المثلية الجنسية في المجتمعات العربية والإسلامية.. بين الرفض والقبول

المثلية الجنسية في المجتمعات العربية والإسلامية.. بين الرفض والقبول

كان الإجماع حاصلًا ولقرون طويلة على عدّ المثلية الجنسية ظاهرة غير سوية، مرضية و/ أو انحرافية، الشيء الذي جعل المثليين موضوع تهميش وإقصاء من جُلّ المجتمعات العربية والإسلامية. وتغير الأمر عندما حذفت «المنظمة العالمية للصحة» المثلية الجنسية من لائحة الأمراض العقلية والنفسية، ثم حين أوصى «مجلس حقوق الإنسان» (التابع للأمم المتحدة) بعدم التمييز ضد المثليين الجنسيين فيما يتعلق بالاعتراف بحقوقهم الجنسية والإنجابية خاصة (على قدم المساواة مع الغيريين الجنسيين). بعد هذا الاعتراف «الدولي»، يجب التساؤل عن موقف المجتمعات العربية والإسلامية من إشكال المثلية الجنسية اليوم؟ وكيف تطور هذا الموقف اليوم من الرفض إلى قبول جزئي ونسبي للمثلية الجنسية؟

قبل الإجابة عن هذه الإشكالية المحورية، يجب التذكير بأن تشخيص موقف الإسلام والقانون من المثلية الجنسية يتأرجح بدوره بين الرفض والقبول. فموقف الفقهاء يطبعه الاختلاف بين المذاهب وداخل المذهب نفسه. فانطلاقًا من النصوص نفسها، من قرآن وسنة، استنبط الفقهاء أحكامًا مختلفة ضد المثليين تتأرجح بين الإعدام والجلد والتعزير والتبرئة. أما على صعيد القانون، فيمكن تقسيم الدول العربية الإسلامية إلى أربع فئات:

الفئة الأولى: تضم الدول التي وقفت عند التحريم الفقهي وعند تطبيق الحدود الشرعية كما جاءت في الفقه الإسلامي المُحرِّم (كما في السعودية مع الفقه الحنبلي). الفئة الثانية: تضم الدول التي أخذت بالتحريم الفقهي وبحدوده في قانونها الجنائي مثل: إيران والسودان وأفغانستان. الفئة الثالثة: تتكون من الدول التي حولت التحريم الفقهي إلى تجريم قانوني من خلال حذف المصطلحات الدينية والحدود الشرعية وتعويضها بمصطلحات حديثة (سلوكات مضادة للطبيعة أو للأخلاق)، وبحذف عقوبتي الإعدام والجلد وبالتسوية العقابية بين المثليين والمثليات مثل المغرب والجزائر وتونس. في هذه الدول، هناك علمنة قانونية للتشريع الخاص بالمثلية الجنسية دون أن تعني تلك العلمنة تحريرًا للمثلية الجنسية. والفئة الرابعة: تتكون من دول تخلّت عن التحريم الفقهي من دون أن تُجرّم المثلية الجنسية في قوانينها مثل: تركيا وإندونيسيا والعراق والأردن والبحرين ومصر. وهي دول متقدمة بالنسبة لمجتمعاتها؛ لأنها تواجه مقاومات اجتماعية يطبعها رفض الاعتراف بحقوق المثليين والمثليات.

الموقف الاجتماعي الرافض

تؤشر جل استطلاعات الرأي إلى أن المجتمعات العربية الإسلامية تميل إلى رفض المثلية الجنسية أكثر مما تميل إلى قبولها. هكذا سجلت دراسة مركز بيو للبحث (Pew Research Center) سنة 2013م أن المثلية الجنسية لا ينبغي أن تكون مقبولة من طرف المجتمع بالنسب العليا التالية: 78٪ من الأتراك، 80٪ من اللبنانيين، 86٪ من الماليزيين، 87٪ من الباكستانيين، 93٪ من الفلسطينيين ومن الإندونيسيين، 94٪ من التونسيين، 95٪ من المصريين و97٪ من الأردنيين. وفي عام 2019م، يشير المقياس العربي (Arab Barometer) إلى أن 6٪ فقط من اللبنانيين يقبلون المثليين في حين يتصدر الجزائريون قائمة المتقبلين بنسبة 26٪ ويليهم المغاربة بنسبة 21٪.

أولًا- ما يرفضه العرب والمسلمون على المستوى الاجتماعي هو الجنسمثلي السلبي. ويعبرون عن ذلك من خلال تسميات قدحية مختلفة في مختلف اللهجات القطرية. لكن لا بد من الاعتراف بوجود إعجاب شعبي تجاه الجنسمثلي الفاعل. وهو الإعجاب الذي يجد تفسيره في كون المثلي الفاعل يتماهى كلية مع نموذج الذكورة الفاعلة الممجدة اجتماعيًّا وتاريخيًّا. ثانيًا- ما يرفضه العرب والمسلمون هو الانتقال من مقولتي اللواط/ السحاق إلى مفهوم المثلية الجنسية، أن يتحول اللواط/ السحاق من سلوك جنسي شاذ محتشم ومتستر إلى هوية جنسية مثلية قانونية علنية. فهم لا ينكرون وجود اللواط والسحاق في المجتمعات العربية والإسلامية منذ القدم إلى اليوم كظاهرة منحرفة، وشبه مندمجة اجتماعيًّا.

فالرفض ليس رفض وجود الظاهرة اللوطية/ السحاقية في الواقع العربي والإسلامي، الرفض يخص عولمة الاعتراف بالمثلية الجنسية من خلال توصيات وقرارات مختلف المنظمات التابعة للأمم المتحدة (تحت تأثير بعض الدول الغربية النافذة). من هنا تنشأ كراهية المثلية والمثليين/ المثليات في العالم العربي والإسلامي، فهي كراهية للمثلية كمطالب حقوقية وكحركات اجتماعية يدعمها الغرب. من ثم كل أشكال الوصم والتهميش والاضطهاد والعنف التي أصبح المثليون والمثليات يعانونها أكثر فأكثر إلى درجة أن بعضًا منهم/ منهن يطلب اللجوء السياسي (لأسباب جنسية) وينالونه في بعض الدول الغربية. إنها هجرة من نوع خاص، هجرة جنسية، مثلية.

تعبر الرؤية القدحية التحريمية والتجريمية للمثلية الجنسية عند مسلم اليوم عن فقدانه للتحكم في تاريخه، وفي صنع التاريخ عامة. أمام ضعف المسلم أمام قوة الحداثة، ونظرًا لعدم استفادة المسلم من الحداثة بسبب رأسمالية نيو- ليبرالية وحشية، لا يملك مسلم اليوم سوى الرجوع إلى عصر يعتقده ذهبيًّا، إلى عصر يجعل من الرجولة والفحولة الجنسغيرية الوضع «الطبيعي» النموذجي المرجعي. إنه في حاجة إلى أمن جنسي يحد من قلق أزمته الهوياتية. وطبعًا، يجد ذلك الأمن في إسلام «مطهر» وصلب، مبسط ومفقَّر، في إسلام فوق كل تاريخ وفوق كل مجتمع، في إسلام أسطوري خال من كل الأشكال الأخرى للرجولة التي عرفتها الرجولة العربية والإسلامية في واقعها التاريخي والاجتماعي.

الموقف الاجتماعي المتقبل

في مقابل الرفض الاجتماعي السائد، لا بد من الإشارة إلى أن موقف بعض العرب والمسلمين من المثلية بدأ يتطور في اتجاه القبول. فعلًا، توجد اليوم تنظيمات حقوق الإنسان في معظم الدول العربية والإسلامية، تنظيمات ترى مطالب المثليين/ المثليات والمزدوجي الجنسانية والمتحولين الجندريين حقوقًا جنسية وإنجابية تندرج في قائمة حقوق الإنسان. فهذه الحقوق كل لا يتجزأ ولا يمكن استثناء الحقوق الجنسية والأقليات الجنسية منها. وأصبح جزءًا من الصحافة يتحدث ويدافع عنها كما أصبح بعض المحامين يساندون أفراد مجتمع المثليين الذين ألقي القبض عليهم. فمثلا نجد في المغرب «الجمعية المغربية لحقوق الإنسان» تطالب بحذف الفصل 489 من القانون الجنائي، ذلك الفصل الذي يجرم العلاقات الجنسية المضادة للطبيعة ويعاقب مرتكبها بالحبس والغرامة (دون تمييز بين الرجال والنساء، وهو ما يخالف الشريعة التي كانت تقول فقط بالتعزير للسحاقيات). في المغرب، عبر «المجلس الوطني لحقوق الإنسان»، وهو مؤسسة رسمية أسسها الملك نفسه، عن قبوله لتوصيات المنظمات التابعة للأمم المتحدة المتعلقة بإضفاء الشرعية القانونية على كل العلاقات الجنسية المتراضية بين الراشدين.

والواقع أن تحرك جزء من المجتمع المدني العربي والإسلامي لصالح مجتمع المثليين تزامن مع تحرك مجتمع المثليين العربي الإسلامي نفسه الذي انتظم في شكل جمعيات قطرية، وفي بعض الأحيان ما فوق قطرية. على سبيل المثال جمعية «ألوان» التي تهدف إلى رصد ودراسة كل خروقات حقوق الإنسان التي تتعرض لها الأقليات الجنسية في منطقة الشرق الأوسط، تلك الحقوق المتعلقة بالتوجه الجنسي وبالهوية الجندرية (المقصود بها الهوية الجنسية النفسية أو تعريف الشخص جنسيًّا لذاته بغض النظر عن جنسه البيولوجي وعن نظرة المجتمع له كرجل أو كامرأة). ويكمن هدف ذلك الرصد في وضع إستراتيجيات ناجعة لحماية ضحايا مجتمع المثليين من تعسفات السلطات و/أو المجتمع البطريركي الكاره للمثلية.

وفي عام 2021م، وقعت الفروع التونسية والعراقية والجزائرية لجمعية «ألوان» على عريضة تطالب فيها بمنع العلاجات التحويلية (Conversion therapies). والمقصود بتلك العلاجات إما تصحيح التوجه الجنسي، أي تحويل المثلي إلى غيري، وإما تحقيق التطابق بين الهوية الجنسية البيولوجية (ذكورة/ أنوثة) وبين الهوية الجنسية الاجتماعية (الجندر: رجل/ امرأة) وبين الهوية الجنسية النفسية (الهوية الجندرية). فرفض العلاجات التحويلية هو ما تدعو إليه بالضبط «المنظمة العالمية للصحة»؛ لأنها توقفت عن اعتبار المثلية الجنسية مرضًا أو شذوذًا منذ 1990م، وعن اعتبار التحول الجندري (شعور الذكر أنه امرأة، أو شعور الأنثى أنها رجل) خللًا نفسيًّا. لا مجال للتصحيح بالنسبة للجمعيات الميمية فكل التوجهات الجنسية سليمة وكل التحولات الجندرية سليمة أيضًا، وبالتالي يجب التعامل معها على قدم المساواة ودون تمييز لأنها تشكل سمات جندر ثالث إلى جانب جندري الرجولة الغيرية والأنوثة الغيرية.

على الصعيد القطري، توجد جمعيات عدة أسسها الميميون على شبكة الإنترنت نظرًا لعدم سماح السلطات بتأسيسها القانوني على أرض الواقع وتجنبًا لردود أفعال اجتماعية عنيفة. جمعية «حلم» التي تأسست سنة 2004م والتي حصلت على الترخيص القانوني سنة 2007م فتشكل استثناءً قانونيًّا وحيدًا (حسب معلوماتنا) في المجتمع المدني الميمي العربي. من بين الخدمات المتنوعة (دعم، خدمات، توعية…) التي تقدمها «حلم» للمثليين، مساعدة الراغبين منهم/منهن في الهجرة إلى كندا وأستراليا إذ إن هذين البلدين صديقان للجندر الثالث.

والواقع أن الرهان الأساسي لكل تلك الجمعيات من خلال المنشورات والنقاشات الإلكترونية يكمن أولًا في إقناع المثلي بتقبل ذاته كمثلي، وأن يتحرر من النظرة السلبية التي استبطنها بسبب تنشئة اجتماعية بطريركية سائدة. وتكمن الخطوة الثانية بعد تقبل الذات المثلية وبعد الشعور بالانتماء إلى مجموعة مثلية في الإعلان عن الذات المثلية (coming out)، أي الإعلان عن مثلية الأنا أمام الجميع، وأمام الأسرة بالخصوص، مع كل ما يقتضي ذلك من شجاعة، وما يتضمن من مخاطر. فالمثلي المقتنع لا يقبل أن يتظاهر بالغيرية لكي يعيش حياة اجتماعية عادية، بل تصبح مثليته أسلوبًا في الحياة، أسلوبًا جديدًا، جذريًّا.

من جهتهم، يحرر بعض الرجال المثليين عقود زواج إسلامية تتضمن عبارة «على سنة الله ورسوله»، وهي عقود يوقعها الزوجان المثليان بحضور شهود مثليين، والجميع متفق على إسلامية الزواج دون أدنى اعتبار للفقه وللقانون.