أن تكون مهاجرًا

أن تكون مهاجرًا

«شراع وحيد شوهِد يختفي/ فيما وراء البحر/ ضوء أزرق يكتنفه الضباب./ ما الذي يريد اكتشافه في الساحل البعيد، هناك؟/ ما الذي تركه في ساحل الوطن؟» ميخائيل ليرمنتوف

«بعض منا يولد كي يفرّ» تيودور كاليفاتيدس

من نكون؟

مهاجرون، موجودون في كل مكان، موجودون دائمًا، ودائمًا سنوجد. تحدرنا من خلفيات شتى وسلكنا إلى الوطن الجديد طرقًا شتى. بعض قدم من بلدان غنية، آخرون من بلدان فقيرة، بعض من عائلات ثرية، وآخرون من عائلات معدَمة. بعض حاصل على تعليم جيد، وآخرون أمّيون. إنّ ما يضعنا في دوامة كهذه، يمكن أن يكون: الحرب، المجاعة، الكوارث الطبيعية، الاقتصاد السيئ، الاضطهاد السياسي أو النزاعات العائلية، الرغبة في الكسب، القلق الداخلي أو الشغف بالمغامرة.

في الطريق إلى الوطن الجديد كان يمكن لبعض منا أن يختنق في الحاويات المغلقة، أن يتجمد في المضايق الجبلية، أن يغرق في القوارب المتهالكة، أن يُطلق عليه الرصاص في أثناء عبور الأنهار. لكن ليس مستبعدًا، أيضًا، أن نحظى بسفر مريح في قطار أو طائرة. قسم منا يعبر الحدود بقلب يخفق بهلع، بينما آخرون يعرضون جوازاتهم باطمئنان، كما يمكن أن نُستقبَل بتفهّم أو باشتباه، وإذا ما اقتضت الظروف يمكن أن نُستغل كأدوات في لعبة سياسية. كثيرون يأتون وطنهم الجديد دون فلس واحد في جيوبهم، ودون أن يكون لديهم أدنى معرفة بالذي ينتظرهم، في المقابل يُستقبل آخرون ويحصلون على سكن ورواتب عالية. بعضهم لا يعرف إن كان سيرى وطنه مرة أخرى أم إن ذلك لن يحدث أبدًا، بينما آخرون يزورون أحباءهم بعد وقت قصير، الجميع يأمل في مستقبل أفضل، والجميع يصبح غريبًا. والأغلبية منا تأتي بيدين فارغتين.

نحن متأثرون بالماضي وقد اصطحبنا معنا، الجيد والسيئ على حد سواء. النبيل أحضر معه نُبله والوضيع وضاعته. الشيء ذاته ينطبق على ما هو صادق وما هو زائف، على التسامح والتحامل. الوداع، والسفر، والوصول، كل ذلك يجعل من حقيبة حياتنا أثقل، قليلًا. كثيرون يأملون أن يتمكنوا من ترك ماضيهم خلف ظهورهم. الشيء الوحيد الذي يجمعنا هو الغربة، عدا ذلك فإننا مختلفون عن بعضنا بشكل تام.

إذن، من نحن؟ ما الذي نحمله في داخلنا؟ ما الذي نكون عليه في الوطن الجديد؟ ما القوى التي ستتحرر بداخلنا؟ هل سننجح أم نفشل، هل سنتغير إلى الأفضل أم إلى الأسوأ؟ هذا ما لا يمكن التكهن به.

بدايتي الخاصة

في عمر التاسعة عشرة هربت مع رفيق لي من بولندا الشيوعية إلى الدنمارك، كان ذلك عام 1957م. حصلنا على عمل في مصنع لتعليب السمك، في منطقة صيد صغيرة. في المعمل واجهت لأول مرة في حياتي بيئة عالمية. عدا الدنماركيين كان هناك هنغاريون، غرينلانديون، (نسبة إلى جزيرة غرينلاند)، بلغار، وواحد فنلندي. بعد بضعة أشهر انتقلت إلى السويد، حيث حصلت، في البداية، على عمل في مجال تصفيح المعادن.

لماذا هربتُ من بولندا؟ كنت أنشد الحرية والمغامرة! لم أَسْعَ لأن أكون غنيًّا، فلم يكن ذلك من اهتمامي، وكان سواء لدي أن أهرب إلى الكونغو أو إلى الدنمارك. كما أن الهجرة لم تكن إلى الأبد، فقد صوّرت لي سذاجتي أن الشيوعية ستسقط أو على الأقل ستتطور في عشر سنوات، تقريبًا. عندها سأعود رحّالةً ومتمكنًا من اللغات، أبحر في ميناء نادي الإبحار في «غدينيا» (مدينة بولندية ساحلية) بعد أن أكون قد طفت حول العالم، وأكون قد تزوجت من امرأة جميلة تنحدر من بلاد بعيدة.

كانت أحلامًا تستقي وجودها من مخيلة مراهق، مراهق كان قد استمع إلى حكايات كثيرة، وقرأ كثيرًا من الكتب، لكنه كان يعيش في عالم مغلق من دون أمل، فالنظام الشيوعي كان قد أبقى الناس معزولين خلف حواجز من أسلاك شائكة، حقول ألغام وحرس مدججين بالسلاح. حلم حياتي كان الذهاب إلى عرض البحر، لكنه تبخّر بسبب من أنّ الطريق إلى مدرسة البحارة كان مغلقًا في وجهي، ففي ظل الأنظمة الدكتاتورية كان يمكن لأي شيء أن يقطع الطريق على خطط المستقبل. في وضع مثل وضعي لم يحبّذ النظام أن يكون لديّ أقارب خارج بولندا. لقد كنت، على أية حال، مشدودًا إلى حلمي في أن أصبح بحارًا ولم يكن لدي أدنى فكرة عن البديل لذلك. في حيرتي إزاء الاختيار المهني، كنت أسير أسلوب أبي المتعسف من جهة والسلطة الدكتاتورية من جهة ثانية، وهو ما جعلني محاصرًا، وقد شعرت أني عالق في مصيدة.

هل كنت مستعدًّا لأن أعيش حياتي مهاجرًا؟ لا، على الإطلاق! لقد كنت كحال كثيرين من المهاجرين، ساذجًا تمامًا. كنت أعتقد أنّ بمجرد تعلمي اللغة سأتمكن من أن أحيا حياة ناجحة. كنت أنظر بعيني أجنبي إلى ما يحيطني. وبسبب من أحلامي الجامحة لم أستطع أن أتخيّل أن المحيط يمكن أن ينظر إليَّ بطريقة أُخرى ولم أكن لأُخمّن أن الهجرة قد تؤدي إلى الغربة، الشتيمة والوحدة. كما لم يكن لديَّ القدرة على أن أترجم أو أفهم الاختلافات الثقافية في البلد الجديد، بالضبط تلك التي تمارس عليَّ جاذبية قوية. بدلًا من ذلك صرت محبطًا وبدأت أعدّ المجتمع الجديد معاديًا لي.

في حياة الهجرة ارتكبت كثيرًا من الأخطاء؛ تلك التي يمكن أن يرتكبها من يجد نفسه في بلاد غريبة. وعبر طريقتي في الوجود قاومت رغبتي في العيش بشكل هادئ وطبيعي في المجتمع. لم أكن مدركًا للكثير، وقد أقمت دون وعي مني أسوارًا حولي لم أكن قط بحاجة إلى بنائها. أولئك الذين تصرفوا بسوء ضدي، صبغوا رؤيتي للناس كافة، ولم يكن ليُحدث فرقًا لديّ، أو بلقائي، في الوقت نفسه، كثير من الناس الرائعين. في وحدتي وتردّدي بحثت عن مواطنين وأجانب آخرين، حيث في البيئات المتعاطفة، نعزز نظرتنا السلبية إلى البلد الجديد. وقد اقتصرت علاقتنا بالسويديين على زملاء العمل وصديقاتنا.

في السنوات الأولى لوجودي في السويد عملت، عامل معادن، بحارًا، رسامًا ومهندسًا. في السنوات التي أعقبت ذلك درست في الجامعة وأصبحت جيولوجيًّا، وهو ما كان نقطة انطلاق لي لأن أعيش وأعمل في بلدين آخرين هما: المملكة العربية السعودية وأبوظبي. لقد قضيت مدة أربع سنوات، مجتمعة في البلدين. هذان البلدان هما بلدا مهاجِرين بالمعنى الحقيقي، فقد اجتمع هناك أُناس من أنحاء العالم كافة، حيث التقيت، في كل من حياتي الخاصة وحياة العمل، أُناسًا من مختلف الجنسيات، ومن أنواع مختلفة من المجتمعات.

لماذا يغادر أناس أوطانهم؟

عندما ثار بركان سانت هيلين في الولايات المتحدة، ربيع عام 1980م، حاولت فرق الإنقاذ إجلاء الناس الذين يعيشون في منحدرات البركان. على الرغم من أن الخطر كان وشيكًا، فإن بعضهم قد رفض الاستجابة والصعود على متن طائرات الهليكوبتر، فقد فضّلوا البقاء على أمل أن يتمكنوا من تدبر أمر نجاتهم، لكن المعجزة لم تقع فدُفنوا تحت الرماد. في كل مكان من العالم يوجد أُناس لا يبدو أنهم يقدرون على ترك بيوتهم أو أوطانهم. آخرون يفعلون ذلك عند أي بادرة للخطر أو لما يدعو إلى القلق، فيما آخرون يغادرون الوطن من دون أن يكون، على ما يبدو، هناك سبب ظاهر. بعض يدّعي دائمًا أنّ هناك سببًا للمغادرة، ويشير إلى أنه على الدوام يوجد شيء ما يدفعه بعيدًا من الوطن، وهو من الأسباب الكامنة في الهجرة. أي أنّ المرء لا ينتقل إلى شيء، بل على العكس، هو ينتقل من شيء.

الكاتبة ريتا تورنبوري كتبت: «ليس مهمًّا ما إذا كان المهاجر يترك وطنه فجأة بسبب الحرب أو أي كارثة أُخرى، أو أنه يتخذ قرارًا كهذا بنفسه بعد تمحيص؛ لأن الطوعية هنا هي شيء شكلي فقط؛ إذ هناك دائمًا في خلفيات ظروف الهجرة، التي لا يريد المرء أن يجد نفسه فيها، ما لا يمكن التأثير فيه أو تغييره».

ربما، يوجد على الدوام، وإلى حد ما، أسباب قوية لأن نغادر الوطن، منها ما يمكن أن يكون التطلع بعيدًا وهروبًا من الروتين اليومي، من ارتباطات عائلية خانقة، تركيبة تقاليد اجتماعية، إحباط اقتصادي، أو اضطهاد سياسي. من دون الرغبة في الابتعاد يكون من الصعب التخلص من كثير من القيود. في أحيان كثيرة كنت أفكر: لماذا لم يحاول أحد من أصدقاء الشباب مغادرة بولندا. وهم لم يكونوا أقل تضررًا من سطوة السياسة، مني. عندما أسألهم يجيبون أنهم لم يكونوا ليغادروا بولندا، قط، حتى لو أُتيحت لهم إمكانية ذلك. أحيانًا يمكن أن يكون الحلم بوجودٍ آخر، ملازمًا لأحدنا طوال مرحلة النموّ. فيما يخصني أتذكر أنه في وقت مبكر من سنوات المراهقة حصلت على عرض للسفر، بعيدًا، لكن لم يكن ذلك يرقى لأن يكون خطة هرب، بل مجرد حلم مشوش، لا أكثر.

الكاتب تيودور كاليفاتيدس الذي غادر اليونان، في سن السادسة والعشرين، بعد استيلاء العسكر على الحكم، كتب، أنه قد بدأ هجرته بالفعل وهو في الثالثة عشرة: «هل عرفتُ حقًّا، في ذلك الوقت، أنه ذات يوم كان عليَّ الإبحار في بحر غريب؟ لم يكن ذلك مستغربًا؛ لأن الحلم أو الرغبة في أن أغادر البلاد، أن أرمي حجرًا وراء ظهري، أن أمسح غبار الوطن عن حذائي، كان مبكرًا جدًّا. بعض منا يولد كي يفر. أنا كنت، على ما يبدو من هؤلاء».

من الأسباب التي تدفعنا أحيانًا إلى الهجرة هو الشعور بأن الوسط الذي نعيش فيه محدود للغاية وأن الأطر والتقاليد الاجتماعية يمكن أن تكون عقبة تحول دون تطور الشخص الذي نريد أن نكونه في الواقع. مثال ذلك، امرأة يابانية انتقلت للعيش في بولندا منذ سنوات، تقول: إنها كانت تشعر على الدوام بأنها تعيش كمتمردة في اليابان، وطوال حياتها كانت تجد صعوبة في أن تكون ضمن الحدود التي يرغم المجتمع الياباني النساء على التزامها، حين أصبح أطفالها راشدين، تطلقت من زوجها وتركت عائلتها وبلدها. تقول: إنها كانت مصممة على بدء حياة جديدة، وفهمت أنها في حاجة إلى قوة أكبر فيما لو قررت البقاء بدل أن ترحل من هناك.

يريد المرء أن يترك خلفه ما هو سلبي وما يعوقه عن التطور والوصول إلى ما ينشده، وهو يسعى وراء إمكانيات تحقيق أحلامه. من هنا يمكن القول: إن للميدالية وجهين: الأول أني أريد المغادرة، والثاني أني أريد الوصول. أحيانًا يكون كلا الوجهين واضحًا، وأحيانًا لا. الكاتب الأوغندي موسيس إسيغاوا يصف الوجهين قائلًا: «منذ عام 1980م عرفت، لأسباب أمنية، أنّه يتوجب عليَّ، عاجلًا أم آجلًا أن أغادر أوغندا. الشعور ينمو ببطء، لكن مؤكد، في الأخير صار حالة جسدية بحتة. أردتُ أن أكتشف آفاقًا جديدة، أختبر نفسي لأرى إن كنت قادرًا على كتابة كتاب. كنت أتوق إلى مكان يكسر كل توقعاتي، ليس مثلما هو الحال في أوغندا، مكان أستطيع فيه أن أبسط جناحيّ للطيران، يعطيني الشعور بالحياة والوجود بطريقة أُخرى. أتوق إلى مكان، حيث لا أحد يعرفني».

اليوم هناك كثير من الشباب الذين يغادرون أوطانهم لمدد تطول أو تقصر. عالم جديد ينفتح بقاراته الجديدة، حيث إمكانية الإقامة، في أوربا الجديدة وما تتيحه من حرية التنقل وتغير شكل الهجرة، خارجيًّا في الأقل. السؤال الذي يمكن طرحه يتعلق بالذين يتركون بلدانهم على الرغم من أنهم يعيشون في بلدان مزدهرة، حرّة وديمقراطية.

صحفيتان سويديتان هما: ليسا إرينيوس، ومادلينا ليفي، أجرتا دراسة على شريحة من الشباب السويدي ممن تُراوِح أعمارهم بين العشرين والثلاثين عامًا يعيشون في كل من باريس، ولندن، وبرشلونة وبرلين ومدن أُخرى. ولحظتا أن المكسب الاقتصادي لم يكن هو ما دفع هؤلاء الشباب إلى الإقامة في بلدان أُخرى، على النقيض كان كثير منهم يعيش أوضاعًا بائسة، نوعًا ما، في الخارج، واقتصاديًّا كانوا أسوأ مما لو كانوا في السويد. بدلًا من ذلك كانت الأسباب الكامنة وراء الهجرة، شخصية وعاطفية في الأساس. الحلم بحياة باهرة تلوح في الأفق، أيضًا: «يبدو أن العديد من أولئك الذين ينتقلون إلى الخارج مدفوعون بقوة كبيرة بشكل مدهش تتمثل في رؤية حياة مثالية يمكن أن تتحقق في مدينة الأحلام المنشودة، بينما المدينة التي نشؤوا فيها ملطخة بذكريات مراهقة محرجة وكابية، والمدينة الكبرى التي تخيّلوها دائمًا تعدهم بحياة أُخرى مختلفة تمامًا».


هامش: * الفصول الأولى من كتاب الكاتب والباحث البولندي- السويدي أندرزي أولكيفيتش: «البراعة أن تكون مهاجرًا»، الصادر عن منشورات غينستا، ستوكهولم، 2008م.