أسباب البهجة

أسباب البهجة

كتب رالف والدو إيمرسون: «الطاقة مقرونة بالبهجة». على الرغم من أننا غالبًا ما نفكر في البهجة على أنها عكس الطاقة، بوصفها رغبة غير صادقة للاستمتاع بالأشياء، إلا أن إيمرسون أدرك أنها مورد للذات، وأداة لتشكيل حياتنا العاطفية التي يمكن أن تساعد في نقلنا إلى العالم الاجتماعي وربطنا بالمجتمع. وفيما نواجه في الوقت الحالي موجة تلو الأخرى من الأخبار السيئة التي تجتاح الكوكب، فالبهجة جديرة باهتمامنا. حيثما حلّت البهجة، نرى ارتفاعًا في الطاقة العاطفية، وزيادة مفاجئة في الحالة المزاجية. إنها عابرة أو سريعة الزوال، من حيث إنها تأتي وتذهب. لكن يمكننا السيطرة عليها. يمكننا أن «نبتهج»، تمامًا كما يمكننا أن «نهدأ». أو كما قال الفيلسوف الإنجليزي روبرت بيرتون في تشريح الكآبة (1621م): «توقع القليل… وابتهج».

رالف والدو إيمرسون

ربما كان ذلك بسبب تواضع البهجة التي تجاهلها الفلاسفة إلى حد كبير. إنهم يميلون إلى التركيز على المشاعر الأكثر دراماتيكية مثل الغضب والحزن، والنظر إلى الحياة العاطفية البشرية على أنها ساحة معركة من الدوافع اللاواعية أو المشاعر الغامرة. على عكس الغضب، فإن البهجة اختيارية إلى حد كبير؛ إذ يمكننا إدارتها. ليس من قبيل المصادفة أن يشير بيرتون إلى البهجة في كتاب له عن الكآبة. في كثير من الكتابة عن العاطفة، تُقَدَّم البهجة على أنها ترياق للمشاعر المظلمة للمكتئب. من الواضح أن البهجة مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالجسم، وعلى وجه الخصوص الوجه. في الواقع، تبدأ البهجة في الوجه وتسري إلى الباطن. كما أشارت الكاتبة الفرنسية جرمين ده ستال في بداية القرن التاسع عشر. عندما تتبع تعبيرًا مبهجًا، بغض النظر عن حالة روحك، فإن بهجتك تنتقل إلى الذات: «يتغلغل تعبير الوجه، شيئًا فشيئًا، إلى ما يخبره المرء»، يتغير باطن الذات بطاقة البهجة.

ترتبط مسيرة البهجة هذه، من خلال الذات، بتاريخ كلمة «البهجة» نفسها. أتت مفردة «البهجة» من كلمة فرنسية قديمة تعني ببساطة «الوجه». دخل المصطلح إلى اللغة الإنجليزية وانتشر من خلال ثقافة العصور الوسطى في القرن الرابع عشر. في حكايات كانتربري لجيفري تشوسر (1387- 1400م)، على سبيل المثال، يُصَوَّرُ الناس على أنهم «مبتهجون على نحو مثير للشفقة» أو «مبتهجون بوقار». «البهجة» هي تعبير، ولكنها أيضًا جزئية من الجسم. إنها تكمن عند تقاطع عواطفنا وسيماء وجوهنا.

في القرن السادس عشر، أثار الإصلاح البروتستانتي جدلًا حادًّا حول مغزى المجتمع الروحي. في اللحظة نفسها، عندما بدئ بترجمة الكتاب المقدس على نطاق واسع إلى لغات عامية، توسع الاسم البسيط «البهجة Cheer» ليشمل صفة «مبتهج Cheerful»، وفي نهاية المطاف، في عام 1530م، تضمن فكرة أكثر تجريدًا عن «البهجةCheerfulness » التي حولت التعبير المحلي للوجه إلى اسم مجرد، وهو أمر يمكن أن ينتشر كصفة عاطفية للذات. وفي كتاب جنيف المقدس (١٥٦٠م)، من «الرسالة الثانية إلى أهل كورنثوس» للقديس بولس، نتعلم أنه لكي تشارك في المجتمع المسيحي يجب أن تمارس الكاريتاس أو الحب. وذلك ليس عن حزن، أو على سبيل الضرورة؛ لأن الله يحب المعطي المبتهج.

توليد البهجة

ديفيد هيوم

البهجة صفة اجتماعية، تشكل وتحدد مجتمعًا أخلاقيًّا معينًا. فهي تظهر بين الناس، وتربط بعضهم ببعض. ولا عجب أن الأطباء سعوا إلى توليد البهجة من خلال الوسائل الكيميائية. في عصر التنوير الأوربي، تلاشى البعد اللاهوتي للبهجة مع بدء فتور النقاشات الدينية الكبرى في أوائل العصر الحديث في أوربا. ومع ذلك ظل بُعدها الاجتماعي الأساسي سمة من سمات التجمعات المستنيرة. يشير الفيلسوف الأسكتلندي ديفيد هيوم، من القرن الثامن عشر، إلى أن البهجة هي قوة أكبر من الفرد. لا يجترح الفرد البهجة، كما ذكر كالفن؛ بل إنها بالأحرى تلفه وتغلفه. يشير هيوم إلى أن أي شخص مر بأمسية مع «أشخاص مكتئبين جدًّا» يمكنه بالتأكيد أن يدرك أنه عندما يدخل شخص يتمتع بروح الدعابة أو المرح الغرفة، فإن البهجة تحمل له معها فائدة كبيرة، وتوفق بشكل طبيعي النوايا الحسنة للبشرية… يدخل آخرون في الفكاهة نفسها، ويلتقطون المشاعر، عن طريق العدوى أو التعاطف الطبيعي. «البهجة هي الآن» عدوى. في مكان آخر، يستخدم هيوم استعارة اللهب لوصف كيف يمكن للبهجة أن تسري كالنار في الهشيم.

إذا كانت البهجة صحية واجتماعية، وصالحة أخلاقيًّا، فيمكننا أن نفهم لماذا فهمها إيمرسون، الذي بدأت المقالة معه، على أنها نوع من الطاقة. يمكن للبهجة أن تلطف مزاجنا، لكنها تؤثر أيضًا في كياننا الاجتماعي. إنها ضرورية لمجتمع سليم. كل من يمكنه التحكم فيها وتسخيرها سيمتلك موردًا نادرًا لتشكيل حياته العاطفية وحياة زملائه. أما إيمرسون، أول فيلسوف أخلاقي عظيم في الأميركيتين، فإن البهجة لديه ترشد إلى حياة سعيدة. كما أنها مرتبطة بالإبداع.

إن احتفاء إيمرسون بالحس البهيج يجمع بين الرؤية الاجتماعية للأخلاقي وإبداع الشاعر. وهو لا يقترح فقط أن البهجة تربط الناس معًا في مجتمعات، بل يتعداه إلى عدّ من يتحكم في البهجة يمكنه إعادة تشكيل العالم. البهجة هي قوة نفسية وعاطفية، نابعة في الرؤية والحساسية.

شهد مطلع القرن العشرين وفرة لما أسماه الفيلسوف ويليام جيمس حركات «العلاج الذهني»؛ أي مناهج العيش التي افترضت تأثير الحالات العقلية في الإنتاجية اليومية والتفاعل الاجتماعي. هذه الحركات ذهبت بالبهجة بعيدًا معها. في مطلع القرن، وضع الكاتب «الملهم» أوريسون سويت ماردن، الذي أسس مجلة SUCCESS في عام 1897م، البهجة في صميم فكره. تشمل عناوينه العديدة «البهجة كقوة حياة» (1899م)، و«الحياة التفاؤلية»، أو كما في «إبهاج الأعمال» 1907م، أو «أفكار في البهجة» 1910م. مجلدات ماردن هي إلى حد كبير عبارة عن قائمة من «أقوال حكيمة» وكليشيهات حول مزايا التفاؤل.

تسويق البهجة

مع ازدهار القرن العشرين بتجربة المستهلك والجماهير، جرى تداول البهجة كمفهوم يمكن أن يجلب الطموح الرأسمالي مرحلة، من حقبة سابقة، ذات مخاوف أخلاقية. يهدف تركيز الكشافة على مهارات الحرف الخشبية والبقاء إلى إعداد فئة جديدة من المستهلكين والمنتجين، معظمهم من الذكور، كل منهم يحتاط لنفسه، للحياة في عالم السوق الصعب. الرأسمالية تضع الأفراد ضد بعضهم الآخر في صراع حتى الموت من أجل الموارد والمال.

ينظر كل من ماردن والكشافة إلى البهجة ليس بوصفها مفهومًا فلسفيًّا أو فكرة لاهوتية، بل أداة. جرى الآن تجريدها من جذورها في المناقشات حول المجتمع والأعمال الخيرية، ويمكن توظيفها في الحياة اليومية وتوليد مكافآت محددة. يجلب هؤلاء الكتاب البهجة إلى العصر الصناعي، حيث سرعان ما تستولي عليها عقلية الترويج والبيع. في السنوات التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، حقق رجل الدين (نورمان فينسينت بيل) ثروة من بيع علامته التجارية الخاصة من «التفكير الإيجابي»، التي زعمت أنها تقود حتى أكثر الأشخاص يأسًا وحرمانًا إلى النجاح والسعادة. يهدف كتاب بيل الأكثر شهرة، «قوة التفكير الإيجابي» (1952م)، إلى حشد قوة الموقف في سبيل هدف النجاح الدنيوي. إنه مبني على مجموعة من النصائح، متنكرة في شكل حقائق علمية، ومتشابكة مع الحكايات التوضيحية.

قصة البهجة مرتبطة بقصة الأجساد، وكيف نعيش في وجوهنا وإيماءاتنا، إلا أنها ليست أقل ارتباطًا بقصة المجتمعات. تعتمد آداب بيل وفتيان الكشافة على لغة البهجة السابقة كما هو موضح في الكتاب المقدس وفي عمل الفلسفة الحديثة المبكرة، غير أنهم جردوها من بعدها الجماعي. وبينما يجري محو هذه المجتمعات وإعادة تخيلها في العالم النامي من «الرأسمالية الصناعية»، والآن فيما «بعد الصناعية»، تُستحضَر البهجة في الوقت نفسه إلى ما لا نهاية وتستنزف قدرتها على ربط البشر بعضهم ببعض. فالبهجة المعاصرة -بهجة تطبيقات الشبكات وفرق التشجيع– تحاكي روحانية المجتمعات التي لم تعد موجودة.

عادت البهجة إلى المسرح العام في مارس 2020م، عندما ذهب رئيس الولايات المتحدة آنذاك- وهو تلميذ مُعترف به لـ(نورمان فينسينت بيل)- إلى التلفزيون الوطني للترويج لمجموعة من الأدوية المزيفة التي ادعى أنها يمكن أن تعالج المرضى والموت. عندما اعترضت الصحافة على تعليقاته، لم يتحمل الرئيس أي مسؤولية لكنه أعلن: «أنا قائد فريق التشجيع لأميركا». سعى دونالد ترمب إلى إضفاء الوطنية على طاقة البهجة، كما لو كان من الممكن التغلب على أهوال جائحة COVID-19 من خلال موقف أفضل. أصبح جهله وخداعه الآن في مهمة وطنية أكبر. قدّم ترمب نفسه على أنه البائع النهائي: عندما روّج لعلاجات مزيفة للجسد، كان يبيع أيضًا خيالًا لشعب يمكنه وحده التحدث عنها. هذه هي حالة البهجة في بداية القرن الحادي والعشرين.

البهجة في أوقات الأزمة

إحدى نتائج الحياة في عصر الوباء هي أنها تتطلب البهجة. أدت مواجهة الفيروس والمشقة اللامتناهية التي تفرضها على حياتنا اليومية إلى استنزاف التفاؤل وتآكل قدرتنا على التخطيط للمستقبل. توفر البهجة مدة راحة مؤقتة ومتواضعة من موقف يطارده الرعب والارتباك. نحن نعلم أن البهجة الرائعة لن تُحدث ثورة في المستقبل، إلا أنها ستجعل الحاضر مقبولًا، وتجمعنا معًا في وقت العزلة. يمكن أن تغير حتى الطابع غير الشخصي للاتصال الرقمي، وهو ما يفسح المجال لتعبيرات حقيقية -وإن كانت عابرة في كثير من الأحيان-عن هوية المجتمع. تنقلب فكرة (هيوم) عن التأثير المبهج كنوع من الحمى التي يمكن أن تغير المضمون العاطفي للمجتمع من الداخل إلى الخارج. إن مجرد ممارسة الانضباط الذاتي، والتباعد الاجتماعي والنظافة الصحية السليمة، تصبح إعادة التأكيد للمجتمع: لا يمكننا أن نظل مبتهجين إلا لأننا لا نتلوث! إلا لأننا نبقى منفصلين! ليس أقلها أن البهجة تجسر المسافة التي يفرضها علينا خوفنا من التلوث.

لذلك، وعلى الرغم من التباعد والوسائط الرقمية، قد تعاود البهجة في الظهور من جديد، في التعبير عن الرعاية والاهتمام، في عروض المساعدة من بعيد. هذه ليست سوى إيماءات صغيرة، لكنها مع ذلك إيماءات مثل الممارسة التوراتية لـ«المعطي المبهج». إنها تعني العناية والتعاطف. لأننا نتحكم في البهجة وننميها من خلال محادثاتنا -الرقمية أو غير ذلك- فإننا نعيد إنشاء المجتمع من خلال فعل الإرادة. توفر البهجة لحظة من العزاء وومضة من الدعم. تظهر فائدتها الحيوية في لحظات الأزمة. وبعيدًا من تسويق ثقافتنا المبهجة والفرح المزيف لسياستنا، فإن البهجة هي أداة تحررنا من روابطنا من خلال تأكيد الحرية العاطفية، وغالبًا في مواجهة الاندثار. حتى في نسختها الحديثة، فإن البهجة هي شكل من أشكال القوة العاطفية التي لا ينبغي تجاهلها؛ إذ لا يمكنك بناء سياسة عليها، غير أنه ربما لا يمكنك إعادة بناء عالم من دونها.

نشرت هذه المقالة في مجلة AEON، بتاريخ 25 يوليو 2022م.


رابط المقالة الأصلية:

https://aeon.co/essays/on-the-surprising-history-of-cheerfulness-and-its-subtle-power

تيموثي هامبتونز هو أستاذ الأدب المقارن واللغة الفرنسية في جامعة كاليفورنيا في بيركيلي، يحمل درجة الأستاذية المرموقة Aldo Scaglione and Marie M Burns، ويدير مركز دورين بي تاونسند للعلوم الإنسانية. تشمل كتبه:

Fictions of Embassy: Literature and Diplomacy in Early Modern Europe (2011), Bob Dylan: How the Songs Work (2019) and Cheerfulness: A Literary and Cultural History (2022)