قصة من تراث السامواري نمر كاي وتنين إتشيغو

قصة من تراث السامواري

نمر كاي وتنين إتشيغو

«الزن ليس لديه سر سوى التأمل بجدية في الحياة والموت» تاكيدا شينجن

في أثناء حقبة السنغوكو، وهي الحقبة اليابانية للممالك المتحاربة، كانت إمبراطورية الشمس المشرقة تعصف بها الحرب الأهلية المستمرة لما يقارب القرن ونصف القرن. وذلك بعد أن فقدت تمامًا سلطتها، وأصبح الإمبراطور والشوغون (الحاكم العسكري) مجرد شخصيات رمزية من دون سلطة أو قرار. فقد استولى الحكام المحليون على المقاطعات واستقل زعماء العشائر وانهمكوا في حروب دائمة للحفاظ على أراضيهم أو توسيعها.

كان القوي منهم يحلم بأخذ نصيب الأسد وبسط حكمه على البلاد بأسرها. جميعهم ظنوا أن مدة إقامة السلام كانت عندما حكموا جميعًا، ولكن الرياح من أعماق الجحيم استمرت في تأجيج نيران هذه الفوضى المروعة. كما استغلت الطوائف البوذية الاضطرابات لبسط نفوذها، بل أتت للسيطرة على مناطق بأكملها من البلاد. التحالفات وأعمال الخيانة والاغتيالات ومعارك الخلافة والثأر والانتفاضات والتعطش الواسع للسلطة أغرقت الأمة مرارًا وتكرارًا في محيط من الدماء والدموع. كان (النامبان)، وهم البرابرة ذوو الأنوف الطويلة الذين أتوا من أوربا وتمركزوا في الجنوب، واليسوعيون الذين كانوا معهم، يتقدمون أيضًا بقطعهم وعتادهم على متن هذه اللعبة الضخمة من شطرنج الصراعات. وكانت سفنهم المحملة بالأسلحة والمدافع والبنادق، تضيف المزيد من الخلط إلى تلك الحالة المرتبكة أصلًا: البنادق المحشوة، والمدافع. ورأى بعض أمراء الحرب في هؤلاء الأوربيين ودينهم عاملًا يمكن أن يعزز استقلالهم ويجلب لهم دعم الحلفاء الأقوياء. فيما أدرك أمراء آخرون أن مغازلة الأجانب ستفتح الأبواب أمام استعمار إمبراطورية قوية لم يتمكن حتى المغول من غزوها. أما هؤلاء اللوردات، فرأوا أن الساعة أزفت الآن لتوجيه ضربة حاسمة ضد هؤلاء الأوربيين قبل أن يُلقَى الجسم الممزق لبلادهم إلى هذه الذئاب الأجنبية القادمة من الجحيم.

أحد أصحاب البصيرة هؤلاء كان تاكيدا شينجن، نمر كاي. وهو إستراتيجي قل نظيره، ويمتلك الحكمة في إدارة الأمور حيث حَدَّثَ جيشه وكان يتوسع باستمرار ويوطد نفوذه. إضافة إلى حدوث ثورة في فن الحرب في اليابان عبر الاعتماد على نحو كبير على وحدة من الساموراي الذين يمتطون الخيول بعد أن استبدل الرماح بأقواسهم التقليدية. فقد عدُّوا الرماح أكثر فاعلية في الحركة وتوجيه الضربات.

كانوا فعلًا قوة مدمرة في المعركة. أيضًا لم يكتفِ بذلك، فقد كان أيضًا من أوائل أمراء الحرب الذين زوّدوا جنودهم بالأسلحة النارية. وبعد أن غزا مقاطعات ضخمة من شينانو وسيطر عليها، أصبح شينجن أقوى من جميع الإقطاعيين، وسرعان ما وجد نفسه يتنافس على السلطة العليا. لكن، وبينما كان يتقدم جيوشه، وجد نفسه في تنافس مع الشاب أويسوجي كينشن، رب الإقطاع في المناطق المجاورة، الذي كان يهدد مجاله، حيث لم يُضِعْ كينشن أي وقت في تولي قيادة ائتلاف معارض لشينجن.

كان هذا الشاب الإقطاعي قد تدرب في المدرسة العظيمة للرهبان المحاربين على جبل هايي. وسرعان ما احتل مكانة مرموقة كأحد أمراء الحرب الجدد على رقعة اللعبة الإقطاعية، وطرح نفسه بسرعة كلاعب تكتيكي عبقري وأصبح معروفًا باسم تنين إتشيغو. ومن مناوشة لأخرى، ومن معركة لمعركة، تقاتل الرجلان لسنوات عدة من دون أن ينجح أي منهما في اعتلاء القمة.

على الرغم من كونهما عدوين لدودين، فإن مساحة من الاحترام ظلت متبادلة بينهما، كما أن تقديرهما لبعضهما ذهب إلى حد الإعجاب الحقيقي. اليابان بلد معقد، بلد من التناقضات الحادة -في مناخه وجغرافيته، وفي ذائقته وحبه للتقاليد، وكذلك في تعطشه للحداثة. وفي هذه الأوقات العصيبة بشكل خاص، أصبحت الصفات المتناقضة في البلد شائعة جدًّا. الصفح والقسوة، أفعال الشهامة المصحوبة والظلم، تداخل الروحانية والهمجية- كل هذه الأمور تحدث جنبًا إلى جنب، وأحيانًا من الشخص نفسه. كأنها الرقصة التي لا نهاية لها من ثنائي الين واليانغ، نضال بلا رحمة ما بين الخير والشر. على نحو مثير للدهشة، كان هذا الوقت من الحرب الأهلية أيضًا هو العصر الذهبي لحفلات الشاي، من حديقة الزن، ومن مسرح النوه، والتجارة الدولية.

في هذا الوقت العصيب، قامت حركة حاسمة نحو تحديث البلد. لم يكن شينجن وكينشن مستثنيين من تناقض هذه المرحلة. كانا محاربين عظيمين، وشاعرين ملهمين، ينتميان روحيًّا إلى منهج طريق البوذا. لم يترددا في التعهد بالمبادئ الدينية البوذية مع استمرار كل منهما في المضي مسرعًا عبر غبار العالم البذيء والخوض في حقول المعارك. أسماؤهم البوذية تبدو مثل الجناس اللفظي المعكوس. كان شينجن وكينشن كوجهين لعملة واحدة، وانعكاس أحدهما للآخر في المرآة.

كان مصير هذين الخصمين مصيرًا استثنائيًّا. في قتالهما القاسي، لم ينجح أي منهما في هزيمة الآخر، بل أقل من ذلك كانا غير قادرين على أن يصبحا حليفين وبالتالي حكم الإمبراطورية معًا. في عام 1501م، وجد الإقطاعيان نفسيهما يستعدان لمعركة أخيرة في كاواناكاجيما، وهو سهل خصب تحيط به الجبال عند التقاء نهري ساي وشيكوما.

كانت هذه المرة الرابعة التي يتواجه فيها جيوش عشيرتي تاكيدا وويسوغي في هذا الموقع الإستراتيجي على حدود مقاطعتيهما. اتسمت المواجهات الثلاث الأولى باشتباكات غير حاسمة، وحصارات لا نهاية لها، وانسحابات إستراتيجية. ولم يتمكن أي من الطرفين من هزيمة الطرف الآخر. هذه المرة كان لا بُدّ أن تأتي النهاية. كان يجب أن تكون هذه المعركة حاسمة.

كان الجانبان في موقعيهما على ضفتي النهر، وتحصن كلاهما بالمرتفعات خلفهما. (شينجن على الجانب الغربي من النهر، وكينشن على الضفة الشرقية.) كان أميرا الحرب يراقب كل منهما الآخر، ويقيسان حجم قوات بعضهما الآخر، ويفكران في الضربات المحتملة، ويحاولان أن يخمّنا النوايا السرية للخصم. لقد نقلا بيادقهما بحكمة، وسد كل منهما الثغرات، وقاما بتحليل المعلومات التي تلقياها من جواسيسهما، ودرسا التضاريس. أشارت الأرقام إلى أفضلية تاكيدا شينجن الذي جمع جيشًا يقرب من عشرين ألف رجل. وجمع كينشن نحو خمسة عشر ألفًا.

ولكن لم يتخذ أحد أي خطوة واضحة بعد.

بعد أسبوع من المراقبة، بدأت المناورات الكبرى. جعل نمر كاي الجسم الرئيس لجيشه يتمركز بشكل واضح جدًّا على المرتفعات في مواجهة معسكر كينشن الذي تحصن هو الآخر على تلة ساجيوما على الضفة الشرقية من نهر شيكوما.

تحمل راية شينجن أربعة شعارات تصور العناصر الأربعة وهي: فو، رين، كا، سان. وكان هذا تكثيفًا للقواعد الأساسية للإستراتيجية الصينية:

سريع مثل الريح. صامت كالغابة. منتشرٌ مثل النار. راسخ مثل جبل.

تطبيقًا للمبدأين الأولين، نقل شينجن في الليل وحدة ثانية قوامها ثمانية آلاف محارب من المشاة ولكن في صمت مطلق. اتخذت هذه القوة الشبح موقعها في سهل هاشيمنبارا على الجانب الشرقي من نهر شيكوما على أمل مفاجأة العدو من الخلف، حيث كان معسكر كينشن. عندما جاء الفجر، أغلق جيش شينجن، المنتشر في التشكيل الشهير المعروف شعريًّا باسم «أجنحة الرافعة»، وضعيته وانتشاره من أجل سحق العدو بحركة الكماشة أو تكتيك الضربة المزدوجة. على الأقل هذا ما كان يخطط له (شينجن) لكنه لم يكن على علم أنه خلال الليل، قام غريمه، بعد أن حَذَّرَه جواسيسه بتكتيك شينجن، بتغيير وضعيته بتكتم شديد. مطبقًا واحدًا من المبادئ الستة والثلاثين للإستراتيجية الصينية المعروفة باسم «تبادل موقف الضيف والمضيف»، كان كينشن قد ترك معسكره الذي بناه على حدود النهر، وقاد الجزء الرئيس من قواته إلى نقطة الضعف في تشكيل شينجن. لم يكن كينشن بعيدًا من مركز قيادة شينجن، الذي لم يكن معه سوى فيلق حراسته الشخصية المكون من ألفين من الساموراي النخبة المخصصين للدفاع عنه.

في ساعات الفجر الأولى، حلّت المفاجأة الكبيرة في معسكر شينجن، حيث كَسَرَ جيشَه الرئيس الذي كان منتشرًا في تشكيلة «أجنحة الرافعة» سريّةٌ غير متوقعة تمامًا ومركّزة جدًّا من سلاح الفرسان الإتشيغو. سحق كينشن هذا التشكيلَ واختَرقَه قاطعًا جيش العدو إلى نصفين، ثم نشر أسرابه في تشكيل «العجلة الدوارة»، ما كان له تأثير مدمر. بعد هذا التكتيك، وعندما استنفد أول مهاجميه في القتال، انسحبت الفرقة المركزة من فرسان الإتشيغو إلى الجانب لإفساح المجال لموجة جديدة من الساموراي لتأخذ مكانها. وانسحب جيش شينجن مُخَلّفًا وراءه أعدادًا كبيرة من الجثث في الميدان، ومن بينهم شقيق شينجن، الذي شارك في هذه المعركة.

من مركز قيادته، رأى نمر كاي أن وضعه لا يمكن الدفاع عنه. حاول إيجاد طرق لتقليل الضرر وأعطى أوامره، ولكن لم يكن لها تأثير يذكر. ثم سمع الصوت الذي كان علامة أكيدة على هجوم الفرسان، وهو الدمدمة التي اهتزت لها الأرض مثل جلد طبل الحرب الكبيرة. سُحِقَ حارسُه الشخصي في غمضة عين، ومن خلال زوبعة غبار المعركة، رأى تاكيدا شينجن أول فوج من سلاح فرسان العدو يتقدم باتجاهه. ومن رؤوسهم، تعرّف إلى التسريحة التي يتميز بها خصمه المحارب كينشن. وكان عدوه اللدود هذا، وهو مبارز هائل، قد خاطر بجنون بتولي قيادة الفرقة بنفسه على أمل أن يقتل منافسه. لقد حان الوقت للانتهاء من هذا الصراع.

كان هذا عملًا من أعمال الشهامة من جانب كينشن بأكثر من طريقة. ولا شك أن وفاة أحد زعيمي العشيرتين تعني نهاية هذه الحرب. ولم يكن هناك شرف أعظم لإقطاعي من أن يقتله أحد أقرانه. وعلى الرغم من أن القتال بين اللوردات كان حالة نادرة إلى حد ما حتى في زمن الساموراي، إلا أن هذه كانت حالة من المبارزة الفردية التي يمكن أن تجنب الطرفين الخوض في مذبحة عديمة الفائدة.

قاس اللوردان وتأمل أحدهما الآخر بأعينهما. فجأة ركض كينشن بحصانه باتجاه شينجن. لكن اللورد الأكبر سنًّا لم يتزحزح عن كرسيه في معسكره. كان الفارس على الحصان، رافعًا سيفه وعلى بعد أمتار قليله، عندما صاح بسؤال.

كيف تشعر بنفسك في هذه اللحظة؟

بهذا السؤال، انتقلت المبارزة إلى بعد آخر. ولعلمه بأن تاكيدا شينجن هو من أتباع الزن، قام كينشن بتحديه على طريقة (الكوان) أي الأحجية. وبكل رباطة جأش أجاب الإقطاعي الأكبر سنًّا «مثل ندفة ثلجٍ في فرنٍ هادر».

ثباته على كرسيه، ربما يكون بسبب استخدامه (الجونابي)، المروحة الحربية التي يستخدمها قائد الساموراي لإعطاء أوامر معينة لجنرالاته لتوجيه ضربة قاصمة لسيف كينشن. بعد هذا الهجوم الأول، وجّه كينشن حصانَه لإعادة الهجوم مرة أخرى.

راسخ مثل الجبل

تاكيدا شينجن، وكنوع من الوفاء للمبدأ الأخير من شعاره، بقي ثابتًا لا يتزحزح. كما لو كان هو المحور، وظل منتظرًا المصير الرهيب وكأنه حبة قمح على وشك أن تُطحن. كان بإمكانه أن يسحب سيفه، أو أن يحمي نفسه بالابتعاد قليلًا، أو حتى أن يركب حصانًا. بماذا كان يفكر؟ ربما كان يتذكر النهايات المأساوية لزعماء العشائر الآخرين الذين فقدوا حياتهم وحياة رجالهم بعد انفصالهم عن حراسهم الشخصيين.

راسخٌ مثل جبل

لوّح المحارب الراهب بنصله مرة أخرى ليهين الأنا المتضخمة لمنافسه. فيما حاول شينجن مرة ثانية أن يواجهه بمهفّته، لكن للأسف هذه المرة نجح جزئيًّا فقط حيث أحدثت شفرة التنين جرحًا في خوذته. مصدومًا ومندهشًا ومتغبشًا من الدم الذي صار يجري أسفل جبهته، سمع نمر كاي وقع حوافر حصان التنين الذي كان سيهاجمه للمرة الثالثة. لكن في اللحظة التي بدا فيها أن كل شيء قد ضاع، انهار حصان التنين على الأرض وتدحرج راكبه فوق العشب. كان أحد الساموراي من حراس شينجن، وهو أحد الموهوبين في المبارزة بالرمح، قد قاتل في طريق عودته إلى سيده في الوقت المناسب، واستخدم سلاحه الطويل في ضرب أقدام حصان التنين ليسقطه أرضًا. انتصب رجل الرمح مستعدًّا لحماية سيده الجريح بمفرده. في اللحظة نفسها ظهر بعض محاربي كينشن، والتقطوا زعيمهم من الأرض، وجروه إلى مسافة آمنة. في تلك اللحظة نظر كينشن إلى السرج مرة أخرى، وراودته فكرة العودة للانقضاض على عدوه. لكن كان الوقت قد فات إذ بدأ محاربو التنين بالتراجع في حالة من الفوضى بعد أن رأوا القوة الخفية المكونة من ثمانية آلاف رجل التي كانت قد أرسلت إلى الجانب الآخر من التل في الليل، قد فهمت أخيرًا فخ كينشن المنصوب لها؛ لذلك سرعان ما جاؤوا راكضين لإنقاذ المعسكر وهاجموا قوات التنين من الخلف. كما اختارت قوات التنين هذه اللحظة الانسحاب لأنها تعرف السمعة المخيفة لسلاح الفرسان هذا، المعروف في كل مكان باسم الفرقة الأشد فتكًا من كل شيء.

مذعورًا تمامًا، حاول جيش إتشيغو أن يتراجع عبر النهر الفسيح، كانت الممرات متناثرة وضيقة؛ لذا انهارت القوات الهاربة وجرفها تيار الماء القوي من الأمام، وسيوف الحديد من الخلف. هذه الرقصة الفانية الأخيرة بين النمر والتنين استنزفتهما حتى النخاع الأخير. كانت هذه هي المرة الأخيرة التي يرى كل منهما الآخر من قرب. ومرة أخرى، كان هذا اللقاء مثل السيف الذي يحاول أن يقطع الماء نصفين، حيث لم يكن هناك فائز ولا خاسر.

مرة أخرى أضعف النمر والتنين كلًّا منهما الآخر. فيما شكل إقطاعيون آخرون تحالفًا وتوجهوا نحو العاصمة. لم يكن النمر والتنين أكثر من أدوات في يد (الهاتشيمان)، إله الحرب والحامي العظيم لليابان، الذي ثبّتهما في مكانيهما، وترك الطريق مفتوحًا أمام أودا نوبوناغا، وتيوتومي هيديوشي، وتوكوغاوا إيايسو. وليس هناك من شك في أن هؤلاء الثلاثة العظام الذين أعادوا توحيد اليابان، قد تعلموا الدروس من الصراع الملحمي بين جبابرة اثنين.

تسعة وأربعون عامًا، كأنها حلم ليلة واحدة.

حياة مجيدة

لا تعادل جرعة من مشروب الساكي

ما الذي فهمته أنا حقًّا من الحياة والموت؟

بعيدًا من السماء والجحيم،

أقف هنا في ضوء القمر المضيء

خاليًا من غيوم التعلق والارتباط بأي شيء


هوامش:

باسكال فوليوت هو مدرس فنون قتالية فرنسي وراوٍ متخصص في إعادة سرد فنون الدفاع عن النفس اليابانية التقليدية وحكايات وأساطير زن الحكيمة. ألّف ثمانية عشر كتابًا، نشرها بالفرنسية وترجم بعضها إلى لغات عدة.

*  النص منقول للعربية من النسخة الإنجليزية للمترجم شيراب شودزين.