الشعر في الفضاء الاحتمالي.. كلام الفنان و«اكتساب الشعر» ومفهوم الوحي الإبداعي

الشعر في الفضاء الاحتمالي.. كلام الفنان و«اكتساب الشعر» ومفهوم الوحي الإبداعي

يتفاعل الشعر العربي الآن مع القارئ في إطار انقلاب في شكل التواصل بين المبدع والمتلقي؛ نتيجة التغيرات التقنية الحاسمة التي يعيشها العالم منذ أن تسيّدَت شبكةُ المعلومات (الإنترنت) فضاءَ الثقافة والإعلام تدريجيًّا، منذ نهاية القرن الماضي. فالشعر أكثر نوع فني قد تأثر بتراجع دور الكتاب المطبوع، وغدا من الصعب على الشاعر أن ينشر ديوانه إلا إن ساهم في نفقات الطبع، أو طبعه على نفقته. وصارت منصات التواصل الاجتماعي أو المواقع الإلكترونية المنفذ الأساسي للتواصل بين الشاعر وقارئه -حتى إن طبع الشاعر ديوانًا ورقيًّا- إلى درجة أن الفضاء الاحتمالي بات ساحةً لبعض الأنواع الشعرية الجديدة التي نشأت من رحم الوسائط والمنصات الافتراضية المعاصرة.

يفتح تأمل الشعر «الإلكتروني» المنشور بالفضاء الافتراضي أبوابًا جديدة لفهم ماهية الشعر من زاوية تواكب تغيرات العصر التقنية والثقافية، ولدراسة الآثار البالغة التي خلفها التطور التقني على إنتاج الكلمة الأدبية، ولا سيما في قالب القصيدة. أولًا، يعود بنا الشعر في العصر الإلكتروني وزمان وفضاء شبكة المعلومات إلى ظروف عصور قديمة لا تقتصر فيها عملية إبداع الشعر على نشاط ملكة خاصة للناطق/ الشاعر، بل تضم عنصر العلاقة بين الناطق ومحيط أوسع، أو كيان أعظم منه يستلهمه و«يكتسب» منه الكلمات التي يصوغها شعرًا. كان الشعر في العصور الكلاسيكية العربية والإغريقية وليد تواصل بين شيطان الشعر والشاعر. هو اليوم وليد تفاعل الشاعر مع دائرة الإنترنت المشحونة بالمعلومات والكلمات وكأنها معرفة لا نهائية. ثانيًا، تأثرت القصيدة المعاصرة بطبيعة وسيط الإنترنت ومنصات التواصل الاجتماعية عليه، وسيولة مفهوم المؤلف، الذي صار «مُرَكِّبَ» الكلمات بعضها إلى جانب بعض -حتى لو لم تكن كلها من تأليفه- بحيث صارت أحيانًا في منطقة رمادية بين التأليف والاقتباس والاستلهام.

الإبداع الدائم والإلهام الوقتي

على صعيد نظرية الإبداع، في عصر الفضاء الاحتمالي والشعر الإلكتروني -أي الشعر المنتج والمنشور عبر وسائط إلكترونية مثل الحاسوب وشبكة المعلومات، النت- يتفصل تصور جديد لفكرة الإلهام/ الوحي. في ثقافة العرب الكلاسيكية، كان مصدر الشعر إلهامًا من شيطان الشعر، وهي فكرة قريبة من التصور الإغريقي القديم. مع تثبت الإسلام، ساد فهم الإلهام الشعري بوصفه نتاج قريحة الشاعر، بينما اقتصر مفهوم الوحي على كلام الله المتجلي في كتابه، وفي الحالين صار فهم الكلام، من حيث هو كلام، مرتبطًا بقدرة الله الواسعة وإحاطته بكل شيء. فهو سبحانه خالق كل شيء، ثم «يكتسب» المتكلم قيمة عمله واستخدامه للكلام للغاية الأخلاقية أو غير الأخلاقية التي يوجهه نحوها. فإن قال المتكلم/ الشاعر شعرًا سعى به في الخير، فهو شعر خَيّر، وإن حاد بكلامه شعرًا عن طريق الخير، حَقَّ عليه اللوم الأخلاقي.

ما زال ذلك المفهوم صالحًا لفهم القيمة الأخلاقية للشعر اليوم، مع عودة الوعي التقني الحديث بإمكانات الفضاء الافتراضي التي تذكر القارئ بقدرة الله. فالبريد الإلكتروني الذي قرَّبَ بين الناس من أدنى الأرض إلى أقصاها يذكر المتأمل بقدرة الله على أن يجعل الناس «شعوبًا وقبائل لتعارفوا»، ويوحي للمتدبر بأن ذلك الوسيط التقني الحديث يتمثل قدرة الله السميع العليم؛ لأن البريد الإلكتروني يحفظ أسرار القلوب ويذكرنا إذًا بوجود ذات عليا هي عليمة بذات الصدور. ولأن الفضاء الاحتمالي حامل لقسم كبير من معارف البشرية، فهو يذكرنا بأن فوقه ذاتًا إلهية هي فوق كل ذي علم عليم. كذلك في مجال الشعر على الفضاء الإلكتروني: يمكن فهمه بوصفه إنتاج ذات مبدعة، لكنها ذات تتفاعل مع أشعار العالم المتاحة على النت، وبالتالي هي متأثرة بالإلهام الشخصي من ناحية، وبما يُوَحى إليها من جماع إنتاجات شعر البشرية المتاح على شبكة الإنترنت، من ناحية أخرى.

أفاض باحثون كُثُر في تأسيس نظرية الوحي في الثقافات العربية في عالم الإبداع، استنادًا إلى التصورات التراثية الإغريقية والعربية عن علاقة الناطق المتمايز (الشاعر، العراف، النبي على سبيل المثال) بدائرة ما وراء الطبيعة. عند قدماء الإغريق، كان الشعر همس الآلهة في روع بشر موهوبين مثل الشعراء والمنشدين. وعند العرب قبل الإسلام، كان الشعر إلهامًا من الجن يُلْقى في نفس الشاعر. ولعل هذا التصور هو الذي تمثلته النصوص المؤسسة للإسلام عندما ميزت بين الهداية التي ينتجها الوحي، وسيط نزول القرآن على الرسول النبي، والغواية التي تترتب على الشعر (والمضمر أن الشعر وليد همس الجن، أو وسوسة الشياطين- وهو تصور قريب من تصور قدماء الإغريق عن الشياطين الخفية، أو الجن).

في العصر الحديث، تحول مفهوم النظرية الفنية من تصور مصدر الشعر في دائرة الغيب والجن اللامرئي، إلى تصوره بوصفه وليد الإلهام الذي هو وحي من ذات الشاعر ذاته، أو ملكة من ملكات عقله ووجدانه تترجمها يده ولسانه إلى كلمات، واصطلح على تسمية تلك العملية بالإبداع. لكن المرحلة المعاصرة هي مرحلة الفضاء الافتراضي والكتابة الإلكترونية، أي أن الكتابة الآن تتجسد على وسائط إلكترونية مثل وسائل التواصل الاجتماعي أو البريد الإلكتروني. اليوم تتشكل نظرية جديدة للإبداع تتراسل مع الظروف التي شكلت نظريات قديمة للإبداع، ولا سيما من حيث تصورها لعلاقة وثيقة بين دائرة غيبية كمصدر للإلهام والمعرفة الفنية وبين الناطق/ الشاعر. قديمًا كان الشعر مستوحى من الجن ويتجسد على شفاه الشاعر. اليوم، يدخل في منظومة استيحاء الشاعر للشعر تفاعله مع الفضاء الافتراضي المحمل بصفات الإحاطة بالعلم وبالكلمات، وكأن ذلك الفضاء جزء من دائرة غيبية.

الشعر من «الإلهام» إلى «الاستلهام»

إن العلاقة بين مفهومي الوحي والإلهام وارتباطهما بالشعر تتجاوز كون الشعر متجسدًا ومتداولًا في يومنا هذا على فضاء شبكة المعلومات الافتراضي. ما أقترحه هو أن العصور الكلاسيكية للثقافة العربية كانت تقبل مفهومًا منتشرًا بين الثقافات القديمة، مثلما عند الإغريق، مفاده أن الكلام المفارق المتميز كالشعر مصدره غير بشري. فالمنشد (الرابسود) عند الإغريق يتلقى همسات -أو وحيًا- من الآلهة تجري على لسانه الشعر البديع. وعند عرب الجزيرة حتى بداية الدعوة المحمدية، كان هناك إجماع على مفهوم شيطان الشعر الذي يهمس للشاعر بأبياته. ومع ظهور الإسلام، تَسيّدت نظرية لا تمس الأساس المقصود هنا، ألا وهو أن الكلام الخارق للعادة مصدره غير بشري. لكن ميزت النظرية بين الوحي الذي يحمل كلام الله متجسدًا في القرآن، وبين الإلهام الذي يحمل الشعر والذي قد يكون مصدره غير أخلاقي. المنطق نفسه في سورة الشعراء حيث تقابل الآيات بين «تنزيل رب العالمين/ نزل به الروح الأمين» وبين «ما تنزلت به الشياطين».

بعدما تثبتت أركان الإسلام، لم يكن هناك من حاجة للإلحاح على نظرية التمييز بين المصدر الإلهي للقرآن والمصدر الشيطاني للشعر؛ لأن المجتمع العربي لم يعد يضم من يشك في المصدر الإلهي للوحي وفي مفارقة القرآن لكل كلام، كما أن الشعر قد أثبت فاعليته كأداة من أدوات الدعوة في مدح الرسول وفي الحماسة في الحروب التي بسطت أرجاء الدولة الإسلامية. لهذا سادت بقية العصور الكلاسيكية للثقافة العربية فكرة القريحة أو الإلهام الذي ينبع من ذات الشاعر وتصقله صنعته وموهبته. منذ تسيُّد الإسلام، تعدلت فكرة المصدر الشيطاني للشعر ليصير كل كلام في الوجود هو من صنع صانع الوجود. وبما أن الشعر كلام، فهو يدخل في الإطار نفسه، لكن قريحة الشاعر المعين هي التي «تكتسب» ذلك الكلام فتقدمه في إطار مقبول أخلاقيًّا، أو مرفوض اجتماعيًّا.

ترجمة هذا النموذج المعرفي في فضاء الشعر الإلكتروني اليوم تعيد صياغة مفهوم التناص وتفاعل النصوص. فالشاعر يعتمد على قريحته حين يكتب وينشر على منصات التواصل الاجتماعي. لكن عمل تلك القريحة لا يعتمد فقط على الذاكرة واستبطان الذات بحثًا عن جمل مفارقة ومجازات جاذبة. بل هو عمل به قدر من اتباع نموذج التعامل مع شبكة المعلومات، أي عمل لا يقتصر على انتظار الإلهام ومزجه بنشاط القريحة، بل يتجاوز الإلهام إلى الاستلهام. وبدلًا من أن ينتظر الشاعر إشارةً من دائرة مفارقة للدائرة البشرية، أو همسًا من شياطين الشعر، فإن شاعر اليوم الإلكتروني يستلهم مما هو موجود بالفعل في الفضاء الاحتمالي موضوعةً أو كلمةً أو صورة. وبذلك يتحول «اكتساب» الكلمات التي تنشأ في الدائرة الإلهية مثل كل الموجودات، إلى اكتساب شيء من الكلمات الموجودة في فضاء الكلام اللانهائي، الفضاء الاحتمالي. وبذلك يتحول الإبداع ويتحور، فلا يقتصر على كونه مجرد اجتراح ما لم يكن موجودًا من قبل، وإنما إعادة صياغة ما هو موجود بالفعل، لكن مع إضافة جديدة، أو ترتيب مبتكر.

التشابه والانتحال

يفسر هذا ما يعيبه بعض النقاد على قصيدة النثر واتهامهم إياها بأن نصوصها متشابهة، وإن اختلف شعراؤها. ليس مرجع ذلك هو انتماء تلك القصيدة إلى تجربة معينة تحتفي عند كل الشعراء بالعادي واليومي والتفاصيل، فقط. بل يعود هذا التشابه -في زعمي- إلى أن الجو العام على منصات التواصل والمواقع الإلكترونية، الذي تتسيده قصيدة التفاصيل اليومية أو قصيدة النثر، يفرض على الشعراء الروح نفسها، أو يغريهم باكتساب المفردات اللفظية والجمالية نفسها.

ويثير هذا الطرح قضية السرقة الأدبية والانتحال، وهما ظاهرتان قد تعاظمتا مع ازدياد دور الفضاء الاحتمالي كوسيط لنشر الشعر. أما الانتحال الكامل فأمره مفروغ منه، وتسمح محركات البحث بتتبع نص ينشره شاعر لأول مرة، ثم يجد القارئ النص نفسه منشورًا على صفحة شخص آخر بلا توقيع الشاعر، وهو ما يوحي بأن النص من إبداع صاحب الصفحة الناقلة للشعر. وفي رأيي، إن الانتحال بهذا الشكل هو شهادة لتميز القصيدة المنتحلة لدرجة أنها تغري بسرقتها.

السرقة الأدبية هي التي تمثل تحدّيًا أكثر تعقيدًا، عندما يقتبس شاعر فكرةً أو أسطرًا أو حيلةً فنيةً من شاعر آخر. فالشعر المنشور نشرًا ورقيًّا ينتمي إلى منظومة معرفية مرتبطة بالكتاب والكلمة المطبوعة ويحمل توقيع الشاعر المؤلف. فإذا ما نقل شخص كلام شخص آخر بلفظه، فإن الاقتراض/ الاقتباس/ الاكتساب يدخل في باب السرقة؛ لأن الحدود بين ما يكتبه الشاعر وما يكتبه غيره حدودٌ محددة واضحة: محددة بغلاف الكتاب المنشور أو المطبوعة، برقم إيداعهما، والكلام المنطوق/المكتوب ممهور باسم المؤلف/الشاعر كدامغ على علاقة الملكية الفكرية بين الشاعر وقصيدته. أما في الفضاء الاحتمالي -بحكم مادية الوسيط الافتراضي- فالشعر الإلكتروني يتحرك بين حدود سائلة، الفواصل فيها بين ما يكتبه فلان وما ينقله علان باستخدام خاصية القص واللصق المتاحة في كل برامج الحواسب ليست فواصل حاسمة.

خاتمة

كثيرًا ما قارن منظرو التقنية والفضاء الاحتمالي بين حال الثقافة في المجتمعات الشفاهية وحالها اليوم في المجتمعات المحكومة بفضاء احتماليّ طاغٍ: في الحالين لا يوجد كتاب «ينحصر» فيه المنتج الثقافي من شعر ونثر، ويعتمد تناقل الشعر مثلًا على الذاكرة وعلى جماليات لا تقتصر على جماليات الكتابة في كتاب مطبوع. في شعر المجتمعات الشفاهية ومجتمعات الفضاء الاحتمالي معًا، يعلو شأن التكرار والاسترسال؛ لأن مساحة كتاب معين لا تقيد الكلام والنطق. لكن المثير هو أن الشعر في العالم الافتراضي يسترجع مفاهيم عن الإبداع وعن المؤلف تعود لبدايات الشعر الكلاسيكي الشفاهي. اليوم، كما في عصر الجاهلية، المؤلف/ الشاعر لم يعد فقط المبدع الأصيل، بل صار أيضًا من يركب ويوائم بين أفكار السابقين والآخرين وبين صياغته هو لتلك الأفكار، من حيث إن المعنى على المشاع واللفظ على الخصوص.