عبدالله العثمان: أكتب الشعر باللون والضوء والفراغ والمساحات

عبدالله العثمان: أكتب الشعر باللون والضوء والفراغ والمساحات

من الشعر كانت الرحلة الأولى للفنان والشاعر عبدالله العثمان، وبدأت حكايته من خلال ديوان «قد يحدث هذا الفراغ مرتين» و«ذاكرة متأخرة عشر دقائق».. بعد ذلك كانت النقلة الفنية من خلال عمله الفني «التعذيب من غير لمس» الذي حقق نجاحًا فنيًّا كبيرًا وعرض في عدد من المعارض الدولية. شارك عبدالله العثمان بأعماله المثيرة للأسئلة في معارض وتظاهرات خليجية وأوربية. فشارك في بينالي فينيسيا 2013م، وفي معرض جماعي في أسبوع الفن في هولندا في عام 2013م، وفي معرض في بيت السفير الأميركي في عام 2015م، وفي معرض فن جدة 2015م، ومعرض فن دبي 2015م، ومعرض فن ماربيا 2015م، ومعرض فن برلين ABC في عام 2015م. وأقام معرضًا شخصيًّا في الرياض في عام 2014م. وكانت آخر مشاركاته من خلال معرض صحراء X العلا من خلال عمل جغرافيا الأمل، وعمل بعنوان اللغة والمدينة في بينالي الدرعية، الذي أقيم في 2022م.

عبدالله العثمان تحدث لـ«الفيصل» عن تجربته وعن أعماله المقبلة وعن مصادر إلهامه.

  نبدأ من النهاية.. عن آخر أعمالك الفنية المعروضة.. «جغرافيا الأمل» في العلا.

  شاركت هذا العام بعمل فني اسمه «جغرافيا الأمل»، حيث عملت على فكرة السراب في الصحراء، والدور المهم الذي صنعه في صحراء الجزيرة العربية التي ألهمت الناس بالحث والبحث. فكرة العمل عن رؤية الأمل في السراب، وكيف يعطي مساحة لتحريك المخيلة ويصنع ذهنية إبداعية في الجزيرة العربية من خلال هذه الحالة أو الظاهرة الكونية. هذه الظاهرة جعلت الناس تتحرك بحثًا عن الماء إلا أنهم يجدونه سرابًا في النهاية، لكن هذا الدافع في الحركة صنع أملًا واكتشافات جديدة على مستوى التخيل والأماكن والتحديات التي عاشوها. من هنا التقطت هذه الزاوية في التناول وكيف أنها أثرت في الثقافة العربية، بدءًا من قصة السيدة هاجر وولدها «إسماعيل» في البحث عن الماء، التي صنعت حضارة ماء زمزم، فأخذت أقدِّم الخرائط التي تكوَّنت في جبل الصفا وجبل المروة، حيث دمجتها بعضها مع بعض، وكوَّنت منها مجسمًا يخلق سرابًا واقعيًّا وحقيقيًّا في الأرض، وبه فانتازيا.

  في الوقت نفسه شاركت بعمل في بينالي الدرعية بعنوان «اللغة والمدينة».

  بدأت هذا المشروع في العام الماضي من ناحية توثيق اللغة ودورها في العمارة والمبنى، أي أن اللغة حين توضع على مبانٍ معمارية تدخل في التكوين البصري والفكري للعمارة. هذه الزاوية لم تكن مطروحة في الأبحاث، ولقد رأيت فيها جانبًا مذهلًا حول تأثير اللغة في المبنى وكيف تأثر المبنى بالتصاقه باللغة، أي ذاكرة اللغة نفسها، والأشخاص الذين اختاروا هذه الأسماء، حيث وثقت تجربة اللغة في المدينة من ناحية الخط الزمني لتاريخ العديد من الأماكن والشوارع.. هناك خط زمني للتسميات وكيف بدأت تسمية الأماكن والشوارع والمحلات والحارات وغيرها من الأماكن. وخط زمني أيضًا للمواد، أي كيف استخدموا المادة في كتابة العناوين، فاكتشفت رحلة مذهلة.

  عدت لأي تاريخ على وجه التحديد؟

  إلى ما قبل السبعينيات من القرن الماضي، حيث «تتريكس» أقدم لوحة كانت موجودة في الديرة على أحد المباني، والأولى في إدخال خامة الثياب، لدرجة أن الناس كانت تسمي الثياب «تتريكس» في ذلك الحين على اسم الشركة. وبالتالي يمكننا الوصول لأنثروبولوجي التاريخ الاجتماعي والإنساني من خلال اللغة والتسميات، فشارع «إبليس» مثلًا في السليمانية وشارع «الدركترات» مثلًا يعطيك فرصة معرفة أنه حين دخلت الدركترات في بناء المدينة كانت موجودة في تلك المنطقة. وتسمية مطعم الرومانسية مثلًا المعروف بكونه للأكلات الشعبية. على هذا النحو عملت على خلق وتوثيق وتفكيك اللغة الموجودة على المباني المعمارية من خلال الأنثروبولوجي.

  عملك في البينالي حقق نجاحًا شعبيًّا وكان فعلًا لافتًا بشكل كبير مقارنة ببعض الأعمال النخبوية ومنها أعمال لك كذلك. هل لديك توقعات مسبقة عن حجم إقبال الجمهور على العمل؟ أم يختلف الأمر بحسب المعرض والمكان؟

  بالفعل هناك أعمال يتصل فيها الجمهور بشكل مباشر، ففي هذا العمل نجد الأضواء والألوان والتسميات تجذب الزائر، فمثلًا قد تقرأ «ملحمة المستقبل»، أو لوحة قديمة مرَّت عليك في حارتكم، أو تجد خطًّا من الخطوط القديمة التي انتهت، أو تلك التي كانت موجودة في مجلة ماجد أو جريدة الرياض، وبالتالي تُحرك فيك نوستالجيا كثيرة وتجذبك الألوان.. التكوين عمومًا ساعد على تفاعل الحضور معه والوقوف أمام هذا العمل. لذلك بعدما عُرض في بينالي الدرعية اختاروه للعرض في بينالي ليون في فرنسا، وهذا أسعدني كثيرًا لأن التجربة أصلًا باللغة العربية، ولأجل اللغة في حد ذاتها، لكنها تتضمن بعدًا عالميًّا يمنح فرصة اختبار الفكرة في لغة أخرى.

مصادر الإلهام

  كيف يتشكل العمل الفني بالنسبة لك؟ أو بمعنى أدق كيف تستلهم هذه الأفكار؟

  أعتقد أنه التراكم الذي بنيته عن الموضوعات التي بحثت وقرأت فيها واطلعت عليها سواء في الشعر أو الرواية أو الموسيقا أو السينما. هذا الوقت الذي قضيته في الاطلاع صنع حالة من التراكمية المعرفية والانتباه للحالة الإنسانية والاجتماعية والفكرية والفلسفية، وبالتالي أصبح عندي حالة تأمل دائم. لحظات التأمل هذه مع التراكم المعرفي قد تصل بك لحالة ما أو ترقب شيء يمكن إضافته في جملة أو حكاية فنية. ليس عندي طقوس، أتفرغ وأعتكف بحثًا عن فكرة فنية، إذا جذبتني الفكرة فإنها تفرض نفسها عليّ فأصدقها أكثر من نفسي، أصدق أنها لي؛ لأن الأفكار كثيرة وتتطاير بين الناس لكن المهم بالنسبة لي أنها تأتيني وأنا آتيها بشكل مُلحّ. لا أبحث عن فكرة، بل أبحث عن حالة متضادة ومتسقة في تكويني؛ لأنني إذا دفعت نفسي للبحث عن فكرة سأتحرك في السياق نفسه الذي يتحرّك فيه الناس، فنصبح متشابهين في النتائج، وكأننا نستخدم قوالب جاهزة لإنتاج حالة إبداعية.

  بمتابعة مسيرتك نجد أنك لا تسير في مجال محدد منذ البداية، فقد بدأت بالشعر، ثم دخلت فجأة في مجال الفن المعاصر.. كيف تسير وما دليلك في قادم الأيام؟

  ميزة الشعر أنه موجود في مجالات عديدة؛ فهناك سينما شعرية وهناك الفن في صورة شعرية. أما حالة الشعرية فيعيشها الإنسان حتى مَنْ لا يكتب الشعر، فهي مرتبطة بالإنسان عمومًا وبكل الفنون؛ لذلك حتى الشخص الذي لا يرتبط بعلاقة مباشرة بالفنون هو يمارس حالة شعرية دائمة في حالاته اليومية وفي تجلياته. الشعر أعطاني اللغة وأعطاني تطبيقات هذه الشعرية في تكوينات جديدة، فأنا أكتب الشعر مثلًا بالصراخ والقفز والركض واللون والضوء، أعطاني مساحة ترجمة الأشياء اللغوية، وتركيبات الجملة الشعرية من كتابتها بلغة الكلمة إلى تنفيذها بالصوت والضوء واللون والأداء والفراغ والمساحات.

صناعة الإبداع

  أصبح للفن المعاصر في السعودية العديد من الفنانين ومعارض عديدة، لكن متفاوتة المستويات.. اللافت منها قليل جدًّا.. هل يمكن عدّها «موضة»؟

  لأن تجربة الفنون بشكل عام جديدة لدينا، وبالتالي صناعة التجربة الإبداعية تحتاج لوقت حتى تصل لمستويات كبرى، فلا تزال الرحلة في أوجها. لا يوجد لديّ تصوّر عن أي مرحلة نعيشها حاليًّا من مراحل النضج الإبداعي على المستوى التجاري، لكن لديّ إيمان شديد بما لدينا من إرث وتراث فريد، يمكننا استخدامه في الفنون والوصول به لنتائج تصل لكل مكان في العالم. هذه الثورة المعرفية التي شكّلتها الثقافة مادة خام صالحة للاستخدام.. «جيل يصنع تجربة ليأتي الجيل الذي يليه ليستفيد من تجارب سابقيه، ثم ينطلق هو في تجربته الخاصة. هذا التراكم هو ما نحتاجه، وأعتقد أن الوقت هو الرهان، وأنا مؤمن أن الزمن سيثمر تجارب مذهلة».

  ما جديدك فيما هو مقبل؟

  أعمل حاليًّا على عمل فني يُحاكي الطبيعة من خلال الرائحة واللون، فمع البحث اكتشفت أن اسم مدينة «الرياض» مشتق من الروضة، التي هي مجموعة نباتات مثل «روضة نورا» و«روضة خريم». هذه النباتات التي شكلت علاقة مع الطبيعة في وجدان المدينة تُرجمت في الشعر وفي الحياة اليومية. لذلك أريد توثيق هذه الحالة الشعبية من الاتصال بالطبيعة، مع التركيز على التاريخ الطبيعي الكبير لهذه المدينة.

  ما عنوان هذا العمل؟

  «الروضة». استخلصت من هذه الروضات ثلاث نباتات؛ منها الخزامى أو القرقاص والنفل ومجموعة نباتات أخرى نستخلص الرائحة من زيوتها، ثم نستخلص منها درجات اللون، إلى أن نتجه في رحلة داخل الرائحة واللون، أي: تجريدي اختزالي عالي في الرائحة واللون.