الخط في إيران.. فن وطني ولغة ثقافية مشتركة

الخط في إيران.. فن وطني ولغة ثقافية مشتركة

الخط العربي واحد من الخطوط التي حافظت على ديمومتها وتجاوز حده الجغرافي نحو الشعوب والأمم الأخرى، ولا سيما التي اعتنقت الإسلام، وحاولت فهم جماليات الدين فدأبت على تعلم اللغة العربية وحروفها وسبر أسرارها وخفاياها. كانت بلاد فارس التي استقبلت الدين الإسلامي من الدول الأوائل التي تلقفت اللغة العربية وتعلمتها ونشرتها وأوْلَت لها عناية مميزة؛ فغدت لغة الدولة والدواوين ولغة النخبة الحاكمة، وحظي الخط بأهمية كبيرة؛ إذ كان أساسًا في معاملات الدولة والمراسلات الإدارية. وتفنن الفرس في كتابة الحروف وبلغ الإبداع أن زاوجوا بين الخطوط العربية، فخلقوا خطوطًا جديدة غاية في الجمال اختصت بهم. لم يخطوها وحسب على الورق، بل تجاوزت هذه الخطوط مساحة الكتب والصحائف نحو فضاء أوسع لتمتزج مع الفنون مثل فن العمارة والنحت والرسم.

كتب الفرس قبل الإسلام بالخط المسماري والأفستائي والبهلوي، فلما جاء الإسلام استبدلوا بالخطِّ الآراميِّ العربيَّ الكوفيَّ، فالنسخ الذي طوروه وأضافوا له جماليات أخرى، فمزجوا الخط بالآخر ليخلقوا خطوطًا جديدة حملت طابع الإبداع الإسلامي بحروف عربية، فكان خط التعليق، والنستعليق، والنستعليق المكسور . وفي عام 1960م، في أيام الحكم البهلوي، ظهر «الخط المرسوم» أو «كاليغرام»، على يد محمد إحصائي، فخرج الخط الإسلامي من مجموعته الضيقة لينضم إلى باقة الفنون الأخرى مثل الغرافيك والفنون المرئية.

الخط في ظل الثورة الإسلامية

مع بداية عام 1979م جرى إيلاء اللغة العربية والخط العربي على المستوى التعليمي والإداري والثقافي أهمية خاصة؛ فقد ورد في المادة الخامسة عشر من الدستور أن اللغة الفارسية هي لغة الدولة والمجتمع، وأن الخط الفارسي هو الخط المعتمد في دوائر الدولة والتعليم. وفي الأصل السادس عشر نص الدستور على أن اللغة العربية هي لغة القرآن والإسلام؛ لذا وجب أن تُدرَّس في المدارس إلى المرحلة المتوسطة في كل الأقسام والفروع . هذا الأمر بعث الروح في اللغة والخط من جديد، فاجتهد الخطاطون لإعادة الاعتبار وإحياء خط النستعليق، وأقبل الشباب على تعلم الخط، فكُتِبَت المئات من المقالات حول فن الخط وأهميته وجمالياته، ومع تزايد أعداد المهتمين بهذا الفن ازدادت النشاطات والمؤتمرات والندوات التي شملت البلاد وخارجها برعاية من جمعية الخطاطين الإيرانيين واهتمام من وزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي، وأُقرت قزوين عاصمة للخط في البلاد، وتحول الخط بمرور الزمن إلى إرث وتراث وطني وعالمي يجب الاهتمام به والحفاظ عليه.

تلقي الخط

تعتمد الكتابة في المدارس على الخط الفارسي التحريري ، ويُدَرَّس خط النستعليق للطلاب في مادة الفن، ويشتكي بعض المعنيين بالشأن التعليمي من تراجع مستوى جمال الخط لدى الطلاب، ومردّ الأمر إلى هيمنة التقنية على كل مجالات الحياة، واعتماد الطلابِ الكتابةَ الرقميةَ أو بالحروف الإنجليزية، وقد انعكس هذا على مستوى الطلاب في الكتابة الورقية. والأمر الآخر يتجلى في انعدام المعرفة لدى المعلمين الذين يجب أن يخضعوا لدورات مكثفة بالتعاون مع جمعية الخطاطين التي استجابت لمدة من الزمن ثم تناسى الجميع الأمر. وبعد مدة وُقِّعَت اتفاقية بين المنظمة الطلابية وجمعية الخطاطين لتشكيل صفوفٍ لتدريب المعلمين على أيدي أساتذة الجمعية، ولكن هذه الصفوف لم تكن كافية، ولم تشمل شريحة واسعة من المتعلمين، وهو الأمر الذي استدعى مزيدًا من الدعوات للتنسيق بين وزارة التعليم والتربية وجمعية الخطاطين؛ لإيجاد حل لهذه القضية التي لن تزول بمجرد إصدار كتب ذات نوعية ممتازة حول فن الخط والكتابة مع أهمية الخطوة، بل يجب العمل على إعداد الكادر التعليمي المتمكن من فنون الخط وأساليبه، وبدوره ينقل هذه المعرفة عن علم ووعي للطلبة والتلاميذ، وهو ما يسهم بمرور الزمن في التخلص من هذه المشكلة أو على الأقل الحد منها .

أما في مجال التعليم العالي يختلف الأمر؛ إذ إن فن الخط لطالما كانت له هذه النزعة النخبوية حول النوعية وليست الكثرة التي تُلفى في الجامعات عامة والفنية منها خاصة، ورغبة رواد الجامعة في تعلم فن الخط تغدو أكثر وضوحًا في هذه المرحلة؛ لذا تكاد تندر مشكلة الخط السيئ، بل نجد أنه قد استطاع أن يكتسب فرعًا قائمًا به. وكانت جامعة بيام نور في قزوين وشهر كُرد من أوائل المهتمين بهذا الفن واستقطاب الطلاب، من ثم عُدِلَ عن الأمر وبعد سنوات وبعد إعادة النظر جرى مُجَدَّدًا استقطاب الطلاب الراغبين في دراسة الخط في فروع الجامعة في مناطق أخرى. وتُعَدّ جامعة أصفهان للفنون من الجامعات الحكومية القليلة التي تدرس فن الخط، أما في جامعة الزهراء بطهران وبعض الجامعات الأخرى فقد افتُتِحَ اختصاص الكتابة والمنمنمات الذي يرتبط هو الآخر بفن الخط.

جمعية الخطاطين

تأسيس الجمعية واحد من أهم الإنجازات في تاريخ الخط الإيراني المعاصر، ونقطة تحول مهمة في إعادة الرونق لفن الخط، فقد جاء في المادة السادسة من النظام الداخلي للجمعية الذي يتضمن خمسًا وستين مادة؛ أن أحد أهداف الجمعية هو التعاون مع وزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي لتعليم وترويج فن الخط. 

قزوين عاصمة الخط

تسمى محافظة قزوين عاصمة الخط في إيران، ذلك أن أغلب الخطاطين المعروفين، مثل: مير عماد حسيني وعماد الكتاب، وعبدالمجيد طالقاني، خرجوا منها. إضافة إلى وجود المتحف الدائم للخط في قصر الأربعين عمودًا الذي تقام به أغلب الفعاليات المتعلقة بالخط، مثل: إقامة المؤتمرات كل عامين حول الخط الإيراني، واحتفالية الخط بالآيات القرآنية، ومهرجان الغدير للخط . وتنشط معاهد تعليم الخط بشكل ملحوظ في مدينة قزوين مثل: معهد ملك محمد للخط، ومعهد نيرومند للخط، وتلقى هذه المعاهد إقبالًا من المتعلمين؛ ذلك أن جمالية الخط في إيران تمثل دليلًا على المعرفة والثقافة؛ لذا يزداد القلق والإحراج من الخط السيئ لدى الأفراد، ولا سيما أولئك الذين تتطلب منهم مناصبهم الوظيفية استخدام القلم والتوقيع والقلم الرصاص؛ لذا كان الإقبال على تعلم الخط أمرًا لا مفر منه.

أزمات طارئة

عباس أخوين الأستاذ المخضرم في مجال فن الخط وعضو جمعية الخطاطين الإيرانيين، أسف لما أسماه عدم تقدير فن الخط على الرغم من أنه من أرقى الفنون في البلاد، وفي زمن الجائحة ترك العديد من الخطاطين العمل واعتمدوا على مدخراتهم، إن وُجدت. وأضاف أن الإيرانيين وصلوا في مجال الخط إلى درجة الأستاذية، وهذا مبعث فخر ولا شك، ولكن على الدولة والقائمين أن يوجدوا حلًّا سريعًا لما يعانيه هذا الفن .

كما أكد غلام رضا راهبيما، الخطاط والمحاضر الجامعي، أن فن الخط في البلاد يمر بحالة حرجة، ومردُّ الأمر إلى الإدارة السيئة لجمعية الخطاطين التي لا تدرك ما يجري حولها، وهو ما أثر سلبًا في هذا الفن؛ لذا سعى بعض من الأصدقاء والمهتمين، إلى تأسيس «جمعية الخطاطين بالعاصمة» التي لاقت معارضة واسعة، ولكنه يرى أن الوقت قد حان لإعلاء الصوت والمطالبة بالمزيد من هذه الجمعيات؛ وذلك للتحرر مما أسماه مجموعة المافيا التي تمثلها جمعية الخطاطين. وحذر من أن فن الخط في البلاد على أعتاب إنذار أحمر، وأن القاعدة الثقافية لفن الخط قد انتهت منذ سنوات، ولا يمكن تصور أي تقدم في هذا المجال.

وأشار إبراهيم حسني وهو خطاط مخضرم إلى انتهاج سياسة الإقصاء للمنتقدين لعمل الجمعية وإلى بعض الانتهاكات غير القانونية التي حدثت. كل هذا أدى إلى تهميش المهن الفنية التي أصبحت لها شكوك ومخاوف ليس فحسب في مجتمع الخطاطين، بل امتد الأمر نحو الفنون الأخرى، مثل: المسرح والموسيقا والسينما . ولفت مهدي فلاح منذ سنوات إلى أن الحكم على تراجع فن الخط من عدمه أمر مرتبط بموضوعات إعلامية، مثل: «أزمة المخاطب» و«دراسة الفرد»، وهذا ينسحب على كل الفنون، ولكن أيًّا كان الأمر فإن لهذا الفن طاقاته التي تتجاوز الخيال وما زالت جذوره في التربة وقادرة على العطاء، ولكنّ المتلقين، كما قال، يؤثرون كل ما هو تقليدي، والفنان ينشد الحصول على المزيد من الجمهور. وخلص إلى أن التعاون المتبادل والتفاعل بين الفنانين والمثقفين وتفعيل دور الخط في المجتمع «أمر بالغ الصعوبة؛ بسبب حساسية الفنان وخصوصيته، ولكنه قابل للتحقق، ولا بد منه لتذليل العقبات التي تواجه فن الخط الذي يحتل مكانة عالية ومهمة عند الإيرانيين» .

يرى بعضٌ أن على الجميع قبول الخط كفن معاصر، وحينئذ يمكن الخروج من نفق المشكلات التي يعانيها هذا الفن. وأوضح حسين رضوي فرد، طالب الخط والشاعر، في مقاله المعنون بـ«أضرار فن الخط المعاصر، خط النستعليق، أنموذجًا»، أن فن الخط مرتبط بالمتلقين لارتباطه بكتابة الأدعية والقرآن الكريم والأحاديث، مشيرًا إلى أن الخطاط الذي يسير وَفْق التيار يلقى الدعم، فيكون أكثر إبداعًا، وينتج بحُرية أكبر. وتتطرق إلى العلاقة بين الفنان والدولة، موضحًا أنها تتغير من مرحلة إلى أخرى، «فالفنانون يكتبون ما يناسب ذوقهم وهذا ما يفسر غزارة إنتاج الحاضر وضآلته في الماضي»، منتقدًا جمعية الخطاطين؛ «فالأساتذة لا يخرجون عن طور التقليد في التدريس؛ لذا يجب تطوير برنامج جديد للنظام التعليمي لجمعية الخطاطين، يتم فيه تلبية الاحتياجات الجديدة والمحدثة لفن الخط باعتباره فنًّا وطنيًّا ولغة ثقافية مشتركة يجب أن يحظى بالاهتمام والرعاية وقبوله كفنٍّ حديث» .

يرى محمد صادق أحدبور، وهو أحد الخطاطين العاملين في مجال فن الخط والفنون البصرية، أن قلة العوائد المالية من هذا الفن مشكلة مهمة، فبعض يفضل شراء السجاد الغالي الثمن بملايين التومانات والاستمتاع بنقوشه ورسومه على شراء لوحة فنية يتجسد فيها الجمال والحكمة؛ لذا يجب التوعية ونشر المعرفة حول أهمية اقتناء مثل هذه اللوحات الفنية. ويؤكد أن المنافسة بين الخطاطين أمر ينعكس إيجابًا على فن الخط. وعلى القائمين والمهتمين دراسة المتلقين لفن الخط ممن يرتادون عشرات المعارض التي تقام سنويًّا في البلاد بهدف معرفة ردود أفعالهم وتأثرهم وتطلعاتهم مما يساعد إلى حد كبير على تطوير الذات والابتكار .

الخط إرث ثقافي قومي

ينظر إلى الخط في إيران على أنه إرث ثقافي يجب الحفاظ عليه، فعلى مدى قرون من الزمن كانت آثارهم الأدبية العريقة وذات المكانة من كتب التصوف والتاريخ والأدب والدين تخط وتدون بهذا الخط الذي أصبح جزءًا لا يتجزأ من الهوية الإيرانية، هذا الشغف والإيمان بأهمية الخط جسدها مؤخرًا إدراج منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة اليونسكو الخط الفارسي الإسلامي ضمن قائمة التراث الثقافي غير المادي، تحت عنوان: «البرنامج الوطني لحماية فن الخط التقليدي في إيران» . هذا الفن كان وسيبقى مرتبطًا بالبنية الاجتماعية والثقافية والصبغة الدينية للمجتمع وجزءًا أساسيًّا من الهوية الثقافية، فالألفباء العربية ليست أمرًا طارئًا فرضته قوى خارجية، بل هي وجود رسخه الإسلام والقرآن الكريم، ونخبوية الخط وفن الخط عبر التاريخ الإيراني واحدة من الإيجابيات التي ضمنت بقاءه أمام محاولات إقصائه واستبدال به الحروف اللاتينية.

وفاة مهسا أميني تطلق موجة واسعة من السخط على النظام الجدل يتجدد بعد 40 عامًا حول الحجاب في إيران

وفاة مهسا أميني تطلق موجة واسعة من السخط على النظام

الجدل يتجدد بعد 40 عامًا حول الحجاب في إيران

تعود مسألة الحجاب من جديد لتطرح بقوة، مع وفاة مهسا أميني على يد شرطة الأخلاق في العاصمة الإيرانية طهران. ولم ينتظر الشارع الإيراني تفسيرًا أو تبريرًا للكشف عن ملابسات الحادثة، فاندلعت التظاهرات في كل أنحاء البلاد رفضًا لما حدث، في حين عبرت النساء عن غضبهن بكشف شعورهن وإحراق الحجاب وإطلاق هتافات معادية للدولة والحكومة، وداعية لتحرر النساء من قيد كبلهن أربعين عامًا.

من النساء اللواتي خلعن الحجاب «كتايون رياحي» الممثلة الإيرانية، وكان هذا تعبيرًا عن رفضها لما حدث مع مهسا أميني، وكتبت تحت صورتها «في عزاء النساء الإيرانيات» وسبقتها وتبعتها كثيرات بالتعبير عن رفضهن للحجاب. وعبرت ممثلات أخريات عن رفضهن لما حدث من مثل «مهتاب کرامتي» سفیرة النوايا الحسنة لدى الأمم المتحدة التي أدانت على صفحتها على إنستغرام العنف ضد النساء. وأعرب كثير من الشخصيات النسائية العالمية عن تضامنهن مع النساء داخل إيران، من مثل شاكير عبر صفحتها على توتير، وجولييت بينوش عبر صفحتها على إنستغرام؛ حيث شاركت صورة وهي تقوم بقص شعرها تضامنًا مع الداخل الإيراني… والحديث يطول عن التضامن النسائي المحلي والعالمي مع نظيراتهن الإيرانيات.

احتجاجات في كل المدن

وقد شملت الاحتجاجات كل المدن الإيرانية، وشارك فيها عدد كبير من النخب الثقافية والفنية والسياسية وأصحاب الرأي وطلاب الجامعات في إيران وخارجها. فقد انطلقت مسيرات من أمام جامعة طهران، والجامعات المرموقة في البلاد ومنها «جامعة شريف»، التي احتشد حراس الأمن في حرمها، منعًا من أن تأخذ الأمور منحى لا تحمد عقباه. وامتدت رقعة الاعتراضات لتشمل وسائل التواصل الاجتماعي، فكتب أصغر فرهادي، المخرج الإيراني الحائز على جائزة الأوسكار، على صفحته على إنستغرام: «نحن شركاء في هذه الجريمة»، وقال مخاطبًا مهسا: «لقد كتبت بأنك عزمت السفر إلى طهران وربما سوف ترين الكثير من الأماكن الجميلة وأنت تنجزين عملك، هذه كانت الأماكن الجميلة، هذه لا أكثر»، وأضاف: «لقد تغافلنا عن هذا الظلم اللانهائي، نحن شركاء في الجريمة».

وكان لمعارضي النظام الاسلامي حصتهم في التعبير عن رفضهم لما جرى، إذ أيدوا المتظاهرين، ومنهم رضا بهلوي الذي شجع على توسيع رقعة الاعتراضات ضد النظام القمعي الحاكم على حد تعبيره. وكتب حامد بهداد، الممثل الإيراني، على صفحته على إنستغرام منددًا بما حصل في جامعة شريف: «ثروتنا هم طلاب جامعة شريف، وليس سلال المهملات وزجاج البنوك».

أما دوليًّا فقد احتلت الأوضاع في إيران عناوين وكالات الأنباء في المنطقة والعالم. وقد نبهت منظمة العفو أن الحكومة الإيرانية لجأت إلى اعتقال مخالفي الحجاب ووضعتهم في الانفرادي لمدة طويلة، وذلك لسحب اعترافات متلفزة منهم. وطالبت منظمة العفو بالكشف عن ملابسات قضية وفاة مهسا أميني وفتح تحقيق بالحادثة المؤسفة.

نساء يهتفن قبل أربعين عامًا ضد الحجاب

عودة إلى 40 عامًا من الاحتجاجات

ما تشهده إيران اليوم هو نتيجة طبيعية وعود على بدء، ففي بداية العهد خرجت التظاهرات منددة بإلزامية الحجاب وعادت بخفي حنين، واليوم وبعد أكثر من أربعين عامًا تخرج من جديد في ظل سيطرة أمنية واسعة على البلاد، وهيمنة دينية لم تتغير، ووجوه في السلطة رافقت النشوء وما زالت صاحبة القرار، ومناخ إقليمي ودولي ينذر بحروب ستعيد ترتيب التحالفات؛ لذا ربما ستكون هذه التظاهرات دونما جدوى وربما لا، والأكيد أن العامل الأهم في تغيير هذا القانون والخضوع لرغبة الأكثرية سيكون فقط عن طريق المؤسسة التي فرضته، بناء على رأي الأكثرية آنذاك عند بداية الثورة. وهذا أمر مستبعد إلا إذا ازدادت الأصوات من داخل هذه المؤسسة، مطالبة بإيجاد حل نهائي وجذري لهذه المعضلة، التي تعد واحدة من أهم المعضلات التي حظيت بمساحة كبيرة من الاهتمام محليًّا ودوليًّا.

الانفصال عن الهوية ورفض الإجبار

من المسلم به تاريخيًّا أن الأمة الإيرانية تأثرت بالدين في الحياة المدنية والسياسية والاجتماعية، وفي الحقب الإسلامية والسلالات التي حكمت البلاد من غزنويين وصفوين وقاجاريين حتى الحكم الملكي الشاهنشاهي خير دليل على ذلك، فكان الدين المسوغ لتأكيد شرعية الحاكم بوصفه المنتخب من قبل الله ليحكم أو لتبرير القوانين والممارسات الظالمة، أو لسحق الخصوم السياسيين أو المهددين لوجود الحاكم، ولم يكن ليُلحَظ تشدد في تطبيق القواعد الإسلامية فيما عدا ذلك. أما الآن وفي ظل الحكومة الإسلامية بات الأمر مختلفًا فقد هيمن الدين شيئًا فشيئًا على كل تفاصيل الحياة وأدق الخصوصيات، وأُلزِمَ الجميع بمبادئ بصرف النظر عن اعتقادهم بها أو عدمه، فقد صُبغ المجتمع كله بلون واحد لم يعتد عليه. بل إن رغبة الشاه في صبغهم بلونه الخاص الذي ارتآه لهم كان سببًا من الأسباب التي أشعلت الثورة، فكيف الآن وقد تغير حال الأمة من جبر نحو العلمانية إلى جبر نحو الأسلمة. هذا الأمر في كلا العهدين الشهنشاهي والإسلامي يستثنى منه أنصار ومؤيدو العهدين، من جديد هذا الجبر جعل الأمة تشعر بالانتزاع والانفصال عن هويتها وكينونتها، وأجج رغبتها في التحرر.

لم تكن يومًا مشكلة النساء الإيرانيات مع الحجاب مشكلة مع الدين وتعاليمه، فالحجاب وإسدال غطاء الوجه يعود إلى زمن الهخامنشيين إلى ما قبل الإسلام، بل كانت رفضًا لسياسة الإجبار وتهميش رأي الآخر أقلية كان أم أكثرية. أيام الشاه فرض خلع الحجاب فثرن وانتفضن ليس رغبة في الحجاب أو كرهًا بل رفضًا للإكراه. ومنذ سنوات يعلين الصوت أنهن لا يرغبن في ارتداء الحجاب ليس نفورًا منه ولكن كرهًا في الممارسات الجبرية التي تفرض عليهن. فلم تعتد المرأة الإيرانية أن تكون أسيرة لدين أو قانون يفصلها عن داخلها الحر، فجل ما أرادته وتريده هو ألا تكون في مجتمع يشعرها أنها أسيرة جسدها ومهانة بسببه، ألا تشعر أن الموت أو التعذيب أرحم لها مما تحياه. هي تريد أن تكون مخيرة في تقرير ما تريد أيًّا كان هذا، بما لا يقلل من احترامها ولا يقلل من احترام رغبات الطرف الآخر، الذي يرى الحياة برؤية روحانية مغايرة.

لقد رأى كثير من المثقفين أن الحجاب لا يمنع فاحشة ولا يضيف أخلاقًا للمرء هو لا يمتلكها والعكس بالعكس، كما أن السفور ليس دليلًا على قلة الحياء والعفة، ففي العهود التي كان فيها الحجاب متعارفًا بين الناس أو مفروضًا من قبل السلطة الحاكمة، لم يكن يمكن التمييز بين المرأة العفيفة والمرأة السيئة، بل تساوى الجميع تحت العباءة.

طفل أحد آخر

يقص الكاتب الإيراني جلال آل أحمد في «طفل أحد آخر» قصة حيث تتخلى المرأة والأم ذات الشادور عن طفلها بعد أن أرغمها زوجها الثاني على ذلك، فهو لا يرغب في طفل رجل آخر على مائدته. تخضع المرأة للضغوطات وترضخ للأمر الواقع وتترك طفلها للمجهول.

أما بزرك علوي في روايته «عيونها» نرى أنه أضفى على فرنغيس المتحررة من كل قيد وبند صفات أخلاقية حتى السيد ماكان، حبيبها وندها لم يكن يعلم بتمتعها بهذه الصفات، ولكن في النهاية يتضح أن فرنغيس آثرت سعادة من تحب وهو السيد ماكان وأنقذته من الموت في مقابل أن تحيا بزواج تعيس وللأبد.

بات الحجاب اليوم في الجمهورية الإسلامية الإيرانية قضية إشكالية تمتزج فيها عناصر كثيرة وتتشابك، وعلى السلطة التشريعية الدينية في البلاد أن تعيد النظر في قانون إلزامية الحجاب، أو أي قانون يثير إشكالية وانقسامًا بين أبناء المجتمع الإيراني، أو يوجد فجوة بين السلطة الحاكمة والمجتمع.


مراجع:

١.  «مهسا أميني: والد الشابة الإيرانية يتهم السلطات بالكذب ومنعه من رؤيتها»، BBC News عربي، 22 سبتمبر 2022م، مؤرشف من الأصل في 25 سبتمبر 2022م، اطلع عليه بتاريخ 23 سبتمبر 2022م.

٢.  «فيديو وصور مروعة.. مدينة سقز الإيرانية تشتعل وقتلى الاحتجاجات في ازدياد»، صوت بيروت إنترناشونال، مؤرشف من الأصل في 19 سبتمبر 2022م، اطلع عليه بتاريخ 23 سبتمبر 2022م.

٣.  «مهسا أمینی؛ از بازداشت تا مرگ او چه می‌دانیم؟». بی‌بی‌سی فارسی. 28 شهریور 1401. دریافت‌شده در 26 سپتامبر 2022م. «مهسا أمیني؛ من الحجز وحتى موتها ما الذي نعلمه؟»، بي بي سي الفارسية اطلع عليه في 26 سبتمبر، 2022م.

٤.  katayounriahiofficial7

٥.  انعكاس مقتل مهسا أميني على المستوى العالمي؛ «لا أمل بمحاسبة الجناة وجذور المشكلة تكمن في مكان آخر» بي بي سي الفارسية. 26 سبتمبر 2022م. اطلع عليه في 26 سبتمبر 2022م. «بازتاب جهانی جان‌باختن مهسا امینی»؛ «امیدی به مجازات عاملان نیست وریشه مشکل جای دیگر است». بی‌بی‌سی فارسی. ۲۶ سپتامبر ۲۰۲۲م. دریافت‌شده در ۲۶ سپتامبر ۲۰۲۲م.

٦.  شخصية إيرانية ترمز للثورة ضد الظلم والطغيان وإلى أن النصر قادم لا محالة، وردت هذه الشخصية في كتاب ملحمة الملوك أثر فردوسي، وكثير من قصص شعب الماد والفرس.

٧.  @alikarimi_ak8

٨.  Asghar Farhadi (@asgharfarhadiofficial)

٩.  https://t.me/OfficialRezaPahlavi/957

١٠.  https://www.instagram.com/behdad_hamed//

١١. خبر گزاری مهر. رویکرد تکراری غرب علیه ایران/ تحریم برای آشوب یاآشوب برای تحریم؟ 11/10/2022م.

١٢.  http://fna.ir/1rtgnd. 11/10/2022م

١٣.  Iran woman’s death after morals police arrest sparks protests, Reuters, 2022 م نسخة محفوظة 17/9/2022م على موقع واي باك مشين.

١٤.  أحمد كسروي، خواهران ودختران ما، طهران، چاپ دوم 1324. گفتار یک درباره رو گرفتن از صفحه 4 تا صفحه 16. (أحمد كسروي، أخواتنا وبناتنا، طهران، ط2، القول الأول حول النقاب. من ص4 إلى ص16).

١٥.  المرجع السابق ص13.

١٦.  جلال آل أحمد، پچه مردم.

١٧.  برزگ علوي چشمهایش.