نداء الكينونة في «العالم يمشي معي» لأنيز كولتز

نداء الكينونة في «العالم يمشي معي» لأنيز كولتز

الشاعرة أنيز كولتز التي تؤمن بأن اللغة سكن للإنسان، وأن كلمةً قد تنسف العالم، وكلمة قد تعيد بناءه. للمرة الأولى، تُنقل إلى قراء العربية، في مختاراتها الشعرية «العالم يمشي معي»، التي ترجمها وقدم لها الشاعر الجزائري الخضر شودار (دار خطوط وظلال 2022م).

أنيز كولتز

كولتز، المولودة في لوكسمبورغ وتبلغ اليوم عامها الرابع والتسعين، كتبت في بداياتها الشعر باللغة الألمانية، وفي مرحلة لاحقة بالفرنسية. تحيل قصائدها القارئ إلى مقاربتها في ضوء مفهوم الكينونة عند هايدغر، إذ تظهر تجربتها الشعرية والحياتية والفكرية أن اللغة منزل الكينونة: «في هذا العالم/ الذي فقد معناه/ اللغة هي ملاذنا الأخير/ هي التي تحرض حاضرنا على الوجود». في هذا العالم الذي فقد معناه، تبحث كولتز عن الكينونة، في اللغة، في القصيدة، في الشعر لما يحمله من طاقة على الانكشاف والانحجاب معًا، من دون القبض على مفهوم ثابت: «خُلِق العالم/ في الكلام وسيتلاشى».

تحيل عبارات كولتز إلى الشعر بوصفه «القدرة الجوهرية للسكنى البشرية»، وهذا ما فسره هايدغر انطلاقًا من عبارة هُلدرلِن: «الإنسان يسكن العالم شعريًا»، فحس العبور إلى الكينونة، يتم بحسب هايدغر عبر اللغة بصفتها العنصر الدائم في الإنسان الذي منه يتكلم. «فاللغة هي منزل الكينونة»، وحضور الكينونة لا يتمظهر إلا في اللغة وفيما يسميه فعل القول الأصلي وهو الشعر. وهو ينطلق أيضًا من سؤال وَرَدَ في قصيدة هُلدرلِن «خبز وخمر»، وهو: «لماذا الشعراء في زمن الضيق؟»، ليتحدث عن الضرورة التي تفرض على الشعراء في مثل هذا الزمن «زمن الضيق» أن يقولوا «جوهر الشعر».

نداء الكينونة الأصيلة

تسائل كولتز في قصائدها جوهر الشعر، وتضع فيه ما هو أكثر جوهرية: الكينونة: «كل قصيدة /هي أثرٌ من مخالبي/ لا أبتكر القصيدة/ هي في مكان ما/ من العالم…/ سأترك عالمًا مسكوتًا عنه/ لو بقيتُ صامتة» وفي مكان آخر: «العدم/ خزانة تُركَت للغات العالم». القصيدة-الكلمات، موجودة في هذا العالم، ما يفيد أن الحقيقة موجودة في الشعر بالقوة والفعل، وما على الشاعر إلا أن يكشفها بما هو جميل. أما كيف يعمل الشاعر لإيجادها، فعليه أن يصغي إليها حين تناديه، بفعل مواجهته مع هذا العالم، يتمظهر في صراع ومخالب، أو محاولة حوار، في كلتا الحالتين يحتاج إلى لغة الشعر ليُوجَد؛ كي لا يبقى عالمًا مسكوتًا عنه. ذلك أن الشعر هو الأكثر قدرة على التقاط الوجود، ليفصح عن ذاته: ما إن تنتهي قصيدتي/ حتى تقصيني/ من عالمها/. تشكل القصيدة عند كولتز وجودًا قائمًا، لكنه وجود عرضة للانحجاب عن مدى الرؤية، يحمل الإنسان موته فيها والبدء من جديد.

أينما كان الشعر ثمة كينونة. ونداء الشعر بحسب هايدغر ليس إلا نداء الكينونة الأصيلة بكل المعاني، حيث الكلام الأصلي يأتي الإنسان في صيغة الصمت، وهذا ما نلمحه يتكرر في قصائد كولتز: «في الكلمات/ أصغي إلى الصمت/ وفي الصمت/ أصغي إلى الموت/ إنها البداية من جديد».

الشاعر إذًا قادر على أن يعري اللغة التي تحجب الوجود في كليته وماهيته، بها تدخل كولتز عالم المستحيل، تزور الجحيم، تخلق عوالم وتمحو أخرى: «بالكتابة/ أدخل / المستحيل… الكتابة/ هي في المستحيل/ معها/ أزور الجحيم/ حين لا تسكن الكلمات/ فمي/ املأه بالحجارة/..» بهذه الكتابة، تحاول كولتز إظهار بنية اختبار انتمائها إلى العالم، ووصالها بالكينونة، ومحاولة استجلاء الحضور الذي يتكلم في اللغة: «في كل حجر/ بيتٌ/ حَلم أن يكون» وفي مكان آخر: «ستحاكمنا/ الحجارة/ التي تطمرنا»، قصائد كولتز محاولة في الوعي أو الفهم الذي يطبع علاقتها بالعالم.

وبما أننا لن نفهم الكينونة إلا في الأفق الشرعي الوحيد للفهم وهو الزمان، وبخاصة أن كولتز بنت قصائدها على الموت والزمان، نجدها ترفض مع هايدغر أن الزمان الإنساني حد مقابل للأبدية أو السرمدية كما ساد التاريخ الفلسفي. إذ ليس ثمة أبدية أو سرمدية، وفي ضوء ذلك، يمكن لنا أن نقرأ في قصائدها: «اخترع الانسان الوقت لتبرير وجوده/ ولكي يبرر غيابه، اخترع الأبدية». فالكينونة منذ الميلاد، وهي متناهية متجهة نحو الموت؛ والزمانية مبتدؤها ومنتهاها، واللحظة حيويتها. ولا وجود بلا زمان. «لا أرض أخرى/ سوى الأرض–/ ستلتهمنا».

الحياة بالموت

مع كولتز، يغدو الزمان بصفته وحدةَ الأبعاد الثلاثة، وهذا هو زمانية الموجود الإنساني المتجه نحو موته، وهو متناهٍ لأنه ببساطة ينتهي بموت هذا الإنسان. فالزمانية هي عملية تتوحد فيها انبثاقات الزمان الثلاثة لوصف حركة التناهي البشري وسيره صوب الموت: «الآن وقد ألفت/../ أتمرن على الموت/ أستكشف خرائط للغيب/». وفي مكان آخر: «الإنسان ليس سوى سوء فهم للعدم/ يبكي من كونه حيًّا وميتًا«…» غيابي/ الذي كان منذ زمن بعيد/ قبل بدايتي/ يطول/ أبعد من عودتي» فالإنسان كائن متناهٍ، يبدأ بالميلاد وينتهي بالموت، وهو طوال حياته متجه نحو موته سواء أقريبًا كان أم بعيدًا، مع الأخذ في الحسبان أنه لا يوجد للموت وإنما يتجه في وجوده نحو الموت.

وأيضًا: «أعيش بالموت/ وأموت بالحياة/»، وإذا كان لي أن أفسرها بعبارات هايدغر، أقتبس منه الآتي: «في الحقيقة إني أحيا موتي كل لحظة، كأني أسير إليه وهو يسير إلي… أنا والموت متلازمان متساوقان بالزمان. إنه معي منذ البدء…. الموت ممتزج بالحياة إنه أسلوبها الخفي». فالموت لديهما كليهما ليس حفلة اعتزال، إنما هو سر متموضع في وجود الإنسان قد يكشف عن نفسه في أي لحظة، وهذا ما نجده مكررًا في قصائد كولتز: «همت طويلًا بحثًا عن الموت/ ثم عدتُ أدراجي/ فوجدتُه في سريري/ لابسًا جسدي من جديد/ مغمض العينين/ أنا منذ الآن/ أحرسه في قصائدي». لقد تصالحت كولتز مع الموت واحتضنته في قصائدها، كما فعل هايدغر بعد أن عراه ليكون وجودًا محضًا ينظر إليه كموجود فينومينولوجي فقط: «إني إنسان موشوم بالتناهي في كل لحظة من حياتي، فبمجرد أني جئت إلى الحياة فإني جاهز للموت». لقد جعلت كولتز من زمانية الموت لحمة الحياة، فالكائن الموجود، منذ أن يعي نفسه، يصبح مُعَدًّا للموت، يبحث عن معنى الحياة التي تصب في فجوته: «الشعب الذي يتناسل من قلمه/ يموت قبل أن يكون».

وفي ختام هذه العجالة، لا بد من أن نقول: إن هذه المختارات التي انتقاها المترجم، مستلة من أكثر من عشرة أعمال أدبية للشاعرة، تعبر عن الكثافة الداخلية للاختبار الإنساني الذي عاينته، كما تعبر عن يقظة روحية تجابه الواقع بالكلمة، بالتفكر الهادئ، بالحرية وتأصيلها، بالتمرد على الموروث، ببراءة الشعر وأصالته، بالخروج إلى ملاقاة الكينونة في صميم العالم: «اغسل رجليك/ وغادر بيتك/ لتقابل الكون».