الحالة الخليجية: فك الارتباط بين مساري الديمقراطية والمجتمع المدني

الحالة الخليجية: فك الارتباط بين مساري الديمقراطية والمجتمع المدني

الحديث عن المجتمع المدني في دول الخليج العربية كالحديث عن الديمقراطية والإصلاح السياسي: عناوين كبيرة، ومضامين صغيرة. فهذه الدول، شأنها شأن باقي الدول العربية، ترغب في الاصطفاف ضمن الدول التي يشهد فيها مؤشر الإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي تقدمًا، لكنها لا تقوم بعمل جدي من أجل بلوغ ذلك الهدف، وتكتفي من الغنيمة بتقارير التشجيع والمجاملة التي تصدرها بعض المنظمات الدولية، أو تلك التي تنشرها بعض الصحف والمواقع الإلكترونية، وبعضها ممول من قبل هذه الدول.

أما على صعيد المجتمع المدني، فإن هذه الدول تكتفي بما يلبي غاياتها في الظهور أمام الآخرين بمظهر الدولة الحديثة من جهة، وفي إيجاد مساحات لبعض القطاعات الأهلية للانشغال باهتماماتها، كالسماح بقيام الروابط والاتحادات العمالية، والجمعيات النسوية، وهيئات الأعمال الخيرية، والأندية والروابط الثقافية والأدبية والرياضية، من جهة ثانية، لكنها مساحات مغلقة ومراقبة جيدًا. وهناك، داخل كل دولة من هذه الدول، العشرات إن لم يكن المئات، من المؤسسات والهيئات التي تُصنف، وفقًا لقوانين هذه الدول، باعتبارها مؤسسات وهيئات أهلية، غير حكومية، لكن نظرة سريعة إلى القوانين التي تُرخّص هذه المؤسسات والهيئات، وتُنظم عملها، تكشف أنها لا تتمتع بالاستقلالية المطلوبة في عملها كمؤسسات مجتمع مدني، لا من حيث حق المنتمين لها في التنظيم من أجل الدفاع عن الحق العام، ولا من حيث القدرة على الشراكة مع الحكومات في العمل العام، ولا حتى من حيث العمل وتنظيم الأنشطة التي تدخل في صميم عملها قبل إبلاغ «السلطات المختصة» وأخذ موافقتها.

وإذا كان لا نتائج مهمة لهذين العنوانين الكبيرين (الديمقراطية والمجتمع المدني)، فذلك لأن غياب أحدهما أو ضعفه يُنتج، بالضرورة، غياب الآخر أو ضعفه، حيث لا يمكن رؤية مجتمع مدني حقيقي في ظل غياب الديمقراطية، أي دولة القانون والمواطنة، وعلى الجانب الآخر، لا يتحقق حكم الديمقراطية ويتطور إلا بوجود مجتمع مدني يشكل قوة دفع ورقابة.

غير أن لهذا الغياب المركَّب أسبابه الموضوعية، بعضها يتعلق بالسياق التاريخي لنشأة «الدولة الحديثة» في الخليج – رغم قدم بعض هذه الدول، وقدم بعض الكيانات التي تحولت إلى دول – وهي نشأة ذات «هوية وطنية» مرتبكة أضعفت شعور الأفراد بالانتماء السياسي إلى الدولة، وعمقت لديهم الشعور النفعي- الوظيفي، وبالتالي أثَّرت في فاعليتهم وإقبالهم على الانشغال بالشأن العام، والاهتمام بالفضاء الاجتماعي، باستثناء بعض النخب الثقافية والسياسية القليلة العدد والمحدودة التأثير. وبعض هذه الأسباب يتعلق بالثقافة الاجتماعية الموروثة، قبل قيام «الدولة الحديثة» والقائمة على العلاقات الهرمية، وعلاقة الولاء والتبعية (علاقة الرعية بالراعي) لا علاقة المواطن بالوطن، وإن كانت هذه الثقافة بدأت في التغير، تدريجيًّا وببطء، خلال العشرين عامًا الماضية، وكانت واحدة من علامات هذا التغير ما شهدته بعض هذه الدول من أحداث في عام 2011م.

هيمنة قطاعين على قطاع واحد

يضاف إلى هذين السببين، سبب ثالث مهم، وهو فائض الثروة النفطية الذي مكَّنَ ضلعًا واحدًا من أضلاع مثلث الدولة الحديثة، أو قطاعًا واحدًا من قطاعات الدولة الحديثة الثلاثة، بحسب تعريف الأمم المتحدة للمجتمع المدني الذي سنشير إليه لاحقًا، مكَّنه من التضخم والهيمنة على القطاعين الآخرين، بل جعلهما أداتين من أدوات الهيمنة والتحكم في كامل مكونات الدولة. هذه الهيمنة سينتج عنها تعليم يقوم على الوطنية والولاء، لا على المواطنة والحقوق والواجبات، وخطاب إعلامي متهافت يكرس صورة واحدة وصوتًا واحدًا هما صورة الحكومة وصوتها، التي وحدها، من يعمل من أجل الصالح العام!

عند هذه العلاقة التبادلية، وفي الحالة الخليجية (التي هي جزء من الحالة العربية العامة)، نتساءل: هل يجب أن نُبقي شرط الترابط بين الديمقراطية والمجتمع المدني قائمًا، وننتظر أن يتحقق أحدهما ويتطور لينهض الآخر ويتطور، أم أن علينا فك الترابط، ونسيان التجارب المشابهة التي شهدتها مناطق مختلفة في العالم، كانت هيمنة نظم الحكم فيها على المجتمعات مشابهة تقريبًا لما تعيشه المجتمعات في الخليج اليوم، كدول ما كان يُعرف بالكتلة الاشتراكية في أوربا الشرقية، وما كان يعرف بجمهوريات الموز في أميركا اللاتينية، والدور الذي لعبته القوى الاجتماعية والنخب السياسية في تحقيق التحول إلى الديمقراطية، ثم في قيام مؤسسات مجتمع مدني مستقلة في تلك الدول؟ ثم البحث، بعد فك الترابط، عن مقاربة خاصة تناسب «الحالة الخليجية»، إن كانت هذه المقاربة الخاصة ممكنة أصلًا في عالم مترابط متداخل بفضل ثورة المعلومات والاتصالات، ومصالح الشركات والقوى التجارية العابرة للحدود.

لكن قبل التفكير في مقاربة خاصة هكذا، علينا، في هذه الدول، وبوصفنا جزءًا من الأسرة الدولية، القبول بالتعريف الذي تقدمه الأمم المتحدة للمجتمع المدني، حتى لا نأخذ بالمفهوم الفلسفي/ النظري للمجتمع المدني، وهو مفهوم أوربي ولد وتطور مع النشأة الأوربية للمجتمع المدني أواخر القرن الثامن عشر، وكي نتجنب فتح باب بقي مواربًا دومًا لرفض «الصيغ والقوالب» الأجنبية التي لا تتوافق و«قيم وتقاليد» هذه المجتمعات.

تُعرِّف منظمة الأمم المتحدة المجتمع المدني بأنه القطاع الثالث إلى جانب الحكومة وقطاع الأعمال. بهذا التعريف، فإن الدولة الحديثة تتكون من قطاعات ثلاثة: القطاع العام وتمثله الحكومة، والقطاع الخاص ويمثله السوق (الشركات ومؤسسات الاستثمار)، والقطاع الثالث هو المجتمع المدني ويمثله الأفراد بما يشكلون من جماعات، واتحادات وجمعيات، ونواد، وروابط… إلخ، أي بما يُشكلون من فضاء عام واسع، وطيف متعدد من الاهتمامات والمشاغل ذات النفع العام، التي تنتظم في أطر وهياكل مؤسسية مرخصة، والتي لا تهدف، لا إلى الربح ولا إلى بلوغ السلطة. وبالقدر الذي تعمل فيه هذه القطاعات الثلاثة، مستقلة من أجل تحقيق أهدافها، فإنها تعمل في تناغم وتعاون في إطار الدولة وتحت مظلة قوانينها وتشريعاتها.

ووفقًا لتعريف الأمم المتحدة، فإن الدولة لا تكون حديثة، بل لعلها لا تكون دولة بالمعنى الإنساني والسياسي الجامع (وبالطبع بالمعني الذي تقره الشرعية الدولية ممثلة في المنظمة الأممية) إذا سقط أو ضعف قطاع من هذه القطاعات، أو إذا حاول قطاع واحد التحكم في القطاعين الآخرين، أو إذا تحالف قطاعان على القطاع الثالث وحوَّلاه تابعًا لهما، وهذا يحدث حتى في الدول ذات التجارب القارة في بنية القطاعات الثلاثة، لكن هنالك دائمًا معايير رقابة وضبط، من داخل القطاعات الثلاثة، ومن خارجها كالمؤسسات التشريعية والقضائية والصحافية، كما نرى اليوم في بلد كالولايات المتحدة الأميركية من تحالف رأس المال مع السلطة التنفيذية، ومحاولته الاختراق والتأثير في السلطة التشريعية بهدف تمرير سياسات وأجندات تهدف إلى السيطرة على القطاع الثالث «المجتمع المدني».

البعد المادي لحداثوية الدولة

ولأن الدولة ليست فكرة فلسفية أو تصورًا مجردًا، وليست بالضرورة خاضعة لتصور أو لتجربة إنسانية بعينها، إنما هي كيان مادي يتحقق على الأرض، بحسب التجارب التاريخية والاجتماعية المختلفة، فإن لحداثة أو لـ«حداثوية» الدولة بُعدًا ماديًّا يتحقق بعيدًا من حتمية الترابط بين الديمقراطية وبين قيام المجتمع المدني، وأيضًا بعيدًا من حتمية وجود القطاعات الثلاثة مجتمعة، متحققة في ذاتها ومستقلة عن بعضها الآخر، بل إن هذا الكيان يتحقق، في بعض الأحيان؛ إما بالعنف والإكراه وبالعصبيات القومية والشعبوية التي تلغي وتُذوِّب القطاعات الثلاثة في قطاع واحد اسمه سلطة الفرد أو سلطة الحزب كما في ألمانيا النازية أو إيطاليا الفاشية أو اللينينية السوفييتية، وإما من خلال الجمع بين دكتاتورية الحزب الحاكم، وديمقراطية السوق، أي بين مركزية الحكم وحرية الاقتصاد، ومن خلال خلق وتشجيع قوى إنتاج مستقلة أو شبه مستقلة، صغيرة ومتوسطة، تُعطي الإحساس بوجود مجتمع مدني منشغل بالإنتاج أكثر من انشغاله بالشأن السياسي، كما في التجربة الصينية. وإما من خلال الثروة المالية التي تضفي على بِنَى الحُكم التقليدية مسحةً معاصرةً كما هي الحال في التجربة الخليجية. غير أن هذه «الحداثوية المادية للدولة» لا تجعل منها دولة حديثة مستقرة وقابلة للتجدد، وإلا لما سقطت النازية، فكرةً وممارسةً، وكذلك الفاشية واللينينية، ولَتَمَكَّنت تلك النُّظم من البقاء والتجدد. وفي المقابل، لَمَا تَمكَّنت أمم كانت تتحكم فيها نزعة العنف الشعبوي من النهوض والتطور والاستقرار مثل اليابان. بقي أن التجربة الصينية حالة خاصة وهي في طور المراجعة والتحول منذ سقوط حكم ماو تسي تونغ عام 1976م.

فهل يمكن القول: إن لا حتمية الترابط بين الحكم الديمقراطي وبين ظهور مجتمع مدني مستقل من جهة، كما لا حتمية وجود أضلاع الدولة الحديثة، مكتملة ومستقلة بعضها عن بعض من جهة ثانية، هو المقاربة التي يمكن من خلالها النظر إلى إمكانية قيام مجتمع مدني في الخليج ولكن ذي طبيعة مختلفة؟

لا توجد «حالة خليجية خاصة» يمكن من خلالها البحث في مقاربة خاصة لقيام مجتمع مدني حقيقي وفاعل من دون ضرورة قيام حكم ديمقراطي حقيقي، فالتجربة الإنسانية واحدة، إنما يوجد مسار مختلف للتجربة السياسية (والتنموية) في الخليج مرتبط بالسياق التاريخي لنشأة الدولة الحديثة، وبالثقافة الاجتماعية، وبالوفرة المالية، ولكن أيضًا مع بروز نخب وقيادات حكم شابة، ذات رؤية «اقتصادية وسياسية جديدة» – كما حصل في الصين بعد رحيل ماو وتسلم الإصلاحي دينغ شياو بينغ الحكم في المدة من 1987م إلى 1992م. ولعل التجربة الصينية، رغم أنها ذات طبيعة ثقافية، وبِنى اجتماعية مختلفة تمامًا؛ جديرة بالدراسة والتأمل، خصوصًا من ناحية فك الترابط بين «الإصلاح الديمقراطي» و«الإصلاح الاجتماعي والاقتصادي» وتمكين المجتمع الصيني من التنظيم، ولكن حول معامل الإنتاج والانشغال بها أكثر من الانشغال بالشأن السياسي، ونقد الحزب الحاكم.

من هذه الناحية، يمكن القول: إن المقاربة الخليجية الممكنة حيال قيام مجتمع مدني، ليست بالضرورة على النموذج الأوربي، ولا بالضرورة على الطريقة الصينية، هي الأخذ من التجربتين بما يصلح لـ«التربة الخليجية»؛ أي القيام بإصلاح يتناسب وبنى الحكم والتركيبة الاجتماعية ذات الطبيعة القبلية والعشائرية، وإعادة بناء العلاقة بين الشعوب والحكومات على أساس الثقة المتبادلة والشراكة.والقيام بإصلاح اقتصادي يهدف إلى تحويل المجتمع من الاستهلاك إلى الإنتاج، وإصلاح اجتماعي يبدأ من التعليم على المواطنة، من دون أن تضطر شعوب هذه الدول إلى انتظار «غودو» الديمقراطية الذي يأتي ولا يأتي.

فهل يمكن تحقيق هذه «المقاربة الممكنة» في هذه الدول مما يجعلها دولًا مستقلة ومتطورة ومتسقة مع تاريخها ومع ثقافتها الاجتماعية والسياسية.

الجوائز الثقافية.. بين مضار السياسة وأزمة الشرعية

الجوائز الثقافية.. بين مضار السياسة وأزمة الشرعية

شكلت الجوائز الثقافية في العالم العربي ظاهرة خلال العقود الثلاثة الماضية، وبدا أن ثمة قدرًا من التنافس الإيجابي بين المؤسسات العربية، الحكومية والخاصة، على إطلاق جوائز تُعنى بالإنتاج الثقافي، والإبداع الأدبي والفني، وتسعى إلى دعم وتشجيع المبدعين في حقول الثقافة والمعرفة والآداب، والتعريف بهم وبإنتاجهم، على مستوى حركتي النشر والقراءة في العالم العربي، وعلى مستوى ترجمة الإنتاج الأدبي العربي إلى لغات عالمية، حتى يكاد لا يخلو بلد عربي اليوم من جائزة أو أكثر تُمنح سنويًّا.

دول الخليج العربية لديها تاريخُها في إنشاء الجوائز التي تعنى بجوانب الإبداع المختلفة، بل إن هذه الدول تحتضن بعضًا من بين أقدم الجوائز الثقافية، وأكثرها حضورًا وتأثيرًا، وأكبرها حجمًا من حيث القيمة المادية؛ مثل: جائزة الملك فيصل العالمية التي أُنشئت عام ١٩٧٩م، وجائزة الكويت للتقدم العلمي التي أنشئت أيضًا عام ١٩٧٩م، وجائزة سلطان العويس (١٩٨٧م)، وجائزة الشيخ زايد للكتاب (2006م)، والجائزة العالمية للرواية العربية التي تمولها هيئة السياحة والثقافة في أبوظبي (٢٠٠٧م)، وجائزة السلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب (٢٠١١م). هذا إلى جوار جوائز أخرى محلية، مثل تلك التي تمنحها جمعيات واتحادات الكتاب والجامعات.

غير أن الخليج في جوائزه (مثلما هو في مكونه الثقافي والتاريخي والحضاري) ليس واحدًا، فهذه المبادرات، على أهميتها، وأهمية دورها وأثرها، بها بعض الاختلافات، وتعتورها بعض الإخفاقات التي لم تتمكن المؤسسات والهيئات التي تُشرف عليها من معالجتها أو تجاوزها، على الأقل حتى الآن.

يُمكن تلخيص هذه الاختلافات والإخفاقات في أمرين: الأول- أن بعض هذه الجوائز لم تتجه إلى اكتشاف وتقديم، أو تكريس أسماء جديدة، أو أسماء لم تكن معروفة ومُكرسة في حقول الإبداع الثقافي (الأدبي والفني) المختلفة، باستثناء الجائزة العالمية للرواية العربية التي قدمت في السنوات الأخيرة أسماءً لم تكن معروفة ومُكرسة عربيًّا مثل الروائيين؛ الكويتي سعود السنعوسي، والعراقي أحمد السعداوي. على العكس من ذلك سعت هذه الجوائز، وبعضها لا يزال، إلى تكريس المُكرس من الأسماء بهدف إيجاد شرعية للجائزة من خلال المكانة الأدبية لمن تَمنح الجائزةُ نفسها لهم.

والثاني: هو عدم قدرة هذه الجوائز، أو الجهات والمؤسسات التي ترعاها، على التسامي فوق الخلافات بين الدول. فحتى الجوائز التي تصدر عن مؤسسات أهلية، أو مدنية، أو التي تمولها هيئات خيرية أو عوائل تجارية، لم تتمكن من البقاء في منطقتها الثقافية بما تعنيه من الوقوف على الحياد، وتجنب الاصطفاف وتجاوز الخلافات أو حتى المواقف السياسية (وبعض تلك المواقف تسقط، بوعي من القائمين على الجوائز أو من دونه، في الرطانة الوطنية) فيبدو الثقافي والإبداعي، مع هذه الرطانة، هامشيًّا أو تفصيلًا صغيرًا.

ولعلنا، في هذا السياق، نتذكر تلك الضجة التي أثارتها مواقف الشاعر العراقي سعدي يوسف من سياسة دولة الإمارات، بُعيد الغزو الأميركي للعراق في عام ٢٠٠٣م – وهي مواقف، قد يبدو رفضها وانتقادها مشروعًا. وكان سعدي يوسف قد مُنح عام ١٩٩٠م جائزة سلطان العويس في مجال الشعر. وإذا كانت مواقف الشاعر العراقي بدت مُستهجنة ومرفوضة، وكاتب هذه السطور مِن بين مَن أعلن رفضه لما كتبه سعدي يوسف حينها، فإن موقف الجائزة منها كشف ضيق المسافة بين الخاص والرسمي في هذه المنطقة، عندما قررت مؤسسة سلطان العويس الثقافية (وهي مؤسسة أهلية لا حكومية تحمل اسم الشاعر ورجل الأعمال الإماراتي الراحل سلطان العويس) سحب الجائزة من الشاعر العراقي التي كان مضى على منحها إياه أكثر من ثلاثة عشر عامًا، وشطب اسمه من قائمة الحاصلين عليها، وهو موقف سياسي لجائزة ثقافية، يتعارض من حيث المبدأ مع بيان منح الشاعر للجائزة «تقديرًا لريادته الشعرية ولدوره الإبداعي في النهوض بالقصيدة العربية الحديثة». فريادة سعدي يوسف الشعرية، ودوره الإبداعي باقيان، بصرف النظر عن مواقفه السياسية.

كما أن خلافات أهل السياسة لا تزال تلاحق، وإن بصورة أقل رطانة وتشنجًا، الجائزة العالمية للرواية العربية؛ التي تُعرف خطأً بـ«البوكر العربية»، كل عام تقريبًا، فمرة تُتَّهم بالوقوف ضد سوريا وضد الروائيين السوريين بسبب عدم منحها لأي روائي سوري، مُسايرة – حسب المنتقدين – لمواقف الجهة الممولة للجائزة، ومرة تتهم بالميل إلى بلدان الخليج مسايرة للموقف ذاته، وتارة في إعلانها موقفًا، صُنّف سياسيًّا حيال «الثورة التونسية» بمنحها عام ٢٠١٥م لشكري المبخوت عن روايته الأولى «الطلياني» التي كُتبت حولها ملاحظات نقدية وجيهة. ورغم أن اختلاط وتداخل السياسي بالثقافي في الجوائز الخليجية أمر يصعب تجنبه لطبيعة الدولة الحاضنة لهذه الجوائز، حتى تلك التي تصدر عن مؤسسات غير حكومية؛ لأن معظم هذه الدول لا يؤمن بالاختلاف والتعدد، ويضيق فضاؤه السياسي إلا على من يتفق ويتوافق مع سياسة الدولة ومواقفها وعلاقاتها، بصرف النظر عن صواب تلك المواقف أو خطئها من وجهة النظر الثقافية، ومن ثم فإن مبدأ استقلالية المؤسسة التي تمنح الجائزة مكفول طالما بقيت حركته في مدار الدولة وعلى ذات ألوانها. رغم ذلك، فإن هذه الجوائز غير معفية من محاولة العمل على خلق هامش ضروري من استقلالية قراراتها ومواقفها.

جوائز غير ملتزمة

غير أن الإخفاق الأول هو ما يجدر مناقشته أكثر؛ لأن هذه الجوائز وحدها تتحمل المسؤولية فيه، أو كان بمقدورها تجنب الوقوع فيه، ووحدها قادرة على معالجته، ذلك أن معظم هذه الجوائز لم تُخلص للمبدأ الذي تدّعي التزامه؛ وهو أن قراراتها في اختيار أسماء الفائزين أو الممنوحين الجائزة، تخضع فقط للقواعد الفنية والعلمية الحاكمة، أو تلك التي يتضمنها دستور الجائزة، ولا يتدخل في القرار، لا مجالس أمناء ولا مجالس إدارة ولا الهيئات الممولة، ولا الميول والذائقة الخاصة لأعضاء لجان التحكيم. توجد استثناءات لجوائز خليجية ذات ضوابط وتقاليد مؤسسية راسخة مثل: جائزة الكويت للتقدم العلمي، وجائزة الملك فيصل العالمية، وجائزة السلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب. وهذه الأخيرة قد تقع في المُشكلة نفسها التي تعانيها جوائز أخرى، ما لم يُسارع إلى مأسستها، على نحو علمي ومهني رصين وصارم، وتدعيم مجلس أمنائها ومنحه الاستقلالية اللازمة عن إدارة المؤسسة الراعية للجائزة.

لقد بدا أن بعض هذه الجوائز «الخليجية» كأنها تعاني عقدة المركز والأطراف، عبر ما بدا من انشغالها في البحث عن شرعية وعن وجود لها قائم على مركزية الأسماء الأدبية والثقافية، لا على مبدأ الإبداع ومعايير الاختيار. ونبقى في المثالين السابقين –للتمثيل فحسب– فجائزة سلطان العويس التي انطلقت عام ١٩٨٧م لم تهدف، منذ انطلاقتها إلى البحث عن أسماء مبدعين غير معروفة وغير مُكرسة، بل سعت، على العكس من ذلك، إلى «منح نفسها» للمكرس والمشهور من الأسماء، فكان ممن مُنحت لهم شعراء وكتاب كبار مُكرسون، ليس على المستوى العربي فقط، لكن على المستوى العالمي أيضًا؛ مثل: فدوى طوقان، وسعدي يوسف، وعبدالله البردوني، ومحمد الماغوط، وسعد الله ونوس، وصنع الله إبراهيم، وحنا مينا، وزكي نجيب محمود وغيرهم من الأسماء الكبيرة التي لم تُضِف لها جائزة العويس شيئًا سوى المبلغ المالي. وعندما نعود إلى تأمل مرحلة النصف الثاني من الثمانينيات حتى النصف الأول من تسعينيات القرن الماضي، ونقارن الحضور الكبير لجائزة العويس بأيامنا هذه، حيث لا يكاد أحد يأتي على ذكرها إلا في مناسبات قليلة، نستطيع تبين الخطأ الذي وقعت فيه الجائزة في محاولة تأسيس الشرعية والحضور والشهرة على أسماء متحققة، عوضًا عن خلق شرعيتها عبر اكتشاف وتكريس أسماء جديدة، سيرتبط تاريخ بروزها باسم الجائزة وتاريخها. الأمر ذاته صاحب الجائزة العالمية للرواية العربية، خصوصًا في دورتيها الأولى والثانية؛ ٢٠٠٨م بمنحها الروائي المصري المعروف بهاء طاهر، و٢٠٠٩م للمصري أيضًا يوسف زيدان. (جائزة كتارا تبدو أنها تعاني المشكلة نفسها، حيث مُنحت في دورتيها الأولى والثانية ٢٠١٦- ٢٠١٧م لروائيين مُكرسين أمثال واسيني الأعرج، وإبراهيم عبدالمجيد، وإبراهيم نصر الله، وإلياس خوري).

العطف على الآخر العربي

إن شعور بعض دول الخليج، أو النخب الثقافية في هذه الدول، خصوصًا تلك التي في مواقع القرار في المؤسسات الراعية لهذه الجوائز، بما يُمكن وصفه «الالتزام القومي الأخلاقي» عبر سعيها إلى «تكريم» الأسماء الإبداعية العربية ماديًّا، هو شعور يحمل ضمنيًّا، في لا وعي هذه النخب على الأغلب، معنيين مُتلازمين: معنى النقص الذاتي لدى هذه النخب من جهة، ومعنى العطف على الآخر العربي، الذي حقق مكانته ولم يعد ينقصه سوى المال من جهة ثانية، وهي حالة تتطلب بحثًا في «السوسيوثقافي» ليس محله هذا المقال.

مؤخرًا دُعيت، ضمن مجموعة من الكتاب والمشتغلين والمهتمين بالشأن الثقافي في عُمان، إلى اجتماع «عصف ذهني» في مركز السلطان قابوس العالي للثقافة والعلوم في العاصمة مسقط. كان هدف إدارة المركز الاستماع إلى آراء المدعوين في البرامج والأنشطة التي ينفذها، ورؤيتهم لتطوير هذه البرامج والأنشطة أو تحسينها، وهي كثيرة ومتنوعة، من ضمنها جائزة السلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب التي تُمنح سنويًّا في حقول معرفية وإبداعية مختلفة. وقد أثرتُ في الاجتماع الملاحظة نفسها التي لدي عن الجوائز الخليجية الأخرى، متمنّيًا من جائزة السلطان قابوس حديثة السن (أطلقت عام ٢٠١١م) ألا تقع فيما وقعت فيه تلك الجوائز، وأن تحقق شرعيتها وتاريخيتها في اكتشافها وتكريسها وتعريفها بأسماء جديدة، عُمانية وعربية، مع المحافظة على معايير التحكيم العلمية التي تعتمدها أمانة الجائزة، وأن تتجاوز هذه الجائزة التقسيم غير الثقافي وغير المنهجي، في تخصيص دورة للعمانيين وحدهم، ودورة مفتوحة للجميع، العمانيين والعرب. وهو تقسيم قد يُفهم منه أن العمانيين غير قادرين على التنافس مع غيرهم، وهذا غير صحيح، وغير مقبول من الناحية المنهجية لعمل أي جائزة، التي إما أن تكون محلية فقط أو تكون غير محلية. غير أن هذا لا يتحقق إلا إذا كان للجائزة مجلس أمناء، أو هيئة إشراف علمية مُحايدة، تتمتع بالاستقلال في اتخاذ قراراتها، بما في ذلك قرار اختيار أعضاء لجان التحكيم.

لعل ما تحتاجه الجوائز الثقافية في هذه المنطقة، خصوصًا هذه التي تنفتح على الأفق العربي والإنساني، هو روح المؤسسة وتقاليدها، التي تضمن لها الاستقلال والرسوخ والتطور والاستمرار، وأن تتحول إلى مؤسسات أو صناديق «وقف» تضمن بها لنفسها الاستقلال المالي، مقدمة لتحقيق هامش استقلالها عن السياسة واصطفافاتها وعصبياتها الضارة بأي عمل ثقافي.

الثوابت والمتغيرات في المجتمع والدولة في الخليج  محمد اليحيائي

الثوابت والمتغيرات في المجتمع والدولة في الخليج محمد اليحيائي

أود أن أركز مساهمتي المتواضعة في هذا الملف الذي يأتي في توقيت بالغ الأهمية بالنسبة لعلاقتنا، نحن أبناء وسكان هذه المنطقة بالنفط، والذي بدا وكأنه يلوّح لنا مودِّعًا، أركزها على الجزء الأخير من محاور الملف: ما الذي أعطاه النفط للمنطقة، وما الذي أخذه منها؟ الإجابة أو الإجابات عن هذا السؤال كثيرة ومتعددة، بعضها بسيط ومباشر، وبعضها عميق ومعقد، ويشتبك مع علم الاجتماع وعلم الإنسان والسياسة. على المستوى البسيط والمباشر، أعطى النفط هذه المنطقة الكثير، وأخذ منها الكثير. هذه المنطقة انتقلت بفضل العائدات المالية الهائلة من حالة معيشية واقتصادية إلى حالة أخرى جديدة، غيّر في الجغرافيا والديموغرافيا، في المجتمع والناس والدولة، وحوَّل منطقة الخليج من هامش بعيد معزول، ومن محطة لصراعات المستعمِرين، وممرّ لأطماعهم، إلى مركز استقطاب مالي وتجاري، وهذه المرة للمُستعمِرين والمُستعمَرين معًا، فالمُستَعمِر الأوربي السابق، أصبح في حالات كثيرة، مُستخدَمًا (مُستَعمَرًا بالمعنى المادي) لدى المُستَعمَر السابق في عواصم ومدن هذه المنطقة. وهذا تحول مهم في العلاقة بين الطرفين أنتجه النفط.

المدينة الخليجية كـ«دبي» مثلًا، أصبحت، بفضل الثروة النفطية والمشاريع الاقتصادية والتجارية الأخرى التي تحققت انطلاقًا من الوفرة المالية للنفط، مدينة كوزموبوليتانية بكل ما يعنيه المصطلح من تنوع واختلاط هويات ولغات وألوان (أقلها حضورًا هو الهوية واللغة واللون المحلي). هذا «الاجتماع البشري» بلغة ابن خلدون، في المدينة الخليجية الجديدة صاغ شكلًا جديدًا من أشكال التعايش التي لم تكن معروفة في المنطقة قبل النفط؛ تعايش قِيَم الكرم والوفادة التي عُرف بها سكان الخليج مع النفعية، والانتهازية، والغرور، والتدافع المادي الذي اكتُسب وطُوِّر، ومُورِس، ولا سيما على مستوى مؤسسات الريع الرسمية والخاصة.

على هذا المستوى أيضًا، جعلت الثروة النفطية من ثلاث مدن خليجية هي: «دبي» و«أبو ظبي» و«الدوحة»، جعلت منها محطات عالمية كبري في شبكة النقل الجوي العالمية، حتى إن الصينيّ والهنديّ لم يعد بمقدورهما السفر إلى أوربا أو الولايات المتحدة الأميركية، إلا عبر التوقف في واحدة من هذه المحطات الثلاث على الأغلب، كما أن ليس بمقدور الأميركي أو الأوربي السفر إلى الهند أو الصين إلا عبر التوقف في واحدة من هذه المحطات العالمية الثلاث. أما على المستوى الآخر، العميق والمعقد، فإن البحث في التغييرات التي أحدثتها الطفرة النفطية على البنى الاجتماعية والثقافية (بما فيها الكتابة والأدب) يتطلب تجاوزًا للصور الظاهرة، اللمّاعة، والمدهشة والمُثيرة للإعجاب. وسيبدو من الصعب، التأريخ (من زاوية الأدب أو زاوية الكتابة عمومًا) للتحولات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي شهدتها منطقة الخليج العربية نتيجة للوفرة المالية الكبيرة وريع النفط، ما لم تُصبح تلك التحولات منظومة قيم راسخة، ينتج عنها تغيير جذري: أولًا- في البنى والهياكل الاجتماعية أو المجتمعية. وثانيًا- في أنماط السلوك وطبيعة العلاقات. وثالثًا- في شكل وطبيعة الدولة «الخليجية». فهل تمكَّنت الثروة النفطية الهائلة التي تدفقت على شعوب هذه المنطقة من تحقيق التغيير الجذري الذي يُمكن قراءته في النصوص المُنتَجة من داخل هذه المجتمعات، التي تكون –هي ذاتها– جزءًا من تلك التحولات ونتيجة لها. للإجابة عن هذا السؤال، نحتاج إلى قراءة سريعة (بما تسمح به المساحة المُتاحة لهذه المساهمة) لنقاط التحول أو التغيرات الثلاث المشار إليها أعلاه: غير أنه من المناسب أولًا أن نأخذ في الاعتبار ثلاثة أمور مهمة تتقاطع مع تلك النقاط الثلاث: الأول- يتعلق بشكل وطبيعة بنى الدولة والمجتمع التي كانت قائمة قبل اكتشاف النفط وإنتاجه بكميات تجارية، وكيف أثر فيها، وكيف غيّرها، أو كيف لم يؤثِّر، ولم يُغيِّر؟ الثاني- حجم الإنتاج، أو حجم الدخل المالي من النفط، وأثر ذلك على هذه التحولات.

مفاعيل الثروة النفطية

الأوركسترا السيمفونية السلطانية العمانية

الأوركسترا السيمفونية السلطانية العمانية

هذه الدول لا تتشابه، لا في الأمر الأول، ولا في الثاني. فالبحرين، على سبيل المثال، التي دشّنت مرحلة اكتشاف النفط لأول مرة في هذه المنطقة عام 1932م تختلف في بناها الاجتماعية والسياسية وفي الخطاب الثقافي الاجتماعي الذي كان قائمًا قبل النفط، واستمرّ وتطوَّر، على نحو من الأنحاء، بعد اكتشاف النفط، عن الإمارات التي دخلت مرحلة إنتاج النفط وتصديره بعد البحرين بأكثر من ثلاثين عامًا (بدأت إمارة أبو ظبي إنتاج النفط بكميات تجارية منتصف الستينيات، قبل قيام الاتحاد). كما أن إنتاج البحرين كان وبقي متواضعًا قياسًا بالإمارات التي أصبحت واحدًا من المنتجين الرئيسيين في العالم. الأمر ذاته ينطبق على الدول الأخرى، بدرجات متفاوتة. وهذا، بطبيعة الحال، قياس معياري مهمّ لمعرفة نتيجة مفاعيل الثروة النفطية على مجتمعات هذه الدول، وبالتالي على منظومة القيم والعلاقات وعلى شكل وطبيعة الدولة. الأمر الثاني: التفريق بين ما نعنيه بالتحولات أو التغيرات في البنى والهياكل الاجتماعية وفي أنماط السلوك وطبيعة العلاقات، وبين المشروعات التنموية والعمرانية الهائلة التي غيَّرت وجه الأرض في هذه المنطقة من جهة، وبين ثقافة الاستهلاك التي دخلتها مجتمعات هذه المنطقة بصورة لا توجد، بهذا الحجم والانفلات حتى في المجتمعات الغربية التي صدَّرت هذه الثقافة. فحداثة وكوزموبوليتانية دبي (والدوحة بدرجة أقل) ذات الواجهة المعولمة أمر، وبناها الثقافية والاجتماعية المحلية أمر آخر، وأحيانًا تكون العلاقة بين المسارين طردية؛ توسُّع في الكونكريت، يقابله انغلاق في الثقافة.

على صعيد التبدلات التي أحدثتها الطفرة النفطية على البنى والهياكل الاجتماعية أو المجتمعية، لا يمكن أن ننكر، بأي حال، أن تغييرات كبيرة حصلت، فقد تقلصت المساحات التي كانت تمثل البوادي المجتمعية إلى مساحات حضرية – مدينية، تبدَّلت العلاقات الاجتماعية فيها من علاقات قائمة على وشائج الدم والقرابة والعشيرة إلى وشائج قائمة على المصلحة والمنفعة والجوار بمعناه الإنساني. هنا أيضًا ثمة تباينات واختلافات بين مجتمعات هذه المنطقة، فالمجتمع العماني مثلًا ليس كالمجتمع السعودي، والقطري ليس كالبحريني، والكويتي ليس كالإماراتي. مساحات الفضاءين الحضري والبدوي، قبل عصر النفط، تختلف بين هذه الدول، والبنى الثقافية التي تُنتجها تلك الفضاءات أيضًا تختلف، قبل النفط وبعد النفط. المجال المديني والمجال الريفي في هذه المجتمعات يختلفان، قبل النفط وبعد النفط. هذه الاختلافات يتوقف عليها رصدنا لتأثيرات النفط في البنى والهياكل الاجتماعية، ففي حين أن القبيلة في بلد كعُمان –الذي أعرف تاريخه ومكوناته الثقافية والاجتماعية بصورة أفضل من معرفتي لتاريخ ومكونات الدول الأخرى– تاريخيًّا هي مؤسسة ذات تقاليد سياسية قديمة ومستمرة، وتقوم شبكة العلاقات فيما بين القبائل من جهة وفيما بينها وبين الدولة من جهة أخرى، قديمًا وحديثًا، قبل النفط وبعد النفط، على المنفعة والتحالفات السياسية، فإن القبلية في بلدان خليجية أخرى، تحركت قديمًا وتتحرك حديثًا، قبل النفط وبعده، ضمن دائرة الأعراف البدوية الأصيلة وعصبياتها القارَّة. وفي حالة عُمان كما في حالة النماذج الأخرى، لم يُحدِث النفط تغييرًا جوهريًّا في هذه البني، إلا بقدر ما عمَّق علاقات المصلحة في الحالة الأولى، وخلط المدينية بقِيَم البداوة كما في بعض الحالات الأخرى.

تغيير القيم الثقافية

وما يندرج على صعيد البنى والهياكل الاجتماعية، يندرج على أنماط السلوك وطبيعة العلاقات بين الأفراد، فصورة الرفاهية الاجتماعية التي أوجدتها الثروة النفطية، وضربت عميقًا في حياة الناس، هي صورة، في مركباتها الأعم، استهلاكية، وخارجية، وعابرة، ولم تتمكن الثروة النفطية بما أدخلته على مجتمعات هذه المنطقة من أدوات ووسائط وتقنيات، من تغيير القيم الثقافية العميقة،  ولم تدفع باتجاه المزيد من الانفتاح تجاه الآخر المختلف في الجنس أو اللون أو العرق أو حتى العشيرة والقبيلة، إلا ما كان قائمًا ومستقرًّا من انفتاح قبل النفط. ولعل أبرز دليل هو العلاقة بين الرجال والنساء، والعلاقة بين «المواطن» و«الوافد» في بعض هذه المجتمعات، وهي علاقة مُركَّبة من مجموعة أوهام؛ وهْم الذكورة ووهْم التفوُّق العِرقيّ ووهْم نرجسية المال. ولعل هذا يقود إلى سؤال حول نتائج التعليم الحديث في هذه المنطقة بعد نحو سبعين عامًا على اكتشاف النفط، ونحو خمسين عامًا على قيام الدولة الحديثة، وعن آثاره الثقافية في الأجيال الجديدة؟! غير أن هذا السؤال ليس مكانه هذه المساهمة. أما على صعيد شكل وطبيعة الدولة «الخليجية»، فإن النفط أحدث تغييرات كبيرة على صعيد شكل الدولة، أبرزها قيام ما يُمكن وصفه بـ«الدولة الوطنية» القائمة على بنى ومؤسسات تُدير شؤونها، وفي مقدمة هذه الشؤون إدارة ريع النفط وتوزيعه، ثم إدارة برامج التنمية التحتية التي لم يكن لها أن توجد لولا الثروة النفطية، وإدارة المجتمعات التي بدأت في النمو والتوسع بسبب البنى التحتية (المدن، والطرق، والمطارات، والموانئ، والمدارس، والجامعات، والمستشفيات، والجيش، وأجهزة الأمن…، إلخ)، وأخيرًا إدارة العمالة الوافدة (بحسب تعداد عام 2016م، يبلغ عدد سكان دول الخليج واحدًا وخمسين مليونًا ونصف المليون تقريبًا، منهم ستة وعشرون مليونًا ومئتا ألف مواطن، وخمسة وعشرون مليونًا ومئتا ألف أجنبي) أي أن نسبة غير المواطنين تصل إلى نصف عدد السكان في الدول مجتمعةً، وإلى 89.9% في قطر، و88.5% في دولة الإمارات.

عمانهذا العدد الهائل من العمالة الأجنبية هو أحد نتائج الطفرة النفطية، ويتطلب، بالضرورة، أجهزة ومؤسسات لـ«إدارة الجاليات». على الوجه الآخر، فإن النفط لم يُحدِث تغييرات مهمة على مستوى الثقافة السياسية أو فلسفة الحكم في الدولة الخليجية، فعلى الرغم من مؤسساتها البيروقراطية وأجهزتها الحديثة المختلفة والمتعددة، وعلاقاتها المفتوحة مع العالم، ووجود أعداد كبيرة من المتعلمين ومن النخب الثقافية والسياسية والاقتصادية، ومعالم العولمة التي أشرنا إليها، فإن بنية الدولة من الداخل وفلسفة الحكم فيها بقيت «قبلية» أو «عشائرية»، أو «الأوليغاركية» مغلقة، إلا بقدر ما تفرضه الضرورات من انفتاح على الشعوب وإشراكهم في بعض شؤون الدولة. حتى هذا الانفتاح وتلك المشاركة تحكمهما مفاهيم النفعية و«الزبائنية» أكثر منها الشراكة الوطنية القائمة على مفهوم « الحق والواجب» الذي تعرفه دولة المواطنة. غير أن هذا الانغلاق في بنى الدولة ليس سوى نتيجة لبنى ثقافية واجتماعية قديمة وقارَّة لم تتمكن الثروة النفطية من تفكيكها وكسر قواعدها وأطرها، بل يمكن القول: إن النفط ساعد على ثباتها وتماسكها وإن مَنَحَها لبوسًا حداثية.

غير أن السؤال الذي علينا طرحه ومناقشته في قادم الأيام هو: هل سيكون بمقدور المجتمعات والدولة في الخليج، وقد مكنتها الثروة النفطية من بناء كل هذه المؤسسات؟ هل سيكون بمقدورها الانتقال من مؤسسات المجتمع والدولة إلى دولة المجتمع والمؤسسات؟ ولا سيما أن النفط لم يعد، كما يبدو، بمقدوره مواصلة العطاء، على النحو الذي كان. سؤال في الثقافة، بمعنى الإنتاج والتفاعل والتفكير، وفي المجتمع بمعنى الانفتاح والمشاركة والاشتغال بالشأن العام، وفي السياسية بمعنى التفكير في دولة قائمة على علاقات المواطنة والشراكة والإنتاج، لا علاقات العطاء والمنفعة والتابعية. باختصار سؤال في المستقبل، بالنفط أو بدونه.