«أسامينا» لهدى حمد.. الذاكرة ودلالات الفقدان

«أسامينا» لهدى حمد.. الذاكرة ودلالات الفقدان

«إنه الماضي الذي لن يعود على هذه الهيئة المحسوسة، ولذا لا بد من أن يكون الحاضر عينه» (الرواية/ ص: 36). «لا أستطيع أن أسميهما، الأسماء تقتل وتصنع الحظ» (الرواية/ ص: 56). «أسامينا شو تعبو أهالينا تلاقوها وشو افتكروا فينا الأسامي كلام. شو خص الكلام» (من أغنية لفيروز بذات الاسم).

تأتي رواية «أسامينا» (دار الآداب/ 2019م)، لتشكل المنجز الثالث في المسار الروائي الذي اختطته الروائية العمانية «هدى حمد». ومن خلال التشكل، تسهم في توسعة آثارها الروائية المتحققة. التوسعة الدالة على تراكم المتن الروائي العربي واستمراريته، بعيدًا من التصورات التي تفرض خص الأدب النسائي بحيز في القول النقدي مستقل. على أنه إضافة إلى التشكل المتحقق، والتوسعة، يبين التلقي الأدبي للأثر/ الآثار، اقتدارًا وكفاءة أدبية وجرأة، يحيل عليها التمكن من بناء عالم روائي ثابت المعالم والمواصفات، إلى مقروء أدبي فكري دال.

بين نصين: تتشكل بنية الرواية «أسامينا» حال تلقيها من نصين: نص إطار مهيمن، ونص مؤطر، وهو ما يجلو التقسيم المعتمد والموعى به، الطريقة التي صيغ وفقها النص المؤطر، إذ كتب بخط مضغوط، مثلما نزع بلاغيًّا إلى قوة التكثيف والاختصار، في مقابل الاسترسال والتدفق الذي وسم النص السردي الإطار. على أن وظيفة التشكل كاختيار تتمثل في:

أ- إضاءة ما قد يعد معتمًا في النص الإطار، وذلك: بتفسيره، واستكماله، وتقوية معناه.

ب- خلق صيغة تناوبية بين الإطار والمؤطر بمنزلة: وقفة توحي بإيقاعين: إيقاع متسارع ومتصاعد، وثانٍ يراهن على تبطيء السرد. وثَمَّ تمثل موسيقية النص المساوقة لمهنة الشخصية كـ«مدربة إيروبيك» في «نادي الجميلات». فسحة نفسية/ نفسانية لاستجماع قدرة التلقي على المواصلة. إثارة السؤال عن جدوى البناء الذي خضع له/ إليه جسم النص الروائي. وهي الإثارة الدافعة إلى إشراك القارئ في عملية التلقي.

ت- لم يعتمد التشكل/ الاختيار فصولًا بعناوين أو أرقام، إنما جاء على صيغة هيئة مفتوحة على التلقي الذي يتحكم فيه منطق الأحداث، والمعنى المرتبط بواقع يزاوج بين تقليديته وتوقه إلى التحديث وهي انتقالية عسيرة على مستوى الوعي.

ويكاد التشكل البنائي لـ«أسامينا» يتقاطع والصورة الروائية التي صيغ وفقها نص «سندريلات مسقط» ، أقول يكاد، علمًا أن النص الأخير انبنى على التعددية الصوتية المفتوحة على الشخصيات المتفاعلة في المساحة الروائية. استهل النص «أسامينا» بعتبة مفتاح تقتضي التوقف عندها، إذا ما ألمحت إلى كونها تختزل المعنى المتضمن في الرواية (الحياة/ الموت)، وليس العكس.

سؤال الموت… سؤال الذاكرة

يرد في العتبة النصية المفتاح الآتي: «الموت هو اللحظة نبدأ فيها على نحو حاسم تأمل الحياة؛ لأنه لا يعود هنالك المزيد منها» جاءت العتبة خلوًا من التنسيب؛ إذ لم يؤكد بالتحديد مصدرها، بعكس ما طالعنا في عتبة «سندريلات مسقط» المقتطفة من نص «الأمير الصغير» لـ«سان إكزوسبري». وتتفرد بالسمة الفلسفية الرابطة بين الموت/ الحياة. فإذا كانت الرواية تحفل بالموت، فإن ما يقول الحياة وينتج معناها التأمل بما هو الكتابة. كتابة الماضي كذاكرة انتهت وجودًا وكينونة، دون أن يحصل واقعيًا. فالموت يتجدد كحياة في سياق الكتابة، في سياق القول الروائي، وكأنه لم يحدث ولم يكن الموت. وثَمَّ يبرز التداخل بين زمنين: الماضي المنتهي والحاضر الذي يقول الماضي في الحاضر (حاضر القراءة)؛ لذا يحق القول بأن ما يسهم في إنتاج الرواية، الفقدان كمصدر من مصادر القول والتعبير: «إنه الماضي الذي يعود على الهيئة المحسوسة، ولذا لابد أن يكون هو الحاضر عينه» «(الرواية. ص/ 36). تبقى العتبة المفتاح إحالية على المعنى الوارد في الرواية، ومن ثم فاختيارها جد دقيق.

الحلم وحديث الجثة

يتأسس إنتاج المعنى في رواية «أسامينا» على التداخل بين الخيالي/ الواقعي، وليس العكس. يفهم الخيالي من حيث كونه المادة الحلمية المشتغل عليها، فيما الواقعي التمثيل عن حاضر النص (الكتابة)، وقد انفلتت من قيد الماضي بهدف وعي لحظة الحاضر؛ إذ من الماضي إلى الحاضر يرتسم جسد النص الروائي وتتكون بنية الشخصية.

فمنذ البدء، يضعنا ضمير المتكلم الأنثوي العائد على (البنت) المجهولة الاسم كما بقية الشخصيات والأربعينية غير المتزوجة التي ستغدو مدربة «إيروبيك» في «نادي الجميلات»، أمام حلم السقوط في البئر بعد مطاردة الذئبة. هذه السقطة الدالة على الموت، ستحيل الشخصية جثةً تحكي من خلال لا وعيها تفاصيلَ ما حدث، وهو ما يعدّ غير مسبوق في قرية «سيح الحيول»، وبالتالي المدار الرئيس لأكثر من تفسير وتأويل بالنسبة لساكنة القرية.

«كيف وصلت امرأة أربعينية إلى هذه المزرعة النائية؟» (الرواية. ص/ 9). «كيف لامرأة أن تسقط في البئر. أنا في سيح الحيول منذ ستة عشر عامًا، ولم يحدث شيء من هذا القبيل من قبل» (الرواية. ص/ 9) «كل ذلك كان كافيًا للتأكد أن الجثة هي جثتي أنا» (الرواية. ص/ 11). إن دلالة السقوط في البئر كحلم، رمزية غايتها القول بالسقوط في الكتابة وعدم الخروج منها؛ إذ على امتداد جسم النص، ظل استحضار الحلم ملازمًا للشخصية، وبالتالي فاختيار الرقص إعادة إحياء للجسد من خلال الموسيقا، ومحاولة نسيان لما حدث. فالحكاية وهي تتخلق، إنما تبتكر ما يضادها ويوسع مساحة السرد الروائي.

«ذهبت إلى الإيروبيك لأتخلص من خوازيق الجمل التي تنبت في رأسي باستمرار» (الرواية. ص/ 29). على أن الإيهام بصدقية حلم السقوط في البئر/ في الحكاية، يماثله ما حدث لـ«العمة» (من دون اسم على السواء) التي رُوِيَ أنها قضت إثر لدغة أفعى. فالمشترك بين الحادثين: الفقدان. والمختلف كفاءة الجثة في/ وعلى حكي ما وقع لها، في الآن ذاته للعمة. فالضمير العليم يحوز اقتدار هندسة الخيالي وبناء الواقعي، إلى الحد الذي يستحيل معه إمكان الفصل. وثَمَّ متعة قراءة الرواية وتلقيها.

«أتذكر الآن ذلك الصباح البعيد في سيح الحيول، حادثة منطفئة تمامًا في رأسي ولا أدري لماذا برقت الآن إثر الحلم» (الرواية. ص/ 16). «لقد سقطت هي والأفعى معًا» (الرواية. ص/ 17). ويتحول التماهي والعمة، إلى حكي حكاية الصراع والأم. الصراع الذي تعود تفاصيله إلى مرحلة الطفولة، حيث آثرت الأم الانتصار للابن الفقيد، فيما (البنت) التعلق بالأب. وهو الداعي كما يرد في الرواية إلى الدخول في محاولات الانتحار. فالذئبة من خلال الحادث الحلمي، صورة مماثلة للأم، علمًا أن الفقدان الذي وسم حياة الأسرة (العمة، والأب، والأختان والأخ)، جعل البنت العنصر المنقذ للأم، عقب التحول من قرية «سيح الحيول» إلى مدينة «مسقط». «ينبغي بطريقة أو أخرى أن تعاقب هذه الأم» (الرواية. ص/ 11). «لكني أخفقت كثيرًا في محاولة الموت الأولى» (الرواية. ص/ 11). «فرأيت في محجري الذئبة الجائعة عيني أمي» (الرواية. ص/ 13). «لماذا ليست كالأمهات؟» (الرواية. ص/ 48). يتضح من ملامسة المعنى المنتج في رواية «أسامينا» أن الحلم يتحول إلى نص يستلزم التفسير والتأويل وفق رؤية «جان بيلمان نويل» في كتابه «التحليل النفسي والأدب». بيد أن المحكي الكامن في الرواية، محكي عائلي يترجم واقع الذات من ناحية، كما يشخص صورة الخليج في تحولاته. الرهان على المحكي العائلي تحكم في عملية إنتاج النص وحصر لامتداداته.

يبقى القول في هذا المستوى بالتحديد، إن حديث الجثة، يذكر بما ورد في الرواية الثانية «سندريلات مسقط»، وبالضبط في الفصول الأخيرة من الرواية، حيث يسمع صوت شخصية «زبيدة» من داخل البطن تحكي معاناة الخروج إلى الوجود. فبين الرغبة في الحياة (زبيدة)، والموت (البنت)، يمتد حلم الكتابة وترجمة الإحساسات النفسية.

«ولم تكن لي أي حيلة أتحايل بها لأعيش، لأستيقظ من تعبي ووهني، كما أني بصدق أكبر، كنت –كما يبدو لي- أفقد تمامًا الشغف بالعالم من حولي وكأن تكوري اللزج في الظلمات التي خرجت منها، كان أكثر رأفة بي. لكني بطريقة أو بأخرى، خرجت إلى النور، وبي أسقام لا تعد ولا تحصى» (الرواية. ص/ 144). إن الخروج إلى النور، إلى الحياة في «سندريلات مسقط»، خروج إلى الحكاية بغاية امتلاك أسرار تفاصيلها ووراثتها عن العمة «مزنة» التي جف بئرها. ولعل في اختيار الاسم «مزنة» ما يوحي بالمطر، مطر الحكي. يقول الشاعر «عامر بن جوين الطائي»: فلا مزنة ودقت ودقها *** ولا أرض أبقلت إبقالها». ويرد في «سندريلات مسقط» على لسان «زبيدة»: «أنا أكتب لأسباب تتعلق ببئر عمتي مزنة. فمنذ أن جف بئرها وأنا أكتب دونما انقطاع» (ص/ 147). إن الحكاية في ضوء السابق، تورث كيما تستمر وتتجدد وتتلون بلبوسات جديدة، وإيقاعات مختلفة ومتباينة وقراءات وتأويلات مغايرة.

بين فضاءين

تتفاعل أحداث الرواية في «أسامينا» بين فضاءين: تقليدي يمتلك ذاكرة، ويتجسد في «سيح الحيول»، وحداثي تحديثي يتمثل في مدينة «مسقط». فالتقليدي الممثل للذاكرة يرتبط بالطفولة، التكوين وفرض الذات؛ إذ من خلاله يتحقق فعل تدفق الحكي، إلا أن ما وسم الذاكرة من فقدانات، قاد إلى النزوح بحثًا عما يمثل الفضاء المغاير، وكان الأمر يتعلق ببداية جديدة، بالبحث عن ذاكرة بديلة. من ثم فما سيربط النزوح بالذاكرة، الحنين وتثبيت المنفلت. بيد أن ما سيفعل بالتعويض، العنصر الغريب مجسدًا في «البنغالي» و«الهندي».

«يوصل البنغالي الفاكهة والخضار من سيح الحيول إلى الحيول الجديدة، حيث نزح الآهالي، وتركوا مزارعهم للهنود والبنغاليين مقابل إيجارات شهرية» (الرواية. ص/ 8)

على أن نواة الحداثة والتحديث نشأت خارج فضاء التقليد (مدينة «مسقط»)، كاكتساب المعرفة بما هي تكوين للشخصية وانفتاح على العالم وتجاوز للتخلف والجهل. «سوف نذهب إلى مسقط. سنبدأ حياة أخرى هناك سيكون لهما مدرسة وحياة أخرى.

السفر كتطلع وتعرف إلى الجديد من مستحدثات ستبدو غريبة. من ثم سيتحقق رفضها وعدّها من أفعال السحر والموت. ونجد من بين المستحدثات آلة التصوير، وما تخلفه من أثر دائم ومستمر؛ إذ تغدو في العمق الذاكرة التاريخية. «علق أبي الصورة في بيتنا الصغير، وكانت تلك أول صورة عائلية تعلق في كل سيح الحيول» (الرواية. ص/ 71). «كانت كاميرا والدي التي أحضرها من أسفاره الكثيرة تخرج الصورة بالألوان، وليس بالأبيض والأسود» (الرواية. ص/ 72). قال بعضهم: «من علم هذا الرجل السحر» (الرواية. ص/ 73). وكآلة التصوير، يحق الحديث عن المسجلة. فالتحول الحداثي والتحديثي تعكسه ثقافتان: العين والأذن (حسب الكاتب «عبدالسلام بنعبد العالي).

على أن ما يعمق تمظهرات الحداثة والتحديث، المستوى اللغوي. فالمعجم الموظف سرديًّا للتعبير عن التحول والنقلة، جديد يساير واقع المستحدثات، كأن يتم الحديث عن: (الإيروبيك، الجسد، الموسيقا، الرقص، المناشف، حوض الاستحمام، سلال القمامة، الشقة، العزل الخشبي…). ولذلك يمكن تلقي رواية «أسامينا» انطلاقًا من المستوى اللغوي، علمًا بالتداخل الذي يَسِمُ التقليديّ بالحداثيّ والتحديثيّ، والنص الإطار بالمؤطر.

بيد أن ما يجدر لفت النظر له/ إليه، ورود الحديث عن الصورة كذاكرة في «سندريلات مسقط»، وبالتحديد في الفصل المفرد لشخصية «عليا»؛ إذ تقول عن «أمها»:

«أمي ضد الذاكرة. أعدمت كل صور زفافها، كل الصور التي كنت فيها بصحبة أبي. نحن في بيت لا يحتفظ بأي شيء. أمي تفتح الأدراج يوميًّا لتدعكها» ( سندريلات مسقط. ص/ 130) فالموقف من الصورة سواء في الرواية الثانية أو الثالثة يعكس نموذجًا لثقافة سادت ولم تعد. وما يتحقق هو التأريخ لها.

الفقدان ودلالاته

إن التحقق الإبداعي كفعل لا يتم سوى بالامتياح من الماضي. والأصل أن الفقدان في تجلياته صورة من/ عن الماضي. وذلك بقصد توسيع دائرة/ دوائر مساحة الحكي، وبناء النص كما القارئ. من هذا المنطلق، فإذا رأينا المحكي الوارد في رواية «أسامينا» عائليًّا، فالثابت أن ما يَسِمُ الزمن ككل، الحياة والموت. وفي هذه الرواية، تهيمن موضوعة الموت كحد نهائي للحياة، وكدعوة تأملية لما ساد في مرحلة حياتية جد دقيقة من تاريخ العائلة والمجتمع، وهو ما يطابق التكثيف الوارد في العتبة/ المفتاح. «أما أخوالي التسعة على كثرتهم، ذهبوا إلى موت مبكر» (الرواية. ص/ 10). «لقد سقطت هي والأفعى معًا» (الرواية. ص/ 17). ويتمثل الفقدان على السواء في غياب «ضبط الشخصية» وفق التحديد باسم العلم كتمييز، هوية وانتساب. فغياب الاسمية استلزم اعتماد اللقب والكنية؛ إذ الثقافة السائدة كون انتفاء الاسم العلم سقوطًا في النسيان والتجاهل، وبالتالي تغييب للموت. فالتقاليد الأسرية داخل الفضاء التقليدي لا تعترف بالاسم العلم، ولن تحدث التسمية سوى بالانتقال لفضاء الحداثة والتحديث وما يقتضيه من ضبط لهوية الكائن. «سمي البنت. سميها» (الرواية. ص/ 18). «لا أستطيع أن أسميها، الأسماء تقتل وتصنع الحظ» (الرواية. ص/ 56).

«… إنه منسي الآن. إنه بلا اسم» (الرواية. ص/ 69). وهكذا نجد على مستوى الكنية: «أبو كشمة». وأما الألقاب فمتعددة: «صاحبة القطط»، و«الفتاة الحشرة»، و«صاحب الشعر الأحمر» و«رجل الإيماءات الكثيرة». وأما المظهر الثالث للفقدان، فيتجلى في قصة الحب. فالبنت الأربعينية غير المتزوجة يلفت نظرها «الرجل صاحب الشعر الأحمر». ومن ثم تترصده بالمتابعة، وكأني بها تدون يومياته الحياتية، إلا أن اكتمال قصة الحب لا يتم ويصل غايته، مادامت الرغبة وليدة طرف واحد فقط. إن تجليات الفقدان السابقة، تجسد التنوع الحكائي وتداخله كما تقاطعه والسابق من منجز روائي في محاولة لرسم صورة كلية عن واقع يخضع باستمرار للتحول والتجدد.

في الختم

إن رواية «أسامينا» وفق ما جئنا على تحليله: امتداد للتأسيس الروائي الذي نزعت الروائية «هدى حمد» إلى تثبيته وتطويره من خلال تراكم يجلو -كما سلف- كفاءة واقتدارًا.

إن «هدى حمد» في هذا المتن الروائي، تؤرخ للتحولات التي تطول مجتمعات الخليج. ومن ثم فرواياتها إضافة حقّة لما أبدعته أسماء نسائية كـ«جوخة الحارثي»، و«بثينة العيسى»، و«فوزية سالم الشويش»، و«مريم جمعة» وغيرهن. إن المرجعية المعتمدة في الكتابة الروائية، تركز وبالتحديد على استجلاء النفسي كأحاسيس، وخيبات وفقدانات.

«أزمنة الرصاص» في المغرب تشعل حرب المذكرات السياسية؛ بحثًا عن الحقيقة الضائعة

«أزمنة الرصاص» في المغرب تشعل حرب المذكرات السياسية؛ بحثًا عن الحقيقة الضائعة

تحوَّلَ الانهماك في إصدار المذكرات، السياسي منها على وجه الخصوص إلى قضية تمارس طغيانها على المشهد الفكري والسياسي المغربي. لم يعد إصدار المذكرات يقتصر على الأدباء فقط، إنما امتد ليطول القادة والزعماء السياسيين الذين لم يسبق لهم الانغمار في ممارسة الكتابة أو الإبداع، وهو ما قاد إلى «حرب كلامية»؛ كل طرف فيها يدعي الحقيقة والموضوعية. والواقع أن هذه الوفرة لا يمكن عدّها عاملَ سلبٍ، من منطلق كون التعدد في بيان واستجلاء الحقيقة، وبخاصة فيما دُعي بـ«أزمنة الرصاص»، يقود إلى كتابة التاريخ السياسي لمرحلة يطبعها الالتباس والغموض لعوامل سنأتي على ذكرها؛ إذ التعدد مفتاح للمقارنة، كما للتأويل؛ بحثًا عن الحقيقة.

بيد أن من يتأمل مستعيدًا ومستقرئًا تاريخية «أدب المذكرات» في المغرب، يستوقفه متن واسع أسهم بالكتابة والتأليف فيه بداية الفقهاء والعلماء، ومن هؤلاء من كان منخرطًا في الحقل السياسي، إلى الساسة والأدباء على السواء. ويحق أن نذكر من بين الفقهاء والعلماء «محمد داود» الذي صدرت مذكراته في جزأين (على رأس الأربعين/ على رأس الثمانين)، ثم العلامة «عبدالله كنون» في مذكراته الموسومة بـ«مذكرات غير شخصي»، والشيخ «المختار السوسي» في ذكرياته المعنونة بـ«معتقل في الصحراء». على أن الناظم الأساس لهذه المذكرات سرد تفاصيل حياتية دقيقة محددة في الزمن والمكان، إلى ذكر المرجعيات التي أسهمت في تكوين الشخصية ثقافيًّا وفكريًّا. ونجد من بين الذين وازوا بين الانخراط الفقهي والعلمي والسياسي الزعيم والعلامة «علال الفاسي» الذي أصدر مذكراته عن «منفى الغابون»، وهي المذكرات التي وظفها الروائي والقاص «عبدالكريم غلاب» في آخر عمل روائي ظهر له «المنفيون يعودون».

وفي هذا المستوى بالتحديد، ترد مذكرات الفقيه والسياسي « أبو بكر القادري» التي اختار وسمها بـ«مذكراتي في الحركة الوطنية» وتقع في أربعة أجزاء تحقق التركيز فيها على نشأة الحركة الوطنية، إلى المراحل التي قطعتها بحثًا عن الحرية والاستقلال. أما من الساسة الذين نشروا مذكراتهم مبكرًا، فنجد السياسي والكاتب «محمد بن حسن الوزاني» في مذكراته «حياة وجهاد» وتقع في ثمانية أجزاء، ثم زعيم الريف «عبدالكريم الخطابي» وركز في مذكراته على سنوات النفي في فرنسا «مذكرات لا ريونيون»، إلى مذكرات «المحجوبي أحرضان» وصدرت في ثلاثة أجزاء باللغة الفرنسية تحت عنوان: «مذكرات»، ثم مذكرات كل من عبدالرحيم بوعبيد «شهادات وتأملات»، وبنسعيد آيت يدير «هكذا تكلم بنسعيد».

بيد أن ما يثير في هذه التجربة، تجربة كتابة وتدوين «المذكرات»، أننا نقف في هذه المدونة على نماذج أسهم في تأليفها كُتاب جمعوا بين الممارسة الأدبية، السياسية والفقهية، ونذكر من هؤلاء الروائي والقاص «عبدالكريم غلاب» و«عبدالهادي بوطالب» الذي شغل أكثر من منصب سياسي في أكثر من حكومة على عهد الملك الراحل «الحسن الثاني».

إن ما يوحِّد هذه الآثار التي شكلت النواة الأساس لـ«أدب المذكرات»:

أولًا- أن كُتّابها تمرسوا بالكتابة والتأليف. ثانيًا- أن القضايا التي عبروا عنها جمعت بين الذاتي؛ الأدبي والسياسي. ثالثًا- أن اختيار القول وتصريفه في «أدب المذكرات»، تنويع على أجناس قد يكونون انخرطوا فيها. رابعًا- على أن الفورة الحالية في هذا الجنس الأدبي سياسيةٌ أساسًا، ولم يؤثر عن معظم مؤلفيها الانخراط في الكتابة والإبداع.

يقود استجلاء نشأة «أدب المذكرات»، إلى ضرورة تحديد العوامل التي دعت لذلك. من ثم يحسن إيراد عاملين رئيسين. يرتبط الأول بالمتمرسين بالكتابة والإبداع، والثاني بالذين عبروا عن آرائهم ضمن مذكرات سياسية من دون الانخراط في حقل الكتابة.

تعرية الحقيقة قبل انطفاء الحياة

أ _ لقد مثل «أدب المذكرات» للمتمرسين بالكتابة والتأليف، محفلًا تَأتَّى من خلاله ترجمة مواقفهم وآرائهم حول العديد من القضايا كما سلف. من ثم عوض «أدب المذكرات» كجنس أدبي مجاور، «السيرة الذاتية». إذ لم يؤثر عن الكثير كتابة سيرة ذاتية بالتحديد الدقيق، حتى إن الروائي «عبدالكريم غلاب»، توزَّعت تفاصيل سيرته على امتداد أكثر من نَصٍّ روائيٍّ، وأعتقد أن آخرها دل عليه نص «الشيخوخة الظالمة».

المحجوبي أحرضان

ب _ على أن مذكرات السياسيين ممن خبر بعضهم عالم الكتابة، من دون أن يصدر له مؤلف ما، تتحدد عوامله في التالي: أولًا- الموقع السياسي: فأغلب هؤلاء شغلوا مناصب سياسية رسمية أو غير رسمية، أو أنهم انتموا لأحزاب سياسية يمينية أو يسارية، وحال الزمن وتدوين مذكراتهم في حينه. ثانيًا- الموقع الاجتماعي: وتلعب فيه الأخلاقيات دورًا رئيسًا، حيث التكتم على الأسرار وحفظها، يحول دون البوح وكشف المسكوت عنه في الظرف ذاته. ثالثًا- العامل النفسي: ويمثل في نظرنا الأهم؛ إذ إن معظم السياسيين الذين ظهرت مذكراتهم لم يمتلكوا جرأة التعبير في مرحلة حكم الملك الراحل «الحسن الثاني»، خوفًا على حيواتهم ومواقعهم السياسية والاجتماعية. رابعًا- عامل الزمن: ويتجسد في كون من ظهرت لهم مذكرات سياسية تقدموا في السن، وبات يركبهم هاجس خوف من نوع ثانٍ، ويتمثل في الموت، إضافة إلى ضرورة تعرية الحقيقة الغائبة قبل انطفاء شعلة الحياة.

إن هذه العوامل مجتمعةً على تقاطعها وتداخلها، تضع بين يدي المهتمين والمؤرخين كما مر معنا مادة ثرية لكتابة تاريخ الحياة السياسية في المغرب التي تراجعت بشكل فظيع، حيث سادت «الشعبوية» ضدًّا للممارسة السياسية الحقة، فلا يمكن مثلًا المقارنة بين الزعيم «علال الفاسي» و«شباط» (حزب الاستقلال)، كما لا يمكن ذلك بين «عبدالرحيم بوعبيد» و«لشكر» (حزب الاتحاد الاشتراكي). ولقد لعب «المخزن» دوره في الهيمنة على المشهد السياسي وإفراغه من محتواه.

عبدالكريم غلاب

إن السؤال الذي يتولد بناءً على السابق: هل ما يتحقق تلقيه هو تجسيد لـ«أدب المذكرات»؟ وليتحقق تشكيل تصور عن الالتباس الأجناسي، نشير بدايةً إلى الصورة التي جاءت عليها هذه المذكرات سواءٌ للذين تمرسوا بالكتابة أو العكس. من ثم يحق إيراد التصنيف التالي: أولًا- مذكرات في صيغة حوارات. ثانيًا- مذكرات عبارة عن تجميع لكتابات متناثرة. ثالثًا- مذكرات كلف بتدوينها طرف غير المعنيّ بها. فالصيغة الأولى تتجسد في الحوارات المطولة، ويتكفل بإنجازها صحافي أو كاتب، ويجري تبويبها بالاحتكام لمكون الزمن، كما لأهم المحطات الحياتية التي مرت بها الشخصية المعنية بالحديث أو الموضوع، والتي قد تمتلك كفاءة الكتابة والإنجاز. ونمثل بـ: «نصف قرن من السياسة» (عبدالهادي بوطالب)، و«كرسي الاعتراف» (عبدالحق التازي)، و«مسار حياة» (عبدالكريم الخطيب)، و«النضال الديمقراطي في المغرب، رهانات الماضي وأسئلة الحاضر» (إسماعيل العلوي)، و«مذكرات مناضل»، ثم «الصحراء هويتنا» لـ(محمد اليازغي). ويحق القول بأن هذه الشخصيات تبوأت مناصب سياسية وحكومية، وقد يقف وراء اختيارها صيغة الحوار وعدم الكتابة المباشرة، غياب إلمامها بتقنيات كتابة المذكرات، أو تنصلها من مسؤولية الكتابة خوفًا. وتتقاطع الصيغة الثانية والأولى في كون الطرف الموكول له مسؤولية الإنجاز هو غير الكاتب، وتختلف من منطلق أن المعنيّ بالمذكرات يحوز كتابات لم يكن يقصد إلى تجميعها، وبعد تقدمه في السن تولى المهمة طرف ثانٍ. ونمثل بمذكرات «أحاديث في ما جرى» للوزير الأول في الحكومة الانتقالية «عبدالرحمن اليوسفي»، إضافة إلى «شهادات وتأملات» للمناضل والزعيم السياسي «عبدالرحيم بوعبيد». واللافت في التجربتين أن الشخصية المعنية تخبر صنعة الكتابة. وأما الصيغة الثالثة، فنستدل عليها بـ«مذكرات» لـ«المحجوبي أحرضان» وهو شخصية أمازيغية دعيت بـ«الزايغ» ويقصد بها المتمرِّد، وشغل «أحرضان» أكثر من منصب سياسي.

المهدي بن بركة

إن ما يمكن ملاحظته على هذا التصنيف مما يعكس بالفعل الالتباس الأجناسي: أولًا- غياب الاطلاع على نماذج من «أدب المذكرات»، على الرغم من التنصيص «مذكراتّ». ثانيًا- التداخل والتكرار الذي يَسِمُ الوقائع والأحداث، والدالّ على خاصة «النسيان». واقتضى من بعض الشخصيات إرفاق صور بمذكراتهم. ثالثًا- عدم التفريق بين ما يعد «مذكرات» وما يعد «يوميات»، وهو المنزلق الذي سقط فيه الصحافي «محمد لبريني» في مذكراته «الكهف والرقيم». تبقى إضافة مهمة، إلى أن من هذه المذكرات ما كُتب باللغة العربية، ومنها ما دُوِّن باللغة الفرنسية وترجم إلى الإسبانية والإنجليزية.

قضايا وشهادات وتحامل على شخصيات رحلت

يمكن القول بأن المعنى المعبر عنه في غالبية هذه المذكرات، هو معنى سياسي أساسًا، إلا أن طريقة تصريفه لا تتم بطريقة مباشرة، إنما بالانفتاح على قضايا الذات في نشأتها وتكونها وما خاضته من مقاومة وصراعات. من ثم يحق الحديث عن قضايا ذاتية: ويتداخل فيها أدب المذكرات والسيرة الذاتية؛ إذ يَعمِد صاحب المذكرات إلى سرد تفاصيل عن المراحل التي مرت بها شخصيته. والملاحظ أن معظم هؤلاء الزعماء والقادة ينحدرون من أوساط فقيرة، ومنهم من لم يتابع دراسته، إنما انخرط مباشرة في المجال التجاري والصناعي. وقضايا سياسية: وتتحدد في المقاومة. ويمكن تقسيمها إلى شقين: أ- يرتبط الأول بمقاومة المحتل الفرنسي أو الإسباني، وهي مرحلة ما قبل الاستقلال. ب- والشق الثاني بما بعد الاستقلال، حيث الدعوة إلى التغيير: وهي دعوة سادت في السبعينيات ولربما قبل ذلك، متأثرة بالمد الاشتراكي والشيوعي الذي طال أكثر من نظام. والمشاركة في السلطة وإدارة الشأن بما تقتضيه من تغييرات دستورية، إلى إرساء لقواعد مجتمعات مدنية. ولحرص على تثبيت مبادئ حقوق الإنسان، وإشراك المرأة في الشأن السياسي والاجتماعي، والدعوة إلى المصالحة، وما تفرضه من جبر للضرر.

عبدالهادي بوطالب

وتجسد غالبية هذه المذكرات المحن والصراعات التي أدت ببعض إلى الاعتقال وما ترتب عليه من إعاقات وأمراض مزمنة، ثم الموت والإخفاء القسري والاختطاف الذي دلت عليه قضية «المهدي بن بركة» الذي اختُطف من قلب باريس عام (1965م)، لتبقى تفاصيل وخيوط القضية مجهولة بالرغم من مطالب الجمعيات الحقوقية مغربيًّا ودوليًّا بالكشف عن ملابسات الحادث. بيد أن ما يسم بعض المذكرات من سلبيات يتمثل في التحامل على شخصيات وافها الأجل المحتوم، ولم يعد ثمة من يتجاسر على قول الحقيقة بعد ما يزيد على عشرين سنة. ونمثل هنا بتحامل الصحافي محمد البريني على شخصية المفكر المغربي والعربي الشهير محمد عابد الجابري، والوارد في مذكراته «الكهف والرقيم» (2018م): «لم أستغرب حين لمست أثناء المناقشة، أن الدكتور الجابري لم يكن على اطلاع تام فحسب على ما كان يجري في دائرتي اليوسفي والفقيه البصري، وإنما كان شريكًا نشيطًا فيهما، وواحدًا من صانعي قرار الإطاحة بي من دائرة الجريدة. لم يغظني ذلك أية إغاظة. فعابد الجابري كان معروفًا بعلاقته الوثيقة بالفقيه البصري، وبتمسكه به ودفاعه عنه، وباقتناعه بمشروع «الكتلة التاريخية» وبتحمسه له حتى إنه وضع لتلك «الكتلة التاريخية» نظرية متكاملة وروج لها». (ص/187)

عبدالرحمن اليوسفي

والتحامل نفسه يطالعنا في الكتاب/ الحوار الموسوم بـ«الصحراء هويتنا» (2018م) لمحمد اليازغي، وكان كاتبًا أول لحزب الاتحاد الاشتراكي، كما شغل مناصب رسمية عدة، وذلك بخصوص الفقيه محمد البصري أحد قادة الاتحاد. والواقع أن هذه الشخصية لم يُتَحْ لها حق الدفاع عن ذاتها؛ إذ ألبست تهم متعددة في أكثر من مذكرات. يقول عنه: «وهنا أذكر أن الفقيه محمد البصري قدم هؤلاء الشباب إلى معمر القذافي، الذي أراد استعمالهم في صراعه مع الحسن الثاني، عبر تقديم الدعم لهم، سواء بالمال أم بالسلاح»، (ص43)، ويورد أيضًا: «أعتقد أن المتسبب الحقيقي في الدعم الليبي للبوليساريو هو الفقيه محمد البصري، الذي قدم الشباب الفارين من المغرب على طبق من ذهب للقذافي الذي كانت علاقته متوترة بالملك الحسن الثاني، وكان معلومًا صراعهما الخفي»، (ص45).

إن صور هذا التحامل كان يحق الجهر بها في الزمن ذاته، لتتأتى معرفة الحقيقة التي تظل غائبة. والواقع أن هذه المذكرات كلها إنما تعكس صورة عن المواجهات والتطاحنات بين أقطاب اليسار أنفسهم، الذين يدعون للتغيير.

عبدالفتاح كيليطو.. بين أسئلة الكتابة وقضايا المعنى

عبدالفتاح كيليطو.. بين أسئلة الكتابة وقضايا المعنى

«كيليطو» والكتابة: يحق القول بداية بأن «عبدالفتاح كيليطو»، يمتلك فرادته على مستوى ممارسة البحث الأدبي والنقدي. والواقع أن خاصة فرادته تتمثل أساسًا ليس في كونه كاتبًا، إنما في كونه قارئًا حاذقًا يجيد التقاط تفاصيل نصية يعدها القارئ العادي دون وظيفة صوغًا أو معنى في البناء النصي، في حين يعدها المؤلف النواة المركزية لترسيخ الفهم، التفسير والتأويل.

يرد في الكتاب عن «فلوبير»: «بالنسبة لي، أجمل امرأة في العالم لا تساوي فاصلة موضوعة في محلها»، وعن «سيوران»: «إنني أحلم بعالم قد نقبل فيه الموت من أجل فاصلة».

من ثم تنازع صورة القارئ، صورة الكاتب. القارئ الموسوعي الملمّ بالتراث الأدبي القديم والحديث، كما العالمي في مختلف مظاهره وتجلياته. والأصل أن الموسوعية هي ما يخلق قاعدة المقارنة من ناحية لتوسيع دوائر التعبير، وأخرى لبيان امتدادات النص الأدبي وتناسله، ثم الوقوف على مرجعيات التأليف في تعددها.

إن هذا المفهوم، لا يبرز على مستوى الأثر الواحد، إنما يطول مؤلفات «عبدالفتاح كيليطو» برمتها منذ «المقامات»، و«الأدب والغرابة» حتى «بحبر خفي/ دار توبقال/ 2018م».

في معنى «الحبر الخفي»: يرتبط الحبر بالكتابة والتعبير، والرغبة في إنتاج معنى بقصد تلقيه. إلا أن من المعاني الظاهر والخفي. بيد أن ما يترتب بخصوصه القول في الكتاب: «الخفي». الخفي كما يتحقق وعيه أدبيًّا من خلال قضايا أقرب إلى الحكايات والطرائف التي تبنى عليها التصورات النقدية الجادة. «يخفي بياض الصفحة الناصع الحبر المرسوم عليها، فيغدو الامتلاء، حينئذ فراغًا والوجود عدمًا. يترتب على هذا أن القراءة تقتضي القدرة على رؤية شيء، هذا إن افترضنا أن هناك ما  يرى» (المقدمة).

بيد أن المعنى المدرك قد يكون ما لم يقصده الكاتب، وما انتبه وعي القارئ الناقد له. فعملية التلقي وبالاحتكام لاشتراط الفهم تراوح بين ما يعدّه «عبدالفتاح كيليطو» إساءة فهم للنص أو تصحيحًا للوارد فيه. وهو في الجوهر ما يغني ويثري التأويل النصي ويفسح لتعدده:

«… أن تقرأ معناه أن تسيء الفهم، أن ترى في النص ما لم يقصده الكاتب، أو أن تود تصحيح ما ورد فيه» (ص/58).

أسئلة الكتابة وقضايا المعنى

عبدالفتاح كيليطو

لزوم ما لا يلزم: إذا كان استجلاء الحبر الخفي في النص، الفكرة النواة التي بني عليها تأليف الكتاب، فمن منطلق الوعي النقدي بأن ما من كاتب إلا ويمتلك شغف الاحتفاء بالجزئيات والتفاصيل؛ إذ يصعب القول بإضافات أو زوائد تؤثر في/ وعلى بناء النص. فالتكامل والانسجام سمتا النص الأدبي. من ثم يستدعي «عبدالفتاح كيليطو» شيخ المعرة للتأكيد أن نظرية النص تتأسس من القول بـ« لزوم ما لا يلزم».

المعنى والحنين: يمكن القول بأن من المعاني، ما يذكر ويحنّ إليه. وباستمرار ذكره يترسخ كثابت. إلا أن المفترض توسيع دائرة المعاني بالإضافة؛ إذ الغاية ربط السابق كماضٍ باللاحق في ضوئه كونه المستقبل. وبذلك تحقق الكتابة الأدبية امتدادها كتغير وتنويع.

بين لغتين: يرى «عبدالفتاح كيليطو» أن «الكتابة بمثابة رسالة حب، حب اللغة، لغة الحب». (ص/18) ذلك أن الكاتب ينشأ في لغة يقرأ بها، يكتب ويتواصل. إنها لغة «الألفة الأسروية» حيث يُسمَح بالوقوع في الخطأ. على أن الانتقال لممارسة التعبير في لغة غريبة يراهن فيها على الفكر ويستعان بالقاموس لا يتأتى السماح بالسقوط في الخطأ، ويستدل «كيليطو» (ولئن كان الأمر يعنيه على السواء) بـ: «سيوران» الذي انتقل من الكتابة باللغة الرومانية إلى الفرنسية. من اللغة الأصل إلى اللغة المتبناة علمًا بأن الكتب الجميلة والممتعة تشعر قارئها بألا مسافة بين الأصل والمتبنى. يقول «مارسيل بروست»: «الكتب الأجنبية مكتوبة بما يشبه لغة أجنبية» (ص/ 18 ) .

الكتابة والسفر: لا يخلو نص أدبي سردي أو شعري، من تمثل موضوعة السفر. وإذا حدث -كما يرى كيليطو- أن انتفى ذلك، فالقراءة في حد ذاتها تغدو سفرًا في النص، ما دام القارئ يستكشف ويستجلي عالمًا غريبًا يتأتى من خلاله فتح أبواب المعاني المستغلقة، بحكم كون التلقي رحلة معايشة لما يشكل طبيعة النص بما هي تقاليد يتحكم فيها الذهني. وفي هذا السياق يستحضر الباحث قصيدة «الأعشى»: «ودِّع هريرة»، ما دامت صورة عن رحلة غرضها مدح الأمير. وأما جنس المقامة في مجمله، فيظل بطله شخصية شاعر رحَّالة وجوَّاب آفاق. ويبقى المثال الثالث المعتمد «لامية العرب»، حيث السفر ينهض على التأسيس لما يعد بديلًا عن واقع مرفوض. من ثم، فإن لم يكن السفر قصديًّا ككتابة، فالقراءة في حد ذاتها صورة عن معنى السفر.

«رحلة القراءة تستدعي تكيفًا مع عادات النص وشعائره، وتتطلب بالتالي مجهودًا ذهنيًّا ليس باليسير، فما أكثر ما تخلينا فيها عن السفر وامتنعنا عن الإبحار» (ص/19).

لكل زمان جاحظ: يتحقق التأريخ لسيرة الكتابة النثرية من حيث بدايتها وختمها. ارتبطت البداية بعبدالحميد الكاتب وأما الختم فبابن العميد. وتجسدت هذه السيرة في الرسائل الديوانية والإخوانية. فإذا كانت الكتابة تبنى على عدم اعتراف اللاحق بالسابق -كما يرى كيليطو- فإن الجاحظ مثل الصورة التي رغب المؤلفون أن يكونوا نسخة منها.

«صار الجاحظ مرجعًا لا مناص منه ونموذجًا يسعى المؤلفون أن يكونوا نسخة منه»(ص/23).

على أن بديع الزمان الهمذاني، وإن كان تفرد بالقول «لكل زمان جاحظ»، فالدعوة إلى الطعام التي حفلت بها المقامة تشكلت نواتها في كتاب «البخلاء»، وهو ما قاد ابن العميد للقول: «إن كتب الجاحظ تعلم العقل أولا والأدب ثانيًا» (ص/ 24 ).

من ثم نزع تقليده، فدعي بـ«الجاحظ الثاني» أو «الجاحظ الأخير». إلا أن «كيليطو» يرى في التقليد خروجًا من الذات ورغبة في استعادة الكاتب غائبًا بغية تبوُّؤ مكانته، فيما الأصل التفرد بالاستقلالية. «مشروع ابن العميد كان محكومًا عليه مسبقًا بالفشل. أن تهرب من نفسك، أن تنفصل عنها مسعى يؤدي إلى باب مسدود.» (ص/26) ولعل في جزم أبي حيان التوحيدي بكون تقليد الجاحظ غير ممكن، الدليل على خصوصية التفرد التي وسمت كتاباته.

الأدب والمأدبة: ارتبط الأدب بالمأدبة منذ القديم. من هوميروس، أفلاطون، إلى امرئ القيس. إلا أن المعري في تصور «كيليطو» لم يسقط في « الفاكهة المحرمة»، في الخطيئة؛ إذ لم يجنح أكل اللحوم على امتداد خمس وأربعين سنة. وعلى الرغم من ذلك فـ«ابن القارح» في «رسالة الغفران»، وازى بين الاحتفاء بالطعام والكلام. واللافت أن الجاحظ في «البخلاء»، أولى الطعام كما الدعوة إليه أهمية ومكانة. ولذلك يعدّ «كيليطو»: «المأدبة نوع أدبي قائم بذاته ولعل من أهم مأثوراته دعوة الأطباء لابن بطلان، وحكاية أبي القاسم لأبي المطهر الأزدي». (ص/44). ولم يقتصر حضور المأدبة نوعًا أدبيًّا على التراث العربي، إنما يستوقفنا في الآداب الأوربية على السواء: «صديقي الجميل/ موبسان»، «التربية العاطفية/ فلوبير»، «الخمارة/ زولا». بيد أن اللافت في جنس المقامة، الانتصار للجوع؛ إذ يعوض الكلام الطعام ليغدو مكونًا أساسًا من مكونات الكتابة الأدبية. فالطعام كالسرد -كما يرى كيليطو- يهب الحياة مثلما الموت.

خلاصات

إن ما يتميز به هذا التأليف: أولًا- البعد السردي. ذلك أن «كيليطو» لا يكتب بحثًا صرفًا. إنما حكاية حول حكاية الكتابة. ثانيًا- التكثيف. إذ نجد مجمل القضايا يتحقق اختصارها ببلاغة نادرة. ثالثًا- المقارنة. وتتحقق في سياق تمثل الأدبي الغربي والعربي. رابعًا- صعوبة الإحاطة بمجمل المعاني المتطرق إليها.

الأدب والحياة قراءة في يوميات فرناندو بيسوا

الأدب والحياة قراءة في يوميات فرناندو بيسوا

فرناندو بيسوا

يرسم «أدب اليوميات» صورة عن حياة الكاتب، وبخاصة في الحالات التي يغفل فيها عن تدوين سيرته الذاتية. ويحدث، تحقق الجمع بين الكتابة في أدب السيرة، واليوميات، والمذكرات والرسائل، علمًا بالتقارب أو التجاور الذي يَسِم هذه الأجناس الأدبية -إذا حق- ما دام المنطلق الرئيس تشكيل صورة عن الذات، وأيضًا التفاوت المتمثل في الخاصات التي يتفرد بها كل جنس عن الآخر. فاليوميات التي تهمنا -أساسًا- يتحقق التركيز فيها على مكون الزمن؛ إذ يذهب الباحث الفرنسي «جورج ماي» في كتابه «السيرة الذاتية»، إلى كون مفهوم اليوميات يتحدد في الكتابة يومًا بيوم. واللافت أن من أبرز التجارب الإبداعية في «أدب اليوميات» يوميات: «أناييس نن»، «سلفادور دالي»، «كافكا» و«تشيزاري بافيزي». أمّا عربيًّا فتستوقفنا «يوميات نائب في الأرياف» (توفيق الحكيم)، و«جان جنيه في طنجة» (محمد شكري)، و«خواطر الصباح» (عبدالله العروي)، و«يوميات سرير الموت» (محمد خير الدين)، و«يوميات ميونيخ» (حسونة المصباحي).

نشرت يوميات الشاعر البرتغالي فرناندو بيسوا في عام (2007م) بالبرتغال، وهي اليوميات التي أقدم الشاعر المهدي أخريف على ترجمتها (دار توبقال/2017م)، وكان فيما سبق أسهم في ترجمة كتابه اللافت «اللاطمأنينة» (المركز الثقافي العربي/2015م). ويبدو للمتلقي الحصيف، أن الصوغ الذي أنجز في ضوئه كتاب «اللاطمأنينة» يوحي في قسم بالكتابة اليومياتية التي تتجلى في الرهان على الشذرية وكثافة الاختصار، بعيدًا من سرد التفاصيل.

وتغطي يوميات «فرناندو بيسوا» السنوات من (1906م) إلى (1915م)، علمًا بأنه يحدث ألا يدوّن كاتب اليوميات شيئًا عن سنة؛ إما لعامل النسيان، أو القيمة الممنوحة للحدث. بيد أن ثلاث خاصات وسَمَت هذه المذكرات مثلما ورد في مقدمة المترجم «المهدي أخريف»:

الخاصة الأولى: تتمثل في تشميل اليوميات جوانب دقيقة من حياة بيسوا المبكرة طالت مستواه الدراسي وتكوينه الثقافي.

الخاصة الثانية: كون منجز اليوميات صِيغَ في جانب منه باللغة الإنجليزية: «لقد كتبت أجزاء عديدة من هذه اليوميات بالإنجليزية في الأصل. وهي لغة الدراسة والتكوين في جنوب إفريقيا». (المقدمة).

الخاصة الثالثة: تتمظهر فيما طبع اليوميات من انفتاح وتجاور لأكثر من نوع كتابي: الخطاطات، والملاحظات، والبيوغرافيا والببليوغرافيا. واللافت أن هذا التجاور طالعنا في رسائله التي ظهرت مؤخرًا، والدالة على روافده الثقافية وتعدد حقول الكتابة شبه الموازية لتعدد الأسماء التي كان يحملها، ولئن كان المهيمن الإبداع الشعري. «أنا شاعر محفز بالفلسفة، ولست فيلسوفًا ذا مزايا شعرية، مفتتن أنا بملاحظة جمال الأشياء، وبرسم اللامرئي والمتناهي الصغر مما يميز الروح الشعرية للكون… وذلك لأن الشعر دهشة وحيرة، مثل كائن سقط من السماء ثم تأكد أثناء سقوطه ذاهلًا من سقطته». (ص/8)

***

ويمكن القول بأن المعنى الذي تعمل هذه اليوميات على إنتاجه يتحكم فيه منطق الزمن من حيث التتابع الموازي -على السواء- لما تعرفه الشخصية من تحولات نفسية وفكرية. من ثم يحق تصنيف مستوياته إلى ما يرتبط بالتكوين، والتثقيف، والإبداع والجانب النفسي والإنساني.

أ ـ التكوين: يحيل عليه الجانب الدراسي، ويتمثل في تنوع واختلاف المواد التي يتحقق دراستها. واللافت أن اليوميات المدونة بصدد هذا المستوى، ترتبط -كما سلف- بالمراحل المبكرة في حياة الشخصية: «سنة دراسية عليا. درس جغرافيا بالإنجليزية». «حضرت درس الفرنسية». «درس في التاريخ رتيب، وإن كان راموس (الأستاذ) مسليًا جدًّا» «درس في فقه اللغة».

ب – التثقيف: ويركز فيه على الجانب الفلسفي قديمه وحديثه، من دون الغفل عن الأدبي. وكأن «بيسوا» في هذا المستوى يعي مطلق الوعي بأن ما يثير عملية التفكير ويخلف قلق السؤال، هو الرهان على المرجعية الفلسفية التي تقتضي توظيف الحس النقدي كتعليق، وإبداء ملاحظات واستخدام في سياق عملية الإنجاز الإبداعي: «لم أذهب إلى الجامعة. كنت في المكتبة أقرأ الأورغانون لأرسطو». «في المكتبة، قرأت ويبر، تاريخ «الفلسفة الأوربية»، و«المدرسة الإيونية»، و«طاليس»، و«أنكسيمندر» و«أنكسيمينيس»: كتاب محكم. دونت ملاحظات». «ما زلت في عطلة. في المكتبة الوطنية بدأت بقراءة «نقد العقل الخالص» في الترجمة الفرنسية لبارني».

ت – الإبداع: يتحدد مفهوم الإبداع لدى بيسوا من خلال هذه اليوميات، في الاعتبار الذي يولي الأهمية للإبداع عن العيش. والأخير يفهم كمطلب جسدي حياتي، من ثم يورد «بيسوا» في هذه اليوميات سيرة الكتابة كنثر (نموذج مجموعة «الباب» المترجمة مؤخرًا).

وأيضًا ككتابة شعرية: «العيش ليس ضروريًّا. الإبداع هو الضروري». «واصلت كتابة «الباب»… ووددت لو كتبت هذا بأسلوب أفضل. لكن قدرتي على الكتابة تلاشت». «بعد عودتي إلى المنزل خططت ليلًا لقصيدتين بالإنجليزية».

إن ما يَسِم مستوى الإبداع، التنوع. وسواء أتعلق بالنثر أو الشعر فلقد تفوق فيهما «بيسوا» بشكل كبير.

ث – الجانب النفسي والإنساني: ونستكشف انطلاقًا منه واقع الشخصية المبدعة ومعاناتها غياب الحب، واهتزاز ثقة الذات، وهو ما قد يتولد عنه التفكير في مصاير ومآلات (قد) تلحق الأثر السلبي على الشخصية: «أنا كائن خجول. لا يروقني إطلاع الآخرين على انشغالاتي».

  «لا محبوبة عندي ولا رفيقة حلوة عدا ما تجود به علي تخيلاتي المحبطة تمامًا في فراغ مطلق»، «بوسع المرء أن يعاني ببذلة حرير نفس ما يعانيه في كيس أو تحت غطاء ممزق»، «لكنني أعاني. أعاني حد الجنون».

***

يتضح مما أقدمنا عليه، أن يوميات فرناندو بيسوا، صورة جد دقيقة عن شخصيته، وبخاصة من حيث التكوين الذي خضعت له، والمؤهل لما غدت عليه من بعد وصيت عالميين. إنها بمثابة صورة عن ثقافة المبدع، والمبدع المثقف، وهو ما يتيح للتلقي النقدي إمكانات استجلاء المرجعيات المعتمدة حال الإنجاز الإبداعي. وهي المرجعيات الجامعة بين الفلسفي والأدبي. ويحق – على السواء – اعتبار هذه اليوميات جزءًا من سيرته، إذا ما ألمحنا للتحديد الزمني (1906/ 1915م). وهو الجزء المستكمل للوارد في رسائله. على أن التحديد السابق يوحي (وهو ما لم تشر إليه المقدمة)، بأن ثمة قسمًا آخر من يومياته لم يعمد إلى ترجمته ونشره. ويمكن القول ختامًا بأن ترجمة هذه اليوميات، يشكل إضافة لأدب اليوميات الذي بدأ يعرف تداولًا موسعًا على مستوى الترجمات الأدبية العربية؛ إذ من الممكن أن يدفع ذلك العديد من الكتاب والمبدعين العرب إلى تدوين يومياتهم في غياب سيرهم الذاتية، أو بالموازاة والسير، وهو ما سيغني هذا الجنس الذي ظل شبه مجهول، اللهم إلّا من التجارب المذكورة سابقًا.

صورة المثقف الموسوعي في يوميات «خواطر الصباح» للمفكر عبدالله العروي

صورة المثقف الموسوعي في يوميات «خواطر الصباح» للمفكر عبدالله العروي

يمكن القول: إن رباعية يوميات «خواطر الصباح» تجسد نمذجة فعلية لما يجدر أن تكون عليه كتابة «اليوميات»، سواء من حيث التحديد الزمني الذي يمتد نحو أربعين سنة: (من: 1967م إلى: 2007م)، أو الصوغ المتعمد للاقتصاد اللغوي، إذا ما ألمحنا للتراكم المعرفي والثقافي الذي تجسده تجربة الدكتور عبدالله العروي، والجامعة بين الفكري بمعناه الأوسع، والإبداعي. وهو ما يحيل على ثرائها، كما قيمتها حال تمثل الرأي والموقف. إن تجربة رباعية يوميات «خواطر الصباح» تتأطر في سياق التعبير عن الذات. وبالتالي فهي الامتداد لما تشكل سابقًا ضمن الرباعية الروائية: الغربة، واليتيم، والفريق، وأوراق، ثم النص المسرحي «رجل الذكرى»، إلى المذكرات المدونة عن الملك الراحل الحسن الثاني: مغرب الحسن الثاني، أو المغرب والحسن الثاني. والواقع أن الامتداد يجلو طبيعة التداخل والتقاطع في الوقائع والأحداث المتضمنة، إلى المواقف والآراء. وبذلك يكون الدكتور عبدالله العروي قد انخرط تعبيريًّا في أكثر من شكل من أشكال الكتابة عن الذات: السيرة الذاتية، واليوميات، والمذكرات.

إن رباعية «خواطر الصباح» تعكس حضور ثنائية المثقف/السياسي إذا جاز التعبير، علمًا بأن هذه القاعدة تبرز أيضًا على مستوى الأعمال السابقة، ولئن كان من الصعب حيال وضعية مؤلف كعبدالله العروي، التفريق بين المثقف والسياسي؛ إذ ليس المثقف الخبير في حيز تخصصه الدقيق، وإنما الموسوعي الذي طبع جيلًا من المفكرين والأدباء العرب من طه حسين إلى إدوارد سعيد. تحق الإشارة في هذا التقديم، إلى كون مؤلف «أوراق» بما هو سيرة إدريس الذهنية، مثل التجلي الإشكالي لمختلف أجناس الكتابة عن الذات، من السيرة الذاتية حيث تتماهى شخصية إدريس وعبدالله العروي، إلى الأوراق المحيلة على صيغة المذكرات، وتقتضي من السارد وشعيب لملمتها وترتيبها وفق المعنى المتغيا إنتاجه، إلى اليوميات والتعليقات على الكتب بالنقاش والمناظرة. من ثم يتفرد التأليف في بابه، ويستعصي على التحديد والضبط الأجناسي. إن اللافت والمثير على مستوى تلقي رباعية يوميات «خواطر الصباح»، كونه انحصر بشكل أساس إلا فيما ندر، في المهتمين بالدرس الفلسفي. وقد يكون لعامل المعنى المثار والمنتج ضمن الخواطر، وبالتالي لموسوعية الدكتور عبدالله العروي بلاغة أثره، علمًا بأن الدرس الأدبي لم يفرد لليوميات حيزًا على مستوى الدرس والنقد، بالنظر إلى حداثة الممارسة الإبداعية وجدتها، إلى قلق الأسئلة المتعلقة بالممارسة من حيث إشكالية النوع أو الجنس.  يبقى القول في ختام التقديم: إن حصيلة من الخلاصات والاستنتاجات التي انبنت على قراءة الجزء الأول أو الثاني من رباعية اليوميات، أكدت ضرورة إعادة النظر فيها ما دام منجز اليوميات اكتمل كمشروع بصدور الجزء الرابع الموسوم بـ«المغرب المستحب، أو مغرب الأماني»، والمؤطر زمنيًّا بين (1999/2007م).

المثقف الجامع

العروي-1

عبدالله العروي

إن ما يتحقق استجلاؤه من المعاني المعبر عنها في يوميات «خواطر الصباح»، صورة المثقف الموسوعي. والقصد، المثقف الجامع المتعدد الذي يصعب حصره في مجال تخصصي بذاته؛ فالتفكير ممارسة دالة عن وعي ينزع رباط الحقول والمجالات، بغاية تشكيل تصور ضمن بنية متكاملة تحيل على الكلي وليس الجزئي، إذا ما ألمحنا لكون الصورة متوارثة عن مرحلة جسدها بقوة التراث الكوني والإنساني، إلى طبيعة الخصوصية التي تسم المجتمعات الثالثية، وتحتم إذا في حال رغبنا في إعمال التفكير في ظاهرة التخلف، شمولية الإحاطة بما بالسياسي، والاقتصادي، والاجتماعي، والثقافي.

إن موسوعية عبدالله العروي المثقف والمؤلف، تتمثل تجلياتها في الآتي:

• التعدد: ويطول أشكال الخطاب وتمظهراته الجامعة بين الموضوع والموصوف.

• التنوع: ويمكن التمثيل له بحقل التعبير، حيث كتب الدكتور عبدالله العروي في أدب السيرة، وفن الرواية، والمسرحية تأليفًا وترجمة، واليوميات.

• التماسك: ويتجسد خاصة في كون التأليف تحقق من خلال مشروعات متكاملة ومتداخلة في معناها ومبناها.

• الدقة: ويحرص فيها على المنطقي والعقلاني، والموضوعية العلمية. ويمكن القول: إن الوارد سابقًا، اختزله الدكتور عبدالله العروي في قوله: «يمكن تجزئة أعمالي إلى أربعة محاور، كل محور مرتبط بأحد هذه الفصول: الأيديولوجيا، والبحث التاريخي، والتأصيل، والتعبير». (مجلة النهضة. م م).

تداخل الأحداث وتقاطعها

إن ملامسة صورة المثقف الموسوعي في اليوميات، لا تقتضي تقصيها ضمن الرباعية بصفة عامة، وإنما الاكتفاء بالجزء الواحد ما دام التدوين اليومياتي يتحقق وفق الإيقاع ذاته، وإن تغير الزمن ومسار الأحداث. ونجد بداية صورة المثقف المهتم المتابع للشأن السياسي العالمي، العربي والوطني. والواقع أن سعة الاهتمام وليدة التأثيرات التي تترتب على تداخل الأحداث وتقاطعها. ويمكن القول إضافة لما سبق: إن هذه الصورة تجسد مستويات نذكر منها: المتابع المحايد، والمحلل، والمعلق باختصار واقتضاب… ونجد صورة الأديب المبدع. وتتمظهر في إيلاء الفن مجسدًا في الموسيقا، ثم العمارة والتشكيل، والمسرح والرواية، مكانة ضمن الاهتمامات التي تعكس مظاهر الثقافة وتجلياتها بصفة عامة. إذ إن ما يكسب المثقف قوة حضوره، وسعة اهتمامه.

بيد أن اللافت -من خلال تعداد النماذج- الصورة التي يتداخل فيها المفكر بالمؤرخ، إذ تبرز دقة المعاينة وعمق التفكير، إلى سعة الإلمام بالتاريخ في امتداداته وتحولاته. والواقع أن التداخل يطرح على المتلقي استعصاء يتمثل في صعوبة التمييز بين ما يمكن أن يعد فكريًّا فلسفيًّا، وما يحسب على التاريخي، والديني، والاجتماعي، بحكم أن طبيعة صوغ بعض اليوميات تفرض مقاربتها من جوانب متعددة تتداخل وتتقاطع بعيدًا من التصنيف، وهو ما يعود إلى شخصية المدون، وما تتفرد به من عمق فكري جامع، أو ما أشرنا إليه بـالموسوعية. ومن صور العروي صورة الراصد الاجتماعي. وهي صورة تطالعنا حال توقف العروي أمام مشهد اجتماعي بهدف قراءته واستنطاق دلالته الرمزية؛ إذ الغاية حينها معرفة التحولات التي تسم المجتمع المغربي، وتعد مؤشرات على ما يمكن أن يصار إليه مستقبلًا. والواقع أن يوميات «خواطر الصباح»، وتأسيسًا من دقة الرصد الاجتماعي، تقدم مادة خصبة لعلماء الاجتماع.

صورة مفقودة

إن ما يمكن استخلاصه من مقاربة صورة عبدالله العروي المثقف والكاتب الموسوعي تأسيسًا من رباعية «خواطر الصباح» أن النموذج المعبر عنه لم يعد يمتلك حضوره في الراهن، بحكم سيادة ما يدعى بالتخصص والخبرة، وما إلى ذلك من التحديدات والتسميات. ومن ثم فالقيمة الأساس لهذه الخواطر، تتأسس من هذا النزوع والتوجه الدال على صنف من المثقفين الفاعلين، ليس في الحياة العربية وحسب، وإنما العالمية. ونمثل بالإضافة لعبدالله العروي بهشام جعيط، ومحمد أركون، وإدوارد سعيد، إلى المثقفين الأفارقة الذين يوسعون حقل الدراسات الثقافية أو النقد الثقافي مثل نغوجي واتينغو. والواقع أن هذه الصورة اليوم، وفي سياق التحولات السياسية والاجتماعية والثقافية العاصفة، هي المطلوبة والمفقودة لمواجهة التخلف الجديد والمضاعف الذي يزحف على العالم كله، والموجه تأسيسًا من بعض الخطابات الغربية المراهنة على الكسب الاقتصادي.

ومن ثم فهذه الرباعية التي تقول الذات، والذاكرة والتاريخ، وثيقة جامعة شاملة عن مرحلة دالة في الحياة العربية بصفة عامة، وهي القيمة التي تستدعي تجديد قراءتها والتفاعل مع مضامينها.

تجربة في الكتابة

تبقى «خواطر الصباح» من خلال التحليل المعتمد، تجربة في الكتابة كما التعبير، من داخل جنس أدبي لم تتحقق عربيًّا الممارسة الإبداعية فيه، لسيادة أجناس نثرية أسست تقاليد الكتابة الإبداعية: القصة، والرواية، والمسرحية، علمًا بأن التأثيرات الأدبية الغربية فرضت سلطتها على أكثر من محفل إبداعي، من دون أن تفسح بلاغة هذه التأثيرات لتجذير فن كتابة اليوميات. والواقع أن الدكتور عبدالله العروي الكاتب المبدع وليس المفكر، اختط عبر مساره الإبداعي الكتابة في أجناس أدبية متعددة: المسرحية، والقصة، والسيرة الذاتية، والرواية، واليوميات، والمذكرات، على أن ما انتظم التعدد، إنتاج وعي إبداعي غايته الأساس كتابة الذاكرة وأسئلة الذات القلقة والمقلقة. ومن ثم فالدكتور عبدالله العروي يعد منجزه الإبداعي، رواية كبرى صيغت وفق تنويعات تحيل – على رغم التعدد والتداخل – على الواحد.

بيد أن ما تتفرد به يوميات «خواطر الصباح» هو: أولًا، تعدد المعاني والحقول؛ ذلك أن التدوين اليومياتي لم يحصر في الحقل الأدبي أو الفكري مثلما المألوف في كتابة اليوميات، وإنما شمل السياسي، بغاية تبيان توسع دوائر اهتمام المثقف، إلى الحقول التي يخوض الكتابة والتفكير فيها. ثانيًا، التماسك: ويحيل عليه الرهان على مكون الزمن، وبخاصة أن «خواطر الصباح»: أ- متابعة ورصد لما يمثل صورة عن أربعين سنة من تاريخ الحياة العربية والعالمية. ب- تخصيص كل مرحلة بتحديد زمني دقيق، علمًا بأن نواة هذه اليوميات تشكلت كما ورد في التقديم، في مرحلة مبكرة، وفق ما دلت عليه الروايتان: اليتيم وأوراق. ت- الجرأة والموضوعية: وتبرز في سياق سرد بعض الأحداث الفكرية والوقائع السياسية، حيث لا يكتفى بالتدوين، وإنما التعليق والنقد الرصين. ثالثًا، كتابة تاريخ الذات: وهنا تجدر الإشارة إلى كون رباعية يوميات «خواطر الصباح»، تشكل التوازي، والاستكمال، والاستمرار، لما عُبِّر عنه ضمن الرباعية الروائية: الغربة، والفريق، واليتيم، وأوراق، خاصة فيما يتعلق ويرتبط بالمسائل الذاتية والشخصية. ويمكن القول في الختام: إن هذه اليوميات على مستوى الأدب المغربي الحديث، تتباين عما أبدعه كل من: محمد شكري، ومحمد خير الدين، وعبداللطيف اللعبي، بحكم توسع المدة الزمنية، إلى تعدد الحقول وموسوعية عبدالله العروي الكاتب والمثقف.