النسوة الغربيات الرحّالات والإمبريالية.. الشرق أمام مفترق طرق

النسوة الغربيات الرحّالات والإمبريالية.. الشرق أمام مفترق طرق

نتناول في هذا المقال بعض الحكايات عن رحلات قامت بها فرنسيات إلى المناطق العربية الإسلامية خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي. تشكل هذه الحكايات مادة خصبة تسمح بطرح دراسة تتعلق بالنوع والإمبريالية. تستهدف هذه الدراسة بشكل أساسي الدور الذي لعبته النسوة الغربيات في بناء خطاب يتماشى مع الاستعمار ويشارك في وضع تعريف للتدرّج الهرمي الاجتماعي و/ أو العرقي. يستند هذا التحليل إلى نقطتين: النقطة الأولى ترتكز إلى العناصر التي حُشِدت في إنتاج معدل تمثيل المرأة العربية المسلمة ورمزية الاستعباد في مقابل النموذج المضاد للمرأة الغربية. النقطة الثانية ترجع إلى المتحدثات أنفسهن وتتساءل عن مصدر معدل التمثيل لديهن.

عن أي نسوة غربيات رحّالات نتحدث وإلى أي مكان يتجهن؟

في القرن التاسع عشر الميلادي، رحل كثير من النسوة الغربيات إلى الأراضي التي تمتد من المغرب حتى إيران مرورًا بالمناطق الجنوبية لروسيا، وهي مساحة شاسعة من الأرض تتّسم بتعدد الديناميكيات الإمبريالية والاستعمارية. القليل من هؤلاء النسوة الرحالات يسجل معلومات عن رحلاتهن الطويلة، ومع ذلك فقد ذكر بعضهن بيانات معينة تتعلق بمدة الرحلة ومسافتها والظروف المحيطة بهذه الرحلات وهل كن بمفردهن أو مع أزواجهن أم إنهم كن ضمن مجموعة معينة؟

رحلات رسمية قصيرة إلى البحر الأبيض المتوسط

لوسي فيليكس فور

الرحلتان اللتان قامتا بهما كل من لوسي فيليكس فور (1866-1913م) ولويز كوليت (1810-1876م) واستمرتا لبضعة أشهر، تُعَدّان من أقصر الرحلات. نُظّمت هاتان الرحلتان بغرض السفر إلى البلدان المطلة على البحر الأبيض المتوسط​​ ضمن مجموعة معينة، حيث تمكنت هاتان السيدتان من الحركة بحرية مؤقتًا. جرى تكليف لويز كوليت، ذي الستين عامًا، من قِبل صحيفة Le Siècle في شهر نوفمبر 1869م من أجل تغطية افتتاح قناة السويس. انتهزت لويز كوليت هذه الفرصة وزارت أماكن مختلفة في مصر ومضتْ قدمًا على خطى جوستاف فلوبير الذي أقام على أراضي هذه الدولة قرابة عشرين عامًا. نُشرت رحلة لويز كوليت في جريدة Le Siècle على حلقات عدة وأعيد طبعها في كتاب بعنوان «البلدان المضيئة» حيث تضمن حكايات عن مصر في القرن التاسع عشر الميلادي.

في حين أن لوسي فيليكس فور رحلت إلى أراضي العرب المسلمين بعد بضع سنوات، وتحديدًا بين عامي (1880-1890م). خلال إحدى الرحلات إلى إفريقيا، تروي لنا لوسي فيليكس فور قصة رحلتها الأولى إلى الجزائر سنة 1888م، بينما كانت تبلغ من العمر 22 عامًا، حيث كانت برفقة والدها الذي شغل منصب وكيل وزارة الخارجية للمستعمرات. كانت المجموعة الفرنسية تتكون من عشرات الأشخاص، ومن بينهم ثلاثة وزراء ونواب برلمان، وكان بعضهم برفقة زوجاتهم. خلال رحلتها الثانية التي كانت في عام 1894م، رافقت لوسي فيليكس فور والدها في رحلة رسمية. من الأماكن التي زارتها: البحر الأبيض المتوسط ​ ومصر والأرض المقدسة وإيطاليا.

الفضول: العقلية التبشيرية العلمية، إقامة طويلة المدى

يتعلق الحديث هنا بثلاث فتيات غير متزوجات وعائلتين مكونة من زوجين قاموا جميعهم برحلات استمرت لأشهر عدة أتاحت لهم فرصة الاقتراب من مجتمعات السكان الأصليين. تروي سوزان فوالكان (1801-1877م) عن الرحلة التي قامت بها في عام 1830م من خلال مؤلَّف لها يتناول سيرتها الذاتية، وقد نُشر هذا العمل بعد نحو ثلاثين عامًا تحت عنوان «ذكريات بنت الشعب». ترى سوزان فوالكان أن رحلتها إلى مصر تمثل بالنسبة لها «رسالة رسولية» تمنحها إمكانية مخالطة كثير من النساء المصريات من خلال عملها قابلة.

أما السيدة الإيطالية كريستينا تريفولزيو دي بيلجيوجوسو (1808-1871م) فهي تنتمي إلى طبقة أرستقراطية. في عام 1848م وبعد فشل الأحداث الثورية التي شاركت فيها غادرت برفقة ابنتها إلى آسيا الصغرى، حيث أقامت هناك من عام 1850 إلى عام 1855م. كما أنها أقامت في تركيا لسنوات عدة، ثم انتقلت إلى القدس، ثم إلى سوريا وفلسطين في عام 1852م. ونشرت كتابًا في عام 1858م بعنوان «آسيا الصغرى وسوريا، ذكريات رحلة».

تذكر الأديبة والصحفية والمؤرخة والناشطة النسوية والرحالة أوليمب أودوار (1842-1890م) في كتابها بعنوان «رحلة في ذاكرتي» الذي نُشر في عام 1884م: «كانت حياتي مكونة من مرحلتين متميزتين جدًّا: قضيت المرحلة الأولى منها في فرنسا، وكانت سيئة ومؤلمة، أما المرحلة الأخرى، فكانت كلها رحلات، وقد تميزت بالبهجة والسرور، حيث زرت مصر وسوريا وفلسطين وتركيا وروسيا وألمانيا وبولندا وأميركا وتعرضت في كل هذه الرحلات لمغامرات كان بعضها مأساويًّا وبعضها الآخر ممتعًا جدًّا، وهناك رأيت أشياء مهمة وتعرفت إلى شخصيات بارزة».

أما السيدتان أوجفالفي وديولافوي، فقد أقمن شهورًا عدة في منطقة الشرق الأوسط وفي آسيا الوسطى. نشرت السيدتان قصتيهما في مجلة Le Tour du Monde. من خلالهن سنتعرف إلى مجال البعثات العلمية، حيث رافقت ماري دوجفالفي بوردون (1845-؟) زوجها تشارلز أوجين دوجفالفي (1842-1904م). في عام 1876م، كلّفته وزارة التعليم العام بمهمة علمية في روسيا وسيبيريا وتركستان. وقد روت لنا ماري دو أوجفالفي بوردون هذه الرحلة بين سانت بطرسبرغ وسمرقند التي امتدت من أغسطس 1876م إلى نهاية عام 1877م.

أما السيدتان جان (1851-1916م) ومارسيل ديولافوي (1844-1920م)، فقد كانتا شغوفتين ببلاد فارس ومدينة شوش الإيرانية خاصة. استمرت إقامتهن الأولى في بلاد فارس 14 شهرًا. سافرن بعدها إلى اليونان وتركيا، ثم إلى مدينة يريفان في أرمينيا، ثم إلى إيران، ثم من الخليج الفارسي إلى مصب نهري دجلة والفرات. وذكرن رحلتهما الثانية في 1884-1885م وقد كتبت جان عن هاتين الرحلتين في مجلة Le Tour du Monde.

الموظفون المدنيون الاستعماريون

في سياقات مختلفة، أقامت زوجات الموظفون المدنيون الاستعماريون لسنوات عدة في البلدان التي جرى تعيين أزواجهن فيها. تصف بولين دو نوارفونتان نفسها بأنها السيدة التي جرى «ترحيلها طواعية» إلى الجزائر للإقامة هناك لمدة ثلاث سنوات. يشتمل كتابها وعنوانه «الجزائر: وجهة نظر مكتوبة»، على ست رسائل أرسلتها إلى معارف لها في فرنسا في المدة من يوليو 1849م إلى مايو 1851م علمًا أنها حررّت هذه الرسائل في مدينة وهران. ولأنها كانت تعيش داخل المجتمع الاستعماري، فقد استطاعت أن تكون على تواصل مع الجزائريين الذين سمحوا لها بالاقتراب من مجتمعهم، وبالتالي فقد أصبحت قادرة على اكتشاف العائلات وحضور حفلات الزفاف.

أما آن- كارولين فوازان دامبر (1827 – 1892م) التي أمضت ستة وعشرين عامًا في الجزائر بين عامي 1842 و 1868م، فقد وصلت إلى الجزائر في سن الخامسة عشرة وتزوجت من جوزيف فالنتين فوازان دامبر (1805-1890م) الذي بدأ حياته المهنية موظفًا حكوميًّا (1841م). أقامت السيدة فوازان دامبر في المناطق النائية بالجزائر، ثم في مدينة القالة التي تقع على الساحل الشرقي بين مدينة عنابة والحدود التونسية، وأخيرًا انتقلت إلى المنطقة الغربية وتحديدًا إلى مدينة وهران ومدينة أم عسكر. انتقلت الفرنسية أيبرتين أوكلير (1848-1914م) إلى الجزائر مع زوجها أنطونان ليفرييه الذي كان يعمل قاضيًا مختصًّا بالمصالحات. استمرت مغامرة السيدة الفرنسية أيبرتين أوكلير من عام 1888م إلى عام 1892م ثم توقفت بعد وفاة زوجها. وقد نشرت كتابًا بعنوان «المرأة العربية في الجزائر» في عام 1900م.

بين النسوية والإمبريالية: بناء رمزية الاستعباد

تهتم أغلبية قصص النسوة الرحالات بنساء الشعوب الأصلية خاصة، فهي تحكي عن تمثيل المرأة العربية المسلمة التي تُعَدّ نموذجًا لرمزية الاستعباد في مقابل النموذج المضاد عند المرأة في الغرب. وهكذا تحاول سوزان فوالكان رسم صورة للمرأة العربية المسلمة المقهورة.

الزواج: تصف الفرنسية أيبرتين أوكلير تعدد الزوجات بأنه يؤدي إلى تدمير الجسد بشكل سريع ويقود إلى الانحطاط الفكري. أما بولين دو نوارفونتان، فإنها تعدّ تعدد الزوجات مثل «المنظمة المخيفة».

الانغلاق والعبودية: تُوصَف حالة المرأة المسلمة على النقيض تمامًا من حالة النسوة الغربيات الرحالات اللاتي يتمتعن بحرية السفر والتنقل. تقدم جان ديولافوي تفسيرًا لوفاة امرأتين غربيتين في إيران نتيجة لافتقارهن للحرية؛ حيث إنهن أجبرن على ارتداء ملابس النساء الإيرانيات بسبب الضغوط الاجتماعية القوية هناك، وقد انتهى الأمر بهن إلى عدم مغادرتهن منازلهن ومن ثم فقد استسلمن للموت.

يمكن أن تتصف المرأة بأنها أَمَة عندما يتعلق الأمر بقضية الأعمال المنزلية أو الزراعية. لا شك أن بولين دو نوارفونتان كانت مهتمة بقضية إلغاء تلك العبودية في عام 1840م عندما وصفت النساء البدويات اللاتي يعملن في أوضاع قاسية بأنهن إماء لأزواجهن.

لويز كوليت

ملابس نسائية: إذا كان الخطاب المتعلق بملابس النساء يشكل أحيانًا امتدادًا لقضية الانغلاق، فإن القيم الجمالية هي التي كانت تشغل بال النسوة الغربيات الرحّالات في المقام الأول. تذكر لوسي فيليكس فور أن الفلاحات كن يرتدين ملابس لونها أسود تغطي كامل جسدهن حيث لا يكشف حجابهن سوى العيون. تصف السيدة فوازان دامبر هذه الملابس النسائية بأنها حجاب أسود مخيف حيث تغطي النساء رؤوسهن والجزء العلوي من أجسامهن. السيدة دو جفالفي من جانبها تقول: إن الملابس السوداء الحزينة التي ترتديها النساء العربيات يبدو قبيحًا جدًّا. كما تناولت لويز كوليت بالدراسة هذا البعد الجمالي الذي يشوه المرأة العربية المسلمة.

الشرق مرآة للغرب: إن موضوع المرأة يعد مسألة أساسية في هذه «الكتابات النسوية»، فمن خلال لعبة المرايا يكمن فهم الخطاب الذي تبنته النسوة الغربيات الرحالات اللاتي عشن في المناطق العربية الإسلامية على أنه خطاب يعبِّر عن ذواتهن لأنهن عشن تجربة فريدة من نوعها وتجربة الابتعاد وتجربة الحرية في ظل عالمين مختلفين لكل منهما ثقافته الجنسانية التي لا يمكن التخلي عنها.

الاستدلال عن طريق القياس: إن موضوع كتاب «نساء فرنسا البارزات» نُشِر في عام 1850م، وهو من تأليف الكونتيسة دروهوجوفسكا (1822-1893م) وموضوعه هو الحياة المادية التي حلّت مَحلّ الحياة الروحانية. أما المؤرخة كلاريس بادر (1840-1902م) فهي تستعرض في كتابها «المرأة التوراتية» العلاقة يبن الأخلاق والمجتمع ووضع المرأة في منطقة الشرق الأوسط. في حين ذكرت الرحالة والمؤرخة أوليمب أودوار في كتاب لها بعنوان «عِلم أمراض النساء والتوليد، المرأة منذ ستة آلاف سنة»، الذي نُشر عام 1873م، تاريخ النساء منذ العصور القديمة حتى القرون الأولى الميلادية.

تجارب تتعلق بالهوية: تدرّج متحرك

بعض النسوة الغربيات الرحالات على غرار السيدة دوجفالفي يتحدثن عن «النساء العربيات المعزولات» اللاتي لا يخرجن إلا لزيارة النساء في محيط الجيران أو لزيارة الصديقات. إنهن يقمن بأعمال شاقة كما أنهن يسكنّ بمفردهن مع أطفالهن؛ ولهذا فإن حياتهن حزينة وكئيبة. تتذكر كريستينا دي بيلجيوجوسو هؤلاء النساء العربيات عندما رحلت مع «فريق الخيالة العسكرية» إلى فلسطين. أما السيدة فوازان دامبر فتتحدث عن وضع مماثل في أثناء رحلة لها غير منظمة إلى المناطق النائية في تونس برفقة مجموعة من رجال البلاد الأصليين.

ميزان الثقافات الاجتماعية والجنسانية

بشكل عام، لم تستطع النسوة الغربيات الرحالات فهم وقبول المقومات الجنسانية للثقافة الأخرى. إن حجم التناقضات التي ذكرتها النسوة الغربيات يكشف عن اشمئزازهن من اختلاف المفاهيم الجنسانية، ويكشف أيضًا عن انعدام فهمهن لخصوصية ثقافتهن الغربية، وهو الأمر الذي يؤدي إلى انقلاب في مفهوم المحافظة. يتعلق الحديث إذن عن الجسد العاري أو المُغَطّى بملابس في الأماكن العامة أو الخاصة. إن خطاب النسوة الغربيات الرحالات ينحصر في قضية الاحتشام وعدم الاحتشام، ويكشف عن خضوعهن التام للثقافة الغربية التي لا تتسم بالحيادية.

إن أدب الرحلات القصصي يرسم سمات معينة لتاريخ علاقة الغرب بالمنطقة العربية الإسلامية. إن هذه الأدبيات تطرح أسئلة حول حاضرنا عن طريق استدامة الحديث حول هذه التمثيلات النسائية: وضع المرأة وحريتها والملابس والحجاب. علمًا أنه من النادر ما تُفهَم الحضارات الأخرى وتُستوعَبُ من خلال تنوعها الثقافي فحسب، ولكن في أغلب الأحيان تُفهَم بطريقة غيرية وسلبية وكاريكاتورية.


المصدر:

Isabelle Ernot, « Voyageuses occidentales et impérialisme : l’Orient à la croisée des représentations (XIXe siècle) », Genre & Histoire [En ligne], 8 | Printemps 2011, mis en ligne le 21 novembre 2011, consulté le 28 mai 2022. URL: http://journals.openedition.org/genrehistoire/1272