تجارب النسويات الإسلاميات في الجمهورية الإسلامية الإيرانية معارضة مُحطمة وآمال مُجهضة

تجارب النسويات الإسلاميات في الجمهورية الإسلامية الإيرانية

معارضة مُحطمة وآمال مُجهضة

على مدار العقود الماضية، نُشر عدد هائل من المؤلفات حول سياسات الجندر كما وصف العديد من المراقبين الجهود متعددة الأوجه للتشكيك في الخطاب الجندري الذكوري للنظام الإسلامي. جرى أيضًا إيلاء كثير من الاهتمام لقراءات بديلة للنصوص الإسلامية قدمتها أصوات إسلامية ومن يسمين «النسويات الإسلاميات»، وأكثر من مرة عُلقت آمال وهمية على مثل هذه المساعي.

لتجنب مثل هذه الأحكام الخاطئة، يجب أن تؤخذ العوامل التالية في الحسبان عند الحديث عن الخطابات المتعارضة (بما فيها المتعلقة بالجندر) في نظام إسلامي قائم على نظرية الخميني «ولاية الفقيه» فأولًا، كانت النساء مغيبات ومهمشات دائمًا في مراكز صنع القرار، ولم تحصل أي امرأة على منصب رجل دين بارز حتى الآن. وثانيًا، نظرًا للحدود الضيقة للتعبير المسموح به التي وضعها النظام والرقابة الذاتية التي يفرضها الأبطال أنفسهم، لم يكن للخطابات المضادة أن تزدهر تمامًا، أي أنها نادرًا ما حاولت تجاوز الحدود التي وضعها الدستور.

وبإعادة صياغة ميشيل فوكو، فإن العلاقة الوثيقة والمتأصلة بين إنتاج المعرفة وبناء الحقيقة والحفاظ على السلطة، هي أكثر صعوبة عند تفكيكها في نظام يدعي امتلاك كل من السلطة الدينية والسياسية. وكما أظهر رد الفعل على رجال الدين والمثقفين المعارضين في جمهورية إيران الإسلامية، إذا ما اكتسبت المعرفة التي تعرض أساس النظام للخطر وتوفر «حقيقة» مضادة جذابة لعدد كبير من المواطنين، إذا ما اكتسبت شعبية، فستُقمَع وتُوصف بأنها «بدعة» أو «تجديف» أو «تهديد للسلم الاجتماعي» وما إلى ذلك.

الهدف الرئيس من هذا المقال توضيح مدى تأثير الأدوات والإستراتيجيات المتنوعة لمواجهة الخطاب الجندري الرسمي، في إحداث تغيير في الخطاب وعلى المستوى العملي.

تطور الخطاب الجندري ما بعد الثورة

كانت الثورة الإسلامية عام 1979م نتيجة تحالف غير عادي بين فصائل معارضة مختلفة. على الرغم من اختلافاتهم الأيديولوجية العديدة، فقد تشاركوا، من بين أمور أخرى، عدم ارتياح مفتوح بشأن جوانب جديدة من الجنس والمعايير الجنسية التي أصبحت مرئية في الأوساط الحضرية منذ نهاية الخمسينيات وبداية الستينيات، وهو ما أدى إلى نشوء مخاوف ثقافية واجتماعية. هذا الاستياء من القيم المتغيرة المتعلقة بالعلاقات بين الذكور والإناث والجنس لم يقتصر على الثوار الذكور، ولكن يمكن العثور عليه أيضًا بين مؤيديهم من النساء.

وبالتالي في بحثهم عن الأصالة الثقافية، أولى كبار أيديولوجيي ثورة 1979م اهتمامًا رئيسًا للحاجة إلى إعادة تعريف العلاقات بين الجنسين من منظور إسلامي. وكما هي الحال في الخطابات السياسية السابقة في القرن العشرين، كان على المرأة أن تصبح الرمز الخارجي لهوية الأمة وتوجهها الثقافي. يجب أن يُنظر إلى الإصرار على هوية ثقافية محددة موسومة بوضع المرأة على أنه نتيجة مباشرة للقاء مع القوى الإمبراطورية الغربية التي وضعت «تحرير» المرأة المسلمة في قلب «مشروع التحديث». منذ ذلك الحين، استمر «نموذج الاختلاف» في المناقشات الإسلامية حول الجندر والنسوية والتحديث والعولمة.

جلال آل أحمد

جاء التأثير الأكبر في الخطاب الجندري التأسيسي للدولة الإسلامية في إيران من كتاب آية الله مرتضى مطهري (1920- 1979م) المعنون بـ«نظام حقوق المرأة في الإسلام»، الذي نُشر في الأصل متسلسلًا في أثناء المناقشة حول قانون حماية الأسرة لعام 1967م. بإشارته إلى المصادر الإسلامية والغربية، حيث بدا ذلك مناسبًا لمزيد من ترشيد الخطاب الجندري التقليدي، بنى نموذجه للحقوق والواجبات الجندرية التكاملية. من الأمور الأساسية في افتراضاته هو مفهومه «طبيعية الشريعة» وتمييزه بين المساواة والتشابه.

وجادل بأنه في حين أن الرجال والنساء خلقوا متساوين وهم متساوون في نظر الله طبعًا، فإن الأدوار الموكلة إليهم مختلفة، والقواعد الشرعية الإسلامية (الفقه) تعكس هذا الاختلاف الطبيعي القائم بيولوجيًّا في الحقوق والواجبات. وفقًا لمطهري هذا لا يعني عدم المساواة أو الظلم. إنه بدلًا من ذلك التصميم الإلهي للمجتمع وبما يتماشى مع الطبيعة البشرية. وأكد مطهري أن الفوارق في الأحكام القانونية بين الجنسين فيما يتعلق بالزواج والطلاق وحضانة الأطفال والميراث لا يُسوِّغها الوحي الإلهي والكتب الدينية فحسب، بل أيضًا العلم «الحديث» وعلم الأحياء وعلم النفس على وجه الخصوص. ومن ثم، فبسبب عجزهن البدني والعقلي والعاطفي المزعوم، تُعَدّ النساءُ الجنسَ الأضعفَ وتجب على الرجال حمايتُهن وصيانتهن.

على النقيض من المفهوم الإلهي لـ«العلاقات المتوازنة بين الجنسين» الذي يُعتقد أنه يتوافق مع الطبيعة والعلم والضروريات الاجتماعية، فإن الدعوة الغربية للمساواة في الحقوق، على حد تعبير مطهري هي مجرد «تلاعب بالأسماء». وعلى الرغم من آرائه «التقليدية الجديدة» فإنه أصرّ على مرونة وتوافق القوانين الإسلامية مع الحقائق المعاصرة (أي الاجتهاد) وذكر العلماء الغربيين الذين أشادوا بالقوانين الإسلامية بوصفها مجموعة من القوانين المتقدمة.

إضافة إلى نص مطهري الأساسي، كانت منشورات اثنين من المفكرين العاميين مفيدة في نشر الآراء النمطية حول النساء الحضريات المتغربنات ذوات التوجه العلماني والنسوي، وكذلك في الترويج لنماذج بديلة. وعلى الرغم من كونها تقدمية أكثر من تلك الخاصة برجال الدين في بعض القضايا الجنسانية، فإن جدالاتهم ضد الأخلاق الفضفاضة وانعدام المسؤولية تعكس احترامهم للمعايير الأبوية التقليدية للأسرة. ترك هذان المثقفان إرثًا دائمًا للثقافة السياسية في الستينيات وما بعدها، وهو ما أثر في مفردات الخطاب الثوري الإسلامي إضافة إلى السلوك «المعادي للغرب».

غرب زدكي الذي تُرجم على نحو مختلف إلى Westoxication أو Westitis هو مفهوم شاع من خلال مقال كتبه جلال آل أحمد (1923- 1969م) نُشر في عام 1962م. قصد المؤلف بهذا المصطلح الانشغال المفرط لبعض الشرائح المؤثرة في المجتمع الإيراني بأخلاق ومسائل ذات أصل «غربي». وَصْفُ هذا الانشغال بأنه وباء «مثل الكوليرا»، وبأنه تشويه، وانحراف عن العادي، الطبيعي والصحي الذي تسبب تدريجيًّا في إضعاف الروح الوطنية الإيرانية ونظام الأخلاق الشيعي الذي يعدُّه آل أحمد المكون الرئيس لهذه الروح الوطنية؛ أصبح مفهوم غرب زدكي شعارًا قويًّا كما أصبح اجتثاث «الغربنة» ذريعة لشنّ هجمات على المهنيات العلمانيات بعد الثورة.

علي شريعتي

المثقف الثاني، علي شريعتي (1933- 1977م)، بنى على نقد آل أحمد للثقافة المادية الغربية ودعوته المثقفين الإيرانيين للتخلي عن غرب زدكي. ركز، مُستخدمًا الشيعية كأيديولوجيا ثورية لمواجهة الإمبريالية الثقافية، على إعادة تخيل «العائلة المقدسة». في دراسته Fāṭemeh Fāṭemeh ast «فاطمة هي فاطمة» (في الأصل محاضرة أُلقِيت في عام 1971م ثم وُسِّعَتْ ونُشِرَتْ في كتاب) قدم شريعتي فاطمة، ابنة النبي، زوج علي وأم الأئمة كنموذج مثالي للمرأة الثورية، ضربٌ من نموذج ثالث بديل للمرأة التقليدية (التي تقبل دورها على نحو مطلق) والمرأة العصرية (التي تقلد المرأة الغربية، ومن ثَمّ تصبح مستهلكةً طائشةً أو كما يقول «دمية مطلية»). في حجج شبيهة بحجج مطهري، حذر المفكر العلماني من أن النساء كن الحلقة الضعيفة في الدفاع ضد تسلل الرأسماليين الغربيين واستغلال العالم الثالث؛ نظرًا لحساسيتهن، كانت النساء أول من قبل الحضارة الغربية الجديدة، أي الاستهلاكية الجديدة. ومع ذلك، فلا تأويل مطهري «التقليدي الجديد» ولا صورة شريعتي الرومانسية والتاريخية والثورية عن فاطمة وابنتها زينب وكلتاهما صُوِّرَتْ مثالًا للحب والإخلاص والشجاعة والصمود، لا التأويل ولا الصورة قدما نموذجًا لمحاكاته. على الرغم من الإشارة إلى الدين في صورهم المثالية للأنوثة (والرجولة)، فإن مواقف أيديولوجيِّي الثورة الثلاثة هؤلاء تعكس نموذجًا جندريًّا متجذرًا؛ فالنساء، بوصفهن الجنس الضعيف الذي يحتاج إلى التوجيه والحماية والسلطة، يُنظَر إليهن على أنهن تهديد وخطر على الأعراف الاجتماعية إذا لم يُكْبَحْنَ، ولكنهن يعتبرن في الوقت نفسه مفتاح حل المشكلات الاجتماعية.

لا لاهوت نسويًّا في الأفق

لدى مقاربة اتجاهات النقاش حول الجندر، علينا أولًا أن نعترف بالطيف الواسع من المواقف؛ إذ تتباين الاتجاهات السائدة في العقود السابقة -تقليدي وعلماني وإصلاحي وأصولي (إسلامي)- على نحو متزايد مع عدد لا يحصى من الممارسات الخطابية التوفيقية والهجينة. طبق محللو الجدل الإيراني حول الجندر نماذج مختلفة لتصنيف المواقف المختلفة. على مستوى الخطاب، من الأفضل، في رأيي، التمييز بين النصيين، وشبه النصيين، والسياقيين، وشبه السياقيين. أُضِيفَتْ فئة شبه السياقيين لالتقاط الأصوات في الجدل الإيراني التي، ربما بدافع الحذر، لم تقطع تمامًا مع أنماط الحجج التقليدية. التصنيف نفسه مناسب للتمييز بين المواقف التي تتخذها «النسويات الإسلاميات»؛ نظرًا لأن المصطلح الأخير غامض ومثير للجدل، فمن الضروري إلقاء نظرة موجزة على الأقل على ظهور هذا النوع من النسوية قبل مسح الاتجاهات في النقاش حول الجندر بمزيد من التفصيل.

«النسوية الإسلامية» مصطلح حديث الأصل، استخدم منذ التسعينيات في الأدبيات المتزايدة حول المرأة والإسلام، على الرغم من أن الظاهرة نفسها (إعادة تفسير النصوص الدينية بطريقة أكثر ملاءمة للمرأة أو مناهضة للسلطة الأبوية) أقدم وتعود إلى الوراء إلى المرحلة التكوينية للحركة النسائية المنظمة في أجزاء مختلفة من العالم الإسلامي. عمومًا، تشير النسوية الإسلامية إلى خطاب جندري نسوي في تطلعاته ومطالبه، لكنه إسلامي في لغته ومصادر شرعيته. ولما كانت مجموعات اجتماعية وسياسية متنوعة تشير بصورة متزايدة إلى قراءات بديلة للنصوص الإسلامية، فمن الأفضل فهمها على أنها نمط خطابي أو إستراتيجية ذات تطبيق محلي أو وطني أو عابر للحدود.

ليس المفهوم نفسه محل خلاف ومثيرًا للجدل فحسب، بل أيضًا تقدير قدرته على تحدي النظام الأبوي. فأولئك الذين يعتبرونها حركة وممارسة خطابية يكتشفون فيها «إمكانات هائلة» لـ«وكالة المرأة المسلمة عامة» و«ظهور الذات الأنثوية الجديدة» خاصة، التي بدورها قد تتحدى أو حتى تغير الخطابات الجنسانية الوطنية. ومثل غيرها من الاتجاهات المعاصرة التي تتمحور حول الإصلاح في العالم الإسلامي، يُنظر إلى النسوية الإسلامية على نطاق واسع على أنها مؤشر على أزمة السلطة الدينية وكذلك على أزمة التمثيل السياسي.

شيرين عبادي

قد يُسمح بملاحظتين إضافيتين في نهاية هذا الاستطراد:

أولًا- غالبًا ما يُؤكَّد على أن النسوية الإسلامية هي عمل مستمر. لا شك أنها لم تصل بعدُ إلى مستوى اللاهوت النسوي الراسخ كما هي الحال في المسيحية واليهودية.

ثانيًا- كثيرًا ما تذكر السرديات حول الظاهرة المعاصرة إيران من بين تلك البلدان التي لُحِظَت فيها علامات النسوية الإسلامية لأول مرة. في الوقت نفسه، سُلِّط الضوء على دور المجلات النسائية، وبخاصة مجلة Zanān زنان (1992- 2008م) في تمهيد الطريق لخطاب جندري إسلامي مناهض للسلطة الأبوية. ومع ذلك، أعتقد أنه عندما نتحدث عن الجمهورية الإسلامية الإيرانية، علينا أن نضع في الحسبان أن قرار الكشف عن النزعات الأبوية في التفسير الرسمي للشريعة الإسلامية لم يتخذ لذاته بل كرد فعل على التمييز والقمع القاسيين. علاوة على ذلك، ولكيلا تُسكِتُه الرقابةُ، يجب صياغة النقد ضمن الإطار الإسلامي المحدد. كانت المجلات النسائية مثل Payām-e Hājar، Zanān وFarzāneh وḤoquq-e zanān بالفعل منتدى لتداول الآراء المعارضة للخطاب الجندري الرسمي، وبالتالي أعطت فكرة عن الشكل الذي يمكن أن يتخذه اللاهوت النسوي.

وبينما قد يكون لها بعض التأثير في تعزيز الوعي بعدم المساواة القائمة بين الجنسين والإشارات التعسفية إلى الشريعة، فإنه يجب أن يُنسب الفضل إلى الحملات الشعبية أثر تعبوي أكبر بكثير. فيما يتعلق ب Zanān يجب ألا ينسى المرء أن المقالات التي قدمت تفسيرات بديلة للشريعة كانت قد كتبها حجة الإسلام محسن سعيد زاده (مواليد 1958م) وهو رجل دين متوسط الرتبة اعتُقل في عام 1998م، وحكمت عليه في جلسة مغلقة محكمة رجال الدين الخاصة، وأُطلِق سراحه بعد أشهر بعد تجريده من رتبته ومنعه من نشر عمله. على الرغم من أن المحررة شهلا شركت ونساء أخريات ممن ساهمن بانتظام في المجلة كن يطالبن بالاجتهاد وكشفن عن التناقضات في اللوائح القانونية الحالية، فإنهن لم يجادلن كخبيرات إسلاميات من حيث المنهجية القانونية، ولكن كناشطات أو محاميات علمانيات من حيث معايير حقوق الإنسان. هذا واضح فيما يتصل بمهرانكيز كار وشيرين عبادي خاصة.

أما النصيون، الذين يُسمون بدلًا من ذلك التقليديين أو أتباع الفقه الإسلامي التقليدي، فإنهم يلتزمون بتصور جامد جدًّا واختزالي وحصري للإسلام والشريعة الإسلامية. وعادة ما يتبنون نهجًا حرفيًّا، وإن كان من جانب واحد ومتمحور حول الفقه في القرآن والسنة (في الإسلام الشيعي أحاديث النبي وكذلك تقاليد الأئمة) وijmāʿ (إجماع الأئمة) وهو ما يرونه ثابتًا وغير قابل للتغيير. إن عدم المساواة بين الجنسين أمر مفروغ منه؛ لأنه يُزعم أنه منصوص عليه في الشريعة الإسلامية المقدسة ويتفق عليه فقهاء شيعة بارزون. أحد الأمثلة على هذا الموقف المحافظ جدًّا كان آية الله العظمى محمد فاضل اللنكراني (1931- 2007م) الذي كان يؤمن بشدة بالفصل بين الجنسين وعارض إعلان أحمدي نجاد في عام 2006م أن للمرأة الحق في حضور مباريات كرة القدم الكبرى (للذكور) في الملاعب، حتى لو كان في أماكن منفصلة.

زهرة رهنورد

يتبع شبه النصيين، المعروفين أيضًا باسم التقليديين الجدد أو الإسلاميين البراغماتيين، أساسًا النصوص فيما يتعلق بالالتزام بالقواعد المنصوص عليها في الشريعة وتجاهلهم للسياق الاجتماعي والتاريخي للمصادر الإسلامية. لكنهم يستخدمون مصطلحًا حديثًا إلى حد ما، في الأغلب بطريقة اعتذارية ودفاعية. فيما يتعلق بقضايا المرأة / الجندر، فإن وجهات نظرهم تستند إلى نظرية مطهري في التكامل. إن اعترافهم بالحاجة إلى الانحرافات الطفيفة عن المناصب التي كانت تشغلها سابقًا والسماح بها يُعَدّ خطوة عملية وخطابية واستجابة للاستياء الجزئي والضغط بين مؤيداتهن.

ومع ذلك، فإن هذه التنازلات الجزئية للوقائع الاجتماعية لا تهز افتراضاتهم الأساسية للعلاقات المثالية بين الجنسين. قد يفضلون الحديث عن «التوازن بين الجنسين» وهو في الأساس ليس بالأمر الجديد، لكنهم لن يسمحوا بأي مساءلة أساسية تتعلق بالهياكل الأبوية والسلطة الكتابية. تتعلق التنازلات الطفيفة، على سبيل المثال، بقبول وجود المرأة في الأماكن العامة، مع تطبيق أقل صرامة لقواعد الفصل والحجاب. على الرغم من أنهم أكثر تقدمية من زملائهم من جوانب عدة (حقوق المرأة والقضايا الاجتماعية الأخرى)، فإن أنصار الفقه (الفقه الإسلامي الديناميكي) يجب أن يُحسبوا أيضًا على أنهم شبه نصيين، طالما أخفقوا في إرساء منطقهم على إعادة التفكير على نحو منهجي في أساس الاجتهاد وافتراضاته الكامنة وراء نظريات الفقه الكلاسيكية. وينطبق الشيء نفسه على بعض الناشطات السياسيات (مثل زهرة رهنورد أو جميلة كاديفار) اللواتي دعمن النظام مدة طويلة، ولم يغيرن توجههن إلا تدريجيًّا.

دعاة الفكر الديني الجديد

في العموم، يؤكد السياقيون، الذين يُطلَق عليهم أيضًا الإصلاحيون أو الحداثيون، السياق الاجتماعي التاريخي للمحتوى الأخلاقي القانوني للقرآن الكريم وتفسيراته اللاحقة. فيما يتعلق بالجمهورية الإسلامية في إيران، قد يفكر المرء، أولًا، في جميع دعاة ما يُسمّى بالفكر الديني الجديد، أي الجيل الجديد من المفكرين «المطلعين على الغرب» الذين تلقوا اهتمامًا كبيرًا في الخارج من كل من العلماء ووسائل الإعلام. ومع ذلك، فقد تحاشى معظمهم «مسألة المرأة» أو قضايا الجندر في عملهم. بدلًا من ذلك، وفّر التأويل ونظرية المعرفة المُقترحين من جانبهم أداة تحليلية مناسبة لإعادة صياغة تفسير للنصوص الدينية مراعية للجندر والتوفيق بين العقيدة ونهج قائم على الحقوق (وليس على الواجب). في التسعينيات من القرن الماضي، كان سعيد زاده من أشد المدافعين عن حقوق المرأة حماسةً. وفي العقد الماضي، انضم إليه بعض رجال الدين والمفكرين العلمانيين في الدفاع عن وجهة نظر أكثر تسامحًا ومساواة للعلاقات بين الجنسين.

أعظم طالقاني

فيما يتعلق بمنهجيتهم، يمكن تقسيم السياقيين الإيرانيين عامةً إلى أولئك الذين يستخدمون منهجية قائمة على إعادة صياغة أو إعادة ترتيب أصول الفقه، وأولئك الذين يستخدمون المنهجيات الحديثة أو مزيجًا منهما. دعت بعض النسويات الإسلاميات إلى تطبيق تقنيات مماثلة (أعظم طالقاني، محبوبة عباس كولي زاده) ولكن على حد علمي، لم تنشر أي من هؤلاء ولا أي ناشطة نسوية إسلامية إيرانية أخرى حتى الآن كتابًا أوضحتْ فيه أفكارها ونهجها بطريقة شاملة. على الرغم من اتساع نطاق وجهات نظرها ومواقفها، فإن الدوائر الإيرانية ذات العقلية الإصلاحية تتبع على نحو عام الأسلوب الإصلاحي المعروف المتمثل في وضع النصوص الإسلامية في سياقها وتاريخها و«ترتيبها الهرمي». وتشمل تقنياتها ما يلي:

أولًا- رسم خط أكثر وضوحًا بين المصادر الأولية (القرآن والسُّنة، «الشريعة») والثانوية (الفقه ونصوص أخرى) للإسلام والشريعة الإسلامية، أي التمييز بين المشرّع الإلهي والمشرّع البشري الدنيوي.

ثانيًا – مسح الأدبيات الفقهية والإشارة في هذا السياق إلى تنوع آراء الفقهاء حول موضوع معين لإظهار عبثية ادعاء إجماع لا يمكن تغييره. ومع ذلك، لم يذهب أحد أبعد من آية الله عبدالله نوري أو حجة الإسلام حسن يوسفي إسكيفاري، سروش أو شبستري في الاعتراف بأن التنوع في التفسير الديني يثبت قابلية كل إنسان للخطأ بحيث لا يمكن لأحد أن يدعي أنه الوحيد الذي يمتلك الحقيقة، ومن ثم فإن القراءات المختلفة والمتنوعة للدين ممكنة ومشروعة ولا ينبغي السماح لأحد بفرض وجهة نظر محددة على الآخرين وعدّها مؤكدة.

ثالثًا – تأكيد أن المبادئ القرآنية تتجاوز السُّنة في حالات التناقض (راجع عقوبة الإعدام من أجل الرِّدَّة، والرجم كعقوبة للزنا، ولم يرد أي منهما في القرآن).

رابعًا – العمل على المصادر الأولية من أجل استخلاص جوهر الوحي (المبادئ العالمية الرئيسة مثل العدالة أو الحرية أو المعاملة بالمثل)، وترى الأغلبية هذه الأساسيات مبادئ توجيهية قانونية (أو أخلاقية) واسعة النطاق وملزمة وتختلف عن البعد الطارئ المتغير للدين.

خامسًا – الأخذ في الحسبان النطاق الدلالي للكلمات في القرآن الكريم الذي يتبين أنه نهج مفيد على نحو خاص لأولئك الذين يركزون على قضايا الجندر. توضح مراجعة المفردات القرآنية مدى تعقيد العديد من المصطلحات التي كانت مقيدة في العصور القرآنية اللاحقة. فالعادة أن تؤخذ الكلمات الرئيسة كدليل قرآني على تفوق الرجال مثل القوامة والفضل، وتُفَسَّر بطريقة بديلة وتُفَكَّك بحيث لا تشير إلى ميزة طبيعية جوهرية، بل ميزة محققة أو مكتسبة، ومن ثَمَّ استنتاج أن الاختلاف والتفضيل لا يعني بالضرورة التفوق في جميع المجالات.

سادسًا – تجنب الخطاب المتمحور حول الفقه والمفكرين الدينيين الجدد والنسويات المسلمات وما يشير أيضًا إلى تراث علم الكلام والفلسفة والتصوف.

سروش

ولعل أكثر ما يلفت الانتباه بين أغلبية الإصلاحيين الإيرانيين هو إشارتهم غير المتسقة إلى السنة النبوية والأئمة. وكلما بدا ذلك مناسبًا، يقتبسون من التقاليد، بما في ذلك نهج البلاغة (المنسوب إلى الإمام الأول) دون الإشارة إلى معاييرهم في الاختيار أو التفريق بين الأقوال الأصيلة وغير الأصيلة. يتضح نهج تاريخي مشابه فيما يتعلق بإضفاء المثالية على الأمة المبكرة (المجتمع الإسلامي). من خلال تبني مثل هذا النهج، فإنهم لا يظهرون فقط صرامة أقل من الإصلاحيين والحداثيين الشيعة السابقين والمعاصرين الذين حاولوا تمهيد الطريق لنهج عقلاني نقدي للدين والتاريخ، كما أن أسلوبهم التعسفي في الجدال يُسوّغ وضعهم في فئة شبه السياقيين. هذه السقطة مفهومة إلى حد ما؛ لأن أي استجواب للسُّنة الشيعية يمكن أن يتمخض عن رفض أساسيات التشيع ذاتها (المتمثلة في الإمامة، وإمامة المهدي الغائب). يبدو أن أقلية من الإصلاحيين الإيرانيين تحاول الالتفاف على هذه المشكلة عبر المطالبة بدولة علمانية.

وكما ذكرنا آنفًا، فإن النساء الإيرانيات العلمانيات والمدافعات عن حقوق الإنسان وحقوق المرأة، بمن فيهن المحاميات، والأديبات والصحافيات، نادرًا ما استخدمن الحجج القانونية الإسلامية، وبطريقة عامة فقط. وهذا أيضًا هو سبب عدم تصنيفهن، في نظري، تحت عنوان النسويات الإسلاميات اللواتي تمثلت أهم إستراتيجياتهن في السنوات الأخيرة في الدعوة إلى تعزيز المساواة بين الجنسين، والتوعية بالحاجة إلى إصلاح قانوني جوهري فيما يتصل بالقوانين التمييزية ضد المرأة.

مع استيلاء أحمدي نجاد على السلطة في عام 2005م ورد الفعل العنيف المتزايد ضد أي رأي منحرف عُبِّرَ عنه علنًا بما في ذلك آراء رجال الدين رفيعي المستوى. توصل بعض هؤلاء الناشطات اللاتي أمضين سنوات عدة في قراءة نسوية للقرآن الكريم ونصوص إسلامية أخرى إلى استنتاج مفاده أن جهودهن لن تؤخذ على محمل الجد من جانب المتشددين في السلطة؛ لذلك قررن التركيز على إستراتيجية ذات منحى عملي، كما أوضحت محبوبة عباس قولي زاده: «مهما حاولنا الدفاع عن قراءة مختلفة للإسلام، فإن الإسلاميين المحافظين سيصرُّون على خطابهم الخاص؛ لذلك، قررت تغيير خطابي وأن أصبح نسوية علمانية، والعمل مع النساء العاديات ومحاولة تحدي العلاقات غير المتكافئة بين الجنسين من الأسفل».

شادي صدر

قد توضح حملتان رائعتان حظيتا أيضًا باعتراف دولي واسع النطاق التحول في الخطاب (إلى قضايا حقوق الإنسان) والممارسة (إلى أهداف ملموسة) بهدف تشكيل تحالف واسع من أجل الإصلاحات. بدأت «حملة المليون توقيع» التي بدأتها شيرين عبادي وغيرها من النسويات البارزات في طهران في عام 2006م لتنتشر بسرعة إلى مقاطعات أخرى عبر الإنترنت. كان الهدف الأساس للحملة هو جمع مليون توقيع لدعم عريضة موجهة إلى البرلمان الإيراني تطالب بإلغاء القوانين التمييزية ضد المرأة، ولا سيما في قانون الأسرة والقانون الجنائي. مع اتباع الحملة إستراتيجية شاملة، وتجاوز الانقسامات الاجتماعية والأيديولوجية والجنسية، واكتسابها الشعبية، جرى تكثيف اضطهاد نشطائها.

أما الحملة الأخرى «أوقفوا الرجم إلى الأبد» فقد أطلقتها الناشطة في مجال حقوق الإنسان والمحامية شادية صدر، في عام 2006م أيضًا، بهدف منع الرجم على نحو لا لَبْس فيه من قانون العقوبات الإيراني.

هل ثمة أفق لمستقبل؟

أظهر الحضور الهائل للنساء في الاحتجاجات التي أعقبت انتخاب أحمدي نجاد مرة أخرى أن 30 عامًا من الثيوقراطية الأبوية لا يمكن أن تمنع النساء الإيرانيات من النضال من أجل الحرية والمساواة؛ بسبب خيبة الأمل المستمرة من الوعود الكاذبة، تعلم بعض النشطاء على الأقل، نساءً ورجالًا، التعبير عن مطالبهم بشكل أكثر وضوحًا. ويمكن الادعاء إلى حد ما بأن النشاط الجديد للمرأة في جماعات المجتمع المدني والحملات المتبادلة قد أسفر عن حركة اجتماعية بلغت ذروتها في الحركة الخضراء. ومن ثم فإن الجهود والإستراتيجيات المتعددة الأوجه للناشطين في مجال حقوق المرأة كان لها فعليًّا تأثير كبير في وعي المواطنين بحالات عدم المساواة القائمة في العلاقات بين الجنسين، وكذلك المظالم الاجتماعية. يبدو أنهم تمكنوا من إقناع العديد من الإيرانيين بحقيقة أن التمييز ضد المرأة واضطهادها لا علاقة له بالدين بحد ذاته، وإنما بالنظام الأبوي (هيكل النظام والتقاليد الأبوية) الذي أُسِّسَ على أساس تفسير انتقائي جدًّا للمصادر المعيارية.

في مواجهة الاحتياجات الأكثر إلحاحًا والقمع المستمر، يبدو أن الاهتمام السابق بإعادة قراءة النصوص الإسلامية على نحو عادل بين الجنسين قد تضاءل قبل أن يتطور إلى لاهوت نسوي إسلامي. قد يتساءل المرء: لماذا يجب عَدّ ظهور اللاهوت النسوي الإسلامي ضروريًّا؟ أتفق مع «النسويات الإسلاميات» الأخريات، من بينهن رفعت حسن وأسماء بارلاس، على أنه طالما بقي الدين هو المرجع الرئيس لهوية الناس، وطالما استمر كثير من المسلمين في قراءة عدم المساواة والنظام الأبوي في القرآن الكريم والنصوص الدينية الأخرى من أجل إرساء مسوّغ إلهي للتمييز ضد المرأة، سيظل تفكيك هذه الروايات وانتشار المنظور النسوي بشأن المصادر التأسيسية أمرًا مهمًّا.

فصل من كتاب «beyond the islamic revolution»