الصالة. فاعتقدت أن طريق السينما العربية يجب أن يتأسس ويمر عبر جسر السينما التسجيلية.

● هل كانت هذه نظرة تكتيكية؟!

لا! أبدًا! كانت نظرة تأسيسية. لكن تصادف هذا مع عودة المخرج عمر أميرالاي من دراسة السينما؛ الذي منذ أن عاد كان قد اختار أن يكون سينمائيًّا تسجيليًّا. لم يكن عمر مثل بعض آخر من السينمائيين العائدين من الدراسة. الذين كانوا يعتقدون أن عليهم أن يحققوا فلمين أو ثلاثة قصيرة؛ ومن ثم الانطلاق إلى السينما الروائية، وينهوا علاقتهم بالسينما التسجيلية التي كان تصورها غائبًا بالنسبة لهم. أنت تعرف أن بعضًا ممن قدموا بعض النماذج التسجيلية الجيدة؛ ما أن حققوا فلمهم الروائي الأول؛ حتى كانوا يعتبرون أن علاقتهم بالفلم التسجيلي قد انتهت. دعني أصارحك بأنك أنت حالة استثنائية ومختلفة. لقد كان لديك مسعى خاص كمؤلف، وتصوُر يرى أن السينما سينما بذاتها؛ سواء كانت روائية أو تسجيلية. وليست تلك الأفلام التسجيلية التي حققتها وحدك كـ«حلب مقامات المسرة»؛ أو بالتعاون مع شريكك عمر أميرالاي كفلم «نور وظلال» أو «مدرس»… كل هذا ليس مصادفة. لقد خرج عمر أميرالاي من معطف ثورة الطلبة 68؛ وعدت أنت من دولة اشتراكية؛ فالأيديولوجيا ليست هي التي جمعتكما. ربما كان للأيديولوجيا بنسب مختلفة؛ دور في تلاقينا. لكن ما جمعكما وجمعنا هو السينما. في المرحلة الأولى فكرت في الفلم التسجيلي؛ وكان بالنسبة لي هو «الحياة كما هي»، وأن الأيديولوجيا وسيلة للاقتراب من الواقع وفهمه.

الوسيط الأدبي

من الفلم التسجيلي «بعيدًا عن الوطن»

● ألا يمكن أن نلاحظ من الكتابات النظرية التي نشرتها؛ وتلك التي ساهمت فيها؛ والتظاهرات السينمائية التي أقيمت آنذاك؛ ما يجعلنا نستنتج أن النظرة التسجيلية لم تكن تأسيسية. السؤال: أهي مطية، أم هدف أيديولوجي؟! أرجو أن تجيبني بروح من النقد الذاتي يا قيس!

حقًّا وللدقة!. بدأت الحكاية منذ أن قرأت روايات غسان كنفاني! «عائد إلى حيفا» و«ما تبقى لكم» و«رجال في الشمس». وانتبهت لطريقة السرد عنده، وقضية الزمن وتداخله، وتعدد الرواة. كان ذلك يعني بالنسبة لي وجود كل «الموديلات». واكتشفت السينما عند غسان كنفاني. قد يكون السرد الأدبي جاهزًا؛ رغم أنه لغوي أو وصفي. لكن هذا وكما عبر عنه آيزنشتاين منذ زمن بعيد بقوله: «نحن في منطقة مليئة بالكنوز؛ ولم نكتشف إلا الشيء اليسير من هذا الكنز». هذه الحقيقة إذا فككناها الآن؛ وفق الطرق الحديثة؛ فإن آيزنشتاين كان يعني مفهومه لـ«اللغة السينمائية». ويعني الاعتراف بطبيعة الوسيط الأدبي. أما الوسيط السينمائي فهو البحث ليس عن الأشياء الجاهزة؛ بل عن الخفي والخاص بك.

● كي ننصف آيزنشتاين فقد كان لديه إيمان كبير بهذا الكنز؛ وبهذا الوسيط السينمائي الذي يتضمن كل الدلالات الممكنة إلى الدرجة التي قد تكون قادرة على إيصال تجريدات الفلسفة.

فعلا! لو أخذنا فلمه «المدرعة بتيومكين» أو «أكتوبر» فهما خزان هائل جدًّا! لقد كان «المدرعة بتيومكين» ينتمي للسينما التسجيلية بدرامية ما؛ وهو عبقرية نادرة حتى في خياره لنمط البناء الذي ابتكره لهذه الدراما. وهو أيضًا أحد أشكال ما يسمى التلاعب بالزمن؛ الذي يندرج في الحكاية وبزمن السرد. فزمن السرد في مشهد سلالم أوديسا في فلم المدرعة بتيومكين كما نتذكر؛ كان أطول من زمن الحالة الواقعية للسلالم. اكتشف آيزنشتاين هذا المفهوم للزمن السينمائي بعبقريته. في هذا المشهد لدينا من يركض هابطًا ومن يلاحقهم؛ وكان من الممكن تصويره بلقطة واحدة؛ لكنه كان يبني زمنًا سينمائيًّا خاصًّا؛ هو زمنه. ويبني الحقيقة السينمائية لزمن السرد. كان لغسان كنفاني في أدبه علامات سينمائية؛ وكان لديه نظام علامات أدبي صرف. فكان يبني زمنه الخاص للسرد الأدبي في رواياته. مثلًا تقرأ مونولوج داخلي؛ وراء مونولوج؛ ثم آخر لا ينتمي للشخص الأول؛ ثم الآخر؛ فتقرأ ذلك كمن يحادث نفسه؛ ويحاورها أو يحاور الآخر.

يقول بازوليني: إن «كتابة النص السينمائي هي بنية من أجل بنية ثانية؛ وحين تتحقق البنية الثانية تذوب فيها البنية الأولى».

● هل يمكن أن نحاكم فلم آيزنشتاين «أكتوبر» اليوم بعد سقوط ثورة أكتوبر بموضوعه أم بسينمائيته؟!

القصد أن المحاكمة لا تأتي من القضية؛ إنما من اللغة؛ وهذا الذي يمكن أن يحوله من فلم عن موضوع؛ إلى فلم ينتمي للثقافة العالمية. كما فعل كوراساوا في «راشامون» إذا أخذنا مثلًا فلمك «الليل» فأنت لتبني زمنك السينمائي؛ قد جمعت بين أزمنة مختلفة نراها من دون تدخل من المونتاج في المشهد الذي تحدثنا عنه. في هذا المشهد السينما هي الحاضر؛ وأرى الواقع أمامي؛ ثم يحدث تغيير بالزمن؛ ثم يحصل ذاك التداخل بالزمن حيث زمن منام الأم؛ ثم زمن المحاورة مع الابن وتعليقه لها عن المنام؛ وزمن احتلال القنيطرة من الإسرائيليين عام 67… في هذا المشهد شكل من أشكال العلامات الأيقونية السينمائية؛ التي هي واقعية؛ لكنها تأخذ مدلولات أخرى. هذا يفتح لي إذا كنت أريد أن أعمل فلمًا؛ تجربة التعامل مع الزمن انطلاقًا مما كان قد تحقق؛ لابتكار زمني من جديد. هذا المشهد أعتبره قاموس باكتشاف الدلالات؛ وفضاء الدلالات. ويعطي الجرأة للآخر لاستخدام هذا الفضاء وابتكار دلالات أخرى. نحن إذا أخذنا هذا المشهد ودققنا به؛ كيف كتبته؛ ثم كيف بنيته كمكان؛ وكيف بنيت الديكور الخاص به؛ وكيف اخترت الجغرافيا؛ وكيف حركت الكاميرا لتمسك ببناء المشهد وعلاماته ودلالاته؛ فكل هذا يدل على تصور وعلى نظام وعلامات.

لقد وجدت لنفسي معادلة عملية؛ ترجع إلى تكويني الاجتماعي والفكري والأدبي؛ وهي أن الأفلام يجب أن تعبر عن ثقافة سينمائية؛ وأن هناك مهامَّ أمام السينما التسجيلية والروائية العربية. ليس بالضرورة أن أكون مسؤولًا عن إنجاز هذه المهام؛ لكن لا بد من المساهمة فيها. وأن أساهم مع غيري من أجلها. وبالتالي: لماذا لا أساهم بفلم يحققه سينمائي آخر؟! وبقدر ما تتيح لي هذه الظروف؛ يجب أن أساهم بإنجاز هذه المهمة؛ بذلك أكون قد حققت نفسي أيضًا. وسينتج عن ذلك فائدة ذاتية؛ وتطوير لثقافتي ولفهمي ولتجربتي. كان هذا لدي أشبه بكوني أدافع عن قضية؛ تتبناها ذاتيًّا وموضوعيًّا؛ وهي معشوقتك؛ وتناضل من أجلها؛ بل ربما تدخل السجن من أجلها. الأفلام التي تسعى لمواجهة هذه الإشكالية السائدة؛ هي قليلة ونادرة. كان هذا الجانب من الدور؛ ملتبسًا لدى السينمائيين والنقاد. بالنسبة لي كان السؤال: أي فن نصنعه؟ وأي نوع من الفن؟ وما هي أشكاله؟ وبالتالي ما هي إشكالية هذه الأشكال؟!

● من الذي يبحث عن وطن أنت أم السينما؟!

(بعد تفكير طويل) لقد ألقمتني حجرًا!

● جرحك؟!

نعم! على صعيد روحي ووجداني؛ لقد تسللت إلى داخلي فلمستها بحجرك!

في فلم «الصحراء الحمراء» لأنطونيوني؛ كانت المرأة التي تحاول أن تتكئ على أحد؛ كان الكل ممن تراهم غير قادر على أن يسندوا أنفسهم.

فتصرخ: فورغيت إت! المسح عملية صعبة. يجب ألا يغيب عن روحك؛ إني في كل ما كنت أسمعه منك، كنت أشعر أني أمام المرآة أسمع صوتي الداخلي. أمام كل واحد يا قيس مرايا يرى فيها الآخر نفسه.

● أنت هنا اليوم في برلين التي فقدت جدارها؛ تعيش بعد أن فقدت وطنك ثم ملجأك، من هي برلين بالنسبة لك؟

برلين هي كما تسميها «إمبراطوريتي» التي خلعت عن عرشها.

الإمبراطور المخلوع.. يوميات العمل مع السينمائي قيس الزبيدي

الإمبراطور المخلوع.. يوميات العمل مع السينمائي قيس الزبيدي

قيس الزبيدي شخصية سينمائية بارزة، ساهمت بفاعلية في العمل على تأسيس ونشوء السينما العربية الجديدة، من خلال مجمل الأصعدة الفنية التي تقوم عليها هذه السينما، وفي مختلف المجالات الخاصة بها، وهو ما يدفعني بشعور عميق من التقدير، للكتابة عنه وعن تجربتي في العمل معه على المونتاج. النصوص التي كتبتها في «اليوميات» الخاصة بي، والحوار بيني وبين قيس، والأفلام السينمائية التي تشاركنا في تحقيقها، جرت على مسار أزمنة متعددة ومتباعدة من تجربتنا السينمائية الطويلة.

1996م

صبري مدلل

لإنجاز الفلم التسجيلي «حلب مقامات لمسرة» عن المغني الحلبي صبري مدلل، بعد تصويره في حلب، أقدمت أنا وقيس الزبيدي على مغامرة سينمائية غريبة وبخاصة لمونتاج هذا الفلم. كان مخطط إنتاج هذا الفلم، أن يجري المونتاج في باريس، لكن المبلغ المتبقي لديّ لعمليات ما بعد التصوير، كان لا يكفي ولا يسمح لي أن أنفذ هذه العمليات الفنية في باريس. كان المونتاج هو الجانب الأهم بالنسبة لي لبناء الفلم. وبالتالي يجب علي أن أعطي لنفسي الزمن الكافي لتنفيذه. ولتحقيق ذلك في باريس كان سيتعدى المبلغ الذي لدي. فلجأت إلى فكرة تساعدني على تنفيذ ذلك بتروٍّ وتأمل كافيين، من دون الشعور بالقلق للإمكانيات المالية الضيقة. فكلمت صديقي قيسًا في برلين، واقترحت عليه أن نقوم بعمل المونتاج كــ«ماكييت» في بيته، وبعد عمل هذا الماكييت أعود لتنفيذه في باريس. وأعلمت قيسًا أننا سنضطر للعيش والعمل في بيته، وأن هذا العمل سيجري على شرائط «VHS » مزودة بترقيم زمني، وأننا لن نحتاج إلا للتلفزيون وإلى جهاز عرض VHS فقط.

حملت تسجيلات المواد المصورة للفلم على أشرطة VHS وسافرت إلى برلين.

وصلت إلى برلين في هذه المرة، فلم يكن «جدار برلين» موجودًا، لا في وجهه الشرقي، ولا الغربي، وبرلين غدت «برلين» فقط. وكان قيس قد رحل عن بيته في الشارع المطل على مكتبة بابلو نيرودا، وأصبح يعيش في بيت في الأقاصي البعيدة لما كان في برلين الشرقية. وبالتالي لم يعد يعيش في بيت تملكه الدولة، ويدفع إيجاره الشهري. بل في بيت سيكون ملكه بعد خمس وعشرين سنة، ويدفع أقساط ثمنه نحو ثلاثين في المئة من دخله الشهري. حين وصلنا إلى هذا الحي البعيد، بدا لا يزال يحتفظ بالتشابه المعماري للأبنية الشرقية، لكن ثمة أشياء عديدة في ملامحه قد تغيرت، فجعلته يبدو «غربيًّا». لم يكن ذلك في أبنيته فقط، بل في ظهور المجمعات السريعة للخدمات المحدثة، كان أهمها بالنسبة لي «المول» القريب من البيت، الذي سنجد فيه كل ما سنحتاجه خلال عيشنا المشترك في هذه المغامرة السينمائية.

في أثناء وجودنا معًا، والعيش والعمل في بيت واحد، كان عليَّ -كالعادة- أن أكتب يوميات هذه التجربة.

وفعلتها فعلًا!

6 / 3 / 1996م

نعيش نحن الاثنان في هذا البيت البرليني، وفق الاتفاق بأن نسجن أنفسنا، للعمل يوميًّا. فلا نخرج إلا لشراء الحاجات المعيشية من «السوبر ماركت» القريب، متجنبين قراءة الصحف ومشاهدة التلفزيون، ومحاولة الاختصار باستعمال الهاتف. تجربة هذا التماسّ والمعايشة مع قيس من النوم إلى الاستيقاظ، والحوار والأفعال اليومية، ستوفر لي مادة لأطل على هذه الشخصية من جديد، والتقاط مكوناتها الجوهرية كمعطى بذاته، وليس كما يقدمها هو لك.

كيف ينام؟ أين؟

أين يختار مكان جلوسه، كيف يستقبل مكالماته التليفونية، وكيف يتجول في بيته؟ ماذا يبربر، وبأي الألحان يترنم؟ كيف يستعيد الصور أو يتذكر؟ ومن؟.. ما الأشياء المبعثرة على طاولته؟

لا أعرف لماذا تبدو لي طاولة المثقف أو السينمائي مفتاحًا ما، لشخصيته! لماذا يضع قيس الساعة المنبهة على الطاولة، ويقوم بتدوير صفحتها أينما اتجه في مختلف أرجاء البيت؟ كيف يتعلق بكتاب؟ ولماذا؟ لماذا تعلق في أثناء وجودنا معًا، بكتيِّب عن الفاكس نهارًا كاملًا، وأنا على نار، مغتاظًا من هذا التلهي وضياع الوقت. لماذا يسعى دائمًا لأن يضع الفاكس على أهبة الاستعداد لاستقبال الرسائل، لكن الفاكس لا يرن. وكيف كان يستخدم «السيشوار» لتبريده علَّه يرن.

الحمَّام تتناثر فيه الأنواع المختلفة من معاجين الأسنان، والكريمات والدهون الأخرى، وأنواع لا حدود لها من المنظفات المختلفة والصالحة لكل أنواع وأشكال التنظيف… وبدا لي أن كل شيء في الحمام له ذاكرة ما.

(كان كل شيء يذكرني طبعًا، بأيام العز التي عاشها، أيام ألمانيا الديمقراطية، التي عرفته خلالها سابقًا في تعاوننا المشترك بمونتاج فلم المنام).

حتى هو نفسه كان ثمة شيء مختلف عما كانه. ربما لا تزال تلك الألفة، لكن الألق غدا موجة تظهر وتختفي، أما الإشراق فقد اختفى! ترى العمر؟ لقد نحل قليلًا، وتساقط الكثير من شعر رأسه. وبدأ الباقي منه يفقد شيئًا من لونه. لكنه لا يزال طويلا وحيًّا.

من الواضح أيضًا شعوره بشيء من الوحشة، والإحساس بالوحدة. يبدو أن الكثير من الأصدقاء من النساء والرجال، قد انكفأ أو رحل أو مات، وبخاصة الأصدقاء العراقيون الذين فيما يبدو قد عادوا إلى العراق، أو تناثروا في أماكن أخرى من المهاجر الأوربية.

لم يبقَ لقيس إلا أن يحتفظ بدفاتر أرقام التليفونات القديمة المتناثرة في الزوايا. فتلك الرفاهية العالية التي كان يعيشها قد خبت. ربما هذا ما دفعني إلى أن أصفه اليوم بأنه أشبه بــ«الإمبراطور المخلوع». لكنه هذه المرة بدا لي إنسانًا مفصحًا عن طيبته بوضوح أكبر، أقل عقلانية، عاطفيًّا، واكتشفت أن ثمة طفولية خفية، لم أستطع أن أدرك: هل كانت من قبلُ، أم ظهرت الآن؟!

أحسست أن هذه التفاصيل المتناثرة في أنحاء البيت، كم هي قادرة على أن تروي «تاريخ» الإنسان، وفي الوقت ذاته أن تستعيد سمات حقبة زمنية، وعصر آفل. كل ما في هذا البيت مادة للتأمل، ولدي ما يكفي من الوقت؛ لإعادة اكتشاف شخصية في خضم الكهولة في عصر الاشتراكية الراحل.

(التواليت المصنوع بقوة وقد «عوجه» الزمن. المجلى الرصين والمتين ما يزال يقاوم دون أي تغير فيه. في خزانة المطبخ بقايا من صحون مختلفة بألوانها وزخارفها. كأن العصر الاشتراكي يختبئ في زاوية من زواياها، ويرفض هجرها. الفناجين العتيقة التي فقدت صحونها وكفت عن البحث عنها. أما الجديد فهو الأنواع اللانهائية من أكياس النايلو المختلفة الشعارات والإعلانات التي تعلن عن عصرها).

قبل أن نبدأ بالعمل، أخذ يبوح لي عن نفسه، بانفتاح نادر، ويصارحني بأنه يشعر، بما كنت قد لمسته في نظرتي إليه، وتصوري للبنية الداخلية لشخصيته، التي تشكلت نتيجة لممارسته المونتاج طويلًا، فأخذت هي ترسم عيشه وتفكيره، وتعامله مع الأشياء، ومع الناس والعالم الذي يعيشه.

هذا المنظور المأساوي ذو المذاق السينمائي، بدا لي كأننا نكتب لفلم لا مونتاج له. فقال بألم: «لقد أخذني المونتاج من حلمي الروائي… لم أعد أرى الأشياء، إلا من خلال أفلام الآخرين التي أشتغل بها!

إن عالمي الداخلي يمنتج هذه الرؤى، ويصنع منها بطاقات، ثم يرتبها ويلصقها بجوار شاشة النفس، ثم أعيد ترتيبها لأبني عالمي الداخلي من خلالها وأرمي بالكثير في سلال النسيان».

أحس بتلك اللوعة في داخله. وأتساءل مع نفسي: هل هو المنفى؟ أم الحرمان من العودة إلى الذات! أضاف: «أنت تعبر عن نفسك مباشرة!

أما أنا فأعبر عن نفسي من خلال القصاصات المصورة التي تمنتجها الذات أو الزمن! لقد ضمر العالم الذاتي ونما العالم الذهني والمونتاجي».

في تلك الليلة لم أستطع النوم. فأمسكت بكتاب في مكتبته، وقرأت عن الجدل الذاتي بين النص المحكي والنص المكتوب، في كتاب جاك دريدا: «أطياف ماركس».

حيث يقول دريدا: «لقد مارس ماركس الكتابة ليجد لنفسه فكرًا، فاستولت عليه وصارت هي الفكر».« وأخذ يرى العالم لا من خلال ما يخبر به العالم عن نفسه، ولكن من خلال ما تصنع الكتابة فيه».

يقول دريدا أيضًا: «الكتابة تستدعي ما لم يقل، وما لم يفكر به، لكي تتخذ من نفسها شاهدًا وحيدًا لا يشاطرها في مضمونها شيء».

إذن الكتابة قبضت على الفكرة… بهذا المعنى يمكن القول: «لقد صيَّرت الكتابة ماركس ظاهرة نصية، فانداح في عالم الفلسفة حاملًا جنازة الصوت ومرتديًا سواد الحرف».

16 / 3

فلم «التضحية»

بعد حوالي عشرة أيام من محاولات العمل، بهذه الطريقة البدائية التي اتخذناها لمونتاج الفلم، والتسجيل على الورق للأرقام التي تحدد من أين نأخذ اللقطة، وتوقيتها، وأين يجب قصها. ويسجل قيس على بطاقاته الخاصة التي يعلقها على الجدار المجاور لجهاز العرض وتسلسل وترتيب اللحظات المختارة من الكاسيتات المرقمة. دون أن نكون تقنيًّا قادرين على أن ننفذ ذلك، أو مشاهدة اللقطات مع بعضها، وكان علينا أن نتخيلها فقط، وأن نتخيل الفلم كما سيكون. فقد كان بريخت حاضرًا في كل نأمة، وفي كل حركة لقيس. منذ أن يفتح عينيه في الصباح، وينظر إلى العالم ويفكر قليلًا… ثم يلتفت إلي وأنا وراء طاولة الكتابة. فيسألني:

ماذا تفعل؟ أفكر! فيقول: «يقول بريخت التفكير يعني التغيير»… هل سنغير في ما عملناه في المونتاج بالأمس؟

ثم ينهض إلى الحمام وهو يقول: لقد حققوا من فكرة «التفكير هو التغيير» فلمًا! ويطلق من دون أن يفتح عينيه، اسم الفلم الذي حققوه بالألمانية. يخرج من الحمَّام وهو يدقق العبارة التي قالها قبل أن يدخل، حول أن التفكير يعني التغيير. ويتابع كلامه وهو يتجه إلى المطبخ، ويضع غلاية القهوة على النار وهو يقول: أصلًا هلَّا اكتشفت المعنى!

لأن بريخت يقول ذلك، وهو لا ينظر إلى الفكرة كفكرة أو كلام، بل كـ«بروتسيس – سياق»!

لاحظ يا محمد! بريخت لا يرى الفكرة كمعنى ومفهوم في الماضي أو الحاضر… بل بما يجب أن يكون عليه المعنى في المستقبل. هذه القراءة الآن اكتشفتها، والآن فهمت أكثر ما يقصده بريخت.

تصور أن العرب يقولون: «من راقب الناس مات همًّا».

يقترب قيس من الطاولة حيث أجلس، ويطل على دفتري، فيسألني: شو قلت أنا؟ والله نسيت! ثم يلملم سريره وهو يغني شيئًا من أغنية صبري مدلل في فلمنا «أنا لي إله ينصفني…!»

يعدّ لنفسه قطعة خبز ليأكلها قبل القهوة، ويحمل فنجانه ويتجه نحو الطاولة المجاورة لسريره.

كانت تلك الطاولة كالمعتاد عليها بقايا الأمس والنظارات والساعة المنبهة والريموتات كونترول، وعدة كتب يتصفحها قبل النوم.

في النهار قرأ لي أوراقًا قديمة كان قد كتبها عن فلم «لون الرمان» لبارادجانوف عن البناء العضوي والبناء الأفقي في الفلم. ثم التفت إلي وقال: هذا كبناء الأيقونات.

حين أدرك إعجابي الشديد بفلم «لون الرمان» وذاكرتي عنه… ارتبك قليلًا في القراءة، وأحس بأن الأفكار التي كتبها قد تقادمت بشكل ما.

فقال: دعني أتصفح ما كنت قد كتبته، وأفهم أنا أولًا… ثم أخذ يقرأ… وقال: فكما تريد أنت أن تفعل، وتصنع مع صبري مدلل البريختي الأصيل، ذاك التزامن بالصورة عبر«المينياتور» الذي صورته في بداية الفلم.

ثم أضاف: الزمن مفتاح كل شيء. وكما يقول لوكاش في نظرية الرواية بأن «الزمن هو الصانع العظيم للمفارقة اللاذعة». ورمى لي مقالًا كتبه عن «الفلم السياسي مرة أخرى». ثم مقالًا حول أثر الفلم التسجيلي في الفلم الروائي، وكيف استفاد كل منهما من الآخر.

وحين شاهدني أكتب ما يقول صمت… وبدأ العمل من جديد. فكنا نرى لحظتها اللقطة المصورة لصبري مدلل ذات تلك الأرقام، نتوقف، نناقشها، ثم بعدها إما أن نرميها إلى النسيان أو نسجل على الورق رقم اللحظة التي سنأخذها، ورقم اللحظة التي سنقطعها، ثم نسجل مع أي لقطة ستُركَّب.

هكذا حتى وقت متأخر فينصرف كل منا لنفسه خلال ما تبقى لنا من الوقت.

إنه الصباح.. الثامنة والنصف.  أطل من النافذة وأتأمل البنايات المقابلة، فأشعر كأن ثمة منعًا للتجول في هذه البقعة. كمية هائلة من الشقق والنوافذ، لكنها كلها مطفأة الأضواء، ومغلقة ومجللة بالستائر الغامقة. لم يكن هناك نافذة مفتوحة غير واحدة فقط. ليس هناك أحد في الشوارع أو في الحديقة أو على مداخل العمارات. في آخر المطاف لمحت امرأة في البعيد، خرجت بكلبها لتفسحه فسحة الصباح.

قال قيس فجأة: «في عام 58 كان عمري حوالي ثمانية عشر عامًا، فأحرق البعثيـون بيت جدتي وهي داخل البيت؛ لأن ابنها كان شيوعيًّا. لقد أثرت هذه الحادثة في داخلي كثيرًا.

في المساء أعطيته ليقرأ النص السينمائي الذي كتبته بعنوان: «سينما الدنيا» وهو المشروع الذي أعمل عليه حاليًّا لفلمي المقبل.

في تعليقه على المشروع بعد أن قرأه قال: «شخصي جدًّا»! وأردف أن «فلم «التضحية» لتاركوفسكي ما زبط لأنه كان شخصيًّا، رغم أنه فلم مثير سينمائيًّا وشيق».

لا أخفي أني لحظتها صعقت! ليس من رأيه حول مشروع «سينما الدنيا»، بل من رأيه في فلم تاركوفسكي «التضحية». تساءلت مع نفسي: هذا الإنسان الذي قبيل أن يبدأ حياته السينمائية، كان قد كتب أطروحته «طرق المونتاج في فلم طفولة إيفان لتاركوفسكي». كيف له أن يعتقد اليوم أن فلم «التضحية» ما زبط لأنه كان شخصيًّا؟!

ترى هل هي زلة؟ أم تصيد من طرفي طبعًا؟! أم هذه الوحدة والوحشة؟

ثم قال تعليقًا على السيناريو الخاص بي: «إن خط الحرب في السيناريو لديك جيد، ومشاهد كمامات الغاز.. كذلك استحضار فارس الحلو من فلم الليل… لكن يحتاج الواحد أن يقرأ السيناريو ثانية».

في 95 كانت لدينا -عمر وأسامة وأنا- الرغبة في أن نعيد اكتشاف الآباء. فكان فلم «نور وظلال» عن شعورنا حينها، بأن نزيه الشهبندر هو الأب…

من أستعيد الآن هنا في هذه الكتابة؟!

نفسي؟!  أم قيس الزبيدي؟ لقد وقع قيس في أن يعيش في عالم من «الرشز» Rushs.

أتساءل اليوم ما الذي بقي من ألمانيا الديمقراطية من قصاصات على جداره، خارج سلال الــ OUT والنسيان؟! سيبقى عنوان فلمه الأول «بعيدًا عن الوطن» دلالة لسينمائي يعيش حياته وهو يبحث عن بلد ينتمي له. وقد تألمت كثيرًا حين وجد نهاية لحوارنا، فقال: «لقد حاولت أن تكون دمشق مكاني الأول بعيدًا عن الوطن… لكنها بقيت المكان الثاني. وحين سقطت برلين الاشتراكية، سقط معها مكاني الأول وصارت الثاني.

في السينما قضيت العمر كله مع السينما التسجيلية، التي كانت خياري الثاني وليس الأول. هكذا بقي «الأول» مفقودًا دائمًا، لأعيش في «الثاني» أبدًا.

كنا حينها قد اخترنا النهاية لفلم «حلب مقامات المسرة» أيضًا. حيث يصعد الرجل العجوز صبري مدلل، السلم الطويل لمئذنة الجامع الكبير في حلب، ويطل على فجر المدينة، وينشد «إلهي أشكو إليك أمورًا أنت تعلمها ما لي لها حول ولا يد…».

حملت أشرطة الفلم وأوراق «الماكييت» وبطاقات قيس، وغادرت برلين إلى باريس لتنفيذ المونتاج الذي قمنا به، من دون أن نجسده أو نراه.

بعد أن غادرت برلين ونفذت «الماكييت» الذي توصلنا له، وأنجزت الفلم بصيغته الأخيرة في باريس، شعرت أن عملنا المشترك على الرغم من بدائيته واعتماده على صياغة «الخيال» لتصورنا للفلم، وبدائية الوسائل التقنية التي كانت متوافرة لدينا، شعرت بالرضا بعد المشاهدة النهائية للفلم. وأحسست من جديد بالقيمة المهنية والمهارة الحرفية التي استطاع قيس أن يصل إليها ليس كسينمائي فقط، بل بالقدرة أيضًا على التكيف مع الوسائل التقنية التي تواجهنا كسينمائيين في البلدان العربية.