مفهوم «السلم» في المذاهب اليهودية وتأثيره في مواقفها من القضايا السياسية المعاصرة

مفهوم «السلم» في المذاهب اليهودية وتأثيره في مواقفها من القضايا السياسية المعاصرة

تُوصف الديانة اليهودية بـ«التطور»؛ نظرًا لخضوعها للتاريخ بشكل يمكن القول معه: إنها «ديانة تاريخية» تتحكم فيها مسيرة تاريخ الجماعات اليهودية قديمًا وحديثًا؛ وهو ما أدى لتعرضها للتغيير المستمر؛ إذ ظهرت بها كثير من الشرائع والعقائد المتأثرة والمُقتبسة من ديانات وثقافات أخرى اختلطت بها اليهودية على مر تاريخها؛ نظرًا لسيطرة ما تُعرف بظاهرة «الدياسبورا» أو «الشتات» على تاريخ الجماعات اليهودية؛ إذ تشتت اليهود إلى جماعات تعيش في بلدان متفرقة تحت ظروف سياسية وثقافية واجتماعية متباينة(١).

كما أدى «الشتات» لظهور العديد من الفرق والحركات الدينية اليهودية، التي اختلفت فيما بينها من حيث المفاهيم والرؤى، وتمايزت فيما بينها من حيث موقفها من التشدّد أو المرونة ومن الإصلاح أو الإبقاء على الطابع النمطي والتقليدي داخل اليهودية، بل اختلفت فيما بينها حول المصادر الأساسية للديانة اليهودية (العهد القديم «المقرا»، والتلمود)(٢).

ويمكن تقسيم هذه الفرق والحركات اليهودية إلى مذهبين كبيرين، الأول: المذهب التقليدي/ الحاخامي- التلمودي (الأرثوذكسي). والثاني: المذهب الإصلاحي، ويمكن عرض مفهوم «السلم» ومبادئه في فرق وتيارات وحركات هذين المذهبين، على النحو الآتي:

أولًا- «السلم» لدى فرق وحركات المذهب التقليدي/الحاخامي (الأرثوذكسي) باليهودية:

لما كان التلمود هو المرجعية لكل فرق وحركات هذا المذهب، والتمسك به هو محل الخلاف مع بقية المذاهب والفرق والحركات اليهودية الأخرى؛ فإن معظم المفاهيم والنصوص المتعلقة بمفهوم «السلم» ومبادئه جاءت منه وكانت متعلقة به أو مبنية على بعض المفاهيم والمصطلحات الواردة فيه أو الواردة حتى في العهد القديم (المِقرا) بوصفه النص الأساس الذي انبنت عليه المرويات الدينية اليهودية (التلمود).

ويمكن تناول مفهوم السلم ومبادئه عند أصحاب هذا المذهب من جانبين، هما:

1- النصوص التلمودية المُفسِّرة للنصوص المِقرائية المتعلقة بـ«السلم»

وردت في التلمود نصوص مُفسِّرة لفقرات مِقرائية حول السلم ومبادئه، من أبرزها «لم تُوجب التوراة تعقب الأوامر الشرعية، فما أمكنك القيام به افعله وغير ذلك لا تفعل، لكن حول السلام فقد طُلب منك أن تطلبه وأنت في مكانك وأن تتعقبه في أي مكان آخر» (شموت ربَّا).

وفقًا لهذا النص فالتلمود وسّع مفهوم السلم في اليهودية الوارد في المِقرا، ورأى فيه قيمة عالية جاءت بها النبوة الإسرائيلية. كما رأى الفكر الحاخامي/ التلمودي أن السلام هو جزء من ثالوث تمازجي يكمل كل منه الآخر ويتكون من (السلام والعدل والحق)(٣).

2- المصطلحات والنصوص التلمودية حول «السلم» ومبادئه

يعد مصطلح «سُبل السلام» من أبرز المصطلحات التي وردت في نصوص تلمودية تتحدث عن السلم، ومنها: «يدعون دائمًا بالسلامة والهداية لطرق السلام» (التلمود الأورشليمي، مسيخت جيطين، فصل 5). وهو مصطلح «تشريعي» وليس مصطلحًا عقائديًّا أو أخلاقيًّا، ويهدف إلى شرح علاقة اليهودي بالسلم ومبادئه، ويُستخدم لسنّ تشريعات سلوكية هدفها منع أية سلوكيات عدائية بين اليهودي وغير اليهود(٤).

ثانيًا- «السلم» في فرق وحركات المذهب الإصلاحي باليهودية:

لما كان منبع خلاف فرق وحركات هذا المذهب في اليهودية، مع فرق وتيارات المذهب التقليدي الحاخامي/ الأرثوذكسي، هو حول التلمود؛ فإن معظم ما جاء عن السلم ومبادئه عند فرق وحركات هذا المذهب، إما أنها كانت ترتكز على نصوص مِقرائية فقط أو تعود لأفكار ورؤى لقادة هذه الفرق والحركات.

وتتصدر حركة اليهودية الإصلاحية(٥) فرق وحركات هذا المذهب، ولا سيما في العصر الحديث، التي أحدثت في اليهودية ما يمكن تسميته بـ(ثورة دينية حقيقية)، لدرجة أن بعض الكتابات العلمية المعاصرة عدّتها أكبر تهديد واجه عرش اليهودية التقليدية في العصر الحديث.

كانت من أبرز الأفكار والمفاهيم الدينية المهمة التي عدّلتها اليهودية الإصلاحية، وأدخلت عليها مفاهيم يمكن وصفها بـ(السلامية)، هما مفهوما «الخلاص» و«الاختيار» في اليهودية؛ فقد رأت أن فكرة «الخلاص» هي إلقاء للمسؤولية الإلهية على كاهل البشر أجمعين، ولم تكن حكرًا على اليهود فقط وبشكل عنصري مثلما فسرتها اليهودية التقليدية/ الحاخامية(٦).

أما فكرة «الاختيار»؛ فقد أعادت اليهودية الإصلاحية تفسيرها وقامت بتخليصها من أية أفكار عنصرية ولا سيما تلك التي ارتبطت بفكرة أو مفهوم شعب الله المختار، فعدّ أبراهام جايجر (1810-1874م)، أحد أبرز قادة اليهودية الإصلاحية، أن فكرة «الاختيار» ذات مفهوم أخلاقي عالمي ترتبط بفكرة السلام العالمي(٧).

ثالثًا- تأثير «السلم» لدى المذاهب اليهودية على مواقفها من القضايا السياسية المعاصرة:

لم يكن تأثير مفهوم السلم لدى بعض مذاهب وفرق اليهودية، في القضايا الدينية والاجتماعية والفكرية اليهودية وحسب، بل كان له كذلك أثر كبير في مواقفها تجاه عدد من القضايا السياسية المعاصرة، ولا سيما المتعلقة منها بالصراع العربي– الإسرائيلي، ومن أبرز أمثلته الآتي:

اليهودية القرائيَّة(٨)

ظهر أثر المفاهيم السلامية تجاه العرب والمسلمين لدى هذه الفرقة في موقفها الرافض بقوة للحركة الصهيونية، وهو الموقف الذي جاء متسقًا مع موقف بقية الطوائف والفرق اليهودية التي قطنت في بيئة متسامحة في العالمين العربي والإسلامي الرافضين للصهيونية؛ إذ لم تكن الصهيونية تخاطبهم بل كانت تخاطب يهود أوربا، وبخاصة يهود شرق القارة الذين نشأت لديهم ما عُرفت بـ«المسألة اليهودية»؛ لأنهم عاشوا في محيط أوربي يضطهدهم(٩).

تجلى هذا الموقف القرَّائي بشكل أوضح في كل من مصر وتركيا؛ إذ كان للقرَّائين بهما نشاط ملحوظ ضد الصهيونية، إلا أن الأخيرة نجحت من خلال بعض الحيل والوسائل السياسية والدعائية والأمنية في جلب بضعة آلاف منهم وإدخالهم عنوة لإسرائيل(١٠).

اليهودية الأرثوذكسية

كان لبعض الحركات والأحزاب الدينية المنتمية فكريًّا ودينيًّا لمذهب اليهودية الأرثوذكسية، موقفًا سياسيًّا داعيًا لإرساء دعائم السلام بعد حرب عام 1967م، ذلك الموقف الذي كان مبنيًّا على رؤى ومفاهيم دينية (سلمية) تدعو لضرورة حل الصراع العربي- الإسرائيلي، وهو ما عبر عنه الحزب الديني الوطني (المفدال) وحركة «غوش إيمونيم» وكتل وحركات سياسية إسرائيلية أخرى محسوبة على هذا المذهب، التي استندت إلى خلفيات دينية ولاهوتية يهودية لتقديم حلول لهذا الصراع وفق رؤية دينية يهودية تدعو للسلام(١١).

اليهودية الإصلاحية

كان لمفاهيم السلم ومبادئه في اليهودية الإصلاحية الأثر الأكبر في مواقفها تجاه الصراع العربي- الإسرائيلي؛ فقد عارضت الحركة الصهيونية، وهو ما أُعلِن عنه في مؤتمر اليهودية الإصلاحية بمدينة مونتريال الكندية عام 1897م؛ إذ صدر منه قرار صريح جاء فيه: «نحن –أي اليهود الإصلاحيون- نرفض على الإطلاق كل محاولة لإقامة دولة يهودية؛ لأن هذه المحاولات تبين الخطأ في فهم رسالة إسرائيل التي امتدت من نطاقها السياسي والقومي الضيق إلى نشر الدين العالمي الذي أعلنه أنبياء اليهود بين أفراد الجنس البشرى عامة»(١٢).

كما رفضت اليهودية الإصلاحية ما يُسمى بـ« تصريح بَلفور» الذي وعد اليهود بإنشاء وطن قومي لهم في فلسطين؛ لذلك لم يكن غريبًا أن يكون وضع اليهود الإصلاحيين في إسرائيل في المدة التي أعقبت قيامها مباشرة ضعيفًا سواء من حيث الكم والعدد أو من حيث الكيف والتأثير(١٣).

ناطوري كارتا(١٤)

تعد «ناطوري كارتا» من أكثر الحركات الدينية اليهودية الأرثوذكسية المؤيدة للحقوق الفلسطينية والمناهضة دينيًّا وسياسيًّا لإسرائيل وللحركة الصهيونية، انطلاقًا من رؤى ومفاهيم دينية سلامية تقول: إن الأوامر الإلهية هي ما تمنعهم من مغادرة البلدان التي يعيشون داخلها، أو من إقامة دولة في فلسطين قبل قدوم المسيح المُخلِّص (الماشيح)، وهو التشريع الموجود في التوراة المقدسة منذ ألفي عام وتردد ذكره في التلمود(١٥).

تُعضد الحركة هذه الأفكار بعدد من النصوص الدينية اليهودية الواردة في العهد القديم والتلمود، ومنها ما ورد في سفر إشعيا 52/3 «هكذا قال الرب: مجانًا بعتم وبلا فضة تفكون»، التي يفسرها قادة الحركة وحاخاماتها على أنها تحريم إلهي للعودة من الشتات إلى الأرض المقدسة، وأن عبارة (مجانًا وبلا فضة) توحي بأن العودة للأرض المقدسة تكون بإرادة إلهية فقط، ومن دون أدنى محاولة من اليهود أنفسهم(١٦).


هوامش:

(١) محمد خليفة حسن، تاريخ الأديان، دراسة وصفية مقارنة، دار الثقافة العربية، القاهرة، 2002م. ص 179-180.

(٢) المرجع نفسه، ص 169.

(3) Rebecca Abrahamson: Peace Activism in the Orthodox Jewish Community: The Times of Israel, July 28, 2017. PP20.

(4) Jacob Neusner; War and Peace in Rabbinic Judaism: University Press of America; USA; 2011. PP 132.

(٥) حركة يهودية يعود تاريخ نشأتها إلى القرن الثامن عشر الميلادي في ألمانيا، وقد دعت لإدخال إصلاح على اليهودية سواء من حيث الرؤى والأفكار والعقائد أو التشريعات والطقوس.

(٦) عبدالوهاب محمد الجبوري، مقدمة في الفرق الدينية اليهودية القديمة والمعاصرة، شركة دار الوراق، لندن، 2008م. ص 27.

(٧) أسعد رزوق، المركز الأميركي اليهودي، منظمة التحرير الفلسطينية، مركز الأبحاث، بيروت، 1970م. ص 25.

(٨) فرقة يهودية ظهرت في القرن التاسع الميلادي في العراق، وتأثرت كثيرًا بالإسلام، فرفضت التراث الشفوي اليهودي وطرحت منهجًا عقليًّا للتفسير والفكر الديني.

(٩) جعفر هادي حسن، تاريخ اليهود القرائين منذ ظهورهم حتى العصر الحاضر، دار العارف للنشر، بيروت، الطبعة الثانية، 2014م. ص 235.

(١٠) المرجع نفسه، ص 235-236.

(11) David Newman; Peace Movements, religious; Encyclopedia Judaica, Kete Publishing House Ltdk; Jerusalem, (Second Edition) Vol 15,2007. P 703.

(١٢) محمد خليفة حسن، الحركة الصهيونية… طبيعتها وعلاقتها بالتراث الديني اليهودي، دار المعارف، القاهرة، 1981م. ص 64.

(١٣) عبدالوهاب المسيري، من هو اليهودي؟ دار الشروق، القاهرة، الطبعة الثانية، 2001م. ص 45.

(١٤) حركة يهودية أصولية ترفض الصهوينية بكل أشكالها وتعارض وجود إسرائيل، ويتركز أتباعها في القدس ولندن ونيويورك.

(١٥) رشاد الشامي، القوى الدينية في إسرائيل بين تكفير الدولة ولعبة السياسة، سلسلة عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 1994م. ص 117-118.

(١٦) المرجع نفسه ص 128.

المرجع العبري: פינחס חליווה: השלום כערך-על במשפט העברי ובמדרשי חז”ל، הוצאת המכללה האקדמית אשקלון، 1960.